المحسن السبط ::: 531 ـ 540
(531)
وإلى القاريء نص الخطبة نقلاً عن كنز العمال (1) :
     عن يحيى بن عبد الله بن الحسن ، عن أبيه قال : كان علي يخطب فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين! أخبرني مَن أهل الجماعة؟ ومَن أهل الفرقة؟ ومَن أهل السنة؟ ومَن أهل البدعة؟
     فقال : ويحك! أما إذ سألتني فافهم عنّي ، ولا عليك أن لا تسأل عنها أحداً بعدي ، فأما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلّوا ، وذلك الحق من أمر الله وأمر رسوله ، فأما أهل الفرقة فالمخالفون لي ومن اتبعني وإن كثروا ، وأما أهل السنة المتمسكون بما سنّه الله لهم ورسوله وإن قلّوا ، وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ورسوله ، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا ، وقد مضى منه الفوج الأول وبقيت أفواج ، وعلى الله قصمها واستئصالها عن جدبة الأرض.
     فقام إليه عمّار فقال : ياأمير المؤمنين! انّ الناس يذكرون الفيء ويزعمون أنّ قاتلنا ( مقاتلنا ظ ) فهو وماله وأهله فيء لنا وولده ، فقام رجل من بكر بن وائل يدعى عبّاد بن قيس ـ وكان ذا عارضة ولسان شديد ـ فقال : ياأمير المؤمنين! والله! ما قسمت بالسوية ، ولا عدلت في الرعية ، فقال علي : ولم ، ويحك؟ قال : لأنّك قسمت ما في العسكر ، وتركت الأموال والنساء والذرية ، فقال عبّاد : جئنا نطلب غنائمنا ، فجاءنا بالترهات! فقال له علي : إن كنت كاذباً فلا أماتك الله حتى تدرك غلام ثقيف.
     فقال رجل من القوم : ومَن غلام ثقيف ياأمير المؤمنين؟ فقال : رجل لا يدع لله حرمة إلا انتهكها ، قال : فيموت أو يقتل؟ قال : بل يقصمة قاصم الجبّارين ، قتله بموت فاحش يحترق منه دبره لكثرة ما يجري من بطنه ، يا أخا بكر! أنت امرؤ
1 ـ كنز العمّال 21 : 126 ـ 136.

(532)
ضعيف الرأي ، أما علمت أنّا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير! وأنّ الأموال كانت لهم قبل الفرقة ، وتزوجوا على رشدة ، وولدوا على الفطرة ، وإنّما لكم ما حوى عسكرهم ، وما كان في دورهم فهو ميراث لذريتهم ، فإن عدا علينا أحد منهم أخذناه بذنبه ، وإن كفّ عنّا لم نحمل عليه ذنب غيره ، يا أخا بكر! لقد حكمت فيهم بحكم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أهل مكة ، قسّم ما حوى العسكر ولم يعرض لما سوى ذلك ، وإنّما اتبعت أثره حذو النعل بالنعل ، يا أخا بكر! أما علمت أنّ دار الحرب يحل ما فيها ، وأنّ دار الهجرة يحرم ما فيها إلا بحق ، فمهلاً مهلاً رحمكم الله! فإن أنتم لم تصدّقوني وأكثرتم علي ـ وذلك أنّه تكلّم في هذا غير واحد ـ فأيّكم يأخذ أمه عائشة بسهمه؟.
     قالوا : أينا ياأمير المؤمنين! بل أصبت وأخطأنا ، وعلمت وجهلنا ، ونحن نستغفر الله! وتنادى الناس من كل جانب : أصبت ياأمير المؤمنين! أصاب الله بك الرشاد والسداد! فقام عمّار فقال : يا أيّها الناس! إنّكم والله إن اتبعتموه وأطعتموه لم يضلّ بكم من منهاج نبيكم قيد شعرة ، وكيف يكون ذلك وقد استودعه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المنايا والوصايا ، وفصل الخطاب على منهاج هارون بن عمران ، إذ قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي فضلاً خصّه الله به إكراماً منه لنبيّه ( صلى الله عليه وآله ) حيث أعطاه الله ما لم يعطه أحداً من خلقه.
     ثم قال علي : انظروا رحمكم الله ما تؤمرون به فامضوا له ، فإنّ العالم أعلم بما يأتي من الجاهل الخسيس الأخس ، فإنّي حاملكم ـ إن شاء الله تعالى إن أطعتموني ـ على سبيل الجنة ، وإن كان ذا مشقة شديدة ومرارة عتيدة ، وإنّ الدنيا حلوة ، الحلاوة لمن اغتر بها ... (1) من الشقوة والندامة عمّا قليل ، ثم إنّي مخبركم أنّ
1 ـ بياض في جميع النسخ المطبوعة. ولعل تتمة الكلام حسب السياق ( وسيرى ).

(533)
خيلاً من بني إسرائيل أمرهم نبيهم أن لا يشربوا من النهر ، فلجوا في ترك أمره فشربوا منه إلاّ قليلاً منهم ، فكونوا رحمكم الله من أولئك الذين أطاعوا نبيّهم ولم يعصوا ربّهم ، وأما عائشة فأدركها رأي النساء ، وشيء كان في نفسها عليَّ يغلي في جوفها كالمرجل ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليَّ لم تفعل ، ولها بعد ذلك حرمتها الأولى ، والحساب على الله ، يعفو عمن يشاء ويعذب من يشاء.
     فرضي بذلك أصحابه وسلموا لأمره بعد اختلاط شديد ، فقالوا : ياأمير المؤمنين! حكمت والله فينا بحكم الله ، غير أنّا جهلنا ومع جهلنا لم نأت ما يكره أمير المؤمنين :
     وقال ابن يساف الأنصاري :
إنّ رأياً رأيتموه سفاهاً ليس زوج النبي تقسم فيئاً فاقبلوا اليوم ما يقول علي ليس ما ضمت البيوت بفيء من كراع في عسكر وسلاح ليس في الحق قسم ذات نطاق ذاك هو فيئكم خذوه وقولوا إنّها أمكم وإن عظم الخطـ فلها حرمة النبي وحقا لخطأ الايراد والاصدار ذاك زيغ القلوب والأبصار لا تناجوا بالإثم في الإسرار إنّما الفيء ما تضم الأوار ومتاع يبيع أيدي التجار لا ولا أخذكم لذات خمار قد رضينا لا خير في الإكثار ـب وجاءت بزلّة وعثار ق علينا من سترها ووقار
     ثم قام عبّاد بن قيس وقال : ياأمير المؤمنين! أخبرنا عن الإيمان ، فقال : نعم ، إنّ الله ابتدأ الأمور فاصطفى لنفسه ما شاء ، واستخلص ما أحب ، فكان مما أحب أنّه ارتضى الإسلام ، واشتقه من اسمه ، فنحله من أحب من خلقه ، ثم شقّه فسهّل


(534)
شرائعه لمن ورده ، وعزّز أركانه على من حاربه ، هيهات من أن يصطلمه مصطلم! جعله سلماً لمن دخله ، ونوراً لمن استضاء به ، وبرهاناً لمن تمسّك به ، وديناً لمن انتحله ، وشرفاً لمن عرفه ، وحجة لمن خاصم به ، وعلماً لمن رواه ، وحكمة لمن نطق به ، وحبلاً وثيقاً لمن تعلّق به ، ونجاة لمن آمن به.
     فالإيمان أصل الحق ، والحق سبيل الهدى وسيفه جامع الحلية ، قديم العدة ، الدنيا مضماره ، والغنيمة حليته ، فهو أبلج منهاج ، وأنور سراج ، وأرفع غاية ، وأفضل داعية ، لمن سلك قصد الصادقين ، واضح البيان ، عظيم الشأن ، الأمن منهاجه ، والصالحات مناره ، والفقه مصابيحه ، والمحسنون فرسانه ، فعصم السعداء بالإيمان ، وخذل الأشقياء بالعصيان من بعد اتجاه الحجة عليهم بالبيان ، إذ وضح لهم منار الحق ، وسبيل الهدى.
     فالإيمان يستدل به على الصالحات ، وبالصالحات يعمر الفقه ، وبالفقه يرهب الموت ، وبالموت يختم الدنيا ، وبالدنيا تخرج الآخرة ، وفي القيامة حسرة أهل النار ، وفي ذكر أهل النار موعظة أهل التقوى ، والتقوى غاية لا يهلك من اتبعها ، ولا يندم من عمل بها ، لأنّ بالتقوى فاز الفائزون ، وبالمعصية خسر الخاسرون ، فليزدجر أهل النهي ، وليتذكّر أهل التقوى ، فإنّ الخلق لا مقصر لهم في القيامة دون الوقوف بين يدي الله ، مرفلين في مضمارها نحو القصبة العليا إلى الغاية القصوى ، مهطعين بأعناقهم نحو داعيها ، قد شخصوا من مستقر الأجداث والمقابر إلى الضرورة أبداً ، لكل دار أهلها ، قد انقطعت بالأشقياء الأسباب ، وأفضوا إلى عدل الجبار ، فلا كرّة لهم إلى دار الدنيا ، فتبرؤوا من الذين آثروا طاعتهم على طاعة الله ، وفاز السعداء بولاية الإيمان.
     فالإيمان ياابن قيس على أربع دعائم : الصبر ، واليقين ، والعدل ، والجهاد ، فالصبر من ذلك على أربع دعائم : الشوق ، والشفق ، والزهد ، والترقب ، فمن اشتاق


(535)
إلى الجنة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.
     واليقين من ذلك على أربع دعائم : تبصرة الفتنة ، تأوّل الحكمة ، ومن تأوّل الحكمة عرف العبرة ، ومن عرف العبرة عرف السنة ، ومن عرف السنة فكأنّما كان في الاولين ، فاهتدى إلى التي هي أقوم.
     والعدل من ذلك على أربع دعائم : غائص الفهم ، وغمرة العلم ، وزهرة الحكم ، وروضة الحلم ، فمن فهم فسّر جميع العلم ، ومن علم عرف شرائع الحكم ، ومن عرف شرائع الحكم لم يضل ، ومن حلم لم يفرط أمره ، وعاش في الناس حميداً.
     والجهاد من ذلك على أربع دعائم : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والصدق في المواطن ، وشنآن الفاسقين ، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن ، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق ، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه ، ومن شنأ المنافقين وغضب لله غضب الله له.
     فقام إليه عمّار فقال : يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن الكفر على ما بُنيَ كما أخبرتنا عن الإيمان؟ قال : نعم يا أبا اليقظان! بني الكفر على أربع دعائم : على الجفاء ، والعمى ، والغفلة ، والشك ، فمن جفا فقد احتقر الحق ، وجهر بالباطل ، ومقت العلماء ، وأصرّ على الحنث العظيم ، ومن عمي نسي الذكر ، واتبع الظن ، وطلب المغفرة بلا توبة ولا استكانة ، ومن غفل حاد عن الرشد ، وغرّته الأماني ، وأخذته الحسرة والندامة ، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب ، ومن عتا في أمر الله شك ، ومن شك تعالى الله عليه فأذلّه بسلطانه ، وصغّره بجلاله ، كما فرّط في أمره فاغتر بربّه الكريم ، والله أوسع بما لديه من العفو والتيسير ، فمن عمل بطاعة الله اجتلب بذلك ثواب الله ، ومن تمادى في معصية الله ذاق وبال نقمة الله ، فهنيئاً لك يا أبا اليقضان عقبى لا عقبى غيرها ، وجنّات لا جنّات بعدها!.


(536)
     فقام إليه رجل فقال : ياأمير المؤمنين! حدّثنا عن ميّت الأحياء ، قال : نعم ، إنّ الله تعالى بعث النبيّين مبشرين ومنذرين فصدّقهم مصدقون ، وكذّبَهم مكذبون ، فيقاتلون من كذّبهم بمن صدّقهم ، فيظهرهم الله ثم يموت الرسل ، فتخلف خلوف ، فمنهم منكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه ، فذلك استكمل خصال الخير ، ومنهم منكر للمنكر بلسانه وقلبه تارك له بيده ، فذلك خصلتان من خصال الخير تمسك بهما ، وضيّع خصلة واحدة وهي أشرفها ، ومنهم منكر للمنكر بقلبه تارك له بيده ولسانه ، فذلك ضيّع شرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة ، ومنهم تارك له بلسانه وقلبه ويده ، فذلك ميّت الأحياء.
     فقام إليه رجل فقال : ياأمير المؤمنين! أخبرنا على ما قاتلت طلحة والزبير؟ قال : قاتلتهم على نقضهم بيعتي ، وقتلهم شيعتي من المؤمنين : حكيم بن جبلة العبدي من عبد القيس ، والسائحة (1) ، والأساورة (2) بلا حق استوجبوه منهما ، ولا كان ذلك لهما دون الإمام ، ولو أنهما فَعلا ذلك بأبي بكر وعمر لقاتلاهما ، ولقد علم مَن ههنا مِن أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) أنّ أبا بكر وعمر لم يرضيا ممن امتنع من بيعة أبي بكر حتى بايع وهو كاره ، ولم يكونوا بايعوه بعد الأنصار ، فما بالي وقد بايعاني طائعينَ غير مكرَهينَ؟! ولكنهما طمعا منّي في ولاية البصرة واليمن ، فلما لم أولّهما ، وجاءهما الذي غلب من حبهما للدنيا وحرصهما عليها ، خفت أن يتخذا عباد الله خولاً ، ومال المسلمين لأنفسهما ، فلمّا زويت ذلك عنهما وذلك بعد أن جرّبتهما واحتججت عليهما.
1 ـ هكذا في النسخ المطبوعة والصواب ( السبابجة ) وهم قوم من السند ، كانوا بالبصرة كشرطة وحرّاس السجن ، الصحاح 1 : 321 ، ( سبج ).
2 ـ الأساورة : قوم من العجم نزلوا بالبصرة كالأحامرة بالكوفة ، القاموس المحيط 2 : 54 ( سورة ).


(537)
     فقام إليه رجل فقال : ياأمير المؤمنين! أخبرنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو؟ قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : إنّما أهلك الله الأمم السالفة قبلكم بتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقول الله ( عزّ وجلّ ) : « كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ » (1).
     وإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله ( عزّ وجلّ ) ، فمن نصرهما نصره الله ، ومن خذلهما خذله الله ، وما أعمال البر والجهاد في سبيله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ كبقعة في بحر لجي ، فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق ، وأفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر ، وإنّ الأمر لينزل من السماء إلى الأرض كما ينزل قطر المطر إلى كل نفس بما قدر الله لها من زيادة أو نقصان ، في نفس ، أو أهل ، أو مال ، فإذا أصاب أحدكم نقصاناً في شيء من ذلك ، ورأى الآخر ذا يسار لا يكوننّ له فتنة ، فإنّ المرء المسلم البرئ من الخيانة لينتظر من الله إحدى الحسنيين : إما من عند الله فهو خير واقع ، وإما رزق من الله يأتيه عاجل ، فإذا هو ذو أهل ومال ومعه حسبه ودينه ، المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد يجمعهما الله لأقوام.
     فقام إليه رجل فقال : ياأمير المؤمنين! أخبرنا عن أحاديث البدع ، قال : نعم ، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : إنّ أحاديث ستظهر من بعدي حتى يقول قائلهم : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، كل ذلك افتراء عليَّ ، والذي بعثني بالحق! لتفترقنّ أمّتي على أصل دينها وجماعتها على ثنتين وسبعين فرقة ، كلّها ضالة مضلّة تدعوا إلى النار ، فإذا كان ذلك فعليكم بكتاب الله ( عزّ وجلّ ) ، فإنّ فيه نبأ ما كان قبلكم ،
1 ـ المائدة : 79.

(538)
ونبأ ما يأتي بعدكم ، والحكم فيه بيّن ، من خالفه من الجبابرة قصمه الله ، ومن ابتغى العلم في غيره أضلّه الله ، فهو حبل الله المتين ، ونوره المبين ، وشفاؤه النافع ، وعصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن تبعه ، لا يعوّج فيقام ، ولا يزيغ فيتشعب ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلقه كثرة الرد ، وهو الذي سمعته الجن فلم تناه أن ولّوا إلى قومهم منذرين قالوا : يا قومنا! « إنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدَي إلَى الرُّشْدِ » (1) ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم.
     فقام إليه رجل فقال : ياأمير المؤمنين! أخبرنا عن الفتنة هل سألت عنها رسول الله؟ قال : نعم ، إنّه لما نزلت هذه الآية من قول الله ( عزّ وجلّ ) : « الم أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفْتَنُونَ » (2) ، علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حيٌّ بين أظهرنا ، فقلت : يارسول الله! ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال : ياعلي! إن أمتي سيفتنون من بعدي ، قلت : يارسول الله! أوليس قد قلت لي يوم اُحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وحزنت على الشهادة فشق ذلك عليَّ ، فقلت لي : أبشر يا صدّيق! فانّ الشهادة من ورائك ، فقال لي : فإنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا! وأهوى بيده إلى لحيتي ورأسي ، فقلت : بأبي وأمي يارسول الله! ليس ذلك من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر! فقال لي : أجل.
     ثم قال لي : ياعلي! انّك باق بعدي ، ومبتلى بأمتي ، ومخاصَم يوم القيامة بين يدي الله تعالى ، فاعدد جواباً ، فقلت : بأبي أنت وأمي! بيّن لي ما هذه الفتنة التي يبتلون بها ، وعلى ما أجاهدهم بعدك؟ فقال : إنّك ستقاتل بعدي الناكثة والقاسطة والمارقة ـ وحلاهم وسماهم رجلاً رجلاً _ ثم قال لي : وتجاهد أمتي على كل من
1 ـ الجن : 1 ـ 2.
2 ـ العنكبوت 1 ـ 2.


(539)
خالف القرآن ممن يعمل في الدين بالرأي ، ولا رأي في الدين ، إنّما هو أمر من الرب ونهيه.
     فقلت : يارسول الله! فأرشدني إلى الفلج عند الخصومة يوم القيامة ، فقال : نعم ، إذا كان ذلك فاقتصر على الهدى ، إذا قومك عطفوا الهدى على العمى ، وعطفوا القرآن على الرأي فتأوّلوه برأيهم ، تتبع الحجج من القرآن بمشتبهات الأشياء الكاذبة عند الطمأنينة إلى الدنيا والتهالك والتكاثر ، فاعطف أنت الرأي على القرآن إذا قومك حرّفوا الكلم عن مواضعه عند الأهواء الساهية ، والأمر الصالح ، والهرج والاثم ، والقادة الناكثة ، والفرقة القاسطة ، والأخرى المارقة أهل الافك المردي ، والهوى المطغي ، والشبهة الحالقة ، فلا تنكلنّ عن فضل العاقبة فإنّ العاقبة للمتقين.
     وإيّاك ياعلي أن يكون خصمك أولى بالعدل والإحسان والتواضع لله ، والاقتداء بسنتي والعمل بالقرآن منك! فإن من فلج الرب على العبد يوم القيامة أن يخالف فرض الله أو سنّة سنّها نبي ، أو يعدل عن الحق ويعمل بالباطل ، فعند ذلك يملي لهم فيزدادوا إثماً ، يقول الله : « إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ » (1).
     فلا يكوننّ الشاهدون بالحق ، والقوامون بالقسط عندك كغيرهم ، ياعلي! إنّ القوم سيفتنون ويفتخرون بأحسابهم وأموالهم ، ويزكون أنفسهم ، ويمنّون دينهم على ربهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون عقابه ، ويستحلّون حرامه بالمشتبهات الكاذبة ، فيستحلون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع ، ويمنعون الزكاة ، ويطلبون البر ، ويتخذون فيما بين ذلك أشياء من الفسق لا توصف صفتها ، ويلي أمرهم السفهاء ،
1 ـ آل عمران : 178.

(540)
ويكثر تتبعهم على الجور والخطأ ، فيصير الحق عندهم باطلاً ، والباطل حقاً ، ويتعاونون عليه ويرمونه بألسنتهم ، ويعيبون العلماء ويتخذونهم سخرياً.
     قلت : يارسول الله! فبأية المنازل هم إذا فعلوا ذلك ، بمنزلة فتنة أو بمنزلة ردّة؟ قال : بمنزلة فتنة ، ينقذهم الله بنا أهل البيت عند ظهورنا السعداء من أولي الألباب ، إلا أن يدعوا الصلاة ، ويستحلّوا الحرام في حرم الله ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر.
     ياعلي! بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه ، بنا أهلك الأوثان ومن يعبدها ، وبنا يقصم كلّ جبار وكلّ منافق ، حتى إنّا لنقتل في الحق مثل من قتل في الباطل ، ياعليّ! إنّما مثل هذه الأمة مثل حديقة أطعم منها فوجاً عاماً ثم فوجاً عاماً ، فلعل آخرها فوجاً أن يكون أثبتها أصلاً ، وأحسنها فرعاً ، وأحلاها جنى ، وأكثرها خيراً ، وأوسعها عدلاً ، وأطولها ملكاً.
     ياعلي! كيف يهلك الله أمة أنا أولها ، ومهدينا أوسطها ، والمسيح ابن مريم آخرها.
     ياعلي! انّما مثل هذه الأمة كمثل الغيث لا يدرى أوّله خير أم آخره ، وبين ذلك نهج أعوج لست منه وليس منّي.
     ياعلي! وفي تلك الأمة يكون الغلول والخيلاء وأنواع المثلات ، ثم تعود هذه الأمة إلى ما كان خيار أوائلها ، فذلك من بعد حاجة الرجل إلى قوت امرأته ـ يعني غزلها _ حتى أنّ أهل البيت ليذبحون الشاة فيقنعون منها برأسها ، ويواسون ببقيتها ، من الرأفة والرحمة بينهم.

    نماذج من مواقف علماء التبرير من تلك الأحداث :
     بعد استعراض ما مرّ من النصوص التي يجب أن تقرأ بإمعان ، وقد قرأها القارئ فهل حصلت لديه قناعة بأنّ ثمة إدانة لأفعال السلف ، بما جرى منهم على أهل البيت ( عليهم السلام ) من ظلم بعد موت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فكان ( المحسن السبط ) أول شهيد لعنف تلك الأحداث؟
    
المحسن السبط ::: فهرس