بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 501 ـ 510
(501)
به عزّا. قد ألبسناه اللّه وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا حتّى كفى اللّه المهم من ذلك ، وأضافوا : انّه صبي لا معرفة له فامهلة حتى يتأدّب ويتفقّه في الدين ثمّ اصنع ماترى.
    قال المأمون : ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم وإنّ أهل هذا البيت علمهم من اللّه تعالى والهامه. ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب من الرعايا الناقصة عن حد الكمال ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر حتّى يتبيّن لكم ما وصفت لكم من حاله ، قالوا : رضينا فخرجوا واتّفق رأيهم على أنّ يحيى بن أكثم يسأله مسألة وهو قاضي الزمان فأجابهم المأمون على ذلك ، واجتمع القوم في يوم اتّفقوا عليه وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ففعل ذلك وجلس يحيى بن أكثم بين يديه وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر ( عليه السلام ) فقال يحيى بن أكثم للمأمون : أتأذن لي يا أميرالمؤمنين أن أسأل أبا جعفر ؟ فقال : إستأذنه في ذلك ، فأقبل عليه يحيى وقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟ فقال : سل إن شئت.
    فقال : ما تقول جعلت فداك في مُحْرم قتل صيدا ؟ فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : في حل أو حرم ؟ عالماً كان المحرم أو جاهلا ؟ قتله عمداً أو خطأ ؟ حرّاً كان المحرم أو عبدا ؟ صغيراً كان أو كبيرا ؟ مبتدئاً كان بالقتل أو معيدا ؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها ؟ من صغار الصيد أم كبارها ؟ مصرّاً كان على ما فعل أو نادما ؟ ليلا كان قتله للصيد أم نهارا ؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما ؟ فتحيّر يحيى وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتّى عرف أهل المجلس أمره.
    فقال المأمون : الحمد للّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثمّ قال لأبي جعفر ( عليه السلام ) : اخطب لنفسك فقد رضيتك لنفسي وانا مزوّجك


(502)
اُم الفضل ابنتي (1).
    ولمّا تمّ الزواج قال المأمون لأبي جعفر : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة ، فإن اصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً ، فإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن ، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة ، وإن كان نعامة فعليه بدنة وإن كان ظبيا فعليه شاة ، فان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى ، وإن كان احرامه بالعمرة نحره بمكّة ، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء ، وفي العمد له المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ ، والكفارة على الحر في نفسه ، وعلى السيد في عبده ، والصغير لا كفارة عليه وهي على الكبير واجبة ، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة ، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة. فقال له المأمون : أحسنت يا أبا جعفر ... (2).

    رجوع الجواد إلى المدينة :
    ثمّ إنّ أبا جعفر بعد أن اقام مدّة في بغداد هاجر إلى المدينة وسكن بها مدّة إلى أن توفّي المأمون وبويع المعتصم ، ولم يزل المعتصم متفكّراً في أبي جعفر يخاف من اجتماع الناس حوله ووثوبه على الخلافة فلأجل ذلك مارس نفس السياسة التي
1 ـ الارشاد 319 ـ 321 وإعلام الورى 352 وللقصّة صلة فراجع.
2 ـ المفيد : الارشاد 322.


(503)
مارسها أخوه المأمون من قبله فاستقدمه إلى بغداد سنة 220 (1) وتوفّي في بغداد آخر ذي القعدة من تلك السنة وله من العمر 25 سنة وأشهر. ودفن عند جدّه موسى بن جعفر في مقابر قريش.
    وأمّا الرواة عنه فقد ذكرهم ابن شهر آشوب في مناقبه فقال : من ثقاته أيوب ابن نوح بن دراج الكوفي ، وجعفر بن محمّد بن يونس الأحول ، والحسين ابن مسلم بن الحسن ، والمختار بن زياد العبدي البصري ، ومحمّد بن الحسين أبي الخطاب الكوفي.
    ومن أصحابه شاذان بن الخليل النيسابوري ، ونوح بن شعيب البغدادي ، ومحمّد بن أحمد المحمودي ، وأبو يحيى الجرجاني ، وأبوالقاسم إدريس القمّي ، وعلي بن محمّد بن هارون بن الحسن بن محبوب ، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري ، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي ، وأبو علي بن بلال وعبداللّه بن محمّد الحضيني ، ومحمّد بن الحسن بن شمعون البصري وقال في موضع آخر : وقد روى عنه المصنّفون نحو أبي بكر أحمد بن ثابت في تاريخه وأبي إسحاق الثعلبي في تفسيره ، ومحمّد بن منده بن مهربذ في كتابه (2).
    هذا فقد قام الفاضل المعاصر الشيخ العطاردي بجمع ما روي عن الامام الجواد ( عليه السلام ) أسماه « مسند الامام الجواد » وقد ذكر أسماء الرواة عنه من
1 ـ وفي الارشاد 326 وفي إعلام الهدى 304 : وكان سبب ورود الامام إلى بغداد وإشخاص المعتصم له من المدينة فورد بغداد لليلتين بقيتا من محرّم الحرام سنة 225 ... ثمّ يقول : وكان له يوم قبض 25 سنة.
ولا يخفى انّه لو كان تاريخ وروده إلى بغداد هي سنة 225 يكون له يوم وفاته 30 سنة من العمر لأنّه ولد عام 195.
2 ـ ابن شهر آشوب : المناقب 4 / 258.


(504)
المحدّثين والفقهاء الذين يربو عددهم على 121 شخصا. شكر اللّه مساعيه.
    وسلام اللّه على إمامنا الجواد يوم ولد ويوم مات أو استشهد بالسم ويوم يبعث حيّا.


(505)
    الامام العاشر :
أبوالحسن علي بن محمّد الجواد بن علي الرضا ( عليهم السلام )
الهادي
    الامام علي الهادي ، هو الامام العاشر ، والنور الزاهر ، ولد عام 212 هـ وتوفّي بسامراء سنة 254 هـ وهو من بيت الرسالة والامامة ومقر الوصاية والخلافة ، وثمرّة من شجرة النبوّة ، قام بأمر الامامة بعد والده الامام الجواد ، وقد عاصر خلافة المعتصم فالواثق ، فالمتوكل فالمنتصر ، والمستعين ، والمعتز ، وله مع هؤلاء قضايا لا يقتضي المقام ذكر البعض فكيف الكل.
    قال ابن شهر آشوب : كان أطيب الناس مهجة ، وأصدقهم لهجة ، وأملحهم من قريب ، وأكملهم من بعيد ، إذا صمَت ، عَلتْه هيبة الوقار ، وإذا تكلّم سماه البهاء (1)!
1 ـ مناقب آل أبي طالب 4 / 401 طبع قم.

(506)
    وقال عماد الدين الحنبلي : كان فقيهاً إماماً متعبّداً (1).
    وقال المفيد : تقلّد الإمامة بعد أبي جعفر ابنه أبو الحسن علي بن محمّد ، وقد اجتمعت فيه خصال الإمامة وثبت النص عليه بالامامة ، والاشارة إليه من أبيه بالخلافة (2).
    وقدتضافرت النصوص على إمامته عن طرقنا ، فمن اراد فليرجع إلى الكافي واثبات الهداة وغيرهما من الكتب المعدّة لذلك (3).
    وقد مارس المتوكّل نفس الاسلوب الخبيث الذي رسمه المأمون ثم أخوه المعتصم من إشخاص أئمّة أهل البيت من موطنهم وإجبارهم على الاقامة في مقرّ الخلافة وجعل العيون والحرّاس عليهم حتّى يطلعوا على دقيق حياتهم وجليلها ، وكان المتوكّل من أخبث الخلفاء العباسيين وأشدّهم عداءً لعليّ فبلغه مقام علي الهادي بالمدينة ومكانته هناك ، وميل الناس إليه ، فخاف منه ، فدعى يحيى بن هرثمة ، وقال : إذهب إلى المدينة ، وانظر في حاله وأشخصه إلينا.
    قال يحيى : فذهبت إلى المدينة. فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله ، خوفاً على علي الهادي ، وقامت الدنيا على ساق ، لأنّه كان مُحْسِنا اليهم ، ملازماً للمسجد لم يكن عنده ميل إلى الدنيا. قال يحيى : فجعلت اُسكِّنهم وأحْلِف لهم أنّي لم اُؤمر فيه بمكروه ، وانّه لا بأس عليه ، ثمّ فتّشت منزله فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في عيني وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته ، فلمّا قدمت به بغداد ، بدأت بإسحاق بن
1 ـ شذرات الذهب 2 / 128 في حوادث سنة 254.
2 ـ الارشاد 327.
3 ـ الكليني ، الكافي 1 / 323 ـ 325 ، الشيخ الحر العاملي : اثبات الهداة 3 / 355 ـ 358.


(507)
إبراهيم الطاهري وكان والياً على بغداد ، فقال لي : يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول اللّه ، والمتوكل مَنْ تَعْلَم ، فإن حرّضته عليه قتله ، وكان رسول اللّه خصمك يوم القيامة. فقلت له : واللّه ما وقعت منه إلاّ على كلّ أمر جميل ، ثمّ صرت به إلى « سرّ من راى » ، فبدأت بـ « وصيف » التركي ، فأخبرته بوصوله ، فقال : واللّه لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك ، فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأنّي فتّشت داره ولم أجد فيها إلاّ المصاحف وكتب العلم وأنّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته وأجزل برّه ، وأنزله معه سامراء (1).
    ومع انّ الامام كان يعيش في نفس البلد الذي يسكن فيه المتوكل ، وكانت العيون والجواسيس يراقبونه عن كثب ، وشي إلى المتوكل بعلي بن محمّد أن في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم وأنّه عازم بالوثوب بالدولة ، فبعث إليه جماعة من الأتراك ، فهاجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ، ووجدوه في بيت مغلق عليه وعليه مدرعة من صوف وهو جالس على الرمل والحصى وهو متوجّه إلى اللّه تعالى يتلو آيات من القرآن ، فحمل على حاله تلك ، إلى المتوكل ، قالوا للمتوكل : لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة ، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشراب فاُدخل عليه والكأس في يد المتوكل ، فلمّا رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس التي كانت في يده ، فقال : واللّه ما خامر لحمي ودمي قط ، فاعفني ، فأعفاه ، فقال له : أنشدني شعراً ، فقال علي : أنا قليل الرواية للشعر ، فقال : لابد ، فأنشده وهو جالس عنده :
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم واستنلزوا بعد عزّ من معاقلهم غلب الرجال فما أغنتهم القلل واُسْكِنُوا حُفراً يابئس ما نزلوا

1 ـ سبط ابن الجوزي ، تذكرة الخواص 322.

(508)
ناداهم صارخ من بعد دفنهم أين الوجوه التي كانت منعّمة فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا أين الأسرّة والتيجان والحلل من دونها تضرب الأستار والكل تلك الوجوه عليها الدود يقتتل (1) فأصبحوا بعد طول الأكل قد اُكِلوا
    فبكى المتوكّل حتّى بلّتْ لحيته دموع عينه وبكى الحاضرون ورفع إلى علي أربعة آلاف دينار ثم ردّه إلى منزله مكرماً (2).

    آثاره العلمية :
    روى الحفّاظ والرواة عن الامام أحاديث كثيرة في شتّى المجالات من العقيدة والشريعة ، وقد جمعها المحدّثون في كتبهم وبثّها الحرّ العاملي في وسائل الشيعة على أبواب مختلفة ، وممّا نلفت إليه النظر انّ للإمام رسائل.
    1 ـ رسالته في الرد على الجبر والتفويض واثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين أوردها بتمامها الحسن بن علي بن شعبة الحلبي في كتابه (3).
    2 ـ أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله ، وهذه أيضا أوردها في تحف العقول.
    3 ـ قطعة من أحكام الدين ، ذكرها ابن شهر آشوب في المناقب.
    ولأجل إيقاف القارئ على نمط خاص من تفسير الامام نأتي بنموذج من تفسيره :
1 ـ ربما يروى « ينتقل ».
2 ـ المسعودي : مروج الذهب 4 / 11.
3 ـ تحف العقول 338 ـ 352.


(509)
    قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الايمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الامام الهادي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : يضرب حتّى يموت ، فأنكر الفقهاء ذلك فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب : بسم اللّه الرحمن الرحيم ( فَلمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالوا آمَنَّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشركينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعْهُمْ إيمانُهُمْ لَمَّا رَأوْا بأسنا سُنَّة اللّهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ في عبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الكافِرُونَ ) (1) ، فأمر به المتوكّل فضرب حتّى مات (2).

    وفاته :
    توفّي أبوالحسن ( عليه السلام ) في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين ودفن في داره بسرّ من رأى ، وخلّف من الولد أبا محمّد الحسن ابنه هو الإمام من بعده والحسين ومحمّد وجعفر وابنته عايشة ، وكان مقامه بسرّ من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهر ، وتوفّي وسنّه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة (3).
    وقد ذكر المسعودي في اثبات الوصيّة ، تفصيل كيفية وفاته وتشييعه وإيصاء الإمامة لابنه أبي محمّد العسكري. فمن أراد فليراجع.
1 ـ غافر / 84 ـ 85.
2 ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب 4 / 403 ـ 405.
3 ـ الإرشاد 327.


(510)
    الرواة عن الامام الهادي :
    ذكر ابن شهر آشوب في المناقب مشاهير الرواة عنه (1) ، وذكر الشيخ الطوسي أسماء الرواة عنه في رجاله فبلغ عددهم 185 شخصاً (2) ثمّ إنّ الشيخ المعاصر العطاردي قام بجمع ما روي عنه في مجالات شتى فأسماه « مسند الإمام الهادي » شكر اللّه سعيه.
1 ـ المناقب 4 / 402.
2 ـ رجال الشيخ الطوسي 409 ـ 427.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس