بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 481 ـ 490
(481)
    إنّك إذا تتّبعت كتب التاريخ والتراجم والسير تقف على نظير هذه الكلمات وأشباهها ، كلّها تعرب عن اتّفاق الأمّة على إمامته في العلم والقيادة الروحية وإن اختلفوا في كونه إماماً منصوصاً من قبل اللّه عزّوجلّ ، فذهبت الشيعة إلى الثاني نظراً إلى النصوص المتواترة المذكورة في مظانّها (1).
    إنّ الامام قام بهداية الاُمّة إلى النهج الصواب في عصر تضاربت فيه الآراء والأفكار ، واشتعلت فيه نار الحرب بين الامويين ومعارضيهم من العباسيين ففي تلك الظروف الصعبة والقاسية استغلّ الامام الفرصة فنشر من أحاديث جدّه ، وعلوم آبائه ما سارت إليه الركبان وتربّى على يديه آلاف من المحدّثين والفقهاء. ولقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلاف آرائهم ومقالاتهم فكانوا أربعة آلاف رجل (2) وهذه فضيلة رابية لم تكتب لأحد من الأئمّة قبله ولا بعده.
    إنّ الامام ( عليه السلام ) قام بالتحديث عن جدّه وآبائه عندما اندفع المسلمون إلى تدوين أحاديث النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بعد الغفلة التي استمرّت إلى عام 143 (3) وقد اختلط الصحيح بالضعيف وتسرّب إلى السنّة الاسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات بالاضافة إلى المختلقات والمجعولات على يد علماء السلطة ومرتزقة البلاط الاموي. وبالامام عرفوا الصحيح من الزائف ، والحقيقة من الباطل فأخذوا عنه الحكم والأحاديث النبويّة ولو نهلت الاُمّة من مناهل علمه وتركوا الروايات التي رواها الوضّاعون والكذّابون. لما ابتلت الاُمة بمصائب الحديث التي تركها الرواة على جبين الدهر وترى كثيراً من هذه المصائب في الصحاح والمسانيد
1 ـ لاحظ الكافي 1 / 306 ـ 307 وإثبات الهداة للحر العاملي 5 / 322 ـ 330.
2 ـ الارشاد 270 والمناقب لابن شهر آشوب 4 / 247.
3 ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي ، خلافة المنصور الدوانيقي فقد حدّد تاريخ التدوين بسنة 143.


(482)
خصوصاً في صحيح البخاري.
    والعجب انّ الامام البخاري ، احتجّ بمثل مروان بن الحكم ، وعمران بن حطّان وحريز بن عثمان الرحبي وغيرهم ولم يرو عن الامام الصادق ( عليه السلام ).
    أمّا الأوّل فهو الوزغ ابن الوزغ ، اللعين ابن اللعين على لسان رسول اللّه ، وأمّا الثاني فهو الخارجي المعروف الذي أثنى على ابن ملجم بشعره لا بشعوره ، وأمّا الثالث فكان ينتقص عليّاً وينال منه ومع ذلك لم نجد رواية للبخاري عن الامام الصادق ونعم ما قال القائل :
قضية أشبه بالمرزئة بالصادق الصدّيق ما احتجّ في ومثل عمران بن حطان أو مشكلة ذات عوار إلى انّ الامام الصادق المجتبى أجلّ من في عصره رتبة قلامة من ظفر ابهامه هذا البخاري إمام الفئة صحيحه واحتجّ بالمرجئة مروان وابن المرأة المخطئة حيرة أرباب النهى ملجئة بفضله الآي أتت منبئة لم يقترف في عمره سيّئة تعدل من مثل ... مئة (1)
    إنّ للامام الصادق وراء ما نشر عنه من الأحاديث في الأحكام التي تتجاوز عشرات آلاف ، مناظرات مع الزنادقة والملحدين في عصره والمتقشفين من الصوفية ضبط المحققون كثيراً منها وهي في حد ذاتها ثروة علمية تركها الامام ( عليه السلام ) أمّا الرواية عنه في الأحكام فقد روى عنه أبان بن تغلب 30 ألف حديث.
    حتّى انّ الحسن بن علي الوشاء قال : أدركت في هذا المسجد ( مسجد الكوفة )
1 ـ النصايح الكافية لمن يتولى معاوية ، كما في أعيان الشيعة 1 / 667.

(483)
تسعمائة شيخ كل يقول حدّثني جعفر بن محمّد. ( كان ( عليه السلام ) يقول : حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث علي بن أبي طالب ، وحديث علي حديث رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وحديث رسول اللّه قول اللّه عزّوجلّ ) (1).
    وأمّا ما اثر عنه في المعارف والعقائد فحدّث عنه ولا حرج ولا يسعنا نقل حتّى القليل منه ومن اراد فليرجع إلى مظانّه (2).
    وأمّا حكمه وقصار كلمه. فلاحظ تحف العقول. وأمّا رسائله فكثيرة منها رسالته الي النجاشي ، والي الأهواز ، ومنها رسالته في شرائع الدين نقلها الصدوق في الخصال ، ومنها ما أملاه في التوحيد للمفضل بن عمر إلى غير ذلك من الرسائل التي رسمها بخطّه (3).
    ولمّا توفّي الامام شيّعه عامّة الناس في المدينة وحمل إلى البقيع وقد أنشد فيه أبو هريرة العجلي قوله :
أقول وقد راحوا به يحملونه أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى غداة حثا الحاثون فوق ضريحه على كاهل من حامليه وعاتق ثبيراً ثوى من رأس علياء شاهق ترابا وأولى كان فوق المفارق
    فسلام اللّه عليه يوم يولد ويوم مات ويوم يبعث حيا.
1 ـ الرجال للنجاشي 139 برقم 79.
2 ـ الاحتجاج 2 / 69 ـ 155 والتوحيد للصدوق وقد بسطها على أبواب مختلفة.
3 ـ ولقد جمع أسماء هذه الرسائل السيد الأمين في أعيانه 1 / 668.


(484)

(485)
    الإمام السابع :
أبوالحسن موسى بن جعفر ( عليهما السلام )
الكاظم
    سابع أئمّة أهل البيت الطاهر. ولد بالأبواء بين مكة والمدينة يوم الأحد في 7 صفر سنة 128 واستشهد بالسم في سجن الرشيد عام 183 ودفن في بغداد في الجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش المشهورة في أيامنا هذه بالكاظمية.
    يعرف بالعبد الصالح ، وبالكاظم ، والصابر ، والأمين.
    هو الإمام الكبير القدر والأوحد الحجة الحبر ، الساهر ليله قائما ، القاطع نهاره صائما ، المسمّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظما.
    قال الشيخ المفيد : هو الإمام بعد أبيه ، والمقدّم على جميع بنيه لاجتماع خصال الفضل فيه ، وورود صحيح النصوص وجلي الأقوال عليه من أبيه بأنّه ولي


(486)
عهده والإمام القائم من بعده (1).
    إنّ الكلام في خلقه ، وحلمه ، وكظمه الغيظ ، وفي مناقبه وفضائله ، وفي تواضعه ومكارم أخلاقه ، وكرمه وسخائه ، وشدّة خوفه من اللّه سبحانه ، وكثرة صدقاته ، وأخباره مع الرشيد وأخيراً في القاء القبض عليه من قبله ، وحبسه في ظُلم السجون قرابة سبع سنين واستشهاده ، يحتاج إلى تأليف مفرد قام به المحققون ونحن نترك البحث في جميع ذلك ونشير إلى بعض الجوانب خصوصاً في ما يتعلق بعلمه والذين تخرّجوا على يده من الشيعة والسنّة حتّى يقف القارئ على انّه إمام الكل.
    1 ـ روى الخطيب في تاريخ بغداد بسنده قال : حجّ هارون الرشيد فأتى قبر النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) زائراً وحوله قريش ومعه موسى بن جعفر ولمّا انتهى إلى القبر قال : السلام عليك يا رسول اللّه يابن عمّي ـ افتخاراً على من حوله ـ ، فدنى موسى بن جعفر فقال : السلام عليك يا أبة ، فتغيّر وجه الرشيد وقال : هذا الفخريا أبا الحسن حقّاً (2).
    2 ـ ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار أنّ هارون كان يقول لموسى بن جعفر : خذ فدكاً ـ وهو يمتنع عليه ـ ، فلمّا ألحّ عليه قال : ما آخذها إلاّ بحدودها قال : وما حدودها ؟ قال : الحد الأوّل عدن ـ فتغيّر وجه الرشيد ـ قال : والحد الثاني ؟ قال : بسمرقند ـ فأربد وجهه ـ قال : والحد الثالث ؟ قال : أفريقيا قال : والحد الرابع ؟ قال : سيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينيا فقال هارون : فلم يبق لنا شيء فتحوّل من
1 ـ لاحظ للوقوف على تلك النصوص الكافي 1 / 307 ـ 311 ، إثبات الهداة 3 / 156 ـ 170 فقد نقل في الأخير 60 نصّاً على إمامته.
2 ـ وفيات الأعيان 5 / 309.


(487)
مجلسي فقال موسى : قد أعلمتك انّي إن حدّدتها لم تردّها. فعند ذلك عزم على قتله واستكفى أمره (1).
    3 ـ كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثمّ يعقّب حتّى تطلع الشمس ويخرّ للّه ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتّى يقرب زوال الشمس وكان يدعو كثيرا. فيقول : اللّهمّ إنّي أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب ، ويكرّر ذلك ، وكان من دعائه ( عليه السلام ) : عظم الذنب من عبدك ، فليحسن العفو من عندك وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضل لحيته بالدموع وكان أوصل الناس لأهله ورحمه وكان يتفقّد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم الزنبيل فيه العين والورق والادقة والتمور فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو (2).
    4 ـ في تحف العقول للحسن بن علي بن شعبة : قال أبو حنيفة : حججت في ايام أبي عبداللّه الصادق ( عليه السلام ) فلمّا أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز أنتظر إذنه إذ خرج صبي فقلت : يا غلام أين يضع الغريب الغائط من بلدكم ؟ قال : على رسلك. ثمّ جلس مستنداً إلى الحائط ، ثمّ قال : توقَّ شطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، وأفنية المساجد ، وقارعة الطريق ، وتوار خلف جدار ، وشل ثوبك ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها وضع حيث شئت ، فأعجبني ما سمعت من الصبي فقلت له : ما اسمك ؟ فقال : أنا موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فقلت له : يا غلام ممّن المعصية ؟ فقال : إنّ السيّئات لاتخلو من احدى ثلاث : إمّا أن تكون من اللّه وليست من العبد فلا ينبغي للرب أن يعذّب العبد على ما لا يرتكب ، وإمّا أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك فلا ينبغي
1 ـ الزمخشري : ربيع الأبرار ، كما في أعيان الشيعة 2 / 8.
2 ـ المفيد : الارشاد 296.


(488)
للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف ، وإمّا أن تكون من العبد وهي منه ، فإن عفا فكرمه وجوده وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته ، قال أبو حنيفة : فانصرفت ولم ألق أبا عبداللّه واستغنيت بما سمعت. ورواه ابن شهر آشوب في المناقب نحوه إلاّ أنّه قال : يتوارى خلف الجدار ويتوقّى أعين الجار وقال : فلمّا سمعت هذا القول منه نبل في عيني ، وعظم في قلبي. وقال في آخر الحديث : فقلت : ذرّية بعضها من بعض (1).
    5 ـ روى أبو الفرج الاصفهاني : حدثنا يحيى بن الحسن قال : كان موسى من جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير. وكان صراره ما بين الثلاثمائة وإلى المائتين دينار ، فكانت صرار موسى مثلا.
    وقال : إنّ رجلا من آل عمر بن الخطاب كان يشتم علي بن أبي طالب إذا رأى موسى بن جعفر ، ويؤذيه إذا لقيه ، فقال له بعض مواليه وشيعته : دعنا نقتله ، فقال : لا ، ثمّ مضى راكباً حتّى قصده في مزرعة له فتواطأها بحماره ، فصاح : لا تدس زرعنا.
    فلم يصغ إليه وأقبل حتّى نزل عنده فجلس معه وجعل يضاحكه ، وقال له : كم غرمت على زرعك هذا ؟ قال : مائة درهم ، قال : فكم ترجو أن تربح ؟ قال : لا أدري ، قال : إنّما سألتك كم ترجو. قال : مائة اُخرى. قال : فأخرج ثلاثمائة دينار فوهبه له فقام فقبّل رأسه ، فلمّا دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري فسلّم عليه وجعل يقول : اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.
    وكان بعد ذلك كلّما دخل موسى خرج وسلّم عليه ويقوم له. فقال موسى لجلسائه الذين طلبوا قتله : أيّما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت ؟ (2).
1 ـ تحف العقول 303 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 / 314.
2 ـ مقاتل الطالبيين 499 ـ 500 ، تاريخ بغداد 13 / 28.


(489)
    6 ـ حكي انّ الرشيد سأله يوماً : كيف قلتم نحن ذرّية رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وأنتم بنو علي وانّما ينسب الرجل إلى جدّه لأبيه دون جدّه لاُمّه ؟ فقال الكاظم ( عليه السلام ) : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بِسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم : ( ومِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى وهرون وَكَذلكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ * وَ زَكريّا وَ يَحْيى وَ عِيسى و إلْياسَ ... ) وليس لعيسى أب إنّما اُلحق بذريّة الأنبياء من قبل اُمّه وكذلك اُلحقنا بذريّة النبي من قبل اُمّنا فاطمة الزهراء ، وزيادة اُخرى يا أميرالمؤمنين : قال اللّه عزّوجلّ : ( فَمَنْ حاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعدِ جاءكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأنْفُسَنا وأنفُسَكُمْ ثمَّ نَبْتَهِلْ ... ) ولم يدع ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عند مباهلة النصارى غير علي وفاطمة والحسن والحسين وهما الأبناء (1).
    7 ـ أمّا علمه واحديث عنه فقد روى عنه العلماء في فنون العلم ما ملأ الكتب وكان يعرف بين الرواة بالعالم. وقد روى الناس عنه فأكثروا وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب اللّه (2).
    وقد ذكر الشيخ الطوسي أسماء الرواة عنه في رجاله فبلغ عددهم مائتين واثنين وستين شخصاً وقام الزميل المتتبّع الشيخ العطاردي بجمع اسماء من رووا عنه الأحاديث في مجالات شتّى فبلغ ستمائة وثمانية وثلاثين رجلا وأسماه بمسند الامام موسى الكاظم فجاء جميع ذلك في أجزاء ثلاثة.
    ولقد اتّفقت كلمة المؤرّخين على أنّه استشهد مسموماً في سجن السندي ابن شاهك بأمر من الرشيد وكان الخليفة يخاف من أن ينتشر خبر شهادته في بغداد
1 ـ الفصول المهمة 238 ، والآيتان من سورتي الأنعام 84 وآل عمران 61.
2 ـ المفيد : الارشاد 298.


(490)
ولأجل ذلك لمّا مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه بغداد وفيهم الهيثم بن علي وغيره حتّى يشهدوا على أنّه مات بأجله ، واُخرج ووضع على الجسر ببغداد فنودي هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو ميّت (1).
    وأمّا الكلام في شهادته وأخباره ممّا يطول بنا الكلام إذا أردناه ذكره فليرجع إلى محلها.
    ومن أحسن كلماته ما وصّى به هشام بن الحكم (2).
1 ـ مقاتل الطالبيين 504.
2 ـ لاحظ الكافي 1 / 13 ـ 20 وتحف العقول 283 ـ 297.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس