كتاب بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: 131 ـ 140
(131)
الاِمام الحادي عشر
الحاكم بأمر اللّه
(375 ـ 411 هـ)
    هو منصور بن نزار (1) ولد يوم الخميس لاَربع ليال بقين من شهر ربيع الاَوّل سنة 375 هـ ، وبويع في اليوم الذي توفي فيه والده أي سنة 368 هـ ، وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام وهو من الشخصيات القليلة التي لم تتجلّ شخصيته بوضوح ، وقام بأعمال إصلاحية زعم مناوئوه انّها من البدع.
    يقول الجزري : وبنى الجامع براشدة ، وأخرج إلى الجوامع والمساجد ، من الآلات ، والمصاحف ، والستور والحصر ما لم ير الناس مثله ، وحمل أهل الذمة على الاِسلام ، أو المسير إلى مأمنهم ، أو لبس الغيار ، فأسلم كثير منهم ، ثمّ كان الرجل منهم بعد ذلك يلقاه ، ويقول له : إنّني أُريد العود إلى ديني ، فيأذن له.
    أظن انّ إدخال الحصر إلى المساجد ، لاَجل أنّالمسجود عليه في مذهب الشيعة يجب أن يكون إمّا أرضاً ، أو ما أنبتته الاَرض ، فبما أنّ المساجد كانت مفروشة فحمل الحصر على ذلك.
    و يقول أيضاً : ثمّ أمر في سنة 399 هـ بترك صلاة التراويح ، فاجتمع الناس بالجامع العتيق ، وصلّى بهم إمام جميع رمضان ، فأخذه وقتله ، ولم يصل أحد
    1 ـ وأسماه في « الاِمامة في الاِسلام » بـ « الحسن بن نزار » ولكن في الخطط ، وتاريخ الدعوة الاِسماعيلية حسب ما أثبتناه.

(132)
التراويح إلى سنة 408 هـ . (1)
    أقول : لقد قام الخليفةبمهمته ، فإنّ صلاة التراويح كانت تقام في عصر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) و الخليفة الاَوّل بغير جماعة ، وإنّما أُقيمت جماعة في عصر الخليفة الثاني ، واصفاً إيّاهابالبدعة الحسنة ، ولمّا تسلّم الاِمام أمير الموَمنين علي (عليه السّلام) زمام الخلافة نهى الناس عن إقامتها جماعة ، فلمّا رأى إصرار الناس على إقامتها جماعة تركهم وما يهوون.
    وأمّا رميه بتهمة قتل الاِمام بعد انقضاء شهر رمضان ، فما لا يقبله العقل ، إذ كان في وسع الخليفة منعه من إقامتها أوّل الشهر فأي مصلحة كانت تكمن في استمهاله إلى آخر الشهر واكتسابه مكانة في القلوب ثمّ قتله؟!
    يقول المقريزي : جامع الحاكم بني خارج باب الفتوح أحد أبواب القاهرة ، وأوّل من أسّسه أمير الموَمنين العزيز باللّه ، نزار بن المعز لدين اللّه معد ، وخطب فيه وصلّى بالناس الجمعة ، ثمّ أكمله ابنه الحاكم بأمر اللّه ، فلمّا وسّع أمير الجيوش بدر الجمالي القاهرة ، وجعل أبوابها حيث هي اليوم صار جامعُ الحاكم داخل القاهرة. (2)
    و ينقل أيضاً انّ الحاكم بأمر اللّه أمر في سنة 393 هـ أن يتم بناء الجامع الذي كان الوزير يعقوب بن كاس بدأ في بنيانه عند باب الفتوح ، فقدّر للنفقة عليه أربعون ألف دينار ، فابتدأ بالعمل فيه وفي صفر سنة إحدى وأربعمائة زيد في منارة جامع باب الفتوح وعمل لها أركاناً ، طول كلّ ركن مائة ذراع.
    و في سنة 403 هـ أمر الحاكم بأمر اللّه بعمل تقدير ما يحتاج إليه جامع باب الفتوح من الحصر والقناديل والسلاسل ، فكان تكسير ما ذرع للحصر 36 ألف ذراع ، فبلغت النفقة على ذلك خمسة آلاف دينار.
    1 ـ الجزري : الكامل في التاريخ : 9/316 ـ 317.
    2 ـ المقريزي : الخطط : 2/277.


(133)
    وتم بناء الجامع الجديد بباب الفتوح ، وعلّق على سائر أبوابه ستور ديبقية عملت له ، وعلّق فيه تنانير فضة عدّتها أربع وكثير من قناديل فضة ، وفرش جميعه بالحصر التي عملت له ، ونصب فيه المنبر ، وتكامل فرشه وتعليقه ، وأذن في ليلة الجمعة سادس شهر رمضان سنة ثلاث وأربعمائة لمن بات في الجامع الاَزهر أن يمضوا إليه ، فمضوا وصار الناس طول ليلتهم يمشون من كلّواحد من الجامعين إلى الآخر بغير مانع لهم ولا اعتراض من أحد من عسس القصر ، ولا أصحاب الطوف إلى الصبح ، وصلّى فيه الحاكم بأمر اللّه بالناس صلاة الجمعة ، وهي أوّل صلاة أُقيمت فيه بعد فراغه. (1)
    ما ذكرنا من محاسن أعماله قد أخفاها أعداوَه ، وبدل ذلك فقد نالوا منه وأكثروا في ذمّه وذكر مساوىَ أعماله ، حتى تجد انّ الذهبي قد بالغ في ذمّه ووصفه بقوله : « العبيدي ، المصري ، الرافضي بل الاِسماعيلي الزنديق المدّعي الربوبية ».
    ثمّ يقول في موضع آخر : وكان شيطاناً مريداً ، جباراً عنيداً ، كثير التلوّن ، سفاكاً للدماء ، خبيث النحلة ، عظيم المكر ، جواداً ممدحاً ، له شأن عجيب ونبأ غريب ، كان فرعون زمانه ، يخترع كلّ وقت أحكاماً يلزم الرعية بها إلى آخر ما ذكر. (2)
    و على أيّ حال فهو من الشخصيات القلقة التي تجمع بين محاسن الاَعمال ومساوئها.
    ولولا انّ الحاكم كان من الشيعة لما وجد الذهبي السلفي في نفسه مبرراً لصب هذه التقريعات.
    وقد اكتفينا بذلك في ترجمته ، لاَنّ فيها أُموراً متناقضة ومتضادة لا يمكن الاِذعان بصحّة واحد منها.
    1 ـ المقريزي : الخطط : 2/277 ، دار صادر.
    2 ـ الذهبي : سير أعلام النبلاء : 15/174.


(134)
انشقاق الاِسماعيلية
    كانت الاِسماعيلية فرقة واحدة ، غير انّه طرأ عليهم الانشقاق ، فقال قوم منهم : بإلوهية الحاكم وغيبته ، وهم المعروفون اليوم بـ « الدروز » ، يقطنون لبنان.
    فالدروز إسماعيلية محرّفة ، وسيوافيك البحث عن هذه الفرقة وعقائدها في باب خاصّ ، وهي أكثر غموضاً من سابقتها ، فهم يمسكون بكتبهم ووثائقهم عن الآخرين.
    يقول الموَرخ المعاصر : وفي سنة 408 استدعى الحاكم كبير دعاته ، وأحد المقربين إليه الموثوق بهم سيدنا « الحمزة بن علي » الفارسي الملقب بـ « الدرزي » وأمره أن يذهب إلى بلاد الشام ليتسلم رئاسة الدعوة الاِسماعيلية فيها ، ويجعل مقره « وادي التيم » ، لاَنّ الاَخبار التي وردت إلى بيت الدعوة تفيد بأنّ إسماعيلية وادي التيم تسيطر عليهم التفرقة والاختلافات الداخلية ، حول تولّي رئاسة الدعوة هناك ولقبه الاِمام بـ « السند الهادي ».
    تمكّن الدرزي في وقت قليل من السيطرة على الموقف في وادي التيم وإعادة الهدوء والسكينة في البلاد ، وعمل جاهداً لتوسيع وانتشار الدعوة الاِسماعيلية في تلك البلاد.
    لبث الدرزي رئيساً للدعوة الاِسماعيلية وكبيراً لدعاتها في بلاد الشام حتى أُعلنت وفاة الاِمام الحاكم وولاية ابنه الطاهر.
    لم يعترف الدرزي بوفاة الاِمام الحاكم ، مدّعياً بأنّ وفاته لم تكن سوى نوع من الغيبة لتخليص أنفس مريدي الاِمام من الاَدران ، وبقي متمسكاً بإمامة الحاكم ومنتظراً عودته من تلك الغيبة ، وبذلك أعلن انفصاله عن الاِسماعيلية التي لا تعتقد بالغيبة ، وتقول بفناء الجسم وبقاء سر الاِمامة بالروح ، فينتقل بموجب النص إلى إمام آخر وهو المنصوص عليه من قبل الاِمام المتوفى ، وسميت الفرقة


(135)
التي تبعت الدرزي بالدرزية نسبة إليه.
    وهكذا يتبين للقارىَ الكريم بأنّ الدرزية والاِسماعيلية عقيدتان من أصل واحد. (1)
    وأمّا عن مصير الحاكم فمجمل القول فيه انّه فُقد في سنة 411 هـ ، ولم يعلم مصيره ، وحامت حول كيفية اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.
    يقول الذهبي : وثمّ اليوم طائفة من طغام الاِسماعيلية الذين يحلفون بغيبة الحاكم ، وما يعتقدون إلاّ بأنّه باق ، وانّه سيظهر (2)
    1 ـ مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الاِسماعيلية : 238 ـ 239.
    2 ـ الذهبي : سير أعلام النبلاء : 15/108 ، ابن الاَثير : الكامل في التاريخ : 9/11.


(136)
الاِمام الثاني عشر
الظاهر لاِعزاز دين اللّه
علي بن منصور
(1)
(395 ـ 427 هـ)
    هو علي بن منصور ، ولد ليلة الاَربعاء من شهر رمضان سنة ثلاثمائة وخمس وتسعين ، وبويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً يقول ابن خلكان : كانت ولايته بعد فقد أبيه بمدّة ، لاَنّ أباه فقد في السابع والعشرين من شوال سنة 411 هـ ، وكان الناس يرجون ظهورَه ويتبعون آثاره إلى أن تحقّقوا عدمه ، فأقام ولده المذكور في يوم النحر من السنة المذكورة. (2)
    وقد أطنب المقريزي في سيرته وذكر حوادث حياته.
    يقول المقريزي : مات الظاهر في النصف من شعبان سنة 427 هـ عن اثنين وثلاثين سنة إلاّ أيّاماً ، وكانت مدّة خلافته 15 سنة وثمانيةأشهر. (3)
    وذكر الذهبي فتنة القرامطة عام 413 هـ فنقل عن محمد بن علي بن عبد الرحمان العلوي الكوفي انّه قال : لما صليت الجمعة والركب بعدُبمنى ، قام رجل ،
    1 ـ سماه عارف تامر علي بن الحسن ، وفي المقريزي وتاريخ الدعوة كما أثبتناه.
    2 ـ ابن خلكان : وفيات الاَعيان : 3/407 ، دار صادر.
    3 ـ المقريزي : الخطط : 1/355.


(137)
فضرب الحجر الاَسود بدبّوس ثلاثاً ، وقال : إلى متى يُعبد الحجر فيمنعني محمد ممّا أفعله؟ فإنّي اليوم أهدم هذا البيت ، فاتقاه الناس ، وكاد يفلت ، وكان أشقر ، أحمر ، جسيماً ، تام القامة ، وكان على باب المسجد عشرة فرسان على أن ينصروه ، فاحتسب رجل ، فوجأه بخنجر ، وتكاثروا عليه ، فأُحرق ، وقتل جماعة من أصحابه وثارت الفتنة ، فقتل نحو العشرين ونهب المصريون وقيل : أخذ أربعة من أصحابه ، فأقرّوا بأنّهم مائة تبايعوا على ذلك ، فضربت أعناق الاَربعة ، وتهشّم وجه الحجر ، وتساقط منه شظايا وخرج مُكْسَرُه أسمر إلى صفرة. (1)
    ويقال انّ الظاهر شنّ على الدروز حرباً محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطمية الاَصيلة ، مدة خلافته كانت ستة عشر عاماً ... لم تنته هجمات الصليبيين عن الاَراضي والثغور العائدة للدولة الفاطمية ، وقّع هدنة مع الروم. (2)
    1 ـ الذهبي : سير أعلام النبلاء : 15/185 ـ 186 ، موَسسة الرسالة.
    2 ـ عارف تامر : الاِمامة في الاِسلام : 189.


(138)
الاِمام الثالث عشر
المستنصر باللّه
(420 ـ 487 هـ)
(1)    هو معد بن علي ، ولد يوم الثلاثاء في الثالث عشر من شهر جمادى الآخر سنة 420 هـ ، وبويع بالخلافة يوم الاَحد في منتصف شهر شعبان سنة 427 هـ ، وكان له من العمر سبعة أعوام ، وقد ظل في الحكم ستين عاماً ، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الاِسلامية.
    يقول ابن خلكان : وجرى على أيامه مالم يجر على أيام أحد من أهل بيته ممّن تقدّمه ولا تأخره ، منها :
    1 ـ قضية أبي الحارث أرسلان البساسيري ، فإنّه لمّا عظم أمره وكبر شأنه ببغداد ، قطع خطبة الاِمام القائم وخطب للمستنصر المذكور ، وذلك في سنة خمسين وأربعمائة ، ودعا له على منابرها مدّة سنة.
    2 ـ انّه ثار في أيّامه علي بن محمد الصليحي وملك بلاد اليمن ، ودعا للمستنصر على منابرها بعد الخطبة.
    3 ـ انّه أقام في الاَمر ستين سنة ، وهذا أمر لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من بني العباس.
    1 ـ أرّخ كل من الكاتبين عارف تامر ومصطفى غالب تاريخ ولادته420 هـ .

(139)
    4 ـ انّه ولي العهد وهو ابن سبع سنين.
    5 ـ انّ دعوتهم لم تزل قائمة بالمغرب منذ قام جدهم المهدي إلى أيام المعز ، ولمّا توجه المعز إلى مصر واستخلف بلكين بن زيري كانت الخطبة في تلك النواحي جارية على عادتها لهذا البيت إلى أن قطعها المعز بن باديس في أيام المستنصر ، وذلك في سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة.
    6 ـ أنّه حدث في أيّامه الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف (عليه السّلام) حتى قيل انّه بيع رغيف واحد بخمسين ديناراً ، وكان المستنصر في هذه الشدة يركب وحده ، وكلّمن معه من الخواص مترجّلون ليس لهم دواب يركبونها ، و كانوا إذا مشوا تساقطوا في الطرقات من الجوع ، وكان المستنصر يستعير من ابن هبة صاحب ديوان الانشاء بغلته ليركبها صاحب مظلته ، وآخر الاَمر توجهت أُم المستنصر وبناته إلى بغداد من فرط الجوع ، وتفرّق أهل مصر في البلاد وتشتتوا. (1)
    وذكر الذهبي تفاصيل حياته بحسب السنين التي مرت عليه. (2)
    و لقي المستنصر شدائداً وأهوالاً ، وانفتقت عليه الفتوق بديار مصر أخرج فيها أمواله وذخائره إلى أن بقي لا يملك غير سجادته التي يجلس عليها ، وهو مع هذا صابر غير خاشع. (3)
    وقد توفي في الثامن عشر من ذي الحجة ، ودامت خلافته ستين سنة وأربعة أشهر.
    إلى هنا تمت ترجمة الاَئمّة الثلاثة عشر الذين اتّفقت كلمة الاِسماعيلية على إمامتهم وخلافتهم ، ولم يشذ عنهم سوى الدروز الذين انشقوا عن
    1 ـ ابن خلكان : وفيات الاَعيان : 5/229 ـ 230 ، دار صادر.
    2 ـ الذهبي : سير أعلام النبلاء : 1/186 ـ 196.
    3 ـ الجزري : الكامل : 10/237.


(140)
الاِسماعيلية في عهد خلافة الحاكم بأمر اللّه ، وصار وفاة المستنصر باللّه سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الاِسماعيلية بين : مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي ابن المستنصر باللّه ، ونزارية تقول بإمامة نزار ابن المستنصر.
    فالمستعلية هم المعروفون في هذه الاَيام بالبُهرة ، وقد انقسموا إلى : سليمانية وداودية؛ كما أنّ النزاريين هم القائلون بإمامة نزار ابن المستنصر ، وانقسموا إلى : موَمنية وقاسمية. وقد اتّفقت الطائفتان الاَخيرتان في بعض الاَئمة ، واختلفت في البعض الآخر ، وسيوافيك تفصيل الجميع.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: فهرس