بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: 481 ـ 490
(481)
فصل [في آيات الصفات]
    فإن قيل : إنّه قد ذكر في القرآن : « يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ » (المائدة : 64) ، وإنّ له جنباً ، وعيناً ، وأعيناً ، ونفساً ، وأيدٍ ، لقوله : « مِمّا عَمِلَتْهُ أَيْدِينا » [يس : 71] ووجهاً.
    فقل : يداه نعمتاه ، ويَدُهُ قُدْرَتُه ، والاَيدي هي : القدرة ، والقوة أيضاً.
    وجنباً في قوله تعالى : « يَاحَسْرَتى عَلَى مَافَرَّطْتُ فِيْ جَنْبِ اللّه » [الزمر : 56] ، أي : في طاعته.
    ونفساً في قوله تعالى : « تَعْلَمُ مَا فِيْ نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ » [المائدة : 116] ، المراد به : تعلم سرّي وغيبي ، ولا أعلم سرّكَ وغيبك.
    ووجهه : ذاته ، ونفسه : ذاته ، وقوله تعالى : « فَثَمَّ وَجْهُ اللّه » [البقرة : 115] ، أي الجهة التي وجّهكم إليها.
    وما ذكر من العين والاَعين فالمراد به الحفظ والكَلاءَة والعلم.
    وقوله : « اسْتَوى عَلَى العَرْشِ » [الاَعراف : 54] ، استواوَه : استيلاوَه بالقدرة والسلطان ، ليس كمثله شيء ، ولا يشبهه ميّت ولا حي.
    فصل [في أنّ اللّه تعالى غني]
    فإن قيل : أربك غني أم لا ؟
    فقل : إنّه غنيٌّ لم يزل ولا يزال ، ولاتجوز عليه الحاجة في حال من الاَحوال ، لاَنّ الحاجة لاتجوز إلاّ على من جازت عليه المنفعة والمضرة ، واللّذة والاَلم ، وهذه الاَُمور لاتجوز إلاّ على من جازت عليه الشهوة والنفرة ، وهما لا يجوزان إلاّ على الاَجسام؛ فيسترُّ الجسم بإدراك ما يشتهيه ويلتذ به ، وينمو ويزداد بتناوله ،


(482)
ويغتم بإدراك ما ينفر عنه ويتضرر به ، وينقص بتناوله. وقد ثبت أنّه تعالى ليس بجسم ، بل هو خالق الجسم ، فكيف يخلق مثل ذاته ، أو تشاركه الاَجسام في صفاته؟! بل لا يجوز عليه شيء من ذلك.
    فصل [في أنّ اللّه لا يُرى بالاَبصار]
    فإن قيل : أربك يرى بالاَبصار ، أم لا يرى؟
    فقل : هذه مقالة باطلة عند أُولي الاَبصار ، لاَنّه لو رئي في مكان لدل ذلك على حُدُوثه ، لاَنّ ما حواه محْدُودٌ محدث.
    فإن قيل : إنّه يرى في غير مكان. فهذا لا يعقل ، بل فيه نفي الروَية ، وقد قال تعالى : « لاتُدْرِكُهُ الاََبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاََبْصَارَ » [الاَنعام : 103] ، فنفى نفياً عاماً لجميع المكلفين ، و [لجميع] أوقات الدنيا والآخرة.
    وقال اللّه تعالى لموسى ـ لما سأله الروَية ـ : « لَنْ تَرَانِي » [الاَعراف : 143] ، ولم يسأل موسى ( عليه السلام ) الروَية لنفسه ، بل عن سوَال قومه ، كما حكاه اللّه في قصص قومه : « فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوْا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ » [النساء : 153] ، ولو سألها لنفسه لصعق معهم. ولما لم يقع منه خطيئة إلا سوَاله لهم الروَية من دون إذن ، قال لربه عزّ وجلّ : « أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنّا » [الاَعراف : 155].
    فصل [في أنّ اللّه تعالى واحد]
    فإن قيل : أربّك واحدٌ لا ثاني له ، أم لا ؟
    فقل : بلى هو واحد لا ثاني له في الجلال ، متفرد هو بصفات الكمال؛ لاَنّه لو


(483)
كان معه إله ثان لوجب أن يشاركه في صفات الكمال على الحد الذي اختصّ بها ، ولو كان كذلك لكان على ما قدر قادراً ، ولو كان كذلك لجاز عليهما التشاجر والتنازع ، ولصح بينهما التعارض والتمانع ، ولو قدّرنا هذا الجائز لاَدى إلى اجتماع الضدين من الاَفعال ، أو عجز القديم عن المراد ، وكل ذلك محال ، تعالى عنه ذو الجلال؛ لقوله : « لَوْ كَان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاّ اللّه لَفَسَدَتا » (الاَنبياء : 22) ، ولقوله عزّ قائلاً : « أَم جَعَلُوا للّه شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ » [الرعد : 16] فتبين أنّ الخلق يشهد بإله واحد ، وأنّه ليس هناك خلق ثانٍ يشهد بإله ثان ، وهذا واضح؛ فإنّ هذا العالم دليلٌ على إله واحد وهو الذي أرسل الرسل ، وأوضح السبُل.
    ويَدُل على ذلك قوله عزّ وجلّ : « فَاعْلَمْ أَنّهُ لا إِلهَ إلاّ اللّه » [محمد : 19] ، وقوله : « شَهِدَ اللّه أَنّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوْا العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ » [آل عمران : 18] ، وقوله : « وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌج » البقرة : 163] ، وقوله : « قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ » [الصمد : 1].
(العدل)
[فصل في أنّ اللّه تعالى عدل حكيم]
فإن قيل : أربّك عدل حكيم؟
    فقل : أجل ، فإنّه لا يفعل القبح ولا يُخِلُّ بالواجب من جهة الحكمة ، وأفعاله كلّها حسنة.
    وإنّما قلنا : إنّه لا يفعل القبيح لاَنّه إنّما يقع ممن جهلَ قُبْحَه ، أو دعته حاجة إلى فِعْلِه وإن عَلِمَ قبحَه ، وهو تعالى عالم بقبح القبائح؛ لاَنّها من جملة المعلومات


(484)
وهو عالم بجميعها كما تقدم ، وغنيّ عن فعلها كما تقدم أيضاً ، وعالم باستغنائه عنها ، وكل من كان بهذه الاَوصاف فإنّه لا يفعل القبيح ، ألا ترى أنّ من مُلْكُه ألفي ألف قنْطارٍ من الذَّهب؛ فإنّه لا يسرق الدّانق ، لعلمه بقبح السرق ، وغناه عن أخذ الدانق ، وعلمه باستغنائه عنه ، وكذلك لو قيل للعاقل : إن صدقت أعطيناك درهماً ، وإن كذبت أعطيناك درهماً ، فإنّه لا يختار الكذب ـ في هذه الحال ـ على الصدق ، [وهما] على وتيرة واحدة ، وطريقة مستمرة ، ولاعِلّة لذلك إلاّ ما ذكرناه.
    فصل [في أنّ أفعال العباد منهم] (1).
    فإن قيل : هل ربّك خَلَق أفعال العباد؟
    فقل : لا يقول ذلك إلاّ أهل الضلال والعناد ، كيف يأمرهم بفعل ما قد خَلَق وأمضى ، أو ينهاهم عن فعل ما قَدْ صَوَّر وقضى ، ولاَنّ الاِنسان يلحقه حكم فعله من المدح والثّناء ، والذمّ والاستهزاء ، والثواب والجزاء ، فكيف يكون ذلك من العلي الاَعلى؟! ولاَنّه يحصل بحسب قصدِه ودواعيه ، وينتفي بحسب كراهته وصرفه على طريقة واحدة ، ولاَن اللّه تعالى قد أضاف أفعال العباد إليهم ، فقال :
    « يَكْسِبُونَ » ، و « يَمْكُرُونَ » ، و « يَفْعَلُونَ » ، و « يَصْنَعُونَ » ، و « يَكْفُرون » ، و « يَخْلُقُونَ إِفْكاً » ، ونحو ذلك في القرآن كثير ، ولكنّه تعالى أمَرَ تخييراً ، ونهى تحذيراً ، أَقدَرَهُم على فعل الضِّدين ، وهداهم النجدين ، ومكّنهم في الحالين ، لم يمنعهم عن فعل المعاصي جبراً ، ولا قهرهم على فعل الطاعات قهراً ،
    1 ـ التعبير موهم للتفويض وهنا تفترق الزيدية عن الاِمامية ، فانّ لاَفعال العباد عند الاِمامية نسبتين : نسبة إلى اللّه سبحانه ، ونسبة إلى العبد ، ولاَجل وجود النسبة ، فأفعالهم منسوبة إليهم بالمباشرة وهم الفاعلون حقيقة ، وإلى اللّه سبحانه بنحو من النسب إمّا بالتسبيب ، أو اللطف منها ، ولاَجل ذلك روى عن الاَئمة ( عليهم السلام ) أنّه : « لا جبر ولاتفويض ».

(485)
ولو شاء لفعل كما قال عزّ وجلّ : « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الاََرْضِ جَمِيعاً » [يونس : 99ج يريد به مشيئة الاِجبار لا مشيئة الاختيار ، لاَنّه لو أكرههم لم يكونوا مكلّفين ، ولَبَطل الغرض ببعثة المرسلين.
    فصل [في أنّ اللّه لا يعذب أحداً إلاّ بذنبه]
    فإن قيل : ربّك يعذب أحداً بغير ذنبه؟
    فقل : لا يعذب أحداً إلاّ بذنبه؛ لاَنّ عقاب من لا ذنب له ظلم ، والظلم قبيح ، وهو تعالى لا يفعل القبيح ، وقد قال تعالى : « وَلاَتَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى » [الاَنعام : 164].
    فصل [في أنّ اللّه لا يقضي إلاّ بالحق] (1).
    فإن قيل : أربك يقضي بغير الحق؟
    فقل : كلاّ ، بل لا يقضي بالكفر والفساد ، لما في ذلك من مخالفة الحكمة والسداد ، لقوله تعالى : « وَاللّهُ يَقْضِي بِالحقِّ » [غافر : 20] ، فلا يجوز القول بأنّ المعاصي بقضاء اللّه تعالى وقَدَره بمعنى الخلق والاَمر ، لاَنّها باطلٌ ، ولاَنّ إجماع المسلمين منعقدٌ على أنّ الرضى بالمعاصي لايجوز ، وإجماعهم منعقد على أنّ الرضا بقضاء اللّه واجب ، ولا مخلص إذاً من ذلك إلاّ بالقول بأنّ المعاصي ليست
    1 ـ العنوان حسن جداً ، لكن إخراج المعاصي عن مجال قضائه وإرادته سبحانه يستلزم التفويض الممقوت ، فالحق أنّ كل ما يوجد في الكون من حسن وجميل ، وإيمان وكفر ، وطاعة وعصيان ، ليس خارجاً عن قضائه وعلمه وإرادته لكن على وجه لا يستلزم الجبر ولا يسلب الاختيار. والتفصيل يطلب من محله.

(486)
بقضاء اللّه؛ بمعنى أنّه خلقها ، ولا أنّه أمر بها ، وأمّا أنّه تعالى عالم بها فهو تعالى عالم بها ، لاَنّها من جملة المعلومات ، وعِلْمُه بها لم يحمل العبد على فعلها ، ولم يجبره على صنعها كما تقدم.
    فصل [في أنّ اللّه لا يكلف أحداً فوق طاقته]
    فإن قيل : هل ربك يُكلّف أحداً فوق طاقته؟
    فقل : لا ، بل لا يكلف أحداً إلاّ ما يطيق؛ لاَنّ تكليف ما لا يطاق قبيح ، وهو تعالى لا يفعل القبيح ، فقد قال تعالى : « لاَ يُكَلّفُ اللّه ُنَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا » [البقرة : 286] ، والوسع : دون الطّاقة ، وقال : « إلاّ مَا آتَاهَا » [الطلاق : 7].
    فصل [في أنّ اللّه لا يريد شيئاً من القبائح] (1).
    فإن قيل : أربك يريد شيئاً من القبائح؟
    فقل : إنّه تعالى لا يريد شيئاً منها ، فلا يريد الظلم ، ولا يرضى الكفر ، ولا يحب الفساد ، لاَنّ ذلك كله يرجع إلى إرادة القبيح ، وإرادة القبيح هي قبيحة ، وهو تعالى لا يفعل القبيح.
    ألا ترى أنّه لو أخبرنا مُخبرٌ ظاهرهُ العدالة ، بأنّه يريد الزنا والظلم لسقطت عدالته ، ونقصت منزلته ، عند جميع العقلاء ، ولا علّة لذلك إلاّ أنّه أتى قبيحاً ، وهو إرادة القبيح.
    وقد قال تعالى : « وَاللّه لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ » [البقرة : 205].
    وقال : « وَلاَيَرْضَى لِعِبادِهِ الكُفْرَ » [الزمر : 71].
    وقال : « ومَا اللّهُ يُريدُ ظُلماً للعِبادْ » [غافر : 31].
    1 ـ مضى الكلام فيه في التعليقة السابقة.

(487)
فصل [في أنّ اللّه لا يفعل ما هو مفسدة]
    فإن قيل : فهل ربّك يفعل لعباده ما هو مَفْسَدة؟
    فقل : كلاّ ، بل لا يفعل إلاّ الصّلاح ، ولايبلوهم إلاّ بما يدعوهم إلى الفلاح ، سواء كان ذلك محنة أو نعمة؛ لاَنّه تعالى لا يفعل إلاّ الصّواب والحكمة كما تقدم ، فإذا أمرضهم وابتلاهم أو امتحنهم بفوت ما أعطاهم ، فلابُدّ من اعتبار المكلفين؛ ليخرج بذلك عن كونه عَبَثاً ، وقد نبّه على ذلك بقوله تعالى : « أَوَ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ هُمْ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ » [التوبة : 126] ، ولابُدّ من العِوَض الموفّي على ذلك بأضعاف مضاعفة ، ليخرج بذلك عن كونه ظلماً ، وقد ورَدَ ذلك في السنّة كثيراً ، والغَرَضُ الاختصار.
(النبوة)
فصل [في معرفة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )]
فإن قيل : فقد أكملت معرفة ربّك ، فمن نبيك؟
    فقل : محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فإن قيل : فما برهانك على ذلك؟
    فقل : لاَنّه جاء بالمعجزة عقيب ادّعائه النبوّة ، وكل من كان كذلك فهو نبيّ صادق.
    فإن قيل : فما برهانك على أنّه جاء بالمعجز عقيب ادّعائه النبوّة؟
    فقل : المعلوم ضرورة أنّه كان في الدنيا قبيلةٌ تُسمّى قريش ، وأن فيهم قبيلة تسمّى : بنو هاشم ، وأنّه كان فيهم رجلٌ اسمه : محمد بن عبد اللّه ، والمعلوم ضرورةً


(488)
أنّه ادّعى النبوة ، وأنّه جاء بالقرآن بعد ادعاء النبوة ، وأنّه مشتمل على آيات التحدّي ، وأنّه كان يتلوها على المشركين ويسمعونها وهم النّهاية في الفصاحة ، والمعلوم ضرورةً شدّةُ عداوتهم له.
    وإنّما قلنا : بأنّه معجز لاَنّه تحداهم على أنّ يأتوا بمثله فعجزوا ، ثم تحداهم على أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا ، ثم تحداهم بأنّ يأتوا بسورة من مثله فلم يقدروا على ذلك؛ لاَنّهم لو قدروا على معارضته ـ مع شدّة عداوتهم له وعلمهم بأنّ معارضته بمثل ما جاء به تبطلُ دعواه ـ لما عدلوا عنها إلى الشّاقّ من محاربته ، التي لا تدل على بطلان دعواه ، فدلّ ذلك على كونه معجزاً.
    ولاَنّ القرآن مشتمل على الاِخبار بالغيوب المستقبلة ، وعلى الاِخبار عن الاَُمور الماضية ، فكان الاَمر على ما أخبر في الماضي والمستقبل ، فدَلّ ذلك على كونه معجزاً ، لايقدر عليه أحد من البشر.
    وله معجزات كثيرة تقارب ألف معجزة ، نحو : مجيء الشجرة إليه ، وجريها على الماء كالسفينة ، وسير الشّجرة ، وإحيائه الموتى ، وتسبيح الحصى في يده ، ونحو ذلك كثير ، وإنما قلنا بأنّ من كان كذلك فهو نبي صادق؛ لاَنّ إظهار المعجز على أيدي الكَذّابين قبيح ، وهو تعالى لا يفعله ، وإذا ثبت صدقُهُ وصحّت نبوته ، وجب تصديقه فيما أخبرنا به عن الاَنبياء والمرسلين قبله ، ووجب القضاء بصحة نبوتهم وتصديق رسالتهم ، وهذا واضح.
    فصل [في معرفة القرآن]
    فإن قيل : فما اعتقادك في القرآن؟
    فقل : اعتقادي أنّه كلام اللّه تعالى ، وأنّه كلام مسموع محدثٌ مخلوق.
    فإن قيل : فما دليلك على ذلك؟


(489)
    فقل ، أمّا قولي : إنّه كلام اللّه تعالى ، فلقوله تعالى : « وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّه » [التوبة : 6] ، المعلوم أن الكلام الذي سمعه المشركون ليس بشيء غير هذا القرآن ، ولاَنّ المعلوم ضرورة أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يدين ويخبر بذلك ، وهو لا يدين إلاّ بالحق ، ولا يخبر إلاّ بالصدق ، لاَنّ ظهور المعجز على يديه قد استأمن وقوع الخطأ فيما يدين به ، وظهور الكذب فيما يخبر به.
    وأمّا قولي : إنّه مسموعٌ فذلك معلوم بالحسّ ولقوله تعالى : « إِنّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً » (الجن : 1) والمعلوم ضرورة أنّ ذلك المسموع هذا القرآن.
    وأمّا قولي : إنّه محدَثٌ؛ فلاَنّه فعل من أفعاله تعالى ، والفاعل متقدم على فعله بالضّرورة ، ومايتقدمه غيره فهو مُحدَث ، ولاَنّ بعضه متقدم على بعض ، وذلك يدل على أنّه محدَث ، ولقوله تعالى : « مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍج » [الاَنبياء : 2]. والذكر هو القرآن ، لقوله تعالى : « وإنّهُ لَذِكْرٌ لكَ ولِقَوْمِكَ » [الزخرف : 44] ، أيْ شَرَفٌ لك ولقومك.
    وأمّا قولي : إنّه مخلوقٌ؛ فلاَنّه مُرَتَّبٌ منظومٌ على مقدارٍ معلومٍ موافقٍ للمصلحة. بهذه الصِّفةِ المنزَّلة جَازَ وَصفهُ بأنّه مخلوقٌ ، ولِما رواه عمر بن الخطاب ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : « كان اللّه ولا شيء ثم خلق الذكر » ، والذكر هو القرآن كما تقدم.
    ثم قل : وأعتقد أنّه حقّ لا باطل فيه ، لقوله تعالى : « وَإِنّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ » [فصلت : 41 و 42].
    ثم قل : وأعتقد أنّه لا تناقض فيه ولا تعارض ولا اختلاف ، « وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوْا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثيراً » [النساء : 82].


(490)
(الاِمامة)
فصل [في إمامة الاِمام علي ( عليه السلام ) ]
    فإن قيل : من أوّلُ الاَئمة بعد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأولى الاَُمّة بالخلافة بعده بلا فصل؟
    فقل : ذلك أمير الموَمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب.
    فإن قيل : هذه دعوى ، فما برهانك؟
    فقل : الكتاب ، والسنّة ، وإجماع العترة.
    أمّا الكتاب ، فقوله تعالى : « إِنّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيْمُونَ الصَّلاةَ وَيُوَْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ » [المائده : 55] ، ولم يوَتِ الزكاةَ في حالِ ركوعه غيرُ علي ( عليه السلام ) ، وذلك أنّ سائلاً سأل على عهد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حال ركوع عليٍ في الصلاة ، وذلك في مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلم يعطه أحدٌ شيئاً ، فأشار إليه ( عليه السلام ) بخاتمه وهو راكع ونواه زكاة ، فأخذه السائلُ ، فنزل جبريل ( عليه السلام ) بهذه الآية على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الحال ، فكانت في علي ( عليه السلام ) خاصة دون غيره من الاَُمّة. وهي تفيد معنى الاِمامة لاَنّ الوليّ هو : المالك للتصرّف ، كما يقال هنا : ولي المرأة ، وولي اليتيم ، أي المالك للتصرف عليهما.
    وأمّا السنّة ، فخبر الغدير ، وهو قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه. قال : فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَنْ عاداه ، وانصر مَنْ نصره ، واخذل مَنْ خَذَلَهُ » ، فقال له عمر : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل موَمن وموَمنة.
    وروينا عن الموَيد باللّه بإسناده إلى الصادق جعفر بن محمد الباقر أنّه سُئِلَ
بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: فهرس