كتاب بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: 121 ـ 130
(121)
فأدركه أحد الاَُمراء الاِسماعيليين وقبض عليه وساقه إلى الاِمام المنصور ، وكان ذلك سنة 336 هجرية ، فقتله وأمر الاِمام أن تبنى مدينة « المنصورية » تيمّناً بذلك الانتصار العظيم ، ثمّ عاد الاِمام إلى المهدية في شهر رمضان عام 336 هجرية ، فعهد بالاِمامة من بعده لولده المعز لدين اللّه ، وتوفي يوم الاَحد في الثالث والعشرين من شوال سنة 346هجرية ، ودفن جسده الطاهر في مدينة المنصورة ، وقيل كانت وفاته سنة 343 هجرية ودفن بالمهدية. (1)
    1 ـ مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الاِسماعيلية : 190.

(122)
الاِمام التاسع
المعزّ لدين اللّه
موَسس الدولة الفاطمية في مصر
(319 ـ 365 هـ)
    وهو أوّل خليفة فاطمي ملك مصر وخرج إليها ، وكان مغرىً بالنجوم ويعمل بأقوال المنجمين ، وكان المعز عالماً ، فاضلاً ، جواداً ، شجاعاً ، جارياً على منهاج أبيه في حسن السيرة ، وإنصاف الرعية ، وستر ما يدعون إليه إلاّ عن الخاصة ، ثمّ أظهره وأمر الدعاة بإظهاره إلاّ أنّه لم يخرج فيه إلى حد يذم به. (1)
    يقول المقريزي : المعز لدين اللّه أبو تميم ، « معد » ولد للنصف من رمضان سنة 319 هـ فانقاد إليه البربر وأحسن إليهم ، فعظم أمره واختص من مواليه ، « بجوهر » وكنّاه بأبي الحسين ، وأعلى قدره ، وسيّره في رتبة الوزارة ، وعقدَ له على جيش كثيف ، فدوّخ المغرب ، وافتتح مدناً ، وقهر عدّة أكابر وأسّ ـ رهم ، حتى أتى البحر المحيط الذي لا عمارة بعده ، ثمّ قدم غانماً مظفراً ، فعظم قدرُه عند المعزّ ، ولما وصل الخبر إلى المعز بموت كافور الاِخشيدي صاحب مصر أخذ في تجهيز جوهر بالعساكر إلى أخذ ديار مصر حتى تهيأ أمره ، وبرز للمسير ، فلمّا ثبتت قدم جوهر بمصر ، عزم المعز على المسير إلى مصر أجال فكره فيمن يخلفه في بلاد المغرب ، فوقع اختياره على « يوسف بن زيري الصنهاجي » ، وقال له : تأهب
    1 ـ الجزري : الكامل في التاريخ : 8/664.

(123)
لخلافة المغرب ، فأكبر ذلك وقال : يا مولانا أنت وآباوَك الاَئمة من ولد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما صفا لكم المغرب فكيف يصفو لي وأنا صنهاجيّ بربريّ؟! قتلتني يا مولانا بغير سيف ولا رمح. فما زال به المعز حتى أجاب.
    فلمّا ملك جوهرُ مصر بادر حسن بن جعفر الحسني بالدعاء للمعز في مكة ، وبعث إلى « جوهر » بالخبر ، فسيّر إلى المعزّ يعرّفه بإقامة الدعوة له بمكة ، فأنفذ إليه بتقليده الحرم وأعماله ، وسار المعز بعساكره من المغرب حتى نزل بالجيزة ، فعقد له جوهر جسراً جديداً عند المختار بالجزيرة ، فسار إليه وقد زيّنت له مدينة الفسطاط فلم يشقها ، ودخل إلى القاهرة بجميع أولاده وإخوته وسائر أولاد عبيد اللّه المهدي ، وذلك لسبع خلون من رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة ، فعندما دخل القصر صلّى ركعتين ، وأمر فكتب في سائر مدن مصر : خير الناس بعد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمير الموَمنين علي بن أبي طالب ، وأثبت اسم المعزّ لدين اللّه واسم أبيه عبد اللّه الاَمير ، وجلس في القصر على سرير الذهب ، وصلّى بالناس صلاة عيد الفطر في المصلّى ، وركب لفتح خليج مصر يوم الوفاء وعمل عيد غدير خم. وقدمت القرامطة إلى مصر فسير إليهم الجيوش وهزموهم ، ومازال إلى أن توفي من علة اعتلّها بعد دخوله إلى القاهرة بسنتين وسبعةأشهر وعشرة أيّام وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريباً ، فإنّ مولده بالمهدية في حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة (1) ووفاته بالقاهرة لاَربع عشرة خلت من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة ، وكانت مدّة خلافته بالمغرب وديار مصر ثلاثاً وعشرين سنة وعشرة أيّام وهو أوّل الخلفاء الفاطميين بمصر وإليه تنسب القاهرة المعزية ، لاَنّ عبده « جوهراً » القائد بناها حسب ما رسم له.
    وكان المعز عالماً ، فاضلاً ، جواداً ، أحسن السيرة منصفاً للرعية ، مغرماً بالنجوم ، أُقيمت له الدعوة بالمغرب كله وديار مصر والشام والحرمين وبعض
    1 ـ وقد أرخ ميلاده عارف تامر ب ـ 347 وهو خطأ واضح.

(124)
اعمال العراق ، وقام من بعده ابنه العزيز باللّه أبو منصور نزار. (1)
    يقول ابن خلكان : وكان المعز عاقلاً ، حازماً ، سرياً ، أديباً ، حسن النظر في النجامة ، وينسب إليه من الشعر قوله :
للّه ما صنعت بنا أمضي وأقضي في النفو ولقد تعبت ببينكم تلك المحاجر في المعاجر س من الخناجر في الحناجر تعب المهاجر في الهواجر
    و ينسب إليه أيضاً :
اطلع الحسن من جبينك شمسا و كأن الجمال خاف على الور فوق ورد في وجنتيك اطلا د جفافاً فمد بالشعر ظلا
    و هو معنى غريب بديع. (2)
    و يقول في موضع آخر : ملك المعز أبو تميم معد بن المنصور العبيدي الديار ا لمصرية على يد القائد جوهر ، وجاء المعزّ بعد ذلك من إفريقية ، وكان يُطعن في نسبه ، فلمّا قرب من البلد وخرج الناس للقائه ، اجتمع به جماعة من الاَشراف ، فقال له من بينهم ابن طباطبا : إلى من ينتسب مولانا؟ فقال له المعزّ : سنعقد مجلساً ونجمعكم ونسرد عليكم نسبنا. فلمّا استقر المعز بالقصر جمع الناس في مجلس عام وجلس لهم ، و قال : هل بقي من روَسائكم أحد؟ فقالوا : لم يبق معتبر ، فسلّ عند ذلك نصف سيفه وقال : هذا نسبي ، ونثر عليهم ذهباً كثيراً ،
    1 ـ وفيات الاَعيان : 5/224. المقريزي : كتاب الخطط المقريزية : 1/352 ـ 354 ، دار صادر. ومن الغريب أنّ المقريزي ذكر ولادة المعز سنة 317 تارة وأُخرى بسنة 319 ، وقد اعتمدنا في تعيين سنة ولادته على نقل ابن خلكان.
    2 ـ ابن خلكان : وفيات الاَعيان : 5/228.


(125)
وقال : هذا حسبي ، فقالوا جميعاً : سمعنا وأطعنا. (1)
    لا شكّ انّ عصر المعز لدين اللّه من العصور الذهبية للاِسماعيلية حيث أصبحت مصر داراً للخلافة ، وأصبح الاِمام المعز أوّل خليفة فاطمي فيها ، فعمل على ترقية العلوم والثقافة ، وأمر ببناء الجامع الاَزهر ، وجعله داراً للعلوم ومنهلاً للثقافة والفكر ، وشجّع العلماء ، وخصّص لهم المبالغ الطائلة ، فوفدوا عليه من كلّقطر حيث وجدوا المساعدات.
    كما أشرف بنفسه على تأليف الكتب على غرار المذهب الاِسماعيلي ، فتقدمت الثقافة الاِسماعيلية تقدماً باهراً ، وازدهر في عصره فقهاء وشعراء وفلاسفة يشار إليهم بالبنان.
    فمن فقهاء عصره : القاضي النعمان بن محمد بن منصور التميمي المغربي موَلف كتاب « دعائم الاِسلام » ، توفي بالقاهرة في 29 من جمادى الثانية سنة 363 هـ ، وصلّى عليه الاِمام المعز لدين اللّه.
    خدم المهدي باللّه موَسس الدولة الفاطمية تسع سنوات ، ثمّ ولي قضاء طرابلس في عهد القائم بأمر اللّه الخليفة الثاني للفاطميين ، وفي عهد الخليفة الثالث المنصور باللّه عين قاضياً للمنصورية ، ووصل إلى أعلى المراتب في عهد المعز لدين اللّه الخليفة الرابع الفاطمي إذ رفعه إلى مرتبة قاضي القضاة وداعي الدعاة.
    وقد نشر كتابه لاَوّل مرّة في مستدرك الوسائل للمحدّث النوري (1254 ـ 1320 هـ) مبعّضاً وموزعاً أحاديثه على أبواب الكتب الفقهية كما تم طبعه مستقلاً بتحقيق آصف بن علي أصغر فيضي في مصر عام 1374 هـ ، وطبع ثالثاً على الاَُفست في بيروت عام 1383 هـ .
    1 ـ ابن خلكان : وفيات الاَعيان : 3/81.

(126)
    ومن شعراء عصره ابن هانىَ الاَندلسي ، وهو محمد بن هانىَ الاَندلسي من قرية اشبيلية ، ولد عام 320 هـ ولقب بأبي القاسم ، ولما اتهم بمذهب الاِسماعيلية غادر الاَندلس نازلاً إلى المغرب ، واتصل بأميره ، فبالغ في إكرامه وأحسن إليه ، ولما وصل خبره إلى المعز طلبه من أمير المغرب ، فأقام عنده حتى ارتحل الاِمام المعز إلى مصر فلحق به فيها.
    كان ابن هانىَ من فحول الشعراء ، ولكن قصائده تحكي عن غلوه في حقّ الاَئمّة الاِسماعيلية حيث تفوح منها رائحة الاِلحاد ، وقد أعطى لهم ما للخالق من الاَوصاف ، وإليك مقتطفات من أشعاره :
    قال :
ما شئتَ لا ماشاءت الاَقدارُ وكانّما أنت النبي محمّد أنت الذي كانت تبشّرنا به هذا إمام المتقين و من به هذا الذي ترجى النجاة بحبِّه هذا الذي تجدي شفاعته غداً فاحكم فأنتَالواحدُ القهّار وكأنّما أنصارك الاَنصار في كتبها الاَحبارُ والاَخبار قد دوخ الطغيان والكفار و به يُحطُ الاِصر والاَوزار حقاً وتخمد أن تراه النارُ (1)
    إنّ بيته الاَوّل ينم عن غلوّه غلواً يكسي صفة الخالق على المخلوق.
    و من العجب أنّ الموَرّخ الاِسماعيلي المعاصر حاول تصحيح الاَشعار ، ودفع الفاسد بالاَفسد ، حيث قال في تعليقته : إنّ العقيدة الاِسماعيلية تنزّه الخالق عن الصفات كالعالم والقادر والصانع و ... ، فإنّ إطلاق الصفات عليه يوجب الكثرة في ذاته عندهم ، وهم يروون عن الاِمام الباقر محمد بن علي زين العابدين
    1 ـ مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الاِسماعيلية : 209.

(127)
قوله : « إنّ اللّه عالم على المعنى انّه يوَتي العلم من يشاء لا على معنى انّ العلم قائم بذاته ، وانّه تعالى قادر على معنى أنّ القدرة قائمة بذاتها ».
    ولمّا كان الاِمام قائماً مقام الاَمر والكلمة في هذا العالم فجميع صفات الباري واقفة عليه ، ومن هنا نجد انّ إطلاق كلمة الواحد القهار على المعز إنّما هي حسب الاعتقاد. (1)
    عزب عن هذا المسكين أوّلاً : انّ إطلاق الصفات عليه سبحانه لا توجب الكثرة في ذاته عند المحقّقين ، وذلك لاَنّ الاَوصاف وإن كانت مختلفة مفهوماً لكنّها متحدة وجوداً ، فذاته نفس العلم والقدرة والحياة ، لا انّكلّ واحدة من هذه الصفات تمثل جزءاً من ذاته.
    وثانياً : انّه لوصحّ ما ذكره من التفسير في العالم والقادر بمعنى أنّه سبحانه يعطي العلم والقدرة لا يصحّ ذلك في الواحد القهار ، إذ معناه عندئذ انّ الاِمام يهب الوحدة والقهر من يشاء لكي يصحّ إطلاقها على الاِمام ، ولا شكّ انّ في ما جاء به الشاعر غلواً واضحاً ، عصمنا اللّه من غلو الغالين وإبطاء التالين.
    1 ـ مصطفى غالب : تاريخ الدعوة الاِسماعيلية : 209 الهامش.

(128)
الاِمام العاشر
العزيز باللّه
(344 ـ 386 هـ) (1)
    نزار بن معد ، العزيز باللّه ، ولي العهد بمصر يوم الخميس رابع شهر ربيع الآخر سنة 365 هـ ، واستقل بالاَمر بعد وفاة أبيه ، وكان يوم الجمعة حادي عشر الشهرالمذكور وسُتِرتْ وفاة أبيه وسُلّم عليه بالخلافة ، وكان شجاعاً ، حسن العفو عند المقدرة ، ذكره أبو منصور الثعالبي في كتاب « يتيمة الدهر » وأورد له شعراً قاله في بعض الاَعياد ، وقد وافق موت بعض أولاده وعقد عليه المآتم وهو :
نحن بنو المصطفى ذوو محن عجيبة في الاَنام محنتنا يفرح هذا الورى بعيدهم يجرعها في الحياة كاظمنا أوّلنا مبتلى وخاتمنا طرّاً وأعيادنا مآتمنا
>    و فتحت له حُمْص وحماة وشَيْزَر ، وحلب ، والموصل ، وخطب له باليمن ولم يزل في سلطانه وعظم شأنه إلى أن خرج إلى بلبيس متوجهاً إلى الشام ، فابتدأت به العلّة في العشر الاَخير من رجب سنة ست وثمانين وثلاثمائة ، ولم يزل مرضه يزيد حتى توفي في مسلخ الحمّ ـ ام في الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر رمضان
    1 ـ وقد أرّخ عارف تامر تاريخ وفاته 368 وهو خطأ.

(129)
سنة ست وثمانين و ثلاثمائة. (1) بمدينة بلبيس وحمل إلى القاهرة.
    وذكر ابن خلكان انّ تاريخ وفاته في الثامن والعشرين من شهر رمضان ، في حين انّالمقريزي ذكره في الثامن والعشرين من رجب مع توافقهما في سنة وفاته.
    قال ابن الاَثير : في هذه السنة توفي العزيز أبو منصور نزار ابن المعز أبي تميم معد العلوي ، صاحب مصر لليلتين بقيتا من رمضان وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر ونصف ، بمدينة بلبيس ، وكان برز إليها لغزو الروم ، فلحقه عدة أمراض ، منها : النقرس ، والحصا ، والقولنج ، فاتصلت به إلى الشامات.
    وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً ، ومولده بالمهدية من إفريقية. (2)
    قال الذهبي : وكان كريماً ، شجاعاً ، صفوحاً ، أسمر ، أصهب الشعر ، أعين ، أشهل ، بعيد ما بين المنكبين ، حسن الاَخلاق ، قريباً من الرعية ، مغرى بالصيد ، ويكثر من صيد السباع ، ولا يوَثر سفك الدماء.
    وفي سنة 367 هـ جرت وقعات بين المصريين وهفتكين الاَمير ، وقتل خلق ، وضرب المثل بشجاعة هفتكين وهزم الجيوش ، وفرّ منه جوهر القائد ، فسار لحربه صاحب مصر العزيز بنفسه ، فالتقوا بالرملة ، وكان « هفتكين » على فرس أدهم يجول في الناس ، فبعث إليه العزيز رسولاً يقول : أزعجتني وأحوجتني لمباشرة الحرب ، وأنا طالب للصلح ، وأهب لك الشام كلّه.
    قال : فات الاَمر ، ووقعت الحرب ، فحمل العزيز بنفسه عليه في الاَبطال ، فانهزم هفتكين ومن معه من القرامطة ، واستحرَّ بهم القتل.
    وفي سنة 377 هـ تهيأ العزيز لغزو الروم فأُحرقت مراكبه ، فغضب وقتل
    1 ـ ابن خلكان : وفيات الاَعيان : 5/371 ـ 374.
    2 ـ ابن الاَثير : الكامل في التاريخ : 9/116.


(130)
مائتي نفس اتهمهم ، ثمّ وصلت رسل طاغية الروم بهديّة ، تطلب الهدنة ، فأجاب بشرط أن لا يبقى في مملكتهم أسير ، وبأن يخطبوا للعزيز بقسطنطينية في جامعها ، وعقدت سبعة أعوام. (1)
    1 ـ الذهبي : سير أعلام النبلاء : 15/167 ـ 172.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: فهرس