بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: 81 ـ 90
(81)
    عباد اللّه لا تقاتلوا على الشك فتضلّوا عن سبيل اللّه ، ولكن البصيرة ثم القتال ، فإنّ اللّه يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حقّ. عباد اللّه : البصيرة » قال أبو الجارود : يابن رسول اللّه ، يبذل الرجل نفسه عن غير بصيرة؟ قال : « نعم أنّ أكثر من ترى عشقت نفوسهم الدنيا فالطمع أرداهم إلاّ القليل الذين لا تخطر الدنيا على قلوبهم ، ولا لها يسعون فأُولئك مني وأنا منهم » (1).
    14 ـ وها نحن ننشر في المقام رسالته إلى علماء الاَُمّة قبيل خروجه ، فحاول فيها بكل وسيلة تشجيع الناس على رفض الظلم والمطالبة بالحرية والعدالة.
    قام بتحقيقها وتصحيحها محمد يحيى سالم عزان عن أربع نسخ ، نوّه بخصوصيتها في مقدمتها ونشرها دار التراث اليمني صنعاء عام 1412هـ.
    وإليك نصها :
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربّ العالمين حتى يرضى وصلّى اللّه وسلم وبارك وترحّم وتحنّن وسلّم على سيّدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمّد.
    إلى علماء الاَُمّة الذين وجبت للّه عليهم الحجّة.
    من « زيد بن علي » ابن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    سلام على أهل ولاية اللّه وحزبه.
    ثم إنّي أُوصيكم معشر العلماء بحظّكم من اللّه في تقواه وطاعته ، وأن لا تبيعوه بالمكس (2) من الثمن ، والحقير من البدل ، واليسير من العِوَض ، فإنّ كلّ
    1 ـ حميد المحلي : الحدائق الوردية : 141 ، الطبعة الثانية ـ 1405هـ ق. وقد جئنا بخلاصة الخطبة ومن أراد الوقوف على الجميع فعليه الرجوع الى المصدر.
    2 ـ المكس : النقص والظلم.


(82)
شيء آثرتموه وعملتم له من الدنيا ليس بخَلَف ممّا زيّن اللّه به العلماء من عباده الحافظين لرعاية ما استرعاهم واستحفظهم من أمره ونهيه ، ذلك بأنّ العاقبة للمتقين ، والحسرة والندامة والويل الدائم للجائرين الفاجرين.
    [الاعتبار من الاَُمم السابقة]
    فتفكّروا عباد اللّه واعتبروا ، وانظروا وتدبّروا وازدجروا بما وعظ اللّه به هذه الاَُمّة من سوء ثنائه على الاَحبار والرهبان.
    إذ يقول : « لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَبّانِيُّونَ والاَحبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الاِثْمَ وأكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ » (1).
    وإنّما عاب ذلك عليهم بأنّهم كانوا يشاهدون الظلمة الذين كانوا بين ظهرانيهم يأمرون بالمنكر ، ويعملون الفساد فلا ينهونهم عن ذلك ، ويرون حقّ اللّه مضيعاً ، ومال اللّه دُولة يوَكل بينهم ظلماً ودولة بين الاَغنياء ، فلا يمنعون من ذلك رغبة فيما عندهم من العَرَض الآفل ، والمنزل الزائل ، ومداهنة (2) منهم على أنفسهم.
    وقد قال اللّه عزّ وجلّ لكم : « يَا أَيُّـها الّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الاَحْبارِ والرُّهْبَانِ لَيَأكُلُونَ أموالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَهَبَ وَالفِضَّةَ وَلايُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّـرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ » (3) كيما تحذروا.
    وإذا رأيتم العالم بهذه الحالة والمنزلة فأنزلوه منزلة من عاث في أموال الناس بالمصانعة (4) ، والمداهنة ، والمضارعة (5) لظلمة أهل زمانهم ، وأكابر
    1 ـ المائدة : 63.
    2 ـ المداهنة : المداراة والملاينة ، وداهن على نفسه أبقى عليها.
    3 ـ التوبة : 34.
    4 ـ المصانعة : الرشوة والمداراة.
    5 ـ المضارعة : التقرب والمقارنة.


(83)
قومهم ، فلم ينهوهم عن منكر فعلوه. رغبة فيما كانوا ينالون من السحت (1) بالسكوت عنهم.
    وكان صدودهم عن سبيل اللّه بالاِتباع لهم ، والاغترار بإدهانهم (2) ومقارنتهم الجائرين الظالمين المفسدين في البلاد. ذلك بأنّ أتباع العلماء يختارون لاَنفسهم ما اختار علماوَهم. فحذروا علماء السوء الذين سلكوا سبيل من ذَمّ اللّه وباعوا طاعة اللّه الجائرين.
    إنّ اللّه عزّ وجلّ قال في كتابه : « إِنّا أنْزَلْنَا التوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُوراً يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الّذِينَ أسْلَمُوا لِلّذِينَ هَادُوا وَالرّبّانِيّونَ والاَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا الناسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون » (3).
    فعاب علماء التوراة والاِنجيل بتركهم ما استحفظهم من كتابه ، وجَعَلَهم عليه شهداء خشية الناس ، ومواتاة (4) للظالمين ، ورضاً منهم بأعمال المفسدين. فلم يوَثروا اللّه بالخشية فسخط اللّه عليهم لمّا اشتروا بآياته ثمناً قليلاً ، ومتاعاً من الدنيا زائلاً. والقليل عند اللّه الدنيا وما فيها من غضارتها (5) وعيشتها ونعيمها وبهجتها ، ذلك بأنّ اللّه هو علاّم الغيوب.
    قد علم بأنّ ركوب معصيته ، وترك طاعته ، والمداهنة للظلمة في أمره ونهيه ، إنّما يلحق بالعلماء للرهبة والرغبة من عند غير اللّه ، لاَنّهم علماء باللّه ، وبكتابه وبسنّة نبيّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    1 ـ السحت : ما خبث من المكاسب.
    2 ـ الاِدهان والمداهنة بمعنى : المصانعة واللين ، وقيل : الاِدهان الغش.
    3 ـ المائدة : 44.
    4 ـ المواتاة : حسن المطاوعة والموافقة.
    5 ـ غضارة الدنيا : النعمة والسعة والخصب.


(84)
[الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
    ولعمري لو لم يكن نال علماء الاَزمنة من ظلمتها ، وأكابرها ، ومفسديها ، شدة وغلظة وعداوة ، ما وصّاهم اللّه تعالى وحذّرهم. ذلك أنّهم ما ينالون ما عند اللّه بالهوينا ولا يخلدون في جنّته بالشهوات.
    فكره اللّه تعالى للعلماء ـ المستحفظين كتبه وسنّته وأحكامه ـ ترك ما استحفظهم ، رغبة في ثواب من دونه ، ورهبة عقوبة غيره. وقد ميزكم اللّه تعالى حقّ تميز ، ووسمكم سمة (1) لا تخفى على ذي لب ، وذلك حين قال لكم : « والمُوَْمِنُونَ وَالمُوَْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَيُوَْتُونَ الزَكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلئِكَ سَيرْحَمُهُمُ اللّهُ إنَّ اللّهَ عَزيزٌ حَكِيم » (2).
    فبدأ بفضيلة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بفضيلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عنده ، وبمنزلة القائمين بذلك من عباده.
    ولعمري لقد استفتح الآية في نعت الموَمنين بفريضة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فاعتبروا عباد اللّه وانتفعوا بالموعظة.
    وقال تعالى في الآخرين : « المُنَافِقُونَ والمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ » (3).
    فلعمري لقد استفتح الآية في ذمّهم بأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف فاعتبروا عباد اللّه وانتفعوا.
    1 ـ السمة : العلامة.
    2 ـ التوبة : 71.
    3 ـ التوبة : 67.


(85)
    واعلموا أنّ فريضة اللّه تعالى في الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أُقيمت له استقامت الفرائض بأسرها هَيّنُها وشديدها.
    وذلك أنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو :
    الدعاء إلى الاِسلام ، والاِخراج من الظلمة ، ورد الظالم ، وقسمة الفيء والغنائم على منازلها ، وأخذ الصدقات ووضعها في مواضعها ، وإقامة الحدود ، وصلة الاَرحام ، والوفاء بالعهد ، والاِحسان ، واجتناب المحارم ، كل هذا من الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    يقول اللّه تعالى لكم : « وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرّ وَالتَقْوَى وَلاَتَعَاوَنُوا عَلَى الاِثْمِ وَالعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ » (1) فقد ثبت فرض اللّه تعالى فاذكروا عهد اللّه الذي عاهدتموه وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم : « سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ » (2).
    [دور العلماء ومكانتهم]
    عباد اللّه فإنّما تصلح الاَُمور على أيدي العلماء وتفسد بهم إذا باعوا أمر اللّه تعالى ونهيه بمعاونة الظالمين ، الجائرين ، فكذلك الجهّال والسفهاء إذا كانت الاَُمور في أيديهم ، لم يستطيعوا إلاّ بالجهل والسفه إقامتها فحينئذ تصرخ المواريث ، وتضج الاَحكام ، ويفتضح المسلمون (3).
    وأنتم أيّها العلماء عصابة مشهورة ، وبالورع مذكورة ، وإلى عبادة اللّه
    1 ـ المائدة : 2.
    2 ـ المائدة : 7.
    3 ـ يفتضح المسلمون بمعنى يفرط المسلمون. قال الزمخشري : سمعتهم يقولون : افتضحنا فيك أي فرطنا في زيارتك وتفقدك.


(86)
منسوبة ، وبدراسة القرآن معروفة ، ولكم في أعين الناس مهابة ، وفي المدائن والاَسواق مكرمة ، يهابكم الشريف ، ويكرمكم الضعيف ، ويرهبكم من لا فضل لكم عليه. يُبدَأ بكم عند الدُعوَة ، والتُحَفَة (1) ، ويشار إليكم في المجالس ، وتشفعون في الحاجات ، إذا امتنعت على الطالبين. وآثاركم متبعة ، وطرقكم تسلك.
    كل ذلك لما يرجوه عندكم من هو دونكم من النجاة في عرفان حقّ اللّه تعالى. فلاتكونوا عند إيثار (2) حقّ اللّه تعالى غافلين ، ولاَمره مضيّعين ، فتكونوا كالاَطباء الذين أخذوا ثمن الدواء وأعطبوا المرضى. وكرعاة استوفوا الاَجر وضلّوا عن المرعى. وكحرّاس مدينة أسلموها إلى الاَعداء ، هذا مثل علماء السوء.
    لا مالاً تبذلونه للّه تعالى ، ولانفوساً تخاطرون بها في جنب اللّه تعالى ، ولاداراً عطلتموها ، ولازوجة فارقتموها ، ولاعشيرة عاديتموها. فلاتتمنوا ما عند اللّه تعالى وقد خالفتموه.
    فترون أنّكم تسعون في النور ، وتتلقاكم الملائكة بالبشارة من اللّه عزّ وجلّ؟ كيف تطمعون في السلامة يوم الطامة؟! وقد أخرجتم الاَمانة ، وفارقتم العلم ، وأدهنتم في الدين. وقد رأيتم عهد اللّه منقوضاً ، ودينه مبغوضاً ، وأنتم لاتفزعون ومن اللّه لاترهبون.
    فلو صبرتم على الاَذى ، وتحملّتم الموَنة في جنب اللّه لكانت أُمور اللّه صادرة عنكم ، وواردة إليكم.
    1 ـ التحفة : بضم المثناة وتسكين المهملة : البر واللطف.
    2 ـ الاِيثار : التقديم والتفضيل ، والمعنى هنا : فلا تكونوا غافلين عند إيثار وتقديم حقّ اللّه تعالى والدفاع عنه.


(87)
    عباد اللّه لاتمكّنوا الظالمين من قِيَادِكم (1) بالطمع فيما بأيديهم من حطام الدنيا الزائل ، وتراثها الآفل ، فتخسروا حظّكم من اللّه عزّ وجلّ.
    عباد اللّه استقدموا إلى الموت بالوثيقة في الدين ، والاعتصام بالكتاب المتين ، ولاتعجبوا بالحياة الفانية فما عند اللّه هو خير لكم ، وإنّ الآخرة هي دار القرار.
    عباد اللّه اندبوا الاِيمان ونوحوا على القرآن ، فو الذي نفس « زيد بن علي » بيده لن تنالوا خيراً لا يناله أهل بيت نبيّكم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا أصبتم فضلاً إلاّ أصابوه فأصبتم فضله.
    [إلى علماء السوء]
    فيا علماء السوء أكببتم على الدنيا وإنّها لناهية لكم عنها ، ومحذرة لكم منها ، نصحت لكم الدنيا بتصرفها فاستغششتموها ، وتَفَتحت لكم الدنيا فاستحسنتموها ، وصدقتكم عن نفسها فكذبتموها.
    فيا علماء السوء هذا مهادكم الذي مهدتموه للظالمين ، وهذا أمانكم الذي أتمنتموه (2) للخائنين ، وهذه شهادتكم للمبطلين. فأنتم معهم في النار غداً خالدون. « ذلِكُم بِمَا كُنْتُم تَفْرَحُونَ فِى الاَرْضِ بِغَيْرِ الحَقّ وَبِمَا كُنْتُم تَمْرَحُونَ » (3).
    فلو كنتم سلّمتم إلى أهل الحقّ حقهم ، وأقررتم لاَهل الفضل بفضلهم لكنتم أولياء اللّه ، ولكنتم من العلماء به حقاً ، الذين امتدحهم اللّه عزّ وجلّ في كتابه بالخشية منهم.
    1 ـ القياد كالمقود : ما يقاد به ، واستعماله هنا مجاز ، والمعنى : لا تمكّنوا الظالمين من قودكم كما تقاد البهائم.
    2 ـ أتمنتموه بمعنى أمنتموه ، حكاه في اللسان عن ثعلب وقال : وهي نادرة.
    3 ـ غافر : 75.


(88)
    فلا أنتم علمتم الجاهل ، ولا أنتم أرشدتم الضال ، ولا أنتم في خلاص الضعفاء تعملون ، ولابشرط اللّه عليكم تقومون ، ولا في فكاك رقابكم [ولا السلب إلاّ سلبكم].
    يا علماء السوء اعتبروا حالكم ، وتفكّروا في أمركم ، وستذكرون ما أقول لكم.
    يا علماء السوء إنّما أمنتم عند الجبارين بالاِدهان ، وفزتم بما في أيديكم بالمقاربة ، وقربتم منهم بالمصانعة (1) ، قد أبحتم الدين ، وعطّلتم القرآن ، فعاد علمكم حجّة للّه عليكم ، وستعلمون إذا حشرج الصدر ، وجاءت الطامة ، ونزلت الداهية.
    يا علماء السوء أنتم أعظم الخلق مصيبة ، وأشدهم عقوبة ، إن كنتم تعقلون ، ذلك بأنّ اللّه قد احتج عليكم بما استحفظكم إذ جعل الاَُمور ترد إليكم ، وتصدر عنكم.
    الاَحكام من قبلكم تلتمس ، والسنن من جهتكم تختبر. يقول المتبعون لكم : أنتم حجّتنا بيننا وبين ربّنا. فبأي منزلة نزلتم من العباد هذه المنزلة؟
    فوالذي نفس « زيد بن علي » بيده لو بيّنتم للناس ما تعلمون ودعوتموهم إلى الحقّ الذي تعرفون ، لتضعضع بنيان الجبارين ، ولتهدّم أساس الظالمين ، ولكنّكم اشتريتم بآيات اللّه ثمناً قليلاً ، وأدهنتم في دينه ، وفارقتم كتابه.
    هذا ما أخذ اللّه عليكم من العهود والمواثيق ، كي تتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الاِثم والعدوان ، فأمكنتم الظلمة من الظلم ، وزيّنتم لهم الجور ، وشددتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقارنة ، فهذا حالكم.
    فيا علماء السوء فمحوتم كتاب اللّه محواً ، وضربتم وجه الدين ضرباً ،
    1 ـ المصانعة : المداراة والمداهنة.

(89)
فند (1) واللّه نديد البعير الشارد ، هرباً منكم.
    فبسوء صنيعكم سفكت دماء القائمين بدعوة الحقّ من ذرية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ورفعت روَوسهم فوق الاَسنّة ، وصُفّدُوا في الحديد ، وخلص إليهم الذل ، واستشعروا الكرب وتسربلوا الاَحزان ، يتنفسون الصعداء (2) ، ويتشاكون الجهد.
    فهذا ما قدّمتم لاَنفسكم ، وهذا ما حملتموه على ظهوركم ، فاللّه المستعان ، وهو الحكم بيننا وبينكم ، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين.
    [دعوة إلى الجهاد]
    وقد كتبت إليكم كتاباً بالذي أُريد من القيام به فيكم. وهو : العمل بكتاب اللّه ، وإحياء سنّة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فبالكتاب قوام الاِيمان ، وبالسنّة يثبت الدين. وإنّما البدع أكاذيب تخترع ، وأهواء تتّبع ، يتولّـى فيها وعليها رجال رجالاً صدّوهم عن دين اللّه ، وذادوهم عن صراطه ، فإذا غيّرها الموَمن ، ونهى عنها المُوَحّد ، قال المفسدون : جاءنا هذا يدعونا إلى بدعة!!
    وأيم اللّه ما البدعة إلاّ التي أحدث الجائرون ، ولا الفساد إلاّ الذي حكم به الظالمون.
    وقد دعوتكم إلى الكتاب. فأجيبوا داعي اللّه ، وانصروه ، فوالذي بإذنه دعوتكم ، وبأمره نصحت لكم ، ما ألتمس أثرة على موَمن ، ولا ظلماً لمعاهد ، ولوددت أنّي قد حميتكم مراتع (3) الهلكة ، وهديتكم من الضلالة ، ولو كنت أوقد
    1 ـ ند البعير : شرد ونفر.
    2 ـ في القاموس : بالضم بعده سكون ، وفي لسان العرب : بالضم بعده تحريك بالفتح : النفس بتوجع ، وفي شرح القاموس الاَوّل أصح.
    3 ـ مراتع : مواضع.


(90)
ناراً فأقذف بنفسي فيها ، لا يقربني ذلك من سخط اللّه ، زهداً في هذه الحياة الدنيا ، ورغبة منّي في نجاتكم ، وخلاصكم. فإن أجبتمونا إلى دعوتنا كنتم السعداء والموفورين حظاً ونصيباً.
    عباد اللّه انصحوا داعي الحقّ وانصروه إذ قد دعاكم لما يحييكم. ذلك بأنّ الكتاب يدعو إلى اللّه ، وإلى العدل والمعروف ، ويزجر عن المنكر.
    فقد نظرنا لكم وأردنا صلاحكم ، ونحن أولى الناس بكم. رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « جدّنا » ، والسابق إليه الموَمن به « أبونا » ، وبنته سيدة النسوان « أُمّنا » ، فمن نزل منكم منزلتنا. فسارعوا عباد اللّه إلى دعوة اللّه ، ولا تنكلوا عن الحق ، فبالحق يُكبَت (1) عدوّكم ، وتمنع حريمكم ، وتأمن ساحتكم.
    وذلك أنّا ننزع الجائرين عن الجنود ، والخزائن ، والمدائن ، والفيء ، والغنائم ، ونثبت الاَمين الموَتمن ، غير الراشي والمرتشي ، الناقض للعهد. فإن نظهر فهذا عهدنا ، وإن نستشهد فقد نصحنا لربّنا ، وأدّينا الحقّ إليه من أنفسنا ، فالجنة مثوانا ومنقلبنا ، فأي هذا يكره الموَمن ، وفي أي هذا يرهب المسلم ، وقد قال اللّه عزّ وجل لنبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « وَلاَ تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أنْفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَيُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أثِيماً » (2).
    وإذا بدأت الخيانة ، وخربت الاَمانة ، وعمل بالجور ، فقد افتضح الوالي. فكيف يكون إماماً على الموَمنين من هذا نعته وهذه صفته؟!
    اللّهم قد طلبنا المعذرة إليك ، وقد عرّفتنا إنّك لاتصلح عمل المفسدين ، فأنت اللّهم وليّنا ، والحاكم فيما بيننا وبين قومنا بالحقّ.
    هذا ما نقول ، وهذا ما ندعو إليه ، فمن أجابنا إلى الحقّ فأنت تثيبه وتجازيه ،
    1 ـ يكبت : يرد العدو ويغيضه.
    2 ـ النساء : 107.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: فهرس