بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 601 ـ 610
(601)
وأعلام فلاسفتهم ، صنّف في علوم الأوائل وله تعليقات في المنطق ومقالات جليلة في أقسام الحكمة والرياضة (1).
    4 ـ من أشهر علماء الشيعة وأقدمهم الذين برزوا بالكيمياء هو جابر بن حيان ، فهو الذي ظهر في حقل الكيمياء ، وهو أوّل من أشار إلى طبقات العين قبل يوحنا بن ماسويه ( ت 243 ) وقبل حنين بن إسحاق ( ت 264 ) وأوّل من أثبت امكان تحويل المعدن الخسيس إلى الذهب والفضة ، فلم تقف عبقريته في الكيمياء ، عند هذا الحد بل دفعته إلى ابتكار شيء جديد في الكيمياء فأدخل فيها ما سمّاه بعلم الميزان ، والمقصود منه معادلة ما في الأجسام والطبائع ، وجعل لكل جسم من الأجسام ، موازين خاصة (2) وقد اُلّفت حول جابر وعبقريته كتب كثيرة ، فمن أراد فليرجع إليها ، وقد اتّفق الكل على أنّه تلميذ الامام الصادق ( عليه السلام ).
    5 ـ الشريف أبوالقاسم علي بن القاسم القصري ، وهو من علماء القرن الرابع ، ذكره ابن طاووس في فرج المهموم في عداد منجّمي الشيعة (3).
    وهذه نماذج من علماء الشيعة في الطبيعيات والفلكيات ، وأمّا المتأخّرون ، فحدّث عنهم ولا حرج ، وقد أتى بقسم كبير منهم الشيخ عبداللّه نعمة في كتابه « فلاسفة الشيعة » فمن أراد فليرجع ، غير أنّا نذكر هنا المحقق الطوسي الذي له حقّ على الاُمّة جمعاء تقول في حقّه المستشرقة الألمانية :
    « وحصل نصير الدين الطوسي على مرصده ، فكان معهداً لأبحاث لا مثيل له ، وزوّده بالآلات الفلكية التي زادت في شهرة المعهد ، ورفعت مكانته ... ويحكى أنّ
1 ـ محمّد باقر الخونساري : روضات الجنات 1 / 254.
2 ـ فلاسفة الشيعة 1 / 57.
3 ـ فرج المهموم.


(602)
زائراً قصد ابن الفلكي نصير الدين في مرصده في مراغه فلمّا رأى الآلات الفلكية المتنوعّة ذهل ، وقد زاد دهشة حين رأى « المحلقة » ذات الخمس حلقات والدوائر من النحاس : اولاها تمثّل خطّ الطول الذي كان مركّزاً في الأسفل ، وثانيتها خطّ الاستواء ، وثالثتها الخطّ الاهليلجي ، ورابعتها دائرة خطّ الأرض ، وخامستها دائرة الانقلاب الصيفي والشتوي ، وشاهد أيضاً دائرة السمت التي يمكن للمرء بواسطتها أن يُحدّد سمت النجوم ، أي الزاوية الناتجة على خطّ اُفقيّ ثابت وخطّ اُفقيّ آخر صادر عن كوكب في السماء.
    وتقول أيضاً : إنّ نصير الدين أحضر إلى مكتبة المعهد أربعمائة ألف مجلّد كانت قد سرقت من مكتبات بغداد وسوريا وبلاد بابل ، وقد استدعى علماء ذوي شهرة طائرة من اسبانيا ودمشق وتفليس والموصل إلى مدينة مراغة لكي يعملوا على وضع الازياج بأسرع وقت يمكن » (1).
    ويناسب في المقام ذكر اجمالي عمّا قدموا من الخدمة في مجال الجغرافية وعلم البلدان فنقول :

    الجغرافية وتقويم البلدان :
    نذكر في المقام ، رحّالتين طافا في البلاد الإسلامية وكتبا ما يرجع إلى جغرافية البلدان ، وقد صار كتاباهما أساساً للآخرين :
    1 ـ أحمد بن أبي يعقوب بن واضح المعروف باليعقوبي المتوفّى في أواخر القرن الثالث ، فهو أوّل جغرافي بين العرب ، وصف الممالك معتمداً على ملاحظاته
1 ـ السيدة زيغريد هونكه : شمس العرب تسطع على الغرب 133 والصحيح أن يسمى : شمس الإسلام...

(603)
الخاصة ، ومتوخّياً قصد ما أراد من وصف البلد وخصائصها وهو يقول عن نفسه : انّه عنى في عنفوان شبابه ، وحدّة ذهنه بعلم أخبار البلدان ومسافة ما بين كل بلد وبلد ، لأنّه سافر حديث السن واتّصلت أسفاره ودام تغرّبه ، وقد طاف في بلاد المملكة الإسلامية كلّها ، فنزل أرمينية وورد خراسان وأقام بمصر والمغرب بل سافر إلى الهند ، وكان متى لقى رجلا سأله عن وطنه ومصره وعن زرعه ما هو ؟ وساكنيه منهم ؟ عرب أو عجم ؟ وعن شرب أهله ولباسهم ودياناتهم ومقالاتهم من غير أن يلحقه من ذلك ملال ولا فتور ، وقد وصف المملكة الإسلامية مبتدئاً ببغداد وصفاً منظّماً مع اصابة جديرة بالثقة والاعجاب (1).
    2 ـ أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي ( ت 346 ) فقد ألّف في ذلك المضمار كتابه « مروج الذهب ومعادن الجوهر » وكتابه الآخر « التاريخ في أخبار الاُمم من العرب والعجم » وكتابه الثالث « التنبيه والاشراف » فقد اشتمل وراء التاريخ على الجغرافية وتقويم البلدان ، وقد جرّه حُبّه للاستطاع إلى بلاد بعيدة ، فكتب ما رآه وشاهده.
1 ـ آدم متز : الحضارة الإسلامية 2 / 34 وكتاب اليعقوبي في الجغرافية هو كتاب « البلدان » المنتشر.

(604)

(605)
الفصل الثالث عشر
في بلدان الشيعة وجامعاتهم العلمية


(606)

(607)
    قد عرفت الخطوط العريضة في التشيّع وأنّه ليس شيئاً سوى الإسلام على أساس كون القيادة والخلافة ـ بعد رحلة النبي ـ لعلي ( عليه السلام ) وأهل بيته ، كما تعرّفت على حياة الأئمّة الاثني عشر ، وعلى عمالقة الفكر والعلم والفلسفة ، والأدب والشعر ، من شيعتهم ، الذين شاركوا المسلمين في بناء حضارة قامت على العلم ، والثقافة.
    ولكن ـ اكمالاً للبحث ـ نذكر بلدان الشيعة أوّلاً ، والجوامع والمعاهد العلمية التي أنشأوها ثانياً ودورهم ثالثاً وعددهم رابعاً. حتّى يتم التعرّف عليهم ، على القدر المستطاع.

    1 ـ بلدان الشيعة :
    تتواجد الشيعة في جميع أنحاء العالم بنسب مختلفة وربّما يعدّ بعض البلدان معقل الشيعة ومزدحمها ويكون المذهب السائد عليه هو التشيّع. وإليك أسماء بعضها وهي إيران ، والعراق ، والحجاز ، والشامات ، وتركيا ، وأفغانستان ، والباكستان ، والهند ، واليمن ، ومصر ، والامارات المتّحدة العربية ، والبحرين ، والاحساء ، والقطيف ، والكويت ، ومسقط ، وعمان ، والتبت ، والصين ،


(608)
وجمهورية آذربايجان ، وطاجيكستان والجمهوريات المتحرّرة بانحلال الاتحاد السوفيتي ، وماليزيا ، وأندونيسيا ، وسيلان ، وتايلند ، وسنغافورة ، والأفريقية الشمالية ، والصومال ، والأرجنتين ، وبريطانيا ، وألمانيا ، وفرنسا ، وألبانيا ، والولايات المتّحدة ، وكندا وغيرها ممّا يعسر عدّها.
    ولا بأس بالإيعاز إلى خصوصيات بعض البلدان إذ فيه تسليط لبعض الضوء للتعرّف على ماضي التشيّع وما لاقه أتباعه من العدوان والويلات والمصائب.

    التشيّع حجازي المحتد والمولد :
    التشيّع حجازي المحتد والمولد ، إذ فيه نشأ ، وفي تربته غرست شجرته ثمّ نمت وكبرت ، فصارت شجرة طيّبة ذات أغصان متّسقة وثمار يانعة. وفيه حثّ النبيّ الأكرم على ولاء الإمام وسمّى أولياءه شيعة ، وحدّث بحديث الثقلين وجعل أئمة أهل البيت قرناء الكتاب في العصمة ولزوم الاقتفاء والطاعة ، وفيه رقى النبيّ المنبر الذي صنعوه من رحال الابل وأخذ بيد وصيّه وولي عهده عليّ المرتضى وحمد اللّه وأثنى عليه وقال : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ » فقالوا : اللّهمّ بلى ، ولمّا أخذ من الجمع المحتشد ، الاقرار بأولويته على النفس والنفيس عرّف علياً خليفة عنه وقال : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » ونزل من المنبر ثمّ نزلت آيات ، وتبودلت التهاني والتحيّات بين الامام والصحابة (1).
    وقد أشار إلى بعض ما ذكر مؤلّف خطط الشام وقال : « إنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) هو الذي حثّ على ولاء علي وأهل بيته ( عليهم السلام )
1 ـ لاحظ الفصل الثالث من هذا الجزء.

(609)
وهو أوّل من سمّى أولياءه بالشيعة وفي عهده ظهر التشيّع وسمّى جماعة بالشيعة (1).
    ولمّا ارتحل النبي الأكرم إلى دار البقاء تناسى اُولوا القوة والمنعة من الصحابة عهد النبي الأكرم فحالوا بين النبي واُمنيته كما حالوا بين اُمّته وإمامها ، فتداولوا كرة الخلافة بينهم ، وأخذوا بمقاليد الحكم واحداً بعد آخر ، والإمام منعزل عن الحكم ، لا عمل له إلاّ هداية الاُمّة وارشادها بلسانه وبيانه وقلمه وبنانه.
    إنّ الذي دعا عليّاً إلى السكوت والانحياز ، هو مشاهدة ظاهرة الردّة ، الطارئة على المجتمع الاسلامي عن طريق مسيلمة الكذاب ، وطليحة بن خويلد الأفّاك ، وسجاح بنت الحرث الدجّالة ، واصحابهم الهمج الرعاع فكانوا مهتمّين بمحق الإسلام وسحق المسلمين. ويحدّث عنه الامام في رسالته إلى أهل مصر التي أرسلها مع مالك الأشتر يقول : « فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم » (2).
    رأى الامام أنّ صيانة الإسلام وردّ عادية الأعداء تتوقّفان على المسالمة والموادعة فألقى حبل الخلافة على غاربها ، تقديماً للأهم على المهمّ ، وتبعته شيعته صابرين على مضض الحياة ومرّها.
    بقي الامام منعزلاً عن الحكم قرابة ربع قرن إلى أن قتل عثمان في عقر داره وانثال الناس إلى دار علي من كلّ جانب مجتمعين حوله كربيضة الغنم ، يطلبون منه القيام بالأمر وأخذ مقاليد الحكم ، وفيهم شيعته المخلصون الأوفياء ، فلم ير بدّاً من
1 ـ محمد كرد علي : خطط الشام 5 / 251.
2 ـ الرضي : نهج البلاغة قسم الكتب برقم 62.


(610)
قبول دعوتهم لقيام الحجة بوجود الناصر (1).
    ولمّا نكث الناكثون البيعة ، وقادوا حبيسة رسول اللّه « عائشة » ، معهم إلى البصرة ، ارتحل الإمام بأنصاره وشيعته إلى العراق إلاّ قليلاً بقوا في الحجاز لقلع مادة الفساد قبل أن تستفحل ، ولمّا قلع عين الفتنة ، استوطن الإمام الكوفة واستوطنها معه شيعته وصارت الكوفة عاصمة التشيّع ، ومعقله ، وفيها نما وأينع وأثمر ومنها انحدر إلى سائر البلدان ، بعدما كان الحجاز مهبط التشيّع ومغرسه ومحتده. فكان حجازي المحتد والمغرس عراقي النشوء والنمو. ولم يكن يوم ذاك يتظلّل في ظلال التشيّع ، إلاّ عربي صميم ، من عدنانيّ وقحطانيّ ولم يكن بينهم فارسىّ المحتدّ ولا بربريّ الأصل ولا شعوبيّ العقيدة.
    ومضت على التشيّع في مغرسه ( الحجاز ) قرون ومرّت به أجواء قاسية ، وظروف رهيبة كادت تقضي على الشيعة ـ مع ذلك ـ نرى اليوم تواجدهم في مكة والمدينة وحضر موت ونجران ، الحدود اليمنية ، وقبائل الأطراف رغم العدوانية السائدة في هذه الآونة الأخيرة ضدّهم ورغم سيادة السيف والوحشية الكاسرة فيها ، فبنو جهم ، وبنو علي ، وبعض بني عوف ، ونخاولة المدينة والفلاحون في رساتيقاها كلّهم شيعة.
    وأمّا المنطقة الشرقية كالاحساء والقطيف والدمّام ، فالأكثرية الساحقة فيها هي الشيعة ، ولأجل سحق هذه الأكثرية عمدت السلطة الوهابية بزرع السنّة في بلادهم باستيطان بعض القبائل والموظفين فيها واللّه من وراء القصد.
1 ـ إشار إلى قوله ( عليه السلام ) : « أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر ... لأقيت حبلها على غاربها » نهج البلاغة ، الخطبة 3.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس