كتاب بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: 311 ـ 320
(311)
    وبعد أُفول نجم الدّولة الصليحيّة بوفاة السيّدة الحرّة. أصبحت الدّعوة منظّمة دينيّة بحتة يرأسها الداعي ذوَيب بن موسى ، ومن الطبيعي حسب ترتيبات الدّعوة الاِسماعيليّة أن يختار من بين الدعاة داعياً مأذوناً له يساعده في أعماله ، فاختار إبراهيم بن الحسين بن أبي السعود الحامدي الهمداني ، وهو من كبار الدعاة العلماء الذين أوجدتهم مدارس الدّعوة الاِسماعيليّة المستعلية الطيبية في اليمن.
    و لمّا توفي الذوَيب خلفه مأذونه إبراهيم داعياً مطلقاً للاِمام المستور ، الطيّب ابن الآمر في اليمن وما جاورها من البلاد والهند والسند وذلك سنة 536 هـ . وجعل الشيخ علي بن الحسين بن جعفر الانف القريشي العبثمي ، مأذوناً له ، فكان له معاضداً على أمره ، قائماً بنشر الدّعوة في سرّه وجهره ، ولم يعمّر علي بن الحسين طويلاً فقد وافته المنية في سن ـ ة 554 هـ ، فاستعان الحامدي بابنه حاتم ، حيث اتخذه مأذوناً له ، ونقل مقرّه إلى صَنعاء ، ثمّ أعلن عدم تدخله في سياسة الدولة ، وواظب على دراسة العلوم ، ونقل التراث العلمي الاِسماعيلي ، وجمعه وتدريسه للدعاة التابعين لمدرسته ، ووزّع الدعاة في بلاد اليمن والهند والسند ، وفيه يقول الشاعر الحارثي :
أبا حسن أنقذت بالعلم انفسا فجوزيت بالحسنى وكوفيت بالمنى عمرت بصنعا دعوة طيبية وأمّنتها من طارق الحدثان ودمت سعيداً في أعزّ مكان جعلت لها أسّاً وشُدت مباني
    من كتبه : « كنز الولد » و « الابتداء والانتهاء » و « كتاب تسع وتسعين مسألة في الحقائق » و « الرسائل الشريفة في المعاني اللطيفة ».
    وفي عهد هذا الداعي الاَجل تعرضت الدّعوة المستعليّة الطيبية إلى هزّات عنيفة قاسيّة ، لاَنّ ملوك آل زريع في عدن مالوا إلى الدعوة المستعليّة المجيديّة ،


(312)
التي أخذت تنتشر بقوّة في أنحاء اليمن حتى أصبح لها دعاة نشيطون في قلب تنظيمات الدّعوة الطيبية ، وفي معاقلها ، كحراز ، ونجران ، واليمن الاَسفل ، وكذلك أعلن ملوك همدان الياميون في صنعاء ، وبلاد همدان ، عن تنصّلهم من جميع الدّعوات والمذاهب.
    و مع كلّ هذا فقد ظلّ الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي ، على إخلاصه للدّعوة الطيبية ، مواصلاً نشاطه حتى توفّاه اللّه في صنعاء ، في شهر شعبان سنة 557هجرية. (1)
    وقد طبع للمترجم له كتاب « كنز الولد » بتحقيق مصطفى غالب عام 1391 هـ نشرته جمعيّة المستشرقين الاَلمانيّة ، والكتاب يتألف من أربعة عشر باباً ، وقد استهل المقدّمة على عادة كتّاب العصر ، بالاستعانة والتوكل ، والشهادة ، والسلام ، ثمّ يذكر موضوع الكتاب والاَسباب الداعيّة لتأليفه.
    قال : واعلم هداك اللّه لاَوضح المسالك ونجّاك عن المهالك ، أنّ لكلّ رابع من الاتماء قوّة وتأييداً ، واستطالة وتشديداً. ولكلّ سابع ، أعظم وأعلى وأقوم ، يقوم مقام النطق ، ونحن في دور سابع الاَشهاد ، المتوجّه نحوه ملاحم آبائه وأجداده ، والاشارات والرموز في أسانيدهم. والبشارات الموصوفة بالبركات والنعم والخيرات بظهور العلوم والمعجزات ، وإشراق النور ، وبنبوع الاَنهار ، وأزهرار الاَشجار ، بالخضرة والنوّار ، حتى تتصل أنواره بنور القائم (عليه السّلام) على أتمّ تمام وأحسن نظام. (2)
    و يظهر منه أنّ الاِمام السابع يقوم مقام النطق ، أي يكون مع كونه إماماً ، رسولاً ناطقاً فعليه يكون محمد بن إسماعيل مع كونه إماماً سابعاً ، رسولاً ناطقاً ، بادئاً للدور السابع ، وأمّا عدّ نفسه بأنّه في دور سابع الاَشهاد ، مع أنّه كان في
    1 ـ مصطفى غالب : كنز الولد : 31 ـ 33 ، قسم المقدمة؛ الزركلي : الاَعلام : 1/36.
    2 ـ الحامدي : كنز الولد : 5.


(313)
الدور الثامن ، لاَنّ الدّور السابع ليس لمدّته أمد محدود ، كما صرّح به في كتاب « الاِمامة في الاِسلام ». (1)
    وأمّا فهرس أبواب كتابه هذا ، فهي :
    الباب الاَوّل : في القول على التوحيد ، من غير تشبيه ولا تعطيل.
    الباب الثاني : في القول على الاِبداع الذي هو المبدع الاَوّل.
    الباب الثالث : في القول على المنبعثين عن المبدع الاَوّل معاً ، وتباينهما.
    الباب الرابع : في القول على المنبعث الاَوّل القائم بالفعل. وما ذلك الفعل؟
    الباب الخامس : في القول على المنبعث الثاني القائم بالقوّة. وما سبب ذلك؟
    الباب السادس : في القول على الهيولى والصورة وما هما في ذاتهما ، وسبب تكثفهما وامتزاجهما؟
    الباب السابع : في القول على ظهور المواليد الثلاثة : المعدن ، والنبات ، و الحيوان.
    الباب الثامن : في القول على ظهور الشخص البشري أوّلاً ، وفي كلّ ظهور بعد وفاء الكور.
    الباب التاسع : في القول على ظهور الشخص الفاضل من تحت خط الاعتدال.
    الباب العاشر : في القول على الارتقاء والصعود إلى دار المعاد إن شاء اللّه تعالى.
    الباب الحادي عشر : في القول على معرفة الحدود العلوّية والسفليّة.
    الباب الثاني عشر : في القول على الثواب والارتقاء في الدرج إلى الجنّة الدانية والعالية ، إن شاء اللّه.
    الباب الثالث عشر : في القول على اتصال المستفيد بالمفيد وارتقائه إليه واتّصاله به.
    الباب الرابع عشر : في القول على العذاب بحقيقته وكيفيته نعوذ باللّه منه.
    1 ـ عارف تامر : الاِمامة في الاِسلام : 155.

(314)
10
علي بن محمد الوليد
(522 ـ 612 هـ)
    « علي بن محمد الوليد الاَنف العبشي القرشي » الداعي المطلق الخامس للاِسماعيليّة المستعليّة في اليمن ، المولود سنة 522 هـ والمتوفى سنة 612 هـ ، والمنحدر من أُسرة عربيّة عريقة ، كان لها شأن في مجالات الاَدب والفلسفة ، وقد لعب دوراً أدبيّاً فلسفيّاً هامّاً ، في القرن السادس الهجري ، وبالرغم من المصادر القليلة عن تاريخ حياته ، إلاّ انّه يمكننا القول بأنّه ينحدر من أُسرة معروفة بإخلاصها للاَئمّة الفاطميين. يدلنا على ذلك والده الذي كان يلقب (بالاَنف) تيمّناً بأبرز عضو في وجه الاِنسان.
    و لقد كان الداعي يتمتع بسمعة طيبة وعلم وافر فقد تحسنت أُمور الاتباع وأقبلوا عليه من كل حدب وصوب لسماع محاضراته والتزّود من علومه والدراسة عليه وأيده السلاطين والاَُمراء من همدان و جعل مقره مدينة صنعاء حيث اعتكف على الدراسة والتصنيف وكتابة الكتب والرسائل والمقالات التي يدافع فيها عن الدعوة ويشرح عقائدها ومعارفها الفكرية
    وكان علي بن الوليد أيضاً من الشعراء البارزين ، ففي ديوانه القوافي العذبة والتأملات ، التي تدلّ على عراقته بفن الشعر :
ما العمر إن طال للاِنسان أو قصرا ولا حياة الفتى تُغني إذا هو لمْ فإن يمتْ جاهلاً ماذا أُريد به بنافع في غد أو دافعٍ ضرراً يكن بها قاضياً في دينه وطرا فبالحقيقة في الدارين قد خسرا



(315)
    أمّا موَلفاته فنشير إلى بعض منها :
    1 ـ « تاج العقائد ومعدن الفوائد ». يتضمن مائة مسألة في معتقدات مذهب الاِسماعيليّة.
    2 ـ « دافع الباطل وحتف المناضل » ألفه رداً على كتاب « المستظهري ».و هو أوّل كتاب ردٍّ للغزالي على الباطنيّة.
    3 ـ « مختصر الاَُصول » ويشمل شرح المقالات وكيفية انقسامها والردّ على الفلاسفة وبعض الفرق.
    4 ـ رسالة « نظام الوجود في ترتيب الحدود ».
    5 ـ رسالة « الاِيضاح والتبيين في كيفية تسلسل ولادتي الجسم والدين ».
    6 ـ رسالة « تحفة المرتاد وغصَّة الاَضداد » في الرد على الفرقة المجيدية وإثبات إمامة الطيب بن الآمر وذكر تسلسل الاِمامة.
    7 ـ « لبَّ الفوائد وصفو العقائد » في المبدأ والمعاد. (1)
    8.ديوان شعر وفيه أشعاره في الردّ على المخالفين وفي مدائح الاَئمة.
    و كان وفاة هذا الداعي يوم الاَحد السابع والعشرين من شهر شعبان سنة 612 هـ عن عمر ناهز التسعين عاماً ودامت أيام دعوته ست سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيّام.
    وقد أخذنا شيئاً من عقائدهم من كتاب « تاج العقائد » الذي يُعد أوضح كتاب وضع في بيان عقائد تلك الطائفة ، والكتاب واضح العبارة جداً ، بعيد عن الانحراف والاعتساف ، إلاّ ما ندر ، وهو يدل على أنّ طائفة الاِسماعيليّة القاطنة في اليمن كانوا بمعزل عن كثير من الزلاّت المشاهدة عند غيرهم.
    1 ـ تاج العقائد ومعدن الفوائد : 7 ـ 9 ، المقدمة ، تحقيق عارف تامر.

(316)

(317)
الفصل الرابع عشر
في
التنظيمات السرّية الاِسماعيلية


(318)

(319)
التنظيمات السرّية الاِسماعيلية
    إنّ طابَع الاَقلّية يستدعي امتلاك تنظيمات سرية يسودها التكاتف والتعاون لتصمد أمام العواصف التي تهددهم من جانب الاَكثرية ، ولولا ذلك لتفكّكت وانفصمت عرى حياتهم ولانصهر كيانهم المستقل.
    ظهرت الاِسماعيلية على مسرح الحياة في زمان ساده روح العداء لاَهل البيت (عليهم السّلام) وأتباعهم ، وكانت الشيعة قذى في عيون الخلافة العباسية ، لما يسودها من روح العصيان على السلطة والخروج عليها.
    هذا وما شابهه صار سبباً لدخول أئمتهم في كهف الاستتار والتقية وإحداث تنظيمات سرية في مختلف الاَدوار لتكون حصناً حصيناً لهم ولاَتباعهم ، وقد ذكر التاريخ شيئاً كثيراً من تنظيماتهم ومخططاتهم المبتكرة والتي قلّما يشهد التاريخ لها من مثيل.
    وهذا الكاتب الاِسماعيلي مصطفى غالب يشرح لنا الصورة الدقيقة عن التنظيمات السرية في أدوار الستر وفي عهد الدولة الاِسماعيلية في مصر والمغرب حيث يقول :
    إذا أردنا أن نقارن تلك التنظيمات مع أحدث التنظيمات والتخطيطات الدعاوية العصرية المعروفة اليوم ، لتبين لنا انّ الاِسماعيليين كان لهم القدح المعلّى في هذا المضمار ، من حيث ابتكار الاَساليب المبنية على أُسس مكينة مستوحاة من عقائدهم الصميمة ، وتظهر عبقريتهم بوضوح من جهة البراعة في تنظيم أجهزتهم الدعاوية ـ في قلّة الوسائل في تلك الاَيام ـ ممّا جعلهم يستطيعون الاِشراف بسرعة فائقة على تنسم أخبار أتباعهم في الاَبعاد المتناهية ، وذلك بما


(320)
ابتكروا من أساليب وأحدثوا من وسائل ، وقد كان للحمام الزاجل الذي برع في استخدامه الدعاة ، أثره الفعّال في نقل الاَخبار والمراسلات السرية الهامة.
    ولقد كان الاِمام الاِسماعيلي الذي يعتبر رئيس الدعوة قد وفق بين جهاز الدعاية الذي نظّمه خير تنظيم ، وبين نظام الفلك ودورته ، وجعل العالم الذي كان معروفاً في تلك الاَيام مثل السنة الزمنية ، فالسنة كما هو معروف مقسمة إلى اثني عشر شهراً ، ولذلك يجب أن يقسم العالم إلى اثني عشر قسماً ، أطلق على كل قسم اسم (جزيرة)و جعل على كل جزيرة من هذه الجزر داعياً ، هو المسوَول الاَوّل عن الدعاية فيها ، ولقب بـ (داعي دعاة الجزيرة) أو بـ (حجة الجزيرة). وقال : إنّ الدعوة لا يمكن استقامتها إلاّ باثني عشر داعياً يتولون إدارتها ، فكان الاِمام ينتخب الدعاة من ذوي المواهب الخارقة ، والقدرة الفائقة في بث الدعوة والعمل على نشرها بين مختلف الطبقات وقد جعل الدعاة من (حدود الدين) إمعاناً في إسباغ الفضائل عليهم ، ليتمكنوا من نشر الدعوة وتوجيه الاَتباع دونما أيّة معارضة أو مخالفة ، لاَنّ مخالفتهم ومعارضتهم تعتبر بنظر الاِمام مروقاً عن الدين ، وخروجاً عن طاعة الاِمام نفسه ، لاَنّهم من صلب العقيدة وحدودها.
    و لمّا كان الشهر ثلاثون يوماً لذلك كان لكل داعي جزيرة ثلاثون داعياًنقيباً لمساعدته في نشر الدعوة ، وهم قوته التي يستعين بها في مجابهة الخصوم ، وهم عيونه التي بها يعرف أسرار الخاصة والعامة ، فكانوا بمثابة وزارئه ومستشاريه في كلّ ما يتعلّق بجزيرته.
    ولمّا كان اليوم أربع وعشرين ساعة ، اثنتي عشر ساعة بالليل ، واثنتي عشر ساعة بالنهار ، وجب لكلّ داع نقيب أربعة وعشرين داعياً ، منهم اثني عشر داعياً ظاهراً كظهور الشمس بالنهار ، واثني عشر داعياً محجوباً مستتراً استتار الشمس بالليل. وبعملية حسابية بسيطة نجد انّعدد الدعاة الذين بثهم الاِمام الاِسماعيلي في العالم كان حوالي 8640 داعياً في وقت واحد.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: فهرس