بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: 231 ـ 240
(231)
خالف أباه ولم يبايعه بل حاربه.
    نشب الخلاف بين معاوية والحسن بن علي وانجر الاَمر إلى تجنيد الجنود ونفرهم إلى ميادين الحرب وبعد حوادث مريرة رأى الاِمام الحسن ( عليه السلام ) أنّ الاَصلح هو التنازل والتصالح تحت شروط ومبادىَ خاصة حفظها التاريخ ، ومن أهم الشروط التي وقَّع عليها كل من معاوية والحسن بن علي ، هو أنّه ليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً (1) ولكن معاوية لم يكن ممن يعتمد على قوله وعهده ولا على حلفه ويمينه.
    إنّ معاوية من الفئة الذين يقولون ولا يفعلون وقد أظهر نواياه بعدما تم التصالح فقال : إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا انّكم لتفعلون ذلك ولكني قاتلتكم لاَتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ألا وإنّي كنت منّيت الحسن أشياء وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي هاتين لا أفي بشيء منها له. (2).
    رجع الحسن بن علي إلى مدينة جده ، ومعه أخوه الحسين وبنو هاشم وكان يتجرع الغصص من آل أُمية طيلة حياته إلى أن سمّه معاوية بتغرير زوجته فوافاه الاَجل عام خمسين من الهجرة النبوية ، وكان يضرب به المثل في الصبر والحلم. قال أبو الفرج : لما مات الحسن بن علي ( عليهما السلام ) وأخرجوا جنازته حمل مروان سريره ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : أتحمل سريره أما واللّه كنت تجرعه الغيظ ، فقال : مروان إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال (3).
    لم يكن معاوية يجترىَ على نقض ما وقع من عدم العهد إلى أحد ما دام الحسن في قيد الحياة ، وكان يتحين الفرص لنقض العهد واليمين وقد نقض أكثر
    1 ـ ابن صباغ المالكي : الفصول المهمة : 163.
    2 ـ المفيد : الاِرشاد : 191.
    3 ـ أبو الفرج الاَصفهاني : مقاتل ا ، لطالبيين : 49 ، طبعة النجف الاَشرف.


(232)
ما عهد ولم يبق إلاّ شيء واحد وهو أن لا يعهد إلى أحد وكان ولده يزيد أُمنيته وقرة عينه ، ولما مات الحسن رأى الجو صافياً ، فمهد الطريق لتنصيبه والياً من بعده ، وقد بذل في طريق أُمنيته أموالاً طائلة لاَصحاب الدنيا من الصحابة والتابعين حتى أرضى طائفة بترغيبه ونقوده ، وطائفة أُخرى بتخويفه وترهيبه. نعم بقى هناك لفيف قليل اشتروا سخط المخلوق برضا الخالق فلم يبايعوه بل ثاروا عليه ووبخوا معاوية على نقض عهده ، منهم : أبو الشهداء الحسين بن علي فقد جاهر وطرد بيعته وذلك عندما أراد معاوية أخذ البيعة ليزيد فقام وحمد اللّه وصلى على الرسول ، فقال بعد كلام : « وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لاَُمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص. وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به ومن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السبق لاَترابهن ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده ناصراً ، ودع عنك لما تحاول فما أغناك أن تلقى اللّه بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه » (1).
    تسنم معاوية منصة الحكومة فكان يحكم كالقياصرة والاَكاسرة إلى ان أدركته المنية عام ستين وجلس مكانه وليده وربيبه ، ونظيره في الخَلق والخُلق ، واهتز العالم الاِسلامي حينذاك حيث أحسّوا أنّ إنساناً خمِّيراً وسكّيراً لاعباً بالكلاب والقردة ، تصدى للاِمارة وفي الحقيقة للقضاء على الاِسلام والمسلمين باسم الخلافة عن النبي الاَكرم ، فعند ذاك تمت الحجّة على الحسين بن علي ( عليه السلام ) فجاهر بالخلاف والصمود أمامه حيث تجسد في الزمان قول جده رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلاّ فعليه لعنة اللّه » (2)
    1 ـ ابن قتيبة : الاِمام والسياسية : 1/169.
    2 ـ الكليني : الكافي : 1/54 ، ط الغفاري.


(233)
وكان يزيد يحس بذلك عن كثب فكتب إلى عامله بالمدينة الوليد بن عقبة أن يأخذ الحسين بالبيعة له ، فلما اجتمع مع عامله فعرض عليه البيعة فرفض بعد جدال عنيف بحضور مروان بن الحكم ، وأصبح الحسين من غده يستمع الاَخبار فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه ونصحه بالبيعة ليزيد فعندئذ ارتجّ الحسين وثارت ثورته وقال : « إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، وعلى الاِسلام السلام إذا بليت الاَُمة براع مثل يزيد » ، ثم قال : « يا مروان أترشدني لبيعة يزيد ، يزيد رجل فاسق لقد قلت شططاً من القول وزللاً ولا ألومك ، فإنّك اللعين الذي لعنك رسول اللّه وأنت في صلب أبيك الحكم بن العاص ، ومن لعنه رسول اللّه ، فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد ، إليك عني ياعدو اللّه فإنّا أهل بيت رسول اللّه ، الحقّ فينا ينطق على ألسنتنا وقد سمعت جدي رسول اللّه يقول : الخلافة محرمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول اللّه فلم يفعلوا به ما أُمروا فابتلاهم بابنه يزيد » (1).

دوافعه نحو الثورة :
    هذه الكلمة المباركة من الحسين بن علي ( عليهما السلام ) في أعتاب تفجير الثورة تعرب عن أنّ خلافه مع يزيد لم يكن خلافاً قبلياً ولا استمراراً له ، وإنّما كان يثور عليه لاَجل أنّ الحاكم يتّسم بمبادىَ هدامة للدين ، ولو أُتيحت له الفرصة لقضى على الاِسلام والمسلمين ، فلاَجل ذلك قام عن مجلس الوليد ولم يبايعه وترك مدينة جده والتجأ إلى مكة المكرمة ، وليست هذه الكلمة كلمة وحيدة معربة عن نواياه وحوافزه التي دفعته إلى الثورة فكم لها من نظير في حياته.
    وإليك كلمته الثانية عندما نزل منطقة البيضة من العراق واعترضه الجيش الاَموي بقيادة الحر بن يزيد التميمي اليربوعي ، فقال واقفاً بعد أن حمد اللّه وأثنى
    1 ـ الخوارزمي : مقتل الحسين : 1/184 ـ 185.

(234)
عليه : « أيها الناس أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : من رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام اللّه ، ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ، يعمل في عباد اللّه بالاِثم والعدوان ، فلم يغير عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هوَلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله » (1).
    ترى أنّ الاِمام يعلل ثورته على يزيد في البيان الاَوّل بأنّه رجل فاسق شارب الخمر ، قاتل النفس المحترمة معلن للفسق ، وإن هذه الصفات لا تتفق مع شروط الخلافة كما أنّه يعلل ثورته في البيان الثاني بأنّه سلطان جائر ، مستحل لحرام اللّه ناكث لعهده ، مخالف لسنّة رسوله عامل في عباده بالاِثم والعدوان. كل ذلك يعرب عن أنّ ثورته لم تكن ثورة قبلية ولا عنصرية ، بل مبدئية بحتة.
    وهناك للاِمام بيان ثالث ورابع وخامس و ... يعرّف موقفه من الحاكم الاَموي ، يعرف دافعه إلى النضال والكفاح نأتي بثالثة :
    كتب الاِمام إلى روَساء الاَخماس والاَشراف بالبصرة كتاباً جاء فيه : « وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه ، فإنّ السنّة قد أُميتت ، وإنّ البدعة قد أُحييت وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحقّ ، فاللّه أولى بالحقّ ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين » (2).
    وفي هذه المقتطفات من خطب ورسائل الاِمام أدلّة واضحة على أنّ الثورة لم تكن ثورة قبلية ولا عنصرية بل كانت ثورة دينية عقائدية بحتة ، وكان الدافع المهم للتضحية ترسيم خط الشهادة والفداء لكل من يطلب رضى الحقّ ، وبالتالي
    1 ـ ابن الاَثير : الكامل : 3/280 ، الطبري : التاريخ : 4/300.
    2 ـ الخوارزمي : المقتل : 1/88 ، الفصل 9.


(235)
قطع جذور الشر وتحطيم قوى الكفر والمنكر ، وإن طال سنين ، وقد نجح الاِمام في ثورته هذه إلى أن انتهى الاَمر إلى اجتثاث جذور بني أُمية عن أديم الاَرض وغلق ملفهم بقتل حمارهم مروان عام 132هـ. ق.

نجاح الاِمام الحسين ( عليه السلام ) في ثورته :
    لقد درسنا الحافز أو الحوافز التي دفعت الاِمام إلى الثورة غير أنّه بقي هنا أن نتحدث عن نتائجها وعن عطائها ، إذ بالوقوف عليها يعلم أنّه كان في ثورته ناجحاً أو فاشلاً ، إنّ هناك من ينظر إلى ثورة الحسين من منظار سياسي ضيق أو مادي بحت أضيق ، فيظن أنّ ثورته كانت فاشلة حيث إنّ الاِمام استشهد ولم ينل الخلافة ، والمسلمون بقوا بعد الثورة على ما كانوا عليه قبلها ، فكان الاِرهاب والتشريد حليفهم ، وكانت الحكومة الاَموية هي الحاكمة في البلاد الاِسلامية قرابة سبعين سنة.
    هذا ما يتصوره بعض الكتاب في ثورة الحسين ، وكأنّ نجاح الثورة في منطقهم ، هو نجاحها في يومها أو بعد أيام ، وهذا الزعم من هوَلاء ناش من الجهل بالحقّ أو التجاهل به ، فلاَجل قلع هذا التعتيم نركّز من عطاء الثورة في المقام على أمرين مهمين ونترك الباقي لاَقلام الكاتبين في ثورة الحسين :
    1 ـ إنّ الاِمام بتضحية نفسه ونفيسه ، أعلم الاَُمّة فظاظة الاَُمويين وقسوة سياستهم ، وابتعادهم عن الناموس البشري فضلاً عن الناموس الديني وتوغلهم في الغلظة الجاهلية ، وعادات الكفر الدفين.
    ثار في وجه الحكم السائد ليُعلم الملاَ الديني أنّهم لم يوقروا كبيراً ولم يرحموا صغيراً ، ولم يرقبوا على رضيع ولم يعطفوا على امرأة فقدّم إلى ساحات المفاداة ، أغصان الرسالة وأوراد النبوة ، وأنوار الخلافة ، ولم تبق جوهرة من هاتيك


(236)
الجواهر الفريدة ، فلم يعتم هو ولا هوَلاء إلاّ وهم ضحايا في سبيل تلك الطلبة الكريمة.
سل كربلا كم من حشاً لمحمّدٍ أقمار تمٍّ غالها خسف الردى نهبت بها وكم استجذت من يد وانثالها بصروفها الزمن الردي (1)
    2 ـ لم يكن الحسين ( عليه السلام ) يطلب ملكاً عضوضاً ولا سلطة بشرية وإنّما يطلب إيقاظ الاَُمّة بواجبه الحتمي ، وما هو إلاّ إقامة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكأنّ الاَُمّة نسيت ذينك العمادين وذلك لعوامل خلفت رفض ذينك الاَمرين المهمين.
    كانت الاَُمّة تعيش بين الترغيب والترهيب فصارت محايدة عن كل عمل إيجابي يغير الوضع الحاضر وهم بين راضٍ بما يجري ، وبين مبغض صامت ، يترك الاَمر إلى اللّه تبارك وتعالى ، فكانت القلوب مشفقة والاَيدي مغلولة وعلى الاَلسن أُوكية.
    وكيف يصح لمسلم واع ، التساهل أمام عربدة يزيد بالكفر الصريح في شعره ونثره ، وإنكار الوحي والرسالة وهذا هو التاريخ يحكي لنا : أنّه لما ورد على يزيد نساء الحسين وأطفاله ، والروَوس على الرماح وقد أشرفوا ثنيّة جيرون نعب الغراب فأنشأ يزيد يقول :
لما بدت تلك الحمول وأشرقت نعب الغراب فقلت صح أو لاتصح تلك الشموس على رُبى جيرون فلقد قضيت من الغريم ديوني (2)
    يعني أنّه قتل بمن قتل رسول اللّه يوم بدر كجده عتبة وخاله وليد بن عتبة ، وغيرهما وهذا كفر صريح لا يلهج به إلاّ المنكر للرسالات والنبوات ورسالة سيد الرسل.
    1 ـ الاَميني : الغدير : 3/264.
    2 ـ ابن الجوزي : تذكرة الخواص : 235.


(237)
    ولم يقتصر بذلك بل أخذ ينشد شعر ابن الزبعرى حين حضر رأس الحسين بين يديه وقال :
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا قد قتلنا القرم من ساداتهم فأهلوا واستهلوا فرحاً لست من خندف إن لم أنتقم لعبت هاشم بالملك فلا جزع الخزرج من وقع الاَسل وعدلنا قتل بدر فاعتدل ثم قالوا يايزيد لاتشل من بني أحمد ما كان فعل خبر جاء ولا وحيٌ نزل (1)
    وليس ذلك ببعيد عن ابن معاوية فإنّ أباه كان يشمئز من سماع الشهادة الثانية على رسالة محمد فكان يقول : للّه أبوك يا ابن عبد اللّه لقد كنت عالي الهمة ما رضيت لنفسك إلاّ أن تقرن اسمك مع اسم ربّ العالمين (2).
    ولما قال له المغيرة بن شعبة : لقد كبرت فلو أظهرت عدلاً لاِخوانك من بني هاشم فإنّه لم يكن عندهم شيء تخافه قال : هيهات مَلِكَ أخو تيم ، وفعل ما فعل ، فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل أبو بكر ، ثم ملك أخو عدي ، فاجتهد وشمر فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر ، ثم ملك أخونا عثمان ، فعمل ما عمل فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عثمان.
    وانّ أخا هاشم يصرخ باسمه في كل يوم خمس مرات : أشهد أن محمداً رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأي عمل يبقى مع هذا لا أُم لك واللّه إلاّ دفنا دفنا.
    1 ـ البيتان الاَوّلان لابن الزبعرى ، والثلاثة الاَخيرة ليزيد ، لاحظ تذكرة الخواص : 235.
    2 ـ شرح النهج الحديدي : 2/537.


(238)
    ولمّا سمع المأمون بهذا الحديث كتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر فأعظم الناس ذلك وأكبروه واضطربت العامة فأُشير عليه بالترك فأعرض عما كان عليه (1).
    فلما قام الحسين في وجه الحكومة بأولاده وأصحابه القليلين ، فقد نفث في جسم الاَُمّة روح الكفاح والنضال وحطمت كل حاجز نفسي واجتماعي كان يوقفهم عن القيام ، وأثبت أنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الظروف الحرجة ليس رهن العِدّة والعُدّة بل إذا حاق الخطر بالاَُمّة من ملوكها وأمرائها وزعمائها وأصبحوا يسوقون الناس بأفعالهم وأعمالهم ، والمجتمع إلى العيش الجاهلي ، وجب على الموَمن الاستنكار بقلبه ولسانه ويده فكان في قيامه تحطيم السدود المزعومة الممانعة عن القيام بالفريضة ، ولاَجل ذلك استتبعت ثورته ، ثورات عديدة تترى من غير فرق بين من ثار وهو على خط الاِمام وبين من ثار في وجه الطغمة الاَموية ولم يكن على خطه وفكره ولكن الكل كانوا مستلهمين من تلك الثورة العارمة ، ولولا حركة الحسين ( عليه السلام ) لما كان لهذه الحركات أيّ أثر في المجتمع الاِسلامي ، وإن كنت في ريب من ذلك فعليك بدراسة الثورات المتتابعة بعد قيامه ونهضته.
    قضى الاِمام نحبه في اليوم العاشر من محرم الحرام عام 61هـ والرضاء بقضاء اللّه وقدره بين شفتيه (2) وهو ظمآن لم يشرب الماء منذ ثلاثة أيام ، والفرات يموج بمياهه وحيتانه « سبيل على الرواد منهله العذب » دون الحسين وأولاده وأصحابه حتى يموتوا عطشى. ولم يقتصر عدوّه الغاشم بقتله حتى همّ
    1 ـ مروج الذهب : 2/343. آخر أخبار المأمون.
    2 ـ قال ( عليه السلام ) وهو طريح مصرعه : « رضاءً بقضائك ، وتسليماً لاَمرك ، لا معبود سواك ، ياغياث المستغيثين ».


(239)
برضِّ صدره وظهره بالخيل ، ليقضي بذلك على جسم الاِمام كلّه. لكنّه فاته أنّ شهداء طريق الحقّ ، أحياء عند ربّهم يرزقون ، أحياء بين الشعوب الحية ، وأنّه سوف ينقلب الاَمر لصالح الاِمام وضد العدو حتى في اليوم الذي قضى عليه وأنّه ( عليه السلام ) سيجعل من أعدائه الذين وجهوا إليه سيوفهم ورماحهم ، أنصاراً صامدين ، وثواراً مناضلين.
    روى الموَرخون : لما قتل الحسين وتسابق العسكر إلى نهب خيام آل الرسول ونهبوا ما فيها أولاً ، وأضرموا النار ثانياً وبنات الزهراء حواسر مسلبات ، باكيات فنظرت امرأة من آل بكر بن وائل ، كانت مع زوجها ، إلى بنات رسول اللّه بهذا الحال فصاحت : يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول اللّه لا حكم إلاّ للّه ، يالثارات رسول اللّه فردها زوجها إلى رحله (1).
    كان ذلك الهتاف من ذلك الوقت ، نواة للثورة على العدو ، وإن لم يشعر به العدو ، واكتفى بجرها إلى رحله.
    كان الحسين فاتحاً في نهضته ، إذ لم يكن يتبنّى شيئاً سوى إيقاظ شعور الاَُمّة بلزوم القضاء على دعاة الضلال ، وكسح أشواك الباطل ، عن طريق الشريعة ، وتعريف الملاء بالذين هم الاَحق بالخلافة والقيادة.
    إنّ أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) غذّوا الاَُمّة بتحريضهم على عقد المحافل والمجالس لذكر حادثة الطف ، وما جرى على الحسين من مصائب تدك الجبال الرواسي ، وتذيب القلوب القاسية وقد اتخذوا أساليب مختلفة في إحياء حديث الطف بتشكيل أندية العزاء في بيوتهم تارة ، ودعوة الناس إليها ثانياً ، فقال الاِمام الباقر ( عليه السلام ) « رحم اللّه عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا » (2) فكان
    1 ـ ابن نما : مثير الاَحزان : 4 ، ابن طاووس : اللهوف : 74.
    2 ـ المجلسي : البحار : 74/354 ح 31.


(240)
لتلك الذكريات أثراً باهراً في تخليد الثورة في نفوس الاَُمّة حتى اتخذه الاَحرار مقياساً للسير في ضوئه مصباحاً وإليك نزراً يسيراً من الثورات التالية لثورة الاِمام ( عليه السلام ).
بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: فهرس