المحسن السبط ::: 551 ـ 560
(551)
     ولو أعرضنا عن جميع تلك النصوص وضربنا عنها صفحاً ، وعُدنا إلى أحاديث الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فيما جاء عنه فيمن أخاف مسلماً ومن روّع مؤمناً ، فقد قال ( صلى الله عليه وآله ) : من روّع مسلماً روّعه الله يوم القيامة (1).
     وقال ( صلى الله عليه وآله ) : من روّع مؤمناً لم يؤمن روعته يوم القيامة ، ومن أخاف مؤمناً لم يؤمن خوفه يوم القيامة ، ومن سعى بمؤمن أقامه الله مقام الخزي والذلّ يوم القيامة (2).
     وقال ( صلى الله عليه وآله ) : من أخاف مؤمناً كان حقاً على الله أن لا يؤمنه من أفزاع يوم القيامة (3).
     وقال ( صلى الله عليه وآله ) : من سوّد مع قوم فهو منهم ، ومن روّع مسلماً لرضاء من سلطان جيئ به يوم القيامة معه (4).
     هذه أربعة أحاديث نبوية فصيحة صريحة في عقوبة المعتدي بالاخافة والترويع ، فهل يعقل انّ عمر ومن جاء معه ـ وكلّهم معدودون من عليّة الصحابة ـ لم يسمعوا واحداً من هذه الأحاديث؟ وإذا لم يسمعوا ذلك فأحرى بهم انّهم لم يسمعوا الحديث القدسي : من أخاف لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة (5) وماذا رأي ابن تيمية في ذلك؟!
     فهل كان ثمة ترويع لأهل البيت يوم جاء عمر بقبس من نار إلى بيت فاطمة ( عليها السلام ) ليحرقه على من فيه؟ وإن أنكر ذلك ابن تيمية ، فلماذا صاحت
1 ـ مسند الربيع بن حبيب 2 : 69.
2 ـ كنز العمال 7 : 437, الكامل لابن عدي 6 : 323.
3 ـ مجمع الزوائد 6 : 254.
4 ـ تاريخ بغداد 10 : 41.
5 ـ كنز العمال : ح 1680.


(552)
الزهراء ( عليها السلام ) وهي تستقبل المثوى الطاهر من خلال الشباك الذي يطل على منزل أبيها ، وهي تستنجد بهذا الغائب الحاضر : يا أبتاه يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟
     قال الكتاني في التراتيب الإدارية : وكان بمنزل فاطمة شباك يطلّ على منزل أبيها ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) يستطلع أمرها منه (1).
     فلا عجب ولا غرابة من استغاثتها ( عليها السلام ) بأبيها ، وشكواها إليه ما لقيت وأهل بيتها من ابن الخطاب وابن أبي قحافة بعد أن كان ( صلى الله عليه وآله ) حيّاً في قبره حيث يبلغه سلام من يسلّم عليه في مشرق الدنيا ومغربها ، فهل من شك في انّه ( صلى الله عليه وآله ) لم يستطلع أمرها كما كان وهو حيّ وبين حجرته التي دفن فيها وبين منزل فاطمة شباك؟ والجواب بالنفي إنّما هو عند ابن تيمية الأفّاك ومن تبعه من الشكّاك.
     ولا غرابة في هذا من ابن تيمية المعروف بنصبه وعناده من خلال كتابه منهاج السنّة ، وقد رد فيه جملة مما صحت روايته في فضائل أهل البيت ( عليهم السلام ) ، حتى حديث الثقلين وهذا أخرجه مسلم في صحيحه ، فأقدم ابن تيمية على رده.

    ختام الرسالة :
     لا شك أنّ المصارحة في العقائد مع بيان الحجة البالغة توضح الرؤية لطالب الحق ، وليس في سبل التفاهم خيراً منها مع حسن النيّة في التعايش ، كما هي في أحيان كثيرة تكون سبباً للهداية إلى طلب الحق.
     ويسعدني أن يكون القارئ _ بعد انتهاء قراءته لهذه الرسالة ـ منصفاً لنفسه قبل أن يكون منصفاً لي ، فلا يتعجل بحكمه سواء كان لي أو عليَّ ، ما دمت أنا قد أنصفته فذكرت له من نصوص أحاديث وأخبار وآثار يدين هو لرواتها بالتصديق ، وهي عنده غير قابلة للإنكار ، والنقاش والجدل حولها في صحتها
1 ـ التراتيب الإدارية للكتاني 2 : 78.

(553)
ودلالتها إنّما هو مكابرة ، لأنّ أصحاب المصادر هم أعلام المحدّثين والمؤرخين ومن المعنيين بتسجيل تاريخ المسلمين وشؤون الخلفاء الراشدين ، وهم باتفاقهم ـ إن لم يكن ذلك يعدّ إجماعاً منهم ـ على قبول مؤدّى تلك النصوص ، والإستدلال بها يقطع جهيزة المعاندين ، لوضوح الدلالة وقبول الإسناد ، عند من لا يبتغي العناد ، سواء فئة التقليد أو فئة التجديد ممن يدعون إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي من جديد.
     وأحسب أنّ العرض والتبسيط منّا كان فيه استيفاء كثير من جوانب الاحتجاج لدى الحوار مع الأطراف الأخرى ، وبيان الحق الذي يجب أن يتبع حين نتبيّنه فنتبنّاه لنبيّنه للناس ولا نكتمه ، ولا نؤخذ بغلبة الموروث وقداسته ، ولا نخشى في بيانه لومة لائم ما دمنا نزيل غشاوة التضبيب الإعلامي الذي وراءه مزاعم الحاكمين الظالمين ، فتشوّهت المعلومة من رواة السوء الضالعين في ركابهم.
     وتلك بلية المسلمين في تاريخهم منذ القرون الأولى ، حين أشاعوا مقولة أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) مات ولم يوص إلى أحد ، وترك للناس حق اختيار من يتولاهم ، وهذا من أفدح الظلم وأقبح الكذب ، إذ أنّه ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يهاجر إلى المدينة المنورة ، ومنذ بدء الدعوة قد بيّن وعيّن من هو الذي سيتولى أمر القيادة من بعده ، فقد ورد في شأن نزول قوله تعالى : « وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ » (1) ، فأمر ابن عمه علياً بأن يصنع طعاماً يدعو عليه بني هاشم ، وقد صنع ودعاهم وبلّغهم ما أمره الله بتبليغه فقال : أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووزيري ووصييّ ووارثي وخليفتي من بعدي ، فلم يجبه أحد غير علي ( عليه السلام ) ، فأخذ برقبته ثم قال : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا (2).
1 ـ الشعراء : 214.
2 ـ تاريخ الطبري 2 : 216 ، طبعة الحسينية بمصر ، و 2 : 319 ـ 321 ، طبعة دار المعارف بمصر, ولمزيد من معرفة المصادر راجع كتاب ( علي إمام البررة ) 1 : 72 ـ 92.


(554)
     ولما أراد الهجرة إلى المدينة استخلفه بمكانه في بيته بمكة المكرمة ، وأمره أن ينام في فراشه ويتغطى ببرده ، ولم يأمر غيره بردّ الودائع إلى أهلها ثم اللحاق به مع عائلته ، وهذا كان إعداداً عملياً علمته قريش ، فكادت تقضي على علي ( عليه السلام ) لولا دفع الله تعالى عنه (1).
     وبقي ( صلى الله عليه وآله ) يعلن في المدينة المنورة في شتى المناسبات والمواقف عن أن علياً وزيره وخليفته في اُمته ، ففي حديث عن ابن عمر مرفوعاً قال ( صلى الله عليه وآله ) : ألا أرضيك يا علي؟ أنت أخي ووزيري ، وتقضي ديني ، وتنجز بوعدي ، وتبرئ ذمتي (2).
     وفي حديث آخر عن أنس مرفوعاً بلفظ : إنّ أخي ووزيري وخليفتي في أهل بيتي ، وخير من تركت بعدي ، يقضي ديني ، وينجز موعدي ، علي بن أبي طالب (3).
     وأصرح من ذلك ما أخرجه الحمويني مسنداً عنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : من أحب أن يستمسك بديني ، ويركب سفينة النجاة بعدي ، فليقتد بعليّ بن أبي طالب ، وليعاد عدوّه ، وليوال وليه ، فإنّه وصيي وخليفتي على اُمتي في حياتي وبعد وفاتي ، وهو إمام كل مسلم ، وأمير كل مؤمن بعدي ، قوله قولي ، وأمره أمري ، ونهيه نهيي ، وتابعه تابعي ، وناصره ناصري ، وخاذله خاذلي ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : من فارق علياً بعدي لم يرني ولم أره يوم القيامة ، ومن خالف علياً حرّم الله عليه الجنة ، وجعل مأواه النار ، ومن خذل علياً خذله الله يوم يعرض
1 ـ راجع كتاب ( علي إمام البررة ) 3 : 280 _ 293.
2 ـ نفس المصدر 1 : 105 تجده نقلاً عن مجمع الزوائد 9 : 121 نقلاً عن الطبراني, وأيضاً في كنز العمّال 12 : 209 ومنتخب الكنز بهامش مسند أحمد 5 : 32.
3 ـ نفس المصدر 1 : 106 ، نقلاً عن اصابة ابن حجر 1 ق 1 : 217 ، وتاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي 1 : 115 ـ 116 ، بثلاثة أسانيد.


(555)
عليه ، ومن نصر علياً نصره الله يوم يلقاه ولقنّه حجته يوم المسألة ... إلى آخر الحديث (1).
     إلى غير ذلك من مواقفه التي كان يُعدّ فيها علياً لخلافته إعداداً فريداً قولاً وعملاً ، لم يكن مثله لأيّ أحد سواه من الصحابة ، وحسبنا أن نستقرئ كتب الحديث والتاريخ عما صدر منه في سنة حجة الوداع فقط ، فقد أشركه في بُدنه ، وقام معلناً بفضله واستخلافه ، وأخذ البيعة له في غدير خم ، ولما عاد إلى المدينة اتخذ الحيطة لمنع وقوع الخلاف في الاستخلاف حين ظهرت حسيكة النفاق في نفر من الصحابة ، فعزم على بعث اُسامة إلى مؤتة ، وأمّره على جيش حشر فيه أسماء كثير ممن يخشى منهم الخلاف ، وكان مِن جملة مَنْ سمّاهم بأعيانهم : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة ، والزبير ، وأبو عبيدة بن الجراح وآخرون ، وشدّد النكير على من تخلّف عن جيش اُسامة ، حتى قال : لعن الله من تخلّف عن جيش اُسامة (2) ولما أحسّ منهم التثاقل في الخروج ، أراد أن يكتب لاُمته كتاباً لن يضلوا بعده أبداً ، إلاّ أنّ عمر منع من ذلك ، وهذا ما رواه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وفي مقدمتهم البخاري ومسلم ، وهذا ما يعرف بحديث الرزية ، لأنّ ابن عباس حبر الاُمة كان يرويه ويقول الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ، ويبكي حتى يبلّ دمعه الحصى ـ الحصباء (3) ـ وكان ( صلى الله عليه وآله ) يفعل ذلك بأمر من الله تعالى.
1 ـ فرائد السمطين 1 : 54.
2 ـ رواه الشهرستاني في الملل والنحل نقلاً عن النظام.
3 ـ صحيح البخاري في سبعة مواضع, ورواه مسلم, وأحمد, وابن سعد, والطبري وآخرون, استوفينا ذكرهم في موسوعة عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن.


(556)
     ففي كل تلك المواقف أعلن فيها انّ علياً ولي الأمر بعده ، وكان يشدّد على انّه الوصي والخليفة في اُمته ، كانت وتيرة الخلاف تتصاعد ، وجرت ملابسات ومعاكسات لما أمر به ، حتى أنكرت قريش وصيته ، وأصرّت عناداً على مخالفته في خلافته ، فقالت : مات ولم يوص ، ورووا أحاديث عن عائشة في ذلك ، وردّ عليها ابن عباس واُم سلمة وغيرهما ، كما تقدم في بعض النصوص التي ذكرناها (1).
     ومن الغباء فضلاً عن الجفاء أن يزعم إنسان مسلم انّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذي أعلن دعوته بمكة ، وواصل سعيه في المدينة ، وقاسى في سبيل نجاحها من الأذى ما قاساه ، فأسس حكومته الرشيدة ، وبلّغ شريعة الإسلام تامة غير منقوصة ، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة تصلح اُمته إلاّ بيّنها لهم في سائر شؤون حياتهم ، حتى المرء في مخدعه مع حليلته ، وفي بيت الخلاء لقضاء حاجته ، بما ينبغي وما لا ينبغي من سنن وآداب ، فضلاً عن بيان الواجب والحرام وبقية الأحكام.
     كيف يعقل انّه يترك اُمته هملاً على غير نهج واضح ، وسبيل لائح في أمر من يتولى قيادتها من بعده؛ ليكفل لها النجاة من الهلكة والهداية من الضلالة ما دامت سائرة على سنته ، وآخذه بشريعته؟ وهو القائل : قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك (2).
     ولكنّها السياسة الرعناء مسخت العقول بطخية عمياء ، فهي لا تنظر بعين البصيرة إلى تلك الأدلّة الكثيرة التي حذّرت الاُمة من العواقب الوخيمة لمخالفتها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في أوامره ونواهيه ، وتناست ما روته عنه ( صلى الله عليه وآله ) : لا ترجعوا بعدي كفاراً ... (3).
1 ـ راجع كتاب علي إمام البررة 3 : 347 ـ 361.
2 ـ المستدرك على الصحيحين 1 : 175.
3 ـ شرح النووي على صحيح مسلم باب بيان معنى قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) 3 : 55.


(557)
     وحسبنا أن نتبصر قوله تعالى : « أفَمَنْ يَهْدِي إلَى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلا أنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » (1) وكتاب الله شاهد على هذه الاُمة ، كيف لا وقد جعله النبي ( صلى الله عليه وآله ) أحد خليفتين له فقال : إنّي تارك فيكم خليفتين : كتاب الله عزّ وجلّ حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض وهذا هو حديث الثقلين (2).
     وأحاديث الحوض تكفي في التحذير من مغبة الخلاف في استحداث الأحداث ، التي أصابت المسلمين بانتكاسة بعد موته ( صلى الله عليه وآله ) ، فتنازعتهم الأهواء ، ولست أدعو إلى تحميل التاريخ ما لا يطيق ، ولا إلى تزييف الوقائع ، ولكنّي أدعو ـ والله شهيد على ما أقول ـ أن ننظر إلى ما حلّ بأهل البيت من الفجائع ، فنقول الحق من دون تمجيد الخالفين أو التنديد بالمخالفين ، ثم لنرجع البصر كرتين ، ونراجع الفكر مرتين ، لنرى أيّ الفريقين أهدى سبيلاً ، ولا نكون إلاّ كفقيه المستنصرية الذي اجتمع بالنقيب ابن طاووس الحسني في مشهد الإمامين الكاظم والجواد ( عليهما السلام ) فأبصره الحق فاستبصر ، وليكن حديثه مسك الختام ، فقد ذكره النقيب في كتابه كشف المحجة (3) ، قال رحمه الله تعالى يخاطب ولده :
     واعلم يا ولدي إنّي كنت في حضرة مولانا الكاظم ( عليه السلام ) والجواد ( عليه السلام ) ، فحضر فقيه من المستنصرية كان يتردد عليَّ قبل ذلك اليوم ، فلما رأيت وقت حضوره يحتمل المعارضة له في مذهبه ، قلت له : يا فلان ما تقول لو انّ فرساً لك ضاعت منك وتوصلت إلى ردها إليَّ ، أو فرساً لي ضاعت منّي وتوصلت في ردها إليك ، أما كان ذلك حسناً أو واجباً؟
1 ـ يونس : 35.
2 ـ الدر المنثور 2 : 285.
3 ـ كشف المحجة : 76.


(558)
     فقال : بلى.
     فقلت له : قد ضاع الهوى إمّا منّي وإمّا منك ، والمصلحة أن ننصف من أنفسنا ، وننظر ممن ضاع الهدى فنرده عليه.
     فقال : نعم.
     فقلت له : لا أحتج بما ينقله أصحابي لأنّهم متهمون عندك ، ولا تحتج بما ينقله أصحابك لأنّهم متهمون عندي أو على عقيدتي ، ولكن نحتج بالقرآن ، أو بالمجمع عليه من أصحابي وأصحابك ، أو بما رواه أصحابي لك ، وبما رواه أصحابك لي.
     فقال لي : هذا انصاف. فقلت له : ما تقول فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما؟ فقال : حق بغير شك.
     فقلت : فهل تعرف أنّ مسلماً روى في صحيحه عن زيد بن أرقم انّه قال ما معناه : انّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) خطبنا في ( خم ) فقال : أيّها الناس إنّي بشر يوشك أن أدعى فاُجيب ، وإنّي مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي (1).
     فقال : هذا صحيح.
     فقلت : وتعرف انّ مسلماً روى في صحيحه في مسند عائشة أنّها روت عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) انّه لما نزلت آية : « إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » (2) فجمع علياً وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) ، فقال : هؤلاء أهل بيتي (3).
1 ـ صحيح مسلم 7 : 122 ـ 123, وتفسير ابن كثير 4 : 114 في سورة الشورى ، وراجع كتاب ( علي إمام البررة ) 1 : 292.
2 ـ الأحزاب : 33.
3 ـ صحيح مسلم 7 : 130.


(559)
     فقال : نعم هذا صحيح.
     فقلت له : تعرف انّ البخاري ومسلماً رويا في صحيحيهما انّ الأنصار اجتمعت في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة ، وانّهم ما نفذوا إلى أبي بكر ولا عمر ، ولا إلى أحد من المهاجرين ، حتى جاء أبو بكر وعمر وأبو عبيدة لما بلغهم في اجتماعهم ، فقال لهم أبو بكر : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ـ يعني عمر وأبا عبيدة ـ فقال عمر : ما اتقدم عليك ، فبايعه عمر وبايعه من بايعه من الأنصار ، وانّ علياً ( عليه السلام ) وبني هاشم امتنعوا من المبايعة ستة أشهر (1).
     وأنّ البخاري ومسلماً قال ـ فيما جمعه الحميدي من صحيحيهما _ : وكان لعليّ ( عليه السلام ) وجه بين الناس في حياة فاطمة ( عليها السلام ) فلما ماتت فاطمة ( عليها السلام ) بعد ستة أشهر من وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) انصرفت وجوه الناس عن علي ( عليه السلام ) ، فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه خرج إلى مصالحة أبي بكر (2) !
     فقال : هذا صحيح.
     فقلت له : ما تقول في بيعة تخلف عنها أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذين قال عنهم انّهم الخلف من بعده وكتاب الله جل جلاله ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) فيهم : اُذكركم الله في أهل بيتي ، وقال عنهم انّهم الذين نزلت فيهم آية الطهارة ، وانّهم ما تأخروا مدة يسيرة حتى يقال انّهم تأخروا لبعض الاشتغال ، وإنّما كان التأخر للطعن في خلافة أبي بكر بغير إشكال في مدة ستة أشهر ، ولو كان الإنسان تأخر عن غضب برد غضبه ، أو عن شبهة زالت شبهته بدون هذه المدة ، وانّه ما صالح أبا بكر على مقتضى حديث البخاري ومسلم إلاّ لما ماتت فاطمة ( عليهما السلام ) ورأي انصراف وجوه الناس عنه خرج عند ذلك إلى المصالحة ، وهذه صورة حال تدل على انّه ما بايع
1 ـ راجع ما ذكره البخاري ومسلم في النصوص التي مر ذكرها عنهما.
2 ـ تقدم ذلك عن البخاري وغيره, راجع النصوص التي مرت آنفاً.


(560)
مختاراً ، وانّ البخاري ومسلماً رويا في هذا الحديث ، انّه ما بايع أحد من بني هاشم حتى بايع علي ( عليه السلام ) !
     فقال : ما اقدم على الطعن في شيء قد عمله السلف والصحابة.
     فقلت له : فهذا القرآن يشهد بأنّهم عملوا في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يرجى ويخاف ، والوحي ينزل عليه بأسرارهم في حال الخوف وفي حال الأمن وحال الصحة والإيثار عليه ما لا يقدروا أن يجحدوا الطعن عليهم به ، وإذا جاز منهم في حياته وهو يرجى ويخاف ، فقد صاروا أقرب إلى مخالفته بعد وفاته ، وقد انقطع الرجاء والخوف منه وزال الوحي عنه.
     فقال : في أيّ موضع من القرآن؟
     فقلت : قال الله جل جلاله في مخالفتهم في الخوف : « وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ » (1) فروى أصحاب التواريخ انّه لم يبق معه إلاّ ثمانية أنفس ، علي ، والعباس ، والفضل ، وربيعة ، وأبو سفيان ابنا الحارث بن عبدالمطلب ، واُسامة بن زيد ، وعبيدة بن اُم أيمن ، وروي أيمن بن اُم أيمن (2).
     وقال الله جل جلاله في مخالفتهم له في الأمن : « وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ » (3).
     فذكر جماعة من المؤرخين انّه كان يخطب يوم الجمعة ، فبلغهم أنّ جمالاً جاءت لبعض الصحابة من مزينة ، فسارعوا إلى مشاهدتها وتركوه قائماً ، وما كان
1 ـ التوبة : 25.
2 ـ راجع كتاب علي إمام البررة 3 : 190.
3 ـ الجمعة : 11.
المحسن السبط ::: فهرس