بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: 211 ـ 220
(211)
فإنّا نخاف أن يفسد عليكم أمركم.
    قال عيسى بن عبد اللّه بن محمد : فأرسلني أبي أنظر ما اجتمعوا له؟ فجئتهم فإذا بمحمد بن عبد اللّه يصلي على طنفسة رجل مثنية فقلت لهم : أرسلني أبي إليكم أسألكم لاَيّ شيء اجتمعتم؟ فقال عبد اللّه : اجتمعنا لنبايع المهدي محمد ابن عبد اللّه.
    قال : وجاء جعفر بن محمد ( عليه السلام ) ، فأوسع له عبد اللّه بن الحسن إلى جنبه فتكلم بمثل كلامه.
    فقال جعفر ( عليه السلام ) : « لاتفعلوا فإنّ هذا الاَمر لم يأت بعد ، إن كنت ترى ـ يعني عبد اللّه ـ أنّ ابنك هذا هو المهدي فليس به ، ولا هذا أوانه ، وإن كنت إنّما تريد أن تخرجه غضباً للّه وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فإنّا واللّه لاندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك في هذا الاَمر » (1).
    فغضب عبد اللّه بن الحسن ، وقال : لقد علمتُ خلاف ما تقول ، [واللّه ما أطلعك على غيبه] ولكن يحملك على هذا الحسد لابني.
    فقال : « واللّه ما ذاك يحملني ، ولكن هذا وإخوته وأبناوَهم دونكم » وضرب بيده على ظهر أبي العباس (2) ، ثم ضرب بيده على كتف عبد اللّه بن الحسن ، وقال : « إنّها واللّه ما هي إليك ولا إلى ابنيك ، ولكنها لهم ، وإن ابنيك لمقتولان ». ثم نهض فتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال : أرأيت صاحب الرداء الاَصفر ـ يعني أبا جعفر ـ؟ فقال له : نعم ، قال : قال : « إنّا واللّه نجده يقتله » قال له عبد العزيز : أيقتل محمداً؟ قال : « نعم » ، فقلت في نفسي : حسده ورب الكعبة ، ثم قال : واللّه ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتلهما.
    1 ـ بما أنّه أمير الجهاد ، لا إمام الفقه والاجتهاد ولا الاِمام المفترض الطاعة.
    2 ـ إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس.


(212)
    قال : فلمّا قال جعفر ( عليه السلام ) ذلك ونهض القوم وافترقوا ، تبعه عبد الصمد وأبو جعفر فقالا : يا أبا عبد اللّه أتقول هذا؟ قال : « نعم أقوله واللّه وأعلمه » (1).
    قال أبو الفرج : وحدثني علي بن العباس المقانعي قال : أخبرنا بكار بن أحمد قال : حدثنا الحسن بن الحسين ، عن عنبسة بن نجاد العابد قال : كان جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) إذا رأى محمد بن عبد اللّه بن الحسن تغرغرت عيناه ثم يقول : « بنفسي هو ، إنّ الناس ليقولون فيه ، وإنّه لمقتول ، ليس هو في كتاب علي ( عليه السلام ) من خلفاء هذه الاَُمّة » (2).
    والاِمعان في هذه الرواية يعرب عن أمرين :
    الاَوّل : أنّ محمد بن عبد اللّه اتّخذ موقفاً غير موقف زيد بن علي ، حيث إنّ عبد اللّه بن الحسن يريد أن يصف ، ابنه بأنّه هو المهدي الموعود كما قال : اجتمعنا لنبايع المهدي محمد بن عبد اللّه ولم يردّه ابنه وكأنّه قبله.
    فيردعه الاِمام بقوله : « إنّ ابنك هذا ليس هو المهدي ولا أخاه ».
    ولكنّه رافقهم إذا خرجوا مثلما خرج زيد وقال مخاطباً أباه : « وإن كنت إنّما تريد أن تخرجه غضباً للّه وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإنّا واللّه لا ندعك وأنت شيخنا ، ونبايع ابنك في هذا الاَمر ».
    ولما كان كلام الاِمام مخالفاً لما يهواه عبد اللّه غضب عليه وقال : واللّه ما أطلعك على غيبه ولكن يحملك على هذا الحسد لابني.
    ورغم هذا الموقف الجافي كيف يمكن للاِمام ( عليه السلام ) أن يرافقهم ،
    1 ـ أبو الفرج : مقاتل الطالبيين : 206.
    2 ـ أبو الفرج : مقاتل الطالبيين : 208 ، الاِرشاد : 294.


(213)
ويوَيدهم ، ويساندهم ، ولكنّه في نهاية المجلس تنبأ بما وجده في الكتب الموروثة ، أنّ محمد بن عبد اللّه وأخاه يقتلان ويكون الرابح هو أبو جعفر المنصور صاحب الرداء الاَصفر ، وقد وقع ما وقع ، ورآه الناس حسب ما أخبر به الاِمام.
    وبذلك يعرف مفاد الاَحاديث التي ترفض عمل الزيدية في العصور اللاحقة لحركة زيد فلا يرفض زيداً ، ولا ابنه يحيى ولاثورته ونضاله ، وإنّما يرفض أتباعه في العصور بعد استشهاده حيث كانوا يعاندون أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ونذكر منها ما يلي :
    1 ـ روى الشيخ الطوسي عن عبد الملك أنّه قال لاَبي عبد اللّه : قلت : فإنّ الزيدية تقول ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلاّ أنّه لا يرى الجهاد ، فقال : « إنّي لا أرى!! بلى واللّه إنّي لا أراه ولكنّي أكره أن أدع علمي إلى جهلهم » (1).
    2 ـ روى الكليني عن عبد الملك بن أعين قال لاَبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : إنّ الزيدية والمعتزلة قد أطافوا بمحمد بن عبد اللّه (2) فهل له سلطان؟ فقال : « واللّه إنّ عندي لكتابين فيهما تسمية كل نبي وملك يملك الاَرض لا واللّه ما محمد بن عبد اللّه في واحد منهما » (3) وبذلك يعلم مفاد سائر الاَحاديث (4) فلاحظ.
    وحصيلة البحث أنّ الخط الرائج لاَئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) بالنسبة للثورات والانتفاضات التي تحققت على يد الحسينيين والحسنيين إنّما كان هو خط العدل والاقتصاد.
    1 ـ الكليني : الكافي : 5/19 ، باب من يجب عليه الجهاد : الحديث 1 ، 2.
    2 ـ محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي الملقب بالنفس الزكية من أئمة الزيدية.
    3 ـ الكليني : الكافي : 1/242 باب ذكر الصحيفة ، رقم 7.
    4 ـ لاحظ الكافي : 7/376 ، كتاب الديات باب فيما فيه نصاب من البهائم ، الحديث17.


(214)
    فلو كان الحافز عند الثائر هو الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والاِنكار على الظلم والعدوان ، وتخليص المجتمع الاِسلامي من الفساد والدمار فالاِمام الصادق ( عليه السلام ) ومن بعده كانوا يوَيدون ذلك العمل ، ويكون الثائر حينئذ مأذوناً من قبل الاِمام وتأخذ الثورة لنفسها صفة المشروعية.
    وأمّا إذا كان الحافز عند الثائر إلى الثورة هو دعوة الناس إلى إمامة نفسه ، وادّعاء الخلافة عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإنّه ـ والعياذ باللّه ـ المهدي الموعود فلا يكون هناك أيّ مبرر لموافقتهم ومساندتهم.


(215)
الفصل الثاني عشر
موقف علماء الشيعة
من جلالة ووثاقة زيد الشهيد
    إنّ موقف علماء الشيعة الاِمامية نفس موقف النبي وعترته الطاهرة ( عليهم السلام ) وإن كنت في شك من ذلك فاقرأ كلماتهم في حقه :
    1 ـ قال المفيد : كان عين إخوته بعد أبي جعفر ( عليه السلام ) وأفضلهم ، وكان ورعاً ، عابداً فقيهاً ، سخياً ، شجاعاً ، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويطلب بثارات الحسين ( عليه السلام ) (1).
    2 ـ وقال النسابة أبو الحسن علي بن محمد العمري : كان زيد أحد سادات بني هاشم فضلاً وفهماً خرج أيام هشام الاَحول ابن عبد اللّه (2) فقتل وصلب ست سنين ، وقيل أُحرق وذري في الفرات ـ لعن اللّه ظالميه ـ (3).
    3 ـ وقال الطبرسي : إنّ زيداً كان من علماء آل محمد ، غضب للّه فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله (4).
    1 ـ الاِرشاد : 268 ، ط النجف.
    2 ـ والظاهر عبد الملك.
    3 ـ المجدي في الاَنساب : 1/156.
    4 ـ أُنظر : رياض العلماء : 2/338.


(216)
    4 ـ وقال ابن داود : زيد بن علي بن الحسين قتل سنة إحدى وعشرين ومائة ، وله اثنتان وأربعون سنة شهد له الصادق ( عليه السلام ) بالوفاء وترحم له (1).
    5 ـ قال الشهيد الاَوّل في القواعد : وجاز أن يكون خروجهم بإذن إمامٍ واجب الطاعة كخروج زيد بن علي ( عليه السلام ) وغيره من بني علي ( عليه السلام ) (2).
    6 ـ قال الشيخ عبد اللّه الاَفندي التبريزي : السيد الجليل الشهيد أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين ، إمام الزيدية وكان سيداً كبيراً عظيماً في أهله وعند شيعة أبيه ، ولكن اختلفت الاَخبار وتعارضت الآثار بل كلام العلماء الاَخيار أيضاً في مدحه وقدحه ، والروايات في فضله كثيرة ، وقد ألّف جماعة من متأخري علماء الشيعة ومتقدميهم كتباً عديدة مقصورة على ذكر فضائله كما يظهر من مطاوي كتب الرجال ومن غيرها أيضاً.
    ومن المتأخرين ميرزا محمد الاسترآبادي فله رسالة في أحوال زيد بن علي. هذا وأورد فيه كلام المفيد في الاِرشاد بتمامه ، ونقل فيها أيضاً ما رواه الطبرسي في أعلام الورى ، وما رواه ابن طاووس في ربيع الشيعة ونحوهما ، وبالجملة فقد أورد فيها روايات كثيرة في مدحه.
    قال بعض أفاضل السادات المعاصرين ضوعف قدره في أوائل شرح الصحيفة : هو أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) أُمّه أُمّ ولد كان جمّ الفضائل عظيم المناقب ، وكان يقال له : حليف القرآن. روى أبو نصر البخاري عن أبي الجارود ، قال : قدمت المدينة ، فجعلت كلّما سألت عن زيد بن علي. قيل لي : ذلك حليف القرآن. ذاك أُسطوانة المسجد من كثرة صلاته.
    1 ـ ابن داود : الرجال : 1/10 (ذكره في القسم الاَوّل الذي خصّه بالموثوقين بخلاف القسم الثاني فقد خصّه بالمجروحين والمهملين).
    2 ـ القواعد : 2/207 (ضمن القاعدة : 221).


(217)
    وقال الشيخ بهاء الدين العاملي في آخر رسالته المعمولة في إثبات وجود القائم ( عليه السلام ) : الآن أيضاً إنّا معشر الاِمامية لا نقول في زيداً ـ رضي اللّه عنه ـ إلاّ خيراً وكان جعفر الصادق ( عليه السلام ) قد قال لاَصحابه : « إنّ زيداً يتخطّى يوم القيامة أهل المحشر حتى يدخل الجنّة » والروايات عن أئمتنا في هذا المعنى كثيرة (1).
    7 ـ قال الكاظمي : اتّفق علماء الاِسلام على جلالته وثقته وورعه وعلمه وفضله ، وقد روي في ذلك أخبار كثيرة حتى عقد ابن بابويه في العيون باباً لذلك (2).
    8 ـ قال المحدّث النوري : وأمّا زيد بن علي فهو عندنا جليل القدر عظيم الشأن ، كبير المنزلة ، وما ورد مما يوهم خلاف ذلك مطروح أو محمول على التقية (3).
    9 ـ قال المحقّق المامقاني : إنّي أعتبر زيداً ثقة وأخباره صحاحاً اصطلاحاً بعد كون خروجه بإذن الصادق ( عليه السلام ) لمقصد عقلائي عظيم وهو مطالبة حقّ الاِمامة إتماماً للحجّة وقطعاً لعذرهم بعدم مطالب له وقول جمع فيه بالاِمامة بتسويل الشيطان مع نفيه إياها من نفسه ، وإثباته إياها لابن أخيه الصادق لا يزري فيه كعدم إزراء نسبة القائلين بإمامته إليه أحكاماً فقهية مخالفة للحق (4).
    10 ـ وقال المحقّق الخوئي : وقد استفاضت الروايات غير ما ذكرناه في مدح زيد وجلالته وأنّه طلب بخروجه الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ إلى أن قال : ـ وإنّ استفاضة الروايات أغنتنا عن النظر في أسنادها (5).
    1 ـ رياض العلماء وحياض الفضلاء : 2/318 ، وقد ترجم زيد بن علي ترجمة وافية ، طالع هذا الجزء ص 318 ـ 352.
    2 ـ راجع تكملة الرجال : 352 ، تنقيح المقال : 1/467.
    3 ـ المستدرك : 3/599.
    4 ـ تنقيح المقال : 1/469 ، 470.
    5 ـ معجم رجال الحديث : 7/347 ـ 349.


(218)
    ثم إنّه أفرد غير واحد من أعلام الاِمامية تأليفاً في زيد وفضله ومآثره ، فمنهم :
    1 ـ إبراهيم بن سعيد بن هلال الثقفي (م 283 هـ) له كتاب أخبار زيد.
    2 ـ محمد بن زكريا مولى بني غلاب (م 298 هـ) له أخبار زيد.
    3 ـ عبد العزيز بن يحيى الجلودي (م 368هـ) له أخبار زيد.
    4 ـ محمد بن عبد اللّه الشيباني (م 372هـ) له كتاب فضائل زيد.
    5 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر القمي (م 381هـ) له كتاب في أخباره.
    6 ـ ميرزا محمـد الاسترابـادي صاحب الرجـال الكبير (م 1028هـ) لـه رسالة في أحوال زيد.
    7 ـ السيد محسن الاَمين العاملي أحد كبار علماء الاِمامية في القرن الرابع عشر (م 1373هـ) له كتاب أبو الحسين زيد الشهيد وقد طبع في الشام.
    8 ـ السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم ، له كتاب زيد الشهيد وفي ذيله كتاب تنزيه المختار ، وقد طبع عام 1355هـ.
    هذه كلمات علماء الشيعة الاِمامية في حقّ زيد وليس هناك من الشيعة الاِمامية من يبغضه أو يذمّه ولو ورد فيه روايات ذم فإنّما هي مطروحة أو موَوّلة لاتعادل ماتواترت عليه من الروايات الدالة على وثاقته ، وجلالة قدره فمن أراد رمي الشيعة الاِمامية بغير هذا فهو كذاب يُعدُّ من رماة القول على عواهنه.
    نعم بعدما خرج زيد ، وجاهد وناضل وقتل وصلب وأُحرق اتّخذه أعداء الشيعة ذريعة للطعن على إمام الوقت جعفر الصادق ( عليه السلام ) وتوهم بعض الشيعة أنّ الاِمام من قام ونهض وجاهد ، دون غيره وهذا لا صلة له بزيد الثائر.
    وبذلك تقف على قيمة كلام رجلين يُعدّان من رماة القول على عواهنه :
    أحدهما : أحمد بن تيمية في كتاب « منهاج السنّة ».
    ثانيهما : الآلوسي البغدادي.


(219)
    قال ابن تيمية : إنّ الرافضة رفضوا زيد بن علي بن الحسين ومن والاه ، وشهدوا عليه بالكفر والفسوق (1).
    وقال الآلوسي : الرافضة مثلهم كمثل اليهود ، الرافضة يبغضون كثيراً من أولاد فاطمة ـ رضي اللّه عنها ـ بل يسبونهم كزيد بن علي (2).
    أقول : إنّ الرافضة ـ حسب تسمية الآلوسي ـ يقتفون أثر أئمتهم في كل صغيرة وكبيرة ، فإذا كان هذا موقف أئمتهم فكيف يمكن للشيعة التخطّي عنه ، والعجب أنّ الكاتبين كتبا ماكتبا ولم يرجعا إلى معاجم الرجال للشيعة وقد أطبقت معاجمهم على تزكيته وترفيع مقامه وتبجيله بكل كلمة.

بين أُباة الضيم وحماة الذل :
    لم أجد أحداً ممن كتب عن زيد ، وكفاحه وجهاده الرسالي الذي عرف به ، من القدامى والجدد من يغمطه حقه ويزدري به ، ويتكلم فيه بهمز أو لمز ، غير الكاتب السلفي : الشيخ شمس الدين الذهبي ، ومع أنّه يصف زيداً بأنّه كان أحد العلماء والصلحاء ، لكنّه يصف جهاده سقطة وزلّة يقول في موضع من كتبه : « بدت منه هفوة فاستشهد ، فكانت سبباً لرفع درجته في آخرته » (3) وفي كتاب آخر : « خرج متأوّلاً ، قتل شهيداً وليته لم يخرج » (4).
    1 ـ ابن تيمية : منهاج السنة : 2/126.
    2 ـ السنة والشيعة : 52.
    3 ـ تاريخ الاِسلام : حوادث (121 ـ 141هـ) ص 105. انظر إلى التناقض في كلامه إذ لو كان خروجه زلّة فكيف صار سبباً لرفع درجته في الآخرة.
    4 ـ سير أعلام النبلاء : 5/391.


(220)
    أقول : ما ذكره شنشنة أعرفها من كل سلفي يرى الجهاد والكفاح على الظلم والعدوان ، أمراً محرّماً ، والحياة مع الظالمين ومهادنتهم أمراً مشروعاً وسعادة ، فهم حماة الذلّ ، ودعاة الهوان ، وأين هم من أُباة الظلم والضيم.
    ومن أُصول الطائفة الاَُولى : الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منهم ، من عدل أو جور ، ولا يخرج عليهم بالسيف وإن جاروا (1) وماذكره على طرف الخلاف مع ما حدّثه السبط الشهيد عن جده رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذلك عندما اقترب من الكوفة استقبله الحر بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيد اللّه ابن زياد لاِكراه الحسين على إعطاء البيعة ليزيد ، وإرساله قهراً إلى الكوفة ، فعند ذلك قام الاِمام وخطب بأصحابه وأصحاب الحُرّ بقوله : أيّها الناس إنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « من رآى سلطاناً جائراً مستحلاً حُرَمَ اللّه ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ، يعمل في عباده بالاِثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على اللّه أن يُدخله مدخله ، ألا وإنّ هوَلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام اللّه ، وحرّموا حلاله ... » (2).
    كيف يكون جهاده هفوة ، مع أنّ الرسول الاَعظم تنبّأ به وأثنى عليه عندما نظر يوماً إلى زيد بن حارثة وبكى وقال : المظلوم من أهل بيتي ، سميّ هذا ، المقتول في اللّه ، المصلوب من أُمتي سميّ هذا ، ثم قال : ادنُ منّي يازيد ـ زادك اللّه حباً عندي ـ بإنّك سميّ الحبيب من ولدي (3).وقد بكى الوصي وأبكى ، أفيصح العزاء والبكاء على السقطة والزلة.
    1 ـ أبو الحسين الملطي : التنبيه والرد : 15.
    2 ـ الطبري : التاريخ : 4/304.
    3 ـ أخرجه السيوطي في الجامع الكبير كما في الروض النضير : 1/108.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: فهرس