بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 511 ـ 520
(511)
    الإمام الحادي عشر :
أبو محمّد الحسن بن علي الهادي ( عليهما السلام ) العسكري
    أبو محمّد : الحسن بن علي الهادي بن محمّد الجواد ، أحد أئمّة أهل البيت ، والإمام الحادي عشر ، الملقّب بالعسكري ولد عام 232 (1) ، وقال الخطيب في تاريخه (2) وابن الجوزي في تذكرته (3) أنّه ولد عام 231 ، وأشخص بشخوص والده إلى العراق سنة 236 ، وله من العمر أربع سنين وعدّة شهور وقام بأمر الامامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده ، وقد اجتمعت فيه خصال الفضل ، وبرز تقدّمه
1 ـ الكليني : الكافي 1 / 503.
2 ـ الخطيب : تاريخ بغداد 7 / 366.
3 ـ سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص 322.


(512)
على كافة أهل العصر ، واشتهر بكمال الفعل والعلم والزهد والشجاعة (1) روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدّثين ما يربو على 150 شخصاً (2) وتوفّي عام 260 ، ودفن في داره التي دفن فيها أبوه بسامراء.
    وخلّف إبنه المنتظر لدولة الحق ، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت ، وشدّة طلب السلطة ، واجتهادها في البحث عن أمره ولكنّه سبحانه حفظه من شرار أعدائه كما حفظ سائر أوليائه كإبراهيم الخليل وموسى الكليم ، فقد خابت السلطة في طلبهما والاعتداء عليهما.
    وقد اشتهر الإمام بالعسكري لأنّه منسوب إلى عسكر ويراد به سرّ من رأى الذي بناها المعتصم ، وانتقل إليها بعسكره ، وأمّا نسبة الإمام إليه لأنّ المتوكّل أشخص اباه عليّاً إليها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر فنسب هو وولده إليها (3).
    وقال السبط ابن الجوزي : كان عالماً ثقة روى الحديث عن أبيه عن جدّه ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز.
    ثمّ ذكر الحديث عن جدّه أبي الفرج الجوزىّ في كتابه المسمّى بتحريم الخمر ثمّ ساق سند الحديث إلى الحسن العسكري وهو يسند الحديث إلى ابائه إلى علي بن أبي طالب وهو يقول : اشهد باللّه لقد سمعت محمّداً رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يقول : أشهد باللّه لقد سمعت جبرائيل يقول : أشهد باللّه لقد سمعت ميكائيل يقول : أشهد باللّه لقد سمعت إسرافيل يقول : أشهد باللّه على اللوح المحفوظ انّه قال : سمعت اللّه يقول « شارب الخمر كعابد الوثن » (4).
1 ـ المفيد : الارشاد 335.
2 ـ العطاردي : مسند الامام العسكري وقد جمع فيه كل ما روي عنه وأسند إليه.
3 ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان 2 / 94.
4 ـ تذكرة الخواص 324.


(513)
    إنّ الإمام أسند الحديث إلى النبيّ الأكرم ولعلّ السبط ابن الجوزي زعم انّه مختص بهذا المورد ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، فإنّ أحاديث أئمّة أهل البيت مروية كلها عن النبىّ الأكرم ، فهم لا يروون في مجال الفقه والتفسير والأخلاق والدعاء إلاّ ما وصل إليهم عن النبىّ الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عن طريق آبائهم وأجدادهم ، ومروياتهم لا تعبّر عن آرائهم الشخصية ، فمن قال بذلك وتصوّر كونهم مجتهدين مستنبطين ، فقد قاسهم بالآخرين ممّن يعتمدون على آرائهم الشخصية وهو في قياسه خاطئ ، فهم منذ نعومة أظفار هم إلى أن لبّوا دعوة ربّهم لم يختلفوا إلى أندية الدروس ، ولم يحضروا مجلس أحد من العلماء ولا تعلّموا شيئاً من غير آبائهم فما يذكرونه من علوم ورثوها من رسول اللّه وراثة غيبية لا يعلم كنهه إلاّ اللّه سبحانه والراسخون في العلم.
    وهذا جابر الجعفي ، قال : قلت لأبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) : إذا حدّثتني بحديث فأسنده لك ؟ فقال : حدّثني أبي عن جدّي عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عن جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى ، فكل ما اُحدثك بهذا الإسناد. ثمّ قال : لحديث واحد تأخذه من صادق عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها (1).
    وروى حفص ابن البختري ، قال : قلت لأبي عبداللّه الصادق ( عليه السلام ) : أسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك ؟ فقال : ما سمعته منّي فاروه عن أبي ، وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) (2).
    فأئمة المسلمين على حد قول القائل :
1 ـ الحر العاملي : وسائل الشيعة ج 18 ، الباب الثامن من أبواب صفات القاضي الحديث 67.
2 ـ المصدر نفسه ، الحديث 86.


(514)
ووال اناسا نقلهم وحديثهم روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري
    ولقد عاتب الامام الباقر ( عليه السلام ) سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة حيث كانا يأخذان الحديث من الناس ولا يهتمان بأحاديث أهل البيت ، فقال لهما : شرقّا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ أشياء خرج من عندنا أهل البيت.
    رغم أنّ الخلفاء وضعوا الامام تحت الاقامة الجبرية وجعلوا عليه عيوناً وجواسيساً ولكن روى عنه الحفّاظ والرواة أحاديث جمّة في شتى المجالات نذكر أسماء الرواة عنه :
    قال ابن شهرآشوب : من ثقاته علي بن جعفر ، وأبو هاشم ، داود بن القاسم الجعفري وقد أدرك خمسة من الأئمّة ( عليهم السلام ) وداود بن أبي يزيد النيسابوري ، ومحمّد بن علي بن بلال ، وعبداللّه بن جعفر الحميري القمّي ، وأبو عمر عثمان ابن سعيد العمري ، وإسحاق بن ربيع الكوفي ، وأبو القاسم جابر بن اليزيد الفارسي ، وإبراهيم بن عبدة بن إبراهيم النيسابوري و ... (1).
    ثمّ إنّ الكلام في أخلاقه وأطواره ، ومناقبه وفضائله ، وكرمه وسخائه ، وهيبته ، وعظمته ، ومجابهته للخلفاء العباسيين بكل جرأة وعزّة. وما نقل عنه من الحكم والمواعظ والآداب ، يحتاج إلى تأليف مفرد وكفانا في ذلك علماءنا الأبرابر بيد أنّا نشير هنا إلى لمحة من علومه :
    1 ـ لقد شغلت الحروف المقطّعة بال المفسّرين فضربوا يميناً ويساراً وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولا ، ولكن الامام ( عليه السلام ) يعالج تلك المعضلة بأحسن الوجوه وأقربها للطبع ، فقال : كذبت قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا سحر مبين تقوّله.
1 ـ المناقب 4 / 423.

(515)
    فقال اللّه : ( الم ذلِك الكتابُ ) ( فقل ) يا محمّد ، هذا الكتاب الذي نزّلناه عليك هو الحروف المقطعة التي منها « الف » ، « لام » ، « ميم » وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم ، ثمّ بيّن انّه لا يقدرون عليه بقوله : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا ) ـ الإسراء / 88 ـ (1).
    وقد روي هذا المعنى عن أبيه الامام الهادي ( عليه السلام ) (2).
    2 ـ كان أهل الشغب والجدل يلقون حبال الشك في طريق المسلمين فيقولون : إنّكم تقولون في صلواتكم : ( اهدِنا الصِّراط المُسْتقيم ) أولستم فيه ؟
فما معنى هذه الدعوة ؟ أو أنّكم متنكّبون عنه فتدعون ليهديكم إليه ؟ ففسّر الإمام الآية قاطعاً لشغبهم فقال : « أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمالنا ».
    ثمّ فسّر الصراط بقوله : الصراط المستقيم هو صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة أمّا الأوّل فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل ، وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الذي هو مستقيم ، لا يعدلون عن الجنّة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنّة (3).
    وقد استفحل أمر الغلاة في عصر الامام العسكري ونسبوا إلى الأئمّة الهداة اُموراً هم عنها براء ، ولأجل ذلك يركّز الامام على أنّ الصراط المستقيم لكل مسلم هو التجنّب عن الغلو والتقصير.
1 ـ الصدوق : معاني الأخبار 24 ، وللحديث ذيل فمن أراد فليرجع إلى الكتاب.
2 ـ الكليني : الكافي ج 1 كتاب العقل والجهل الحديث 20 / 24 ـ 25.
3 ـ الصدوق : معاني الأخبار 33.


(516)
    3 ـ ربّما يغتر الغافل بظاهر قوله سبحانه : ( صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِم ) ويتصوّر أنّ المراد من النعمة هو المال والأولاد وصحّة البدن ، وإن كان كل هذا نعمة من اللّه ، ولكن المراد من الآية بقرينة قوله : ( غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِم ولا الضّالِّين ) هو نعمة التوفيق والهداية.
    ولأجل ذلك نرى انّ الامام يفسّر الأنعام بقوله : « قولوا اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك وهم الذين قال اللّه عزّوجلّ : ( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ والرَّسُولَ فَاُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّقينَ والشُّهَداءِ والصّالِحينَ وحَسُنَ اُولئِكَ رفيقاً ) ثمّ قال : ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن وإن كان كلّ هذا نعمة من اللّه ظاهرة » (1).
    4 ـ لقد تفشّت فكرة عدم علمه سبحانه بالأشياء ، قبل أن تخلق استلهاماً من بعض المدارس الفكرية الفلسفية الموروثة من اليونان ، فسأله محمّد بن صالح عن قول اللّه : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ اُمُّ الكِتابِ ) (2) فقال : هل يمحو إلاّ ما كان وهل يثبت إلاّ ما لم يكن ؟ فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي. إنّه لا يعلم الشيء حتّى يكون ، فنظر إلىَّ شزرا ، وقال :
    « تعالى اللّه الجبّار العالم بالشيء قبل كونه ، الخالق إذ لا مخلوق ، والربّ إذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه » (3).
1 ـ الصدوق : معاني الأخبار 36.
2 ـ الرعد / 39.
3 ـ المسعودي : اثبات الوصية 241.


(517)
    حصيلة البحث :
    هولاء هم أئمّة الشيعة وقادتهم بل أئمة المسلمين جميعاً ، وكيف لا يكونون كذلك ؟ وقد ترك رسول اللّه بعد رحلته الثقلين وحثّ الاُمّة على التمسّك بهما وقال : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً (1).
    ولكن المؤسف أنّ أهل السنّة والجماعة لم يعتمدوا في تفسير كتاب اللّه العزيز على أقوال أهل البيت وهم قرناء القرآن وأعداله والثقل الآخر من الثقلين وإنّما استعانوا في تفسيره باُناس لا يبلغون شأوهم ولا يشقون غبارهم ، نظراء مجاهد بن جبر ( ت 104 ) وعكرمة البربري ( ت 104 ) وطاووس بن كيسان اليماني ( ت 106 ) وعطاء بن أبي رباح ( ت 114 ) ومحمّد بن كعب القرظي ( ت 118 ) إلى غير ذلك من اُناس لا يبلغون في الوثاقة والمكانة العلمية معشار ما عليه أئمّة أهل البيت ـ صلوات اللّه عليهم ـ ...
    فالإسلام عقيدة وشريعة ، فالنجاة عن الضلال ـ حسب مفاد حديث الثقلين هو الرجوع إليهما وأمّا غيرهما فإن رجع إليهما فنعم المطلوب وإلاّ فلا قيمة له ـ أمّا الصحابة والتابعون ، فلا يعتد برأيهم إلاّ إذا كان مأخوذاً عن كتابه سبحانه أو سنّة نبيّه ، وليس حديث أئمّة أهل البيت إلاّ إشراقاً خالداً لحديث جدّهم الأكرم وسنّته.
1 ـ رواه غير واحد من أصحاب الصحاح والمسانيد وهو من الأحاديث المتواترة ، ( لاحظ نشرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية. حول هذا الحديث ، ترى اسنادها موصولة إلى النبيّ الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).

(518)

(519)
    الإمام الثاني عشر :
الخلف الصالح
المهدي صاحب الزمان ( عجل اللّه تعالى فرجه)
    هو أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري الحجّة ، الخلف الصالح ، ولد عليه السلام بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان ، سنة خمس وخمسين ومائتين ، وله من العمر عند وفاة أبيه خمس سنين ، آتاه اللّه الحكم صبيّا كما حدث ليحيى قال سبحانه : ( يا يَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّة وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيّا ) (1) وجعله إماماً وهو طفل ، كما جعل المسيح نبيّاً وهو رضيع قال سبحانه : ( إنِّى عَبْدُ اللّهِ آتانِىَ الكِتابَ وَجَعَلنِى نَبِّيا ) (2) وقد تواتر النص عليه من النبيّ الأكرم وآبائه
1 ـ مريم / 12.
2 ـ مريم / 30.


(520)
الكرام.
    اتّفق المسلمون على ظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم ، والجور ، ونشر أعلام العدل وإعلاء كلمة الحق ، وإظهار الدين كلّه ولو كره المشركون ، فهو بإذن اللّه ينجي العالم من ذلّ العبودية لغير اللّه ، ويلغي الأخلاق والعادات الذميمة ، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء ، ويقطع أواصر التعصّبات القومية والعنصرية ، ويمحي أسباب العداء ، والبغضاء التي صارت سبباً لاختلاف الاُمّة ، وافتراق الكلمة ، ويحقق به سبحانه بظهوره ، وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله :
    1 ـ ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ولُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْناً يَعْبُدُونَنِى لا يُشْركُونَ بِى شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعَدَ ذلِكَ فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون ) (1).
    2 ـ ( وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثِينَ ) (2).
    3 ـ ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِىَ الصّالِحُونَ ) (3).
    ويأتي عصر ذهبي لا يبقى فيه على الأرض بيت إلاّ ودخلته كلمة الإسلام ولا تبقى قرية إلاّ وينادى فيها بشهادة « لا إله إلاّ اللّه » بكرة وعشيا.
1 ـ النور / 55.
2 ـ القصص / 5.
3 ـ الأنبياء / 105.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس