المحسن السبط ::: 301 ـ 310
(301)
     ثم خرج أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : من كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت ، ومن كان يعبد محمداً فإنّ محمداً قد مات ، ثم قرأ : « وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ » (1) ، وكان عمر يقول : لم يمت ، وكان يتوعد الناس بالقتل في ذلك.
     فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة ، فبلغ ذلك أبا بكر ، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجرّاح ، فقال : ما هذا؟ فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير ، فقال أبو بكر : منّا الأمراء ومنكم الوزراء ، ثم قال أبو بكر : إنّي قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين : عمر أو أبا عبيدة ، إنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) جاءه قوم فقالوا : إبعث معنا أميناً ، فقال : لأبعثنّ معكم أميناً حق أمين ، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجرّاح ، وأنا أرضى لكم أبا عبيدة ، فقام عمر فقال : أيكم تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدمهما النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فبايعه عمر وبايعه الناس ، فقالت الأنصار _ أو بعض الأنصار _ : لا نبايع إلا علياً ، انتهى.
     فهذا النص فيه حقائق وفيه أباطيل ، ضغث من هذا وضغث من هذا ، ولا نطيل الوقوف عنده سوى تنبيه القارئ النبيه على قراءته بتدبر وإمعان لما فيه من علائم الاستفهام :
     1 ـ لماذا جاء أبو بكر بعد ثلاث؟ وهو بالسُنح في عوالي المدينة ، وخبر موت النبي ( صلى الله عليه وآله ) شاع وذاع حتى غصت المدينة بمن جاءها مسرعين مهطعين ، وصارت شبيهاً بالقيامة ، ويضرب بها المثل في ذلك اليوم ، وليس بينه وبين المدينة مسافة بعيدة ، إنّما هي ساعة للراكب وساعتين للراجل.
     2 ـ ما معنى قول الراوي : لم يجترئ أحد أن يكشف عن وجهه ـ النبي ( صلى الله عليه وآله ) _؟ أكان ذلك احتراماً له ، فجاء أبو بكر فاخترق ذلك الإحترام؟ أم كان هناك رقيب
1 ـ آل عمران : 144.

(302)
يمنع من الدنو إلى الجثمان الطاهر ، فلا يدع أحداً يجترئ أن يكشف عن وجهه؟ وفي كلا الاحتمالين لابد من تحكيم العقل وتقويم الاحتمالين ، لمعرفة نصيب كل من الشيخين من التواطؤ أو عدمه ، والاحتكام إلى العقل ضرورة يقضي بها تصويب النص أو رفضه كلاً أو بعضاً.
     3 ـ ما معنى كلام أبي بكر : ومن كان يعبد محمداً فإنّ محمداً قد مات؟ فهل كان هنالك من يعبد محمداً حتى يقول له ذلك؟ أو هو تعريض بعمر الذي قال أنّه لم يمت ، وتوعد بالقتل لمن قال أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد مات.
     4 ـ ثم ما بال أبي بكر يساوم الأنصار على الخلافة ، فيقاسمهم وكأنّه يمتلك ناصية الأمر من قبل المهاجرين فيقول : منّا الأمراء ومنكم الوزراء؟ وهل كان ذلك من حقه؟ وقد مر في مثلثاته ما ينافي هذا العرض.
     5 ـ ما باله يرشح عمر وأبا عبيدة للأمر ، ثم هو يؤكد على أمانة أبي عبيدة من دون أي مناسبة تستدعي ذلك الإجراء ، أفهل كان أقرب إلى قلبه من عمر؟
     6 ـ ثم ما بال عمر يبادر إلى مبايعة أبي بكر؟ فهل أحسّ من إطرائه لأبي عبيدة مماكرة زيادة على الترشيح ، فخشي أن يبايع له فماكر هو أيضاً.
     7 ـ لماذا قال الأنصار أو بعض الأنصار : لا نبايع إلاّ علياً؟ فهل كان ذلك مجرد طرح أو ترشيح منهم ، أو أنهم قالوا للنص عليه وهو يستدعي ذلك القول منهم؟ ولو شهد علي اجتماع السقيفة لأخذت الأمور اتجاهاً آخر غير ما سارت عليه. إلى غير ذلك من فجوات في الخبر تثير علامات استفهام تستدعي الجواب عليها.
     النص السادس : رواه الطبري (1) عن ابن حميد ، عن جرير ، عن مغيرة ، عن زياد بن كليب قال : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من
1 ـ تاريخ الطبري 3 : 202.

(303)
المهاجرين ، فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف ، فعثر فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه.
     وهذا النص هو بنفس السند في النص السابق إلى زياد بن كليب ، ولم يذكر باقي السند وأحسبه كسابقه ، ومهما يكن فهو صريح في مجيئ عمر إلى منزل علي ، لأنّ فيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، وهم لم يبايعوا أبا بكر ، فهدّدهم بإحراق البيت عليهم ، وأقسم على توعده بتنفيذه إن لم يخرجوا إلى البيعة.
     والتهديد والإحراق لم يكن هيناً سماعه على الناس فضلاً عن فعله ، وقد مرّ بنا أنّ الناس قالوا له : إنّ في البيت فاطمة ، قال : وإن ، فإنّها لصدمة ولدمة لمن سمع ورأى وهو خارج البيت ، وإنّها لصدمة ولدمة لمن سمع ومن رأى وكان هو داخل البيت ، وهذا ما دعا الزبير لأن يخرج مصلتاً عليه بالسيف.
     وإلى هنا لا تستدعي صراحة النص تفسيراً لصرامة عمر ، إلاّ أنّ فيه ( فعثر _ الزبير _ فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه ) ، وهذا أيضاً لا يثير حيرة ولا قلقاً ، فالزبير وقد خرج على عمر مصلتاً بالسيف ، ( فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه ) والضمير في المأخوذ سواء كان يعني السيف ، أو كان يعني الزبير ، فهو يدل على وجود جمع ( فوثبوا عليه فأخذوه ) وهذا ما يلفت النظر في طي ذكرهم أولاً في الخبر ، فماذا جرى منهم على بقية من كان في البيت ، فهذا كله طواه الخبر ، إلاّ أن الطبري ساق بعد هذا خبر بإسناد غير ما قرأنا بها أخباره المتقدمة ، مما يكشف عما طواه هذا النص المتقدم ، فلنقرأ ما عنده :
     النص السابع : روى الطبري (1) عن زكريا بن يحيى الضرير ، عن أبي عوانة ، عن داود بن عبد الله الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري قال : توفي
1 ـ تاريخ الطبري 3 : 202 ـ 203.

(304)
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبو بكر في طائفة من المدينة ، فجاء فكشف الثوب عن وجه فقبله وقال : فداك أبي وأمي ما أطيبك حيّاً وميّتاً ، مات محمد ورب الكعبة ، قال : ثم انطلق إلى المنبر فوجد عمر بن الخطاب قائماً يوعد الناس ويقول : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حي لم يمت ، وإنّه خارج إلى من أرجف به ، وقاطع أيديهم ، وضارب أعناقهم وصالبهم.
     قال : فتكلّم أبو بكر وقال : أنصت ، قال : فأبى عمر أن ينصت ، فتكلم أبو بكر وقال : إنّ الله قال لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) : « إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ » (1) ، « وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ ... » (2) ، حتى ختم الآية ، فمن كان يعبد محمداً فقد مات إلهه الذي كان يعبده ، ومن كان يعبد الله لا شريك له ، فإنّ الله حيّ لا يموت.
     قال : فحلف رجال أدركناهم من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) ما علمنا أنّ هاتين الآيتين نزلتا حتى قرأهما أبو بكر يومئذٍ ، إذ جاء رجل يسعى فقال : هاتيك الأنصار قد اجتمعت في ظُلّة بني ساعدة يبايعون رجلاً منهم يقولون : منّا أمير ومن قريش أمير.
     قال : فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتياهم ، فأراد عمر أن يتكلم فنهاه أبو بكر فقال : لا أعصي خليفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في يوم مرّتين ، قال : فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئاً نزل في الأنصار ، ولا ذكره رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من شأنهم إلا وذكره ، وقال : لقد علمتم أنّ رسول الله قال : لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار ، وقد علمت ياسعد أنّ رسول الله قال ـ وأنت قاعد ـ : قريش ولاة
1 ـ الزمر : 30 _ 31.
2 ـ آل عمرن : 144.


(305)
هذا الأمر ، فبرّ الناس تبع لبرّهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم ، قال : فقال سعد : صدقت فنحن الوزراء وأنتم الأمراء.
     قال : فقال عمر : أبسط يدك يا أبا بكر فلأبايعك ، فقال أبو بكر : بل أنت يا عمر ، فأنت أقوى لها منّي ، قال : وكان عمر أشدّ الرجلين ، قال : وكان كل واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها ، ففتح عمر يد أبي بكر ، وقال : إنّ لك قوتي مع قوتك ، قال : فبايع الناس واستثبتوا للبيعة.
     وتخلّف علي والزبير ، واخترط الزبير سيفه ، وقال : لا أغمده حتى يبايع عليّ ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر ، فقال عمر : خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر ، قال : فانطلق إليهم عمر فجاء بهما تبعاً وقال : لتبايعان وأنتما طائعان ، أو لتبايعان وأنتما كارهان ، فبايعا. انتهى.
     ونحن إزاء هذا النص وهو كسابقه فيه ضغث من حق وضغث من باطل ، لذلك نود تنبيه القارئ إلى ما فيه سنداً ومتناً من مواقع للنظر.
     أما من ناحية السند فقد رواه الطبري عن زكريا بن يحيى الضرير ، أحسبه الوقار المصري ، قال ابن عدي : يصنع الحديث ، ووصفه صالح جزرة بأنّه من الكذابين الكبار.
     عن ابن عوانة وهو الوضاح بن عبد الله اليشكري ، قال ابن عبد البر : أجمعوا على أنّه ثقة فيما حدث من كتابه ، وقال : إذا حدث من حفظه ربما غلط.
     عن داود بن عبد الله الأودي ، وثّقه ابن معين ، وقال أحمد : شيخ ثقة قديم.
     عن حميد بن عبد الرحمن الحميري ، وثقه العجلي ، وقال ابن سعد : ثقة ، وروى عن علي بن أبي طالب.
     هذا حال رجال الإسناد ، أما المتن فالخبر فيه عدة أمور تسترعي الإنتباه ، ولا نقول إنّ جميع الخبر مكذوب ، كما لا نقول هو صحيح بكل ما فيه مكتوب ، بل علينا بعد ثبوت تدوينه عند الطبري أن نتساءل عما فيه من جديد لم نقرأ مثله فيما سبق.


(306)
1 ـ جاء في الخبر : ثم انطلق إلى المنبر فوجد عمر بن الخطاب قائماً يوعد الناس ... فتكلم أبو بكر وقال أنصت ، فأبى عمر أن ينصت ، فتكلم أبو بكر وقرأ الآية وقال : فمن كان يعبد محمداً فقد مات إلهه الذي كان يعبده ....
     ثم قال الراوي : ( فحلف رجال أدركناهم من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) ما علمنا أنّ هاتين الآيتين نزلتا حتى قرأها أبو بكر يومئذٍ ) ، وهذا مما يلفت النظر حقاً ، كيف يقبل العقل تصديق الراوي على هذا النقل ، فأين هم حفظة الكتاب من الصحابة؟ ولا غرابة ، فالانفعال يولد الإفتعال ، فأبو بكر الذي قال عنه الشيخ الفلاني في كتابه ايقاظ همم أولى الأبصار (1) : ( وقد مات أبو بكر وعمر وهما لم يستتما حفظ جميع القرآن ) يحفظ تلكما الآيتين ، ورجال أدركهم الراوي لم يعلموا بنزولهما حتى قرأهما أبو بكر يومئذٍ ، إنّها لدعوى عريضة ، وإن ثبتت ذلك بالتدوين فلا يعني بالضرورة الثبوت بالتصديق ، ويبقى احتمال الشك في صدق الراوي.
     2 ـ جاء في الخبر : إذ جاء رجل يسعى وقال هاتيك الأنصار ... يقولون : منّا أمير ومن قريش أمير ، فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان ... حتى أتياهم ، فأراد عمر أن يتكلم فنهاه أبو بكر فقال : لا أعصي خليفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في يوم مرّتين.
     وهنا مثار العجب من كثرة الكذب ، فما أيسر التمويه أن يقول الساعي هاتيك الأنصار ... يقولون منّا أمير ومن قريش أمير ، بينما تأبى ذلك بقية مدونات الحوليات ومنها تاريخ الطبري ، وإنّ ذلك قالوه بعد ما جاء إليهم أبو بكر ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح في خبر سبق ذكره.
     ومما في هذا الخبر مما يخالف الصدق حذف اسم أبي عبيدة بن الجراح ، فلم يذكر مع أبي بكر وعمر اللذين انطلقا يتقاودان ، وزاد الراوي في الطين بلّة والتاريخ علّة حين ذكر قول عمر : لا أعصي خليفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في يوم
1 ـ ايقاظ همم اولى الأبصار : 75.

(307)
مرّتين؟! فمتى كان خليفة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟ وإذا كان كذلك فلماذا لم يحتج أبو بكر بذلك في السقيفة؟ ولكن ليس عصيّاً الافتعال ما دام مبعثه الانفعال وتغيير حقيقة الحال.
     3 ـ جاء في الخبر أنّ أبا بكر قرر سعد بن عبادة على سماعه من النبي ( صلى الله عليه وآله ) قوله : ( الناس تبع لقريش برهم لبرهم وفاجرهم لفاجرهم ). صدّقه سعد على ذلك ، فقال : صدقت فنحن الوزراء وأنتم الأمراء ، وبهذا طوى بساط البحث ، وبكلمة انتهت المسألة ، فقال عمر : ابسط يدك يا أبا بكر لأبايعك ، وهنا أيضاً وقفة تستدعي التنبيه وتسترعي الانتباه.
     4 ـ جاء في الخبر أنّ عمر قال لأبي بكر : ابسط يدك لأبايعك ، فقال أبو بكر : بل أنت يا عمر ، فأنت أقوى لها منّي ، قال الراوي : وكان عمر أشد الرجلين.. وكان كل واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها ، ففتح عمر يد أبي بكر وقال : إنّ لك قوتي مع قوتك ، قال : فبايع الناس ....
     وهذه مهزلة المسألة ، ومعظلة المشكلة ، خلافة المسلمين يتبارى الشيخان في تعاطيها أحدهما للآخر ، والمسلمون ينتظرون الفائز ليبايعوه ، وتغيب عن الخبر ، بل غيّب الراوي ذكر ما جرى في السقيفة من تنازع بين الأنصار وأبي بكر حول تعيين الخليفة ، فلا تهديد : أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجّب ، ولا : أعيدوها جذعة ، ولا ولا ، وكأنّ الإجماع تمّ لأبي بكر في هذا الخبر ببيعة عمر له بعد مرادة دون مشادة ، وهذا من لعب الهوى وشطط الخيال.
     وقد ذكر الطبري خبر السقيفة بعد هذا الخبر برواية عمر نفسه ، وفيه قول عمر : فلا يغرّنّ امرئٌ أن يقول : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك ، غير أنّ الله وقى شرها.
     ثم سرد خبر السقيفة وما جرى فيها ، وقد سبق أن ذكرنا الخبر برواية البخاري وغيره فراجع ، فلا حاجة بنا إلى إعادته ، كما لا حاجة بنا إلى ذكر ما ساقه من


(308)
أخبار تتعلّق بأحداث تلك الفترة عن طريق سيف الكاذب الزنديق (1) ، فقد روى من الكذب البواح ، والمفتريات الصراح ما يبعث على العجب من الطبري وهو في علمه وعظيم شأنه أن يروي مثل تلك الأكاذيب ، نحو خبره بسنده عن سيف (2) ، عن عبد العزيز بن سباء ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : كان عليّ في بيته إذ أُتي فقيل له : قد جلس أبو بكر للبيعة ، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً كراهية أن يبطىء عنها حتى بايعه ، ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه ، فتجلله ولزم مجلسه.
     فهذا الخبر سواء كان من مفتريات سيف أو من مفتريات غيره ، لا يقبل بأيّ وجه كان في تفسيره ، والطبري وإن لم يعلّق عليه إلاّ أنّه ساق بعده خبراً ينسف ذلك نسفاً ، ويعصف بمرويات أمثاله عصفاً ، وذلك هو النص الآتي :
     النص الثامن : قال الطبري (3) : حدّثنا أبو صالح الضراري ، قال : حدّثنا عبد الرزاق بن همام ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : إنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ....
     وهذا تقدم في مرويات عبد الرزاق في المصنف ، وقد تقدم ذكره فراجع ، تجد فيه قالت عائشة : فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها علي ليلاً ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، وكان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة ، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي ، فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم توفيت.
1 ـ راجع ما قاله عنه علماء الجرح والتعديل أيسرها ميزان الاعتدال للذهبي جاء في ترجمته : تركوه واتهم بالزندقة.
2 ـ تاريخ الطبري 3 : 207.
3 ـ تاريخ الطبري 3 : 207 ـ 208.


(309)
قال معمر : فقال رجل للزهري : أفلم يبايعه علي ستة أشهر؟ قال : لا ، ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي ، فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه خرج إلى مصالحة أبي بكر.
     فهذا الخبر يكفي في دحض مفتريات سيف في ذكره بيعة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وانّه خرج عجلاً بغير إزار ولا رداء فبايع ، وبه نكتفي من انتقاء بقية النصوص من تاريخ الطبري.
     ما ذكره ابن عبد ربّه :
     الرابع عشر : ماذا عند ابن عبد ربه الأندلسي ( ت 328 هـ ) في كتابه العقد الفريد (1) :
     النص الأول : جعفر بن سليمان ، عن مالك بن دينار ، قال : تُوفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأبو سفيان غائب في مسعاة أخرجه فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما انصرف لقي رجلاً في بعض طريقه مقبلاً من المدينة ، فقال له : مات محمد؟ قال : نعم ، قال : فمن قام مقامه؟ قال : أبو بكر ، قال أبو سفيان : فما فعل المستضعفان علي والعباس؟ قال : جالسين ، قال : أما والله لئن بقيت لهما لأرفعنّ من أعقابهما ، ثم قال : إنّي أرى غَبرة لا يطفئها إلا دم ، فلما قدم المدينة جعل يطوف في أزقّتها ويقول :
بني هاشم لا تطمعُ الناسُ فيكم فما الأمر إلا فيكمُ وإليكمُ ولا سيما تيم بن مرة أو عديّ وليس لها إلا أبو حسن عليّ
     فقال عمر لأبي بكر : إنّ هذا قد قدم وهو فاعلٌ شراً ، وقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يستألفه على الإسلام ، فدع له ما بيده من الصدقة ، ففعل فرضي أبوسفيان وبايعه.
1 ـ العقد الفريد 4 : 257.

(310)
فهذا الخبر وإن كان في إسناده إرسال إذ لم يدرك مالك بن دينار ( ت 130 هـ ) حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة إلا أنّه وثقه النسائي ، وما رواه وجدناه مروياً عن غيره أيضاً ولا يحتاج إلى تعقيب.
     النص الثاني : أحمد بن الحارث ، عن أبي الحسن ، عن أبي معشر ، عن المقبريّ : إنّ المهاجرين بينما هم في حجرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد قبضه الله إليه ، إذ جاء معن بن عدي وعويم بن ساعدة فقالا لأبي بكر : باب فتنة إن يغلقه الله بك ، هذا سعد بن عبادة والأنصار يريدون أن يبايعوه ، فمضى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح حتى جاؤوا سقيفة بني ساعدة ، وسعد على طنفسة متكئاً على وسادة وبه الحمّى.
     فقال له أبو بكر : ماذا ترى أبا ثابت؟ قال : أنا رجل منكم ، فقال حُباب بن المنذر : منّا أمير ومنكم أمير ، فإن عمل المهاجري في الأنصاري شيئاً ردّ عليه ، وإن عمل الأنصاري في المهاجري شيئاً رد عليه ، وإن لم تفعلوا فأنا جذيلها المحكّك وعُذيقها المرجّب ، لنعيدنّها جذعة.
     قال عمر : فأردت أن أتكلّم وكنت زوّرت كلاماً في نفسي ، فقال أبو بكر : على رسلك يا عمر.. ، وقال : نحن المهاجرون ، وأول الناس إسلاماً ، وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ، وأحسنهم وجوهاً ، وأمسّهم برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رحماً ، وأنتم إخواننا في الإسلام ، وشركاؤنا في الدين ، نصرتم وواسيتم ، فجزاكم الله خيراً ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش ، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما فضّلهم الله به ، فقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الأئمة من قريش ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ـ يعني عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح ـ فقال عمر : يكون هذا وأنت حيّ! ما كان أحد ليؤخرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم ضرب على يده فبايعه ، وبايعه الناس وازدحموا على أبي بكر ، فقالت الأنصار : قتلتم سعداً ، فقال عمر : اقتلوه قتله الله ، فإنه صاحب فتنة.
المحسن السبط ::: فهرس