بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 491 ـ 500
(491)
    الإمام الثامن :
علي بن موسى بن جعفر ( عليهم السلام )
الرضا
    هو الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت القائم بالإمامة بعد أبيه موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) وقد اجتمع أهل البيت في عصره على علمه وورعه وكفاءته لمنصب الإمامة مضافاً إلى النصوص الواردة في حقّه من أبيه على إمامته (1).
    ولد في المدينة سنة 148 واستشهد في طوس من أرض خراسان في صفر 203 وله يومئذ 55 سنة وكانت مدّة إمامته بعد أبيه 20 سنة (2).
    قال الواقدي : علي بن موسى سمع الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم وكان ثقة يفتي بمسجد رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وهو ابن نيف وعشرين سنة وهو
1 ـ لاحظ للوقوف على النصوص : الكافي 1 / 311 ـ 319 والارشاد 304 ـ 305 واثبات الهداة 3 / 228 ، وروي فيه 68 نصاً على إمامته.
2 ـ الارشاد 304.


(492)
من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة (1).
    قال الشيخ كمال الدين بن طلحة : ومن أمعن نظره وفكره ، وجده في الحقيقة وارثهما ( المراد علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين ( عليهم السلام ) ) نمى إيمانه ، وعلا شأنه ، وارتفع مكانته ، وكثر أعوانه ، وظهر برهانه ، حتّى أدخله الخليفة المأمون ، محل مهجته ، وأشركه في مملكته ، وفوّض إليه أمر خلافته ، وعقد له على رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته ، وكانت مناقبه علية ، وصفاته ثنية ، ونفسه الشريفة زكية هاشمية ، وارومته النبوية كريمة (2).
    وقد عاش الامام في عصر ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية وكثرت الترجمة لكتب اليونانيين والرومانيين وغيرهم وازداد التشكيك في الاُصول والعقائد من قبل الملاحدة وأحبار اليهود ، وبطارقة النصارى ومجسّمة أهل الحديث.
    وفي تلك الأزمة اُتيحت له ( عليه السلام ) الفرصة للمناظرة مع المخالفين على اختلاف مذاهبهم فظهر برهانه وعلا شأنه. يقف على ذلك من اطّلع على مناظراته واحتجاجاته مع هؤلاء (3).
    ولأجل ايقاف القارئ على نماذج من احتجاجاته نذكر ما يلي :
    دخل أبو قرة المحدّث على أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) فقال : روينا أنّ اللّه قسم الرؤية والكلام بين نبيَّين ، فقسم لموسى ( عليه السلام ) الكلام ولمحمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) الرؤية. فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) فمن المبلِّغ عن اللّه إلى الثقلين الجنّ والإنس : انّه ( لا تدركه الأبصار ) و ( لا يحيطون به علما ) و ( ليس
1 ـ تذكرة الخواص ابن الحوزي 315.
2 ـ الفصول المهمة 243 نقلا عن مطالب السؤول.
3 ـ لقد جمع الشيخ الطبرسي قسماً من هذه الاحتجاجات في كتابه الاحتجاج 2 / 170 ـ 237 طبع النجف.


(493)
كمثله شي ) أليس محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ؟ قال : بلى. قال : فكيف يجيء رجل إلى الخلف جميعا فيخبرهم انّه جاء من عنداللّه وانّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه فيقول : ( لا تدركه الأبصار ) و ( ولا يحيطون به علما ) و ( ليس كمثله شئ ).
    ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني واُحطت به علما ، وهو على صورة البشر. أما تستحيون ؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عنداللّه بشيئ ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر. قال أبو قرة : فانّه يقول : ( ولَقَدْ رَآهُ نزلةً اُخْرى ) فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) إنّ بعده هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال : ( ما كذب الفؤادُ ما رأى ) يقول : ما كذب فؤاد محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأى فقال : ( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى ) فآيات اللّه غير اللّه. وقال ( لا يُحيطون بِهِ عِلْما ) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة. فقال أبو قرة : فتكذب الروايات ؟ فقال أبو الحسن : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها وما أجمع المسلمون عليه انّه لا يحاط به علما ، ولاتدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء (1).
    انتشر علم الامام وفضله فأخذت الأفئدة والقلوب تشدّ إليه وفي الاُمّة الإسلامية رجال واعون يميزون الحق من الباطل ، فكانت تأتي الأخبار المرعبة إلى مركز الخلافة العباسية بمرو. فحاول المأمون الرشيد القاء القبض على الامام من خلال لعبة سياسية لقتل الثورة في مهدها ، فأنفذ رجالا إلى المدينة حتّى يحملوا الطالبيين وفيهم علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) إلى مرو. فساروا بالامام عن طريق البصرة حتّى وصلوا به إلى مرو. فأنزلوه داراً وأكرموه.
    واجتمع المأمون معه في مجلس ليس فيه غيرهما وقال له : إنّي اُريد أن أخلع
1 ـ الاحتجاج للطبرسي 2 / 184 ، البحراني : البرهان 4 / 228.

(494)
نفسي من الخلافة واُقلّدك إيّاها فما رأيك ؟ فأنكر الرضا ( عليه السلام ) هذا الأمر وقال له : اُعيذك باللّه يا أميرالمؤمنين من هذا الكلام وأن يسمع به أحد ، فرد عليه الرسالة فإذا أبيت ما عرضت عليك فلابد من ولاية العهد بعدي فرد عليه الرضا اباءً شديداً ، ثمّ استدعاه إليه ثانياً وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرياستين ليس في المجلس غيرهم وقال له : إنّي قد رايت أن اُقلّدك أمر المسلمين وافسخ ما في رقبتي واضعه في رقبتك فقال له الرضا ( عليه السلام ) : اللّه اللّه يا أميرالمؤمنين انّه لا طاقة لي بذلك ولا قوّة لي عليه قال له : فانّي موليك العهد من بعدي فقال له : اعفني من ذلك يا أميرالمؤمنين فقال له المأمون كلاما فيه التهديد له على الامتناع عليه وقال في كلامه : انّ عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدّك أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) وشرط في من خالف منهم أن يضرب عنقه ولابد من قبولك ما اُريد منك فإنّي لا أجد محيصاً عنه فقال له الرضا ( عليه السلام ) : فإنّي اُجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد على انّني لا آمر ولا أنهى ولا أفتي ولا اقضي ولا اُولي ولا أعزل ولا اُغيّر شيئاً ممّا هو قائم فأجابه المأمون إلى ذلك كلّه (1).
    بعد قبول علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) بولاية العهد قامَ بين يديه الخطباء والشعراء فخفقت الألوية على رأسه وكان فيمن ورد عليه من الشعراء دعبل ابن علي الخزاعي فلمّا دخل عليه قال : قلت قصيدة وجعلت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك فأمره بالجلوس حتّى خف مجلسه ثم قال له : هاتها. فأنشد قصيدته المعروفة :
ذكرت محل الربع من عرفات فأجريت دمع العين على الوجنات

1 ـ الارشاد للمفيد 310.

(495)
وقد خانني صبري وهاجت صبابتي مدارس آيات خلت من تلاوة رسوم ديار اقفرت وعرات ومنزل وحي مقفر العرصات
    حتّى أتى على آخرها. فلمّا فرغ من إنشادها قام الرضا ( عليه السلام ) فدخل إلى حجرته وأنفذ إليه صُرّة فيها مائة دينار واعتذر إليه فردّها دعبل وقال : واللّه ما لهذا جئت وانّما جئت للسلام عليك والتبرّك بالنظر إلى وجهك الميمون وانّي لفي غنى فإن رأيت أن تعطيني شيئاً من ثيابك للتبرّك فهو أحب فأعطاه الرضا جبّة خز وردّ عليه الصرة (1).
    كان الامام في مرو يقصده البعيد والقريب من مختلف الطبقات وقد انتشر صيته في بقاع الأرض وعند ذلك أحسَّ المأمون أنّ اعطاءه ولاية العهد ربّما يؤدّي إلى الاطاحة بخلافته ، وقوّى ذلك الظن أنّ المأمون بعث إليه يوم العيد في أن يصلّي بالناس ويخطب فيهم فأجابه الرضا ( عليه السلام ) : إنّك قد علمت ما كان بيني وبينك ما كان من الشروط في دخول الأمر فاعفني في الصلاة بالناس فقال له المأمون : إنَّما اُريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس ، ويعرفوا فضلك ، ولم تزل الرسل تتردّد بينهما في ذلك حتّى ألحّ عليه المأمون. فارسل إليه الرضا : إن أعفيتني فهو أحبّ إلىّ وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) فقال له المأمون : اُخرج كيف شئت وأمر القوّاد والحجاب والناس أن يبكروا إلى باب الرضا قال : فعقد الناس لأبي الحسن ( عليه السلام ) في الطرقات والسطوح واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه فاغتسل أبو الحسن ولبس ثيابه وتعمّم بعمامة بيضاء من قطنٍ ، ألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفه ومسّ
1 ـ ابن الصباغ : الفصول المهمة 246 والمفيد : الارشاد 316 وللقصة صلة ومن أراد فليرجع إلى المصدرين المذكورين.

(496)
شيئاً من الطيب وأخذ بيده عكازة وقال لمواليه : افعلوا ما فعلت فمشى قليلاً ورفع رأسه إلى السماء وكبّر وكبّر مواليه معه ، فلمّا رآه الجند والقواد سقطوا كلّهم عن الدواب إلى الأرض ثمّ كبّر وكبر الناس فخيل إلينا أنّ السماء والحيطان تجاوبه وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما رأوه فبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل : إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل فتن به الناس ، وخفنا كلّنا على دمائنا ، فأنفذ إليه أن يرجع فرجع الرضا ( عليه السلام ) واختلف أمر الناس في ذلك اليوم (1).
    وقد أشار الشاعر البحتري إلى تلك القصّة بأبيات :
ذكروا بطلعتك النبي (ص) فهللوا حتّى انتهيت إلى المصلى لابساً ومشيت مشية خاشع متواضع لما طلعت من الصفوف وكبروا نور الهدى يبدو عليك فيظهر للّه لا يزهى ولا يتكبر (2)
    إنّ هذا وأمثاله وبالأخص خروج أخ المأمون زيد بن موسى بالبصرة على المأمون. لأنّه فوض ولاية العهد لعلي بن موسى الرضا وبالتالي سيؤدي إلى خروج الأمر من بيت العباسيين ـ كل ذلك ـ دفع المأمون إلى أن يريح نفسه وقومه من هذا الخطر فدسّ إليه السم على النحو المذكور في التاريخ.
    ومن لطيف ما نقل عن أبي نواس انّه كان ينشد الشعر في كل جليل وطفيف ولم يمدح الامام فاعتذر عنه بالأبيات التالية.
قيل لي أنت أحسن الناس طرّاً لك من جوهر الكلام بديع فعلام تركت مدح ابن موسى في فنون من الكلام النبيه يثمر الدر في يدي مجتنيه والخصال التي تجمّعن فيه

1 ـ المفيد : الارشاد 312.
2 ـ أعيان الشيعة 2 / 21 ـ 22.


(497)
قلت لا أستطيع مدح إمام كان جبرئيل خادماً لأبيه
    ولمّا لم يقبل هذا العذر منه أنشد قصيدة مطوّلة فيها مايلي :
مطهّرون نقيّات جيوبهم من لم يكن علويا حين تنسبه اللّه لمّا برأ خلقاً فأتقنه فأنتم الملأ الأعلى وعندكم تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا فما له في قديم الدهر مفتخر صفاكم واصطفاكم أيّها البشر علم الكتاب وما جاءت به السور (1)
    وأمّا من روى عن الرضا ( عليه السلام ) فحدّث عنه ولا حرج فقد ذكر الشيخ الطوسي في رجاله (2) والسيد الأمين في أعيانه أسماء من رووا عنه. وقد قام الفاضل المعاصر الشيخ العطاردي بجمع ما روي عنه من الأحاديث والخطب والمواعظ والمناظرات وأسماه مسند الامام الرضا ( عليه السلام ) ورتّب أسماء الراوين عنه حسب حروف المعجم فجاء 312 رجلا.
    فسلام اللّه عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ويوم يبعث حيّا.
1 ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان 3 / 270.
2 ـ رجال الشيخ 366 ـ 397 ذكر فيه 315 رجلا.

(498)

(499)
    الإمام التاسع :
محمّد بن علي بن موسى ( عليهم السلام )
الجواد
    هو من أئمّة أهل البيت ، تاسع الأئمّة عند الشيعة ، ولد عام 195. ورث الشرف من آبائه وأجداده ، واستسقت عروقه من منبع النبوّة وارتوت شجرته من منهل الرسالة.
    قام بأمر الولاية بعد شهادة والده الرضا ( عليه السلام ) عام 203 واستشهد ببغداد عام 220. أدرك خلافة المأمون وأوائل خلافة المعتصم.
    أمّا إمامته ووصايته فقد وردت فيها النصوص الوافرة (1).
    لمّا توفّي الرضا ( عليه السلام ) كان الامام الجواد في المدينة وقام بأمر الامامة بوصية من أبيه وله من العمر تسع أو عشر سنين غير انّ المأمون قد مارس معه نفس السياسة التي مارسها مع أبيه ( عليه السلام ) خلافاً لأسلافه من العباسيين ،
1 ـ الكافي 1 / 320 ـ 323 ، اثبات الهداة 3 / 321 ـ 328.

(500)
حيث انّهم كانوا يتعاملون مع أئمّة أهل البيت بالقتل والسجن وكان ذلك يزيد في قلوب الناس حبّاً لأهل البيت وبغضا للخلفاء ، ولمّا شعر المأمون بذلك بدّل ذلك الاسلوب باسلوب آخر وهو استقدام أئمة أهل البيت من موطنهم إلى دار الخلافة لكي يشرف على حركاتهم وسكناتهم ، وقد استمرت هذه السياسة في حقّهم إلى الامام الحادي عشر كما ستعرف.
    ولمّا جيئ بالامام الجواد إلى مركز الخلافة ، شغف به المأمون ، لما رأى من فضله مع صغر سنّه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان ، فزوّجه ابنته اُم الفضل وحملها معه إلى المدينة وكان حريصاً على اكرامه وتعظيمه واجلال قدره ، ونكتفي في المقام بذكر أمرين :
    1 ـ لمّا توفّي الامام الرضا ( عليه السلام ) وقدم المأمون بغداد. اتّفق أنّ المأمون خرج يوماً يتصيّد فاجتاز بطرف البلدة وصبيان يلعبون ومحمّد الجواد واقف عندهم فلمّا أقبل المأمون فرّ الصبيان ووقف محمّد الجواد وعمره آنذاك تسع سنين. فلمّا قرب منه الخليفة فقال له : يا غلام ما منعك أن لا تفرّ كما فرّ أصحابك ؟! فقال له محمّد الجواد مسرعا : يا أميرالمؤمنين فرّ أصحابي فرقا والظن بك حسن انّه لا يفر منك من لا ذنب له ، ولم يكن بالطريق ضيق فأنتحي. فأعجب المأمون كلامه. وحسن صورته قال : ما اسمك يا غلام ؟ قال : محمّد بن علي الرضا ( عليه السلام ) فترحّم على أبيه (1).
    2 ـ لمّا أراد المأمون تزويج ابنته اُم الفضل من الامام الجواد ثقل ذلك على العباسيين وقالوا له : ننشدك اللّه أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ( عليه السلام ) فانّا نخاف أن يخرج به عنّا أمرا ، قد ملّكناه اللّه وينزع عنّا
1 ـ الفصول المهمة 266.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس