بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 521 ـ 530
(521)
    1 ـ روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : ولو لم يبق من الدهر إلاّ يوم واحد لبعث اللّه رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جورا (1).
    2 ـ أخرج أبو داود عن عبداللّه بن مسعود أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال : لا تنقضي الدنيا حتّى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي (2).
    3 ـ أخرج أبو داود عن اُمّ سلمة ـ رضي اللّه عنها ـ قالت : سمعت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يقول : المهدي من عترتي من ولد فاطمة (3).
    4 ـ أخرج الترمذي عن ابن مسعود أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال : يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي (4).
    إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي بلغت أعلى مراتب التواتر على وجه يقول الدكتور عبدالباقي : إنّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين أو راو أو راويين انّها مجموعة من الأحاديث والآثار تبلغ الثمانين تقريبا ، اجتمع على تناقلها مئات الرواة وأكثر من صاحب كتاب صحيح (5).
    هذا هو المهدي الذي اتّفق المحدّثون والمتكلّمون عليه ، وانّما الاختلاف بين الشيعة والسنّة في ولادته ، فالشيعة ذهبت إلى أنّ المهدي الموعود هو الامام الثاني عشر الذي ولد بسامراء عام 255 هـ واختفى بعد وفاة أبيه عام 260 هـ ، وقد تضافرت
1 ـ مسند أحمد 1 / 99 ، 3 / 17 ـ 70.
2 ـ جامع الاُصول 11 / 48 برقم 7810.
3 ـ المصدر نفسه برقم 7812.
4 ـ المصدر نفسه برقم 7810.
5 ـ الدكتور عبدالباقي : بين يدي الساعة 123.


(522)
عليه النصوص من آبائه ، على وجه ماترك شكّاً ولا شبهة (1) ووافقتهم جماعة من علماء أهل السنّة ، وقالوا بأنّه ولد وأنّه محمّد بن الحسن العسكري.
    نعم كثير منهم قالوا بأنّه سيولد في آخر الزمان ، وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ، فمن رجع إلى روايات أئمّة أهل البيت في كتبهم يظهر له الحق ، وأنّ المولود للامام العسكري هو المهدي الموعود.
    وممّن وافق من علماء أهل السنّة بأنّ وليد بيت الحسن العسكري هو المهدي الموعود :
    1 ـ كمال الدين محمّد بن طلحة بن محمّد القرشي الشافعي في كتابه « مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ». وقد أثنى عليه من ترجم له مثل اليافعي في « مرآة الجنان » في حوادث سنة 650. قال بعد سرد اسمه ونسبه : « المهدي الحجّة الخلف الصالح المنتظر ، فأمّا مولده فبسرّ من رأى ، وأمّا نسبه أبا فأبوه الحسن الخالص » ثمّ أورد عدّة أخبار واردة في المهدي من طريق أبي داود ، والترمذي ، ومسلم والبخاري وغيرهم ثمّ اعترض بأنّها لا تدل على أنّه محمّد بن الحسن العسكري وأجاب بأنّ الرسول لمّا وصفه وذكر اسمه ونسبه وجدنا تلك الصفات والعلامات موجودة في محمّد بن الحسن العسكري علمنا أنّه هو المهدي.
    2 ـ أبو عبداللّه محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي الشافعي في كتابيه : « البيان في اخبار صاحب الزمان » و« كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب ».
    3 ـ نور الدين علي بن محمّد بن الصباغ المالكي في كتابه الفصول المهمة في معرفة الأئمّة.
1 ـ اقرأ هذه النصوص في كتاب كمال الدين للشيخ الصدوق 306 ـ 381 ترى فيه النصوص المتضافرة على أنّ المهدى الموعود هو ولد الامام أبو محمّد الحسن العسكري وانّ له غيبة.

(523)
    4 ـ الفقيه الواعظ شمس الدين المعروف بالسبط ابن الجوزي « في تذكرة الخواص ».
    إلى غير ذلك من علماء وحفّاظ ذكر أسماءهم وكلماتهم السيد الأمين في أعيان الشيعة وأنهاه إلى ثلاثة عشر ، ثمّ قال : والقائلون بوجود المهدي من علماء أهل السنّة كثيرون وفيما ذكرناه منهم كفاية ومن أراد الاستقصاء فليرجع إلى كتابنا « البرهان إلى وجود صاحب الزمان » ورسالة « كشف الأستار » للشيخ حسين النوري (1).
    وقد كان الاعتقاد بظهور المهدي في عصر الأئمّة الهداة أمراً مسلّماً حتّى أنّ دعبل الخزاعي ذكره في قصيدته التي أنشدها لعلي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) فقال :
خروج إمام لا محالة قائم يميز فينا كل حق وباطل يقوم على اسم اللّه والبركات ويجزي على النعماء والنقمات
    ولمّا وصل دعبل إلى هذين البيتين بكى الرضا ( عليه السلام ) بكاءً شديداً ثمّ رفع رأسه ، فقال له : يا خزاعيّ نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الامام ومتى يقوم ؟ ، فقلت : لا يا مولاي ، إلاّ أنّي سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد ، ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً ، فقال : يا دعبل ، الامام بعدي محمّد ابني ( الجواد ) وبعد محمّد ابنه علي ( الهادي ) وبعد علي ابنه الحسن ( العسكري ) وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ، لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأها عدلا كما ملئت جورا ، وأمّا متى ؟ فاخبار عن الوقت ، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن
1 ـ أعيان الشيعة 2 / 64 ـ 75.

(524)
آبائه عن علي ( عليه السلام ) إنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قيل له : يا رسول اللّه متى يخرج القائم من ذريتك ؟ فقال : مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلاّ هو. ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلاّ بغتة (1).
    ثمّ إنّ للمهدي ـ عجّل اللّه تعالى فرجه ـ غيبتين صغرى وكبرى ، كما جاءت بذلك الأخبار عن أئمّة أهل البيت ، أمّا الغيبة الصغرى فمن ابتداء إمامته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته بوفاة السفراء وعدم نصب غيرهم ، وقد مات السفير الأخير علي بن محمّد السمري عام 329 هـ ، ففي هذه الفترة كان السفراء يرونه وربّما رآه غيرهم ويصلون إلى خدمته وتخرج على أيديهم توقيعات منه إلى شيعته في اُمور شتّى.
    وأمّا الغيبة الكبرى فهي بعد الاُولى إلى أن يقوم بإذن اللّه تعالى.
    وأمّا من رأى الحجّة في زمان أبيه وفي الغيبة الصغرى وحتّى بعد الكبرى ، فحدّث عنه ولا حرج فقد اُلف في ذلك كتب أحسنها وأجملها : كمال الدين للصدوق والغيبة للشيخ الطوسي.
    ثمّ إنّ حول الامام المهدي أسئله وشبهات ربّما يتجاوز العشرة ، وقد ذكرها المحقّقون من علماء الإمامية في كتبهم وأجابوا عنها بوضوح (2).
1 ـ الصدوق : كمال الدين وتمام النعمة 2 / 372.
2 ـ لاحظ محاضراتنا : الإلهيات : بقلم الشيخ الفاضل حسن مكّي 2 / 641 ـ 653 وفي كتاب منتخب الأثر في الامام الثاني عشر لشيخنا : لطف اللّه الصافي ـ دام ظله ـ غنى وكفاية لطالب الحق.

(525)
الفصل الثاني عشر
دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية
وازدهار العلوم

(526)

(527)
    الحضارة تقابل البداوة ، وتطلق على الاقامة في الحضر وهي الكلمة الدارجة في أيّامنا هذه على ألسن الخطباء وقلم الكتّاب وكلمة التمدّن هي التي كانت رائجة سابقاً.
    ولقد شهدت الحياة البشرية على هذا الكوكب ( الأرض ) حضارات متعدّدة ، لكلٍّ ميزاتها وخصائصها التي ضبطها التاريخ ، وأفصحت عنها الاكتشافات الأثرية.
    ومن مشاهير هذه الحضارات : الحضارة الصينية ـ المصرية ـ البابلية ـ اليونانية الرومانية ـ الفارسية ـ وأخيراً الحضارة الغريبة ولكل انطباعاتها الخاصة.
    وأمّا الحضارة الإسلامية فهي التي تتوسّط بين الحضارة الأخيرة ( الغربية ) وما تقدّمها. وهي أكبر الحضارات في تاريخ الإنسان وأكثرها اهتماماً بالعلم والفلسفة والأدب والفنون. وهي الأساس الوطيد الذي قامت عليه حركة النهضة الاوربية. ولقد وضع عشرات من العلماء موسوعات وكتب لبيان ما قدّمته الحضارة الإسلامية من خدمات جليلة إلى المجتمع البشري في المجالات المختلفة.
    وليست الحضارة الإسلامية حضارة عربية ابتدعتها العرب ، بمواهبها وتجاربها بل حضارة الشعوب الإسلامية من عرب وفرس وترك وغيرهم من القوميات ، الذين ذابوا في الإسلام ونسوا قومياتهم ومشخّصاتهم العنصرية والبيئية. وكلّما


(528)
تُستخدم الحضارة العربية يراد منها الحضارة الإسلامية. التي انبثقت بطلوع فجر الإسلام في الجزيرة العربية وانتشرت بانتشاره بسرعة عجيبة فخفقت راياتها في بقاع واسعة من العالم فامتدّت من حدود الصين شرقا ، إلى المحيط الأطلسي غربا.
    إنّ الحضارة الحقيقة تتميّز بانعدام الهمجية والفوضى الاجتماعية ، وباستغلال الموارد الطبيعية والمواهب البشرية إلى أقصى الحدود. كما تتميز بتقدّم العلوم وازدهار الآداب والفنون ، وسموّ المطامح الإنسانية وحلول التنظيم الاجتماعي.
    إنّ الحضارة تتألّف من عناصر أربعة :
    1 ـ الموارد الاقتصادية.
    2 ـ النظم السياسية.
    3 ـ التقاليد الخلقية.
    4 ـ متابعة العلوم والفنون.
    وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق لأنّه إذا ما أمن الإنسان من الخوف تحرّرت في نفسه دوافع التضلّع وعوامل الابداع والانشاء وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها (1).
    وما ذكره ذلك العالم الباحث من اُسس الحضارة وأركانها يرجع إلى تفسير الحضارة بالمعنى الجامع الشامل للحضارة الإلهية والمادّية. وأمّا بالنظر إلى الحضارة المرتكزة على الاُسس الدينية فمن أهم أركانها توعية الإنسان في ظلال الاعتقاد باللّه سبحانه واليوم الآخر. حتّى يكون هو الدافع إلى العمل والالتزام بالسلوك الأخلاقي والديني. فالحضارة المنقطعة عن التوعية الدينية حضارة صناعية
1 ـ ويل دورانت : قصة الحضارة 1 / 3.

(529)
لا إنسانية ، وتمدّن مادّي وليس بالهي.
    إنّ مؤسّس الحضارة الإسلامية هو النبيّ الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وقد جاء بسنن وقوانين دفعت البشرية إلى مكارم الأخلاق ومتابعة العلوم والفنون ، واستغلال الموارد الطبيعية وتكوين مجتمع تسود فيه النظم الاجتماعية المستقيمة.
    ولا يشك في ذلك من قرأ تاريخ الإسلام وتاريخ النبيّ الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) خصوصاً إذا قارن بين حياة البشرية بعد بزوغ شمس الإسلام بما قبلها.
    ثمّ إنّ المسلمين شيدوا أركان الحضارة الإسلامية في ظل الخطوط التي رسمها النبيّ الأكرم من خلال القرآن والسنّة فأصبح لهم قوّة اقتصادية ، ونظم سياسية ، وتقاليد دينية وخلقية وأصبحت العلوم والفنون تتطوّر وتتقدم. وقد قاموا بترجمة كتب اليونانيين والفرس وغيرهم إلى لغتهم فصارت الحضارة الإسلامية مزدهرة. بفضل هذه العلوم وتطويرها. فصارت المكتبات عامرة بآلاف الكتب المتنوّعة.
    انّ لكلّ حضارة طابعاً خاصاً. فلبعضها طابع اقتصادي ولاُخرى طابع عسكري ، ولثالث طابع فنّي معماري وهكذا ، ولكن الحضارة الإسلامية تتمتّع بمجموع هذه المميزات فلم تترك ميزة دون اُخرى.
    والذي يطيب لنا في هذا الفصل ، ذكر مشاركة الشيعة في بناء هذه الحضارة خصوصاً فيما يرجع إلى الركن الرابع وهو متابعة العلوم والفنون ، وأمّا الأركان الثلاثة الباقية فغير مطلوبة لنا في هذا الفصل وذلك :
    لأنّ الموارد الاقتصادية شارك فيها المسلمون انطلاقاً من دوافعهم النفسية من خلال الاهتمام بالاُمور التالية :
    1 ـ التنمية الزراعية بأنواعها المختلفة من الحبوب والفاكهة وغيرهما.


(530)
    2 ـ استخراج المعادن الذهبية ، والفضّية ، والأحجار ، النفيسة الكريمة ، كالفيروز ، والعقيق ، والزمرّد واللؤلؤ والمرجان.
    3 ـ إحداث القنوات المائية وبناء السدود. وتقسيم الماء ، ومحاربة طغيانه.
    4 ـ تربية الحيوانات الأليفة وصيد السمك والطيور.
    5 ـ صناعة الألبسة والأقمشة والستور والسجاد.
    6 ـ صناعة الورق وكتابة الكتب ونشرها في العالم.
    7 ـ ايجاد المواصلات البرّية والبحريّة ، وتنظيم حركة الملاحة ، ومحاربة قطاع الطرق واللصوص في البحر والبر.
    8 ـ العناية الفائقة بالتجارة وعقد الاتّفاقيات التجارية مع البلدان المجاورة ، إلى غير ذلك ممّا يوجب ازدهار الوضع الاقتصادي ، فلا يصح ابعاد قوم عن تلك الساحة وتخصيص الازدهار الاقتصادي بطائفة دون اُخرى فإنّ الإنسان حسب الفطرة والدافع الغريزي ، ينساق إلى ذلك.
    وأمّا النظم السياسية فقد نضجت في الدولتين الاموية والعباسية في حقول شتى : الادارة والعسكرية البرية منها والبحرية ، فقد قامت كل دولة في مصر الخلفاء بواجبها من غير فرق بين الدول الشيعية منها كالحمدانيين والبويهيين والفاطميين وغيرهم كالسامانية والسلاجقة والغزاونة وهكذا.
    وأمّا التقاليد الخلقية فقد كانت منبثقة من صميم الإسلام ومأخوذة من الكتاب والسنّة وأمّا التقاليد القومية لقد أفسح الإسلام لها المجال إذا لم تكن معارضة لمبادئ الشريعة والمثل الأخلاقية الإسلامية.
    فلأجل ذلك نركز على الركن الرابع من هذه الأركان الأربعة للحضارة ، وهو متابعة العلوم والفنون فهي الطابع الأساسي للحضارة الإسلامية وبها تتميّز عن ما تقدّم عليها وعن ما تأخّر عنها ، فنأتي بموجز عن دور الشيعة في بناء هذا الركن أي ازدهار
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس