بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 381 ـ 390
(381)
يتّبع أم أمر عمر ؟
    كلّ ذلك يعرب عن أنه لم يكن هناك نسخ ولا نهي نبوي وإنّما كان تحريماً من جانب الخليفة. لبعض المصالح المزعومة التي عبّر عنها في غير واحد من كلماته في المقام وفي متعة الحجّ ، وقال : ... ورؤوسنا تقطر ماءً (1).

    المنكرون للتحريم :
    إنّ هناك لفيفاً من الصحابة والتابعين أنكروا التحريم بحماس :
    1 ـ علي أميرالمؤمنين ، في ما أخرجه الطبري بالاسناد إليه انّه قال : لولا أنّ عمر نهى عن المتعة مازنى إلاّ شقيّ (2).
    2 ـ عبداللّه بن عمر ، أخرج الامام أحمد من حديث عبداللّه بن عمر ، قال : قد سئل عن متعة النساء واللّه ما كنّا على عهد رسول اللّه زانين ولا مسافحين ، ثم قال : واللّه لقد سمعت رسول اللّه يقول : ليكوننّ قبل يوم القيامة المسيح الدجّال وكذّابون ثلاثون وأكثر (3).
    3 ـ عبداللّه بن مسعود ، روى البخاري عن عبداللّه بن مسعود ، قال : كنّا نغزو مع رسول اللّه وليس لنا شيء ، فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ، ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل معيّن ، ثمّ قرأ علينا : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الممُعْتَدِينَ ) ـ المائدة / 87 ـ (4).
1 ـ المفيد : الارشاد 93 طبع النجف.
2 ـ الطبري التفسير 5 / 9.
3 ـ مسند أحمد 2 / 95.
4 ـ صحيح البخاري ، كتاب النكاح 7 / 4 ، الباب 8 ، الحديث 3.


(382)
    4 ـ عمران بن حصين ، أخرج البخاري في صحيحه عنه ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه ، ولم ينزل قرآن يحرّمها ولم ينه عنها حتّى مات. قال رجل برأيه ما شاء (1).
    أخرج أحمد في مسنده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه وعملنا بها مع رسول اللّه ، فلم تنزل آية تمنعها ، ولم ينه عنها النبىّ حتّى مات (2).
    5 ـ وقد عمد المأمون الخليفة العباسي ، أن يعلن بتحليل المتعة ، ولكنّه خوفاً من الفتنة توقّف عن الاعلان قال ابن خلّكان ، نقلاً عن محمّد بن منصور : قال : كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة ، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء : بكّرا غداً إليه فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا ، وإلاّ فاسكتا إلى أن أدخل ، قال : فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وعلى عهد أبي بكر ـ رضي اللّه عنه ـ وأنا أنهى عنهما ، ومن أنت يا جعل حتّى تنهى عمّا فعله رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وأبوبكر ـ رضي اللّه عنه ـ ؟! فأوما أبو العيناء إلى محمّد بن منصور وقال : رجل يقول من عمر بن الخطاب نكلّمه نحن ؟ فأمسكنا ، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا ، فقال المأمون ليحيى : مالي أراك متغيّراً ؟ فقال : هو غم يا أميرالمؤمنين لما حديث في الإسلام، قال : وما حدث فيه ؟ قال : النداء بتحليل الزنا ، قال : الزنا ؟ قال : نعم ، المتعة زنا ، قال : ومن أين قلت هذا ؟ قال : من كتاب اللّه عزّوجلّ ، وحديث
1 ـ صحيح البخاري 6 / 27 ، كتاب التفسير ، تفسير سورة البقرة قول ( فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ ).
2 ـ مسند أحمد. لاحظ مسائل فقهية للسيد شرف الدين 70.


(383)
رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال اللّه تعالى : ( قَدْ أفْلَحَ المُؤمِنون ) إلى قوله : ( والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إلاّ على أزْواجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلومين * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (1).
    يا أميرالمؤمنين زوجة المتعة ملك يمين ؟ قال : لا ، قال : فهي ، الزوجة التي عند اللّه ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها ؟ قال : لا ، قال : فقد صار متجاوز هذين من العادين (2).
    عزب عن ابن أكثم ـ وهو كان ممّن يكنّ العداء لآل البيت ـ، أنّ المتعة داخلة في قوله سبحانه ( إلاّ على أزواجكم ) وأمّا عدم الوراثة ، فهو تخصيص في الحكم ، وهو لا ينافي ثبوتها ، وكم لها من نظير ، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم ، وبالعكس ، كما أنّ القاتلة لا ترث وهكذا العكس ، وأمّا الولد ، فيلحق قطعاً ونفي اللحوق ناش إمّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به.
    وما أقبح كلامه حيث فسّر المتعة بالزنا وقد أصفقت الاُمّة على تحليلها عصر الرسول والخليفة الأوّل ، افحسب ابن أكثم انّ الرسول حلّل الزنا ولو مدَّة قصيرة.
كبرت كلمة تخرج من أفواهم :
    وهناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه ، تعرب عن أنّ التحريم كان صميم رأيه ، من دون استناد إلى آية أو رواية.
    روى مسلم في صحيحه : عن ابن أبي نضرة قال : كان ابن عباس يامر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها فذكر ذلك لجابر ، فقال : على يدي دار الحديث : تمتّعنا مع
1 ـ المؤمنون / 1 ـ 7.
2 ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان 6 / 149 ـ 150.


(384)
رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فلمّا قام عمر قال : إنّ اللّه كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء فأتمّوا الحجّ والعمرة وابتّوا نكاح هذه النساء فلئِن اُوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة (1).
    وروى الامام أحمد في مسنده عن ابي نضرة : قلت لجابر : إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة وانّ ابن عباس يأمر بها ، فقال لي : على يدي جرى الحديث : تمتّعنا مع رسول اللّه ومع أبي بكر فلمّا ولّى عمر خطب الناس فقال : إنّ القرآن هو القرآن ، وإنّ رسول اللّه هو الرسول ، وإنّهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه إحداهما متعة الحج والاُخرى متعة النساء (2).
    وهذه المأثورات تعرب أولا : عن أنّ المتعة كانت باقية على الحل إلى عهد الخليفة ولم تكن محرّمة إلى زمان تولي عمر الأمر فنهى ومنع.
    وثانياً : انّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب والسنّة ، ومن المعلوم انّ اجتهاده ـ لو صحّت تسميته بالإجتهاد ـ حجّة على نفسه لا على غيره.
    وفي الختام نقول :
    إنّ الجهل بفقه الشيعة أدّى كثيراً من الكتّاب إلى القول أنّ من أحكام المتعة عند الشيعة انّه لا نصيب للولد من ميراث أبيه ، وانّ المتمتَّع بها لا عدّة لها ، وانّها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت. ومن أجل هذا استقبحوا المتعة واستنكروها وشنعوا على من أباحها.
    وقد خفي الواقع على هؤلاء ، وانّ المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم إلاّ بالعقد الدال على قصد الزواج صراحة ، وانّ المتمتَّع بها يجب أن تكون خالية من
1 ـ مسلم : الصحيح 4 / 130 باب نكاح المتعة الحديث 8 ، طبع محمد علي صبيح.
2 ـ أحمد : المسند 1 / 52.


(385)
جميع الموانع ، وانّ ولدها كالولد من الدائمة من وجوب التوراث ، والانفاق وسائر الحقوق المادية وانّ عليها أن تعتد بعد إنتهاء الأجل مع الدخول بها ، وإذا مات زوجها وهي في عصمته اعتدّت كالدائمة من غير تفاوت ، إلى غير ذلك من الآثار (1).
1 ـ الاثنا عشرية وأهل البيت تأليف مغنية 46.

(386)

(387)
    المسألة الثامنة :
مسح الأرجل في الوضوء
    اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما ، فذهب الأئمّة الأربعة إلى أنّ الواجب هو الغسل وحده ، وقالت الشيعة الامامية انّه المسح ، وقال داود بن علي والناصر للحق من الزيدية يجب الجمع بينهما وهو صريح الطبري في تفسيره : ونقل عن الحسن البصري انّه مخيّر بينهما (1).
    وممّا يثير العجب اختلاف المسلمين في هذه المسالة ، مع أنّهم رأوا وضوء رسول اللّه كلّ يوم وليلة في موطنه ومهجره ، وفي حضره وسفره ومع ذلك اختلفوا في أشدّ المسائل ابتلاءً وهذا يعرب عن أنّ الاجتهاد لعب في هذه المسألة دوراً عظيماً ، فجعل أوضح المسائل أبهمها.
    إنّ الذكر الحكيم تكفّل لبيان المسألة وما أبقى فيها ابهاماً واعضالاً ، وكان الحاضرون في عصر النزول فهموا من الآية معنىً واحداً. إمّا المسح أو الغسل ،
1 ـ الطبري : التفسير 6 / 86 ومفاتيح الغيب 11 / 162 والمنار 6 / 228.

(388)
ولم يتردّدوا في حكم الرجلين أبداً. ولو خفي حكم هذه المسألة بعد رحلة الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) على الأجيال الآتية فلا غرو في أن يخفى على المسلمين حكم أكثر المسائل.
    وليس فيها شيء أوثق من كتاب اللّه فعلينا دراسة ما جاء فيه ، قال سبحانه : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ إلى المَرافِقِ وامْسَحُوا بَرؤوسِكُمْ وَأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْن ) (1) وقد اختلف القرّاء في قراءة ( وأرجلكم إلى الكعبين ) فمنهم من قرأ بالخفض ، ومنهم من قرأ بالكسر. ومن البعيد أن تكون كلّ من القراءتين موصولة إلى النبيّ ، فإنّ تجويزهما يضفي على الآية ابهاماً واعضالا ، ويجعل الآية لغزاً ، والقرآن كتاب الهداية والارشاد ، وتلك الغاية تطلب لنفسها الوضوح وجلاء البيان ، خصوصاً فيما يتعلّق بالأعمال والأحكام التي يبتلى بها عامّة المسلمين ، ولا تقاس بالمعارف والعقائد التي يختصّ الامعان فيها بالأمثل فالأمثل. وعلى كل تقدير فممّن حقّق مفاد الآية وبيّنها الامام الرازي في تفسيره ، ننقل كلامه بتلخيص :
    قال : حجّة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله ( وأرجلكم ) وهما :
    الأوّل : قرأ ابن كثير و حمزة وأبو عمرو وعاصم ـ في رواية أبوبكر عنه ـ بالجرّ.
    الثاني : قرأ نافع وابن عامر وعاصم ـ في رواية حفص عنه ـ بالنصب.
    أمّا القراءة بالجرّ فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس ، فكما وجب المسح في الرأس ، فكذلك في الأرجل.
1 ـ المائدة / 6.

(389)
    فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الجرّ على الجوار ؟ كما في قوله : « جُحْرُ ضَبٍّ خَرِِبٍ » وقوله : « كَبيرُ اُناسٍ في بِجادٍ مَزَمِّلٍ ».
    قيل : هذا باطل من وجوه :
    1 ـ إنّ الكسر على الجوار معدود من اللحن الذي قد يتحمّل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام اللّه يجب تنزيهه عنه.
    2 ـ إنّ الكسر على الجوار انّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله : « جُحرُضَبٍّ خَرِب » فإنّ « الخَرِب » لا يكون نعتاً للضبّ بل للجحر ، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.
    3 ـ إنّ الكسر بالجوار انّما يكون بدون حرف العطف وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب.
    وأمّا القراءة بالنصب فهي أيضاً توجب المسح ، وذلك لأنّ « برؤوسكم » في قوله ( فامسحوا برؤوسكم ) في محل النصب (1) بامسحوا لأنّه المفعول به ولكنّها مجرورة لفظاً بالباء فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس ، وجاز الجر عطفاً على الظاهر.
    ونزيد بياناً انّه على قراءة النصب يتعيّن العطف على محل برؤوسكم ولا يجوز العطف على ظاهر « أيديكم » لاستلزامه الفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة أجنبية وهو غير جائز في المفرد ، فضلاً عن الجملة ، هذا هو الذي يعرفه المتدبّر في الذكر الحكيم ، ولا يسوغ لمسلم أن يعدل عن القرآن إلى غيره فإذا كان هو المهيمن
1 ـ يقال ليس هذا بعالم ولا عاملا. قال الشاعر :
معاوي انّنا بشر فاسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا
لاحظ : المغني لابن هشام : الباب الرابع.


(390)
على جميع الكتب السماوية فأولى أن يكون مهيمناً على ما في أيدي الناس من الحقّ والباطل والمأثورات التي الحديث فيها ذو شجون (1) مع كونها متضاربة في المقام ، فلو ورد فيها الأمر بالغسل ، فقد جاء فيها الأمر بالمسح. رواه الطبري عن الصحابة والتابعين نشير إليه على وجه الاجمال :
    1 ـ ابن عباس ، قال : الوضوء غسلتان ومسحتان.
    2 ـ كان أنس إذا مسح قدميه بلّهما. ولمّا خطب الحجّاج وقال : ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه في قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقبيهما ، قال أنس : صدق اللّه وكذب الحجّاج ، قال اللّه ( واسمحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) وكان أنس إذامسح قدميه بلّهما.
    3 ـ عكرمة ، قال : ليس على الرجلين غسل وانّما نزل فيهما المسح.
    4 ـ الشعبي قال : نزل جبرائيل بالمسح وقال : ألاترى انّ التيمّم أن يمسح ما كان غسلاً ويلغى ما كان مسحاً.
    5 ـ عامر : اُمر أن يمسح في التيمّم ما اُمر أن يغسل بالوضوء واُبطل ما اُمر أن يمسح في الوضوء : الرأس والرجلان. وقيل له : إنّ اُناسا يقولون : إنّ جبرائيل نزل بغسل الرجلين فقال : نزل جبرائيل بالمسح.
    6 ـ قتادة : في تفسير الآية : افترض اللّه غسلتين ومسحتين.
    7 ـ الأعمش : قرأ « وأرجلكم » مخفوضة اللام.
    8 ـ علقمة : قرأ « أرجلكم » مخفوضة اللام.
    9 ـ الضحاك : قرأ « وأرجلكم » بالكسر.
1 ـ لاحظ الجزء الأوّل من هذه الموسوعة : فصل « علل تكوّن المذاهب وأسبابه ».
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس