الالهيّات ::: 131 ـ 140
(131)
     الغامِرات ، و تلاطُمَ الماء بالرياح العاصفات » (1).
    و قال ( عليه السَّلام ) : « قد عِلِمَ السرائرَ ، و خَبَرَ الضمائرَ ، له الإِحاطة بكُلّ شَيْء » (2).
    إلى هنا تم الكلام عن إحدى الصفات الثبوتية الذاتية و هي العِلْم. و يقع الكلام فيمايلي في الصفة الثانية و هي القدرة ، بإذنه سبحانه.
     1 ـ نهج البلاغة ، خطبة 198.
    2 ـ نهج البلاغة ، خطبة 86.


(132)

(133)
الصّفات الثبوتية الذاتية
(2)


القدرة
    إتفق الإِلهيون على أَنَّ القدرة من صفاته الذاتيَّة الكمالية كالعِلْم. و لأَجل ذلك يُعَدّ القادر من أسمائه سبحانه (1).
    القدرة لغة ـ كما عرّفها أَصحاب المعاجم ـ الملك والغِنى و اليَسار. قال ابن منظور : يقال قَدِرَ على الشَّيء قُدْرَةً أي مَلَكَهُ فهو قادر و قدير. يقول سبحانه ( عند مَليك مقتدر ) (2) أي قادر ، و القَدْر الغنى و اليَسار.
    و قال الراغب : القدرة إذا وُصِفَ بها الإِنسان فاسم لهَيْئة له ، بها يتمكن من فعل شيء ما. و إذا وصف الله تعالى بها فهو نفي العجز عنه. ا. هـ . و لا يخفى أن تفسير الراغب القُدرة في الله سبحانه بإرجاعها إلى الصفات السلبية (نفي العجز عنه) خطأ واضح ، لأن القدرة كمال و لا يشذّ كمال عن ذاته.
     1 ـ الفرق بين الصفة و الإِسم عبارة عن أنَّ الأول لا يُحْمَل على الموضوع فلا يقال « زَيْدٌ عِلْمٌ » بخلاف الثاني فيحمل عليه و يقال « زَيْدٌ عالِمٌ » و على ذلك جرى الاصطلاح في أسمائه و صفاته سبحانه. فالعِلْمُ و القُدْرةُ و الحياةُ صفات و « العالِم » و « القادِر » و « الحيّ » أَسماؤهُ تعالى.
    2 ـ سورة القمر : الآية 55.


(134)
تعريف القدرة :
    ثم إِنَّ الفلاسفة و المتكلّمين فسروا القدرة بوجوه أبرزها :
    1 ـ القُدرة بمعنى صحة الفعل و التَّرك ، فالقادر هو الذي يصح أَنْ يفعل و يصح أَنْ يترك.
    2 ـ القدرة هي الفعل عند المشيئة ، و الترك عند عدمها. فالقادر من إِنْ شاء فعل و إِنْ شاء لم يفعل ، أَو إِنْ لم يشَأْ لم يفعلْ.
    و قد أَورد على التعريف الأَول بأنَّ معنى صحة الفعل و الترك إِمكانُهما للقادر. و هذا الإِمكان إما إِمكان ماهَويٌ يقع وصفا للماهية و يقال : الإِنسان بما هو إِنسان يمكن أَنْ يفعل و يمكن أَنْ لا يفعل. و إِمَّا امكانٌ استعداديٌ يقع وصفاً للمادة المستعدة لأَن تتصف بكمال مثل قولنا : الحَبَّة لها إمكان أَنْ تكون شجرة. و على كلا التقديرين فلا يصح تبيين قدرته سبحانه بهذه العبارة لأَن الله سبحانه مُنَزَّه عن الماهية بل هو وجودٌ كُلُّه ، فكيف يمكن توصيفه بإِمكان هو من عوارضها. كما أنَّه سبحانه منزَّه عن المادّة و الإِستعداد ، فكيف يصح تبيين قدرته بشيء يقوم بالمادة و الإِستعداد ، هذا.
    و قد أورد على التعريف الثاني بأَنَّ ظاهره كونُ الفاعل موجِداً للفعل بالمشيئة ، و لازمه أَنْ لا يكون الفاعل تامّاً في الفاعلية إِلاّ بضم ضميمة إليه و هي المشيئة و هو مستحيل على الله سبحانه ، لأَنَّه غنيٌّ في الفاعلية عن كل شيء سوى ذاته حتى المشيئة الزائدة عليها.

دفاع عن التعريفين
    إِنَّ الهدف من وصفه تعالى بالقدرة هو إِثبات كمال و جمال له و تنزيهُه عن النقص و العيب. فلو كان لازم بعض التعاريف طروءَ نقص أو توهّم في


(135)
     حقه سبحانه ، وَجَب تجريدها عن تلك اللوازم و تمحيضها في الكمال المطلق. و هذا لا يختص بالقدرة بل كل الصفات الجارية عليه سبحانه تتمتع بذلك الأَمر.
    مثلا : إِنَّ الحياة مبدأ الكمال و الجمال ، و مصدر الشعور و العلم ، فليس الهدف من توصيفه سبحانه بالحياة إلاّ الإِشارة إلى ذاك الكمال. و أَمَّا الذي ندركه من الحياة ، و ننتزعه من الأَحياء الطبيعية ، فإِنه يمتنع توصيفه تعالى به لاستلزامه كونَه سبحانه موجوداً طبيعيّاً مستعداً للفعل و الإِنفعال إلى غير ذلك من خصائص الحياة المادية. و لأجل ذلك يجب أَن نَصِفَه سبحانه بالحياة مجردةً عن النقائص. و هذه ضابطة كلية في جميع الصفات الإِلهية فلا توصف ذاته سبحانه بشيء منها إلاّ بهذا المِلاك ، و هذا ما يسعى إليه الحكيم العارف بالله سبحانه. و عند ذلك يصح تفسير قدرته سبحانه بما ورد في التعريفين ولكن بتجريد كل واحد منهما عما يستلزمه من النقائص ، ككونه سبحانه ذا ماهية أو مادة مستعدة ، كما في التعريف الأَول. أو كونه سبحانه فاعلا بمشيئة زائدة على الذات ، كما في التعريف الثَّاني.
    و على ذلك فالذي يمكن أن يقال هو إنَّ نسبة الفعل إلى فاعله لا تخلو عن أقسام ثلاثة :
الأول : أنْ يكون الفاعل متقيداً بالفعل فلا ينفك فعله عنه ، و ذلك هو الفاعل المضطر كالنار في إحراقها ، و الشمس في اشراقها.
الثاني : أنْ يكون الفاعل متقيِّداً بترك الفعل فيكون الفعل ممتنعاً عليه.
الثالث : أنْ لا يكون الفاعل متقيّداً بواحدة من النِسْبَتَيْن فلا يكون الفعل ممتنعاً حتى يتقيَّد بالترك ، و لا الترك ممتنعاً حتى يتقيد بالفعل. فيعود الأَمر في تفسير القدرة إلى كون الفاعل مطلقاً غيرَ مقيد بشيء من الفعل


(136)
     و الترك (1).
    هذا ما نفهمه من توصيفه سبحانه بالقدرة سواءٌ أفُسِّرت بصحة الفعل و الترك أم فُسِّرت ب ـ « إن شاء فَعَل و إِنْ شاء لم يفعل ». فإِنَّا نأْخذ من التعريفين كمال القدرة و نطرح نقائصها. فيصح أنْ يقال إنَّ القدرة في حقّه سبحانه بمعنى صحة الفعل و الترك ، بمعنى تجرده عن التقيد بالفعل أو الترك. كما يصح أن يقال بالتعريف الثاني ، لا بمعنى كونه فاعلا بالمشيئة الزائدة ، بل ما عرفت من تجرده عن أي إلزام بأحد الطرفين.

دلائل قدرته
    أُستدل على قدرته سبحانه بوجوه نعرض أَوضحها و أَقواها.

الأَول ـ الفطرة
    إِنَّ كل إِنسان يجد في قرارة نفسه انجذاباً إلى قدرة سامية عند طروء الشدائد و يعتقد أَنَّ هناك قدرة عليا هي الملجأ الوحيد للنجاة في تلك الأَحايين. و هذا ما يلمسه من دون تلقين و تعليم. ووجود هذه الفطرة حاك عن وجود تلك القدرة المطلقة ، و إِلاّ يلزم أَنْ يكون وجودها لغواً. وليس المراد من الفطرة هنا هو تَصَوُّرُ القادرِ و توهُّمُه عند طروء الشدائد حتى يقال إِنَّ تصور الشيء لا يدل على وجوده كتصور العنقاء الذي لا يعد دليلا على وجودها ، بل المراد منها الميلُ الباطني ، و الإِنجذاب الذاتي الوجداني ، و إِحساسه ذلك الإِنجذاب كسائر أَحاسيسه.
    فالإِنسان الغارق في الشدائد الآيس من كل سبب مادي يجد في
     1 ـ و بذلك تعرف أَنْ توصيفه سبحانه بالقدرة بمعنى تجرُّدِه عن الإِلزام بأحد الطرفين يلازم ثبوت وصف الإِختيار له سبحانه و سيوافيك الكلام فيه ، بإِذن منه سبحانه.

(137)
     أعماق نفسهـ وُجدانا لا يشك فيهـ أَنَّ هناك موجوداً عالماً بِمَشاكِلِه قادراً على دفعها عنه. ولا ينافي فطريته الغفلةُ عنه بعد ارتفاع الشدائد وزوال المحن ، إِذ ليس كل أَمر فطري متجلٍّ في جميع الظروف. فإِنَّ لظهور الغرائز شرائط و أجواء خاصة حتى غريزتي الشهوة و الغضب.
    و باختصار إِنَّ الفطرة كما تدعو إلى وجوده سبحانه ، تدعو إلى صفاته من العلم و القدرة. يقول سبحانه :
    ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَ ـ اكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَ ـ ادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) (1).

الثاني ـ النظام ـ الكوني
    النظام الكوني بما فيه من دَقيق و جَليل ، و ما فيه من جمال و بَهاء ، ودِقّة وروعة ، و إِتقان و إحكام ، يحكي عن قدرة مُبْدِعِ الأَشياءِ و تمكُّنِه من خَلْق أَدقِّها و أَرْوعِها. و قد خَدَمَتْ العلومُ الطبيعيةُ كثيراً في هذا المجال.
    و أَثْبَتَتْ قدرة الصانع. و كلَّما تكامَلَتْ هذه العلومُ وازداد وقوفُ الإِنسان على سُنَنِ الكَوْنِ و قوانينِه و بدائِعِهِ و روائِعِهِ ، تَجَلَّت هذه الصفة بنحو أحسنَ و أجلى.
    و بذلك يتْضح أَنَّ فِعْلَ الفاعل ، كما يكشف عن وجود الفاعل ، يكشف عن صفته. فالديوانُ الشِّعْري الرائع كما يَدُل على وجود منشيء له ، كذلك يدل على مقدرته الفنية و ذوقه المتفوق و قدرته على التحليق في آفاق
     1 ـ سورة الأنعام : الآيتان : 40 و 41.

(138)
     الخيال و سَبْكِ المعاني السامية في قوالبِ الألفاظ الجميلة. و كتابُ « القانون » لابن سينا في الطب ، و كتابُه الآخر باسم « الشِّفاء » في الفلسفة ، يَدُلاّن على أَنَّ مؤلفهما كان من البارعين في الطب و الفلسفة. و لأَجل ذلك نرى أَنه سبحانه عندما يصف روائع أَفعاله و بدائع صنعه في آيات الذكر الحكيم ، يختمها باسم « القدير » يقول سبحانه : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيء عِلْمَاً ) (1).
    فالإحكامُ و الإِتقان في الفعل آيتا العلم و علامتا القدرة. و إِنَّا نرى في كلمات الإِمام علي ( عليه السَّلام ) أنّه يستند في البرهنة على قدرته تعالى بروعة فعله و جمال صنعه سبحانه.
    قال ( عليه السَّلام ) : « فَطَرَ الخلائِقَ بقُدْرَتِهِ ، و نَشَرَ الرِّياح برحمَتِه ، وَوَتَّدَ بالصُّخورِ مَيَدانَ أرضِه » (2).
    و يقول ( عليه السَّلام ) : « و أَرانا من مَلَكوتِ قُدْرَتِه و عجائِبِ ما نَطَقَتْ به آثارُ حِكْمَتِه » (3).
    و يقول ( عليه السَّلام ) : « فَأقامَ مِنَ الأَشياءِ أَوَدَها ، و نَهَجَ حُدودَها و لاءَم بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضادِّها » (4).
    و يقول ( عليه السَّلام ) : « و أَقامَ مِن شواهِدَ البَّيّناتِ على لَطيف صَنْعَتِه و عَظيم قُدْرَتِه » (5).
     1 ـ سورة الطلاق : الآية 12.
    2 ـ النهج ، الخطبة الأولى.
    3 ـ النهج ، خطبة الأشباح ، الخطبة 91.
    4 ـ المصدر نفسه.
    5 ـ النهج ، الخطبة 165.


(139)
     إلى غير ذلك من خطبه و كلماته.
    و قال الإِمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) في جواب بعض المَلاحِدَة : « كَيْفَ احتَجَبَ عَنْكَ من أَراكَ قُدْرَتَهُ في نفسِكَ » (1).

الثالث ـ معطي الكمال ليس فاقداً له
    و من دلائل قدرته سبحانه أَنَّه خلق الإِنسان كما خلق غيره و أَعطاه قدرةًيقتدر بها على إِيجاد البدائع و الغرائب و الصنائع الهائلة و الأَشياء الظريفة. و من المعلوم أَنَّ الإِنسان بوجوده و قُدرته معلولُ وجودِه سبحانه ، فهل يمكن أَنْ يكون مفيضُ و خالقُ الإِنسان القادر فاقداً لها؟

سعة قدرته تعالى لكل شيء
    إنَّ الفِطْرة البشرية تقضي بأَنَّ الكمال المطلق الذي ينجَذِب إليه الإِنسان في بعض الأَحايين قادر على كل شيء ممكن ، ولا يتبادر إلى الأذهان أَبداً ـ لولا تشكيك المُشَكّكين ـ أَنَّ لقدرته حدوداً أَو أَنّه قادر على شيء دون شيء ، و لقد كان المسلمون في الصدر الأَول على هذه العقيدة إستِلهاماً من كتاب الله العزيز ، النّاص على عمومية قدرة الله سبحانه.
    حتى وصل أَمر الأَبحاث الكلامية إلى شيوخ المعتزلة فجاؤوا بتفاصيل في سعة قدرته سبحانه نشير إليها على وجه الإجمال.
    1 ـ قال النَّظَّام (2) : إِنَّه تعالى لا يقدر على القبيح.
     1 ـ التوحيد للصَّدوق ، ص 91.
    2 ـ هو ابراهيم بن سَيَّار بن هاني النَّظّام المتوفى عام 231 هـ . و كان عهده عهد ازدهار الترجمات الأَجنبية للآراء الوافدة إلى بلاد الإِسلام. و من المظنون أَنَّه تأثر بتلك الآراء و الأَفكار.


(140)
     2 ـ و قال عَبَّاد بن سليمان الصَّيْمُري (1) : لا يقدر على خلاف معلومه.
    3 ـ و قال البلخي (2) : لا يقدر على مِثْل مقدور عبده.
    4 ـ و قال الجُبّائِيّان (3) : لا يقدر على عَيْن مقدور العبد.
    و ربما نُسب إلى الحكماء أَنَّه سبحانه لا يقدر على أَكثر من الواحد ولا يصدر منه إِلاّ شيء واحد و هو العقل. و هناك عقائد للثنوية مبهمة نترك بيانها إلى موضع آخر (4).
    هذه صورة تاريخية عن نشأة هذا الرأي ، أَيْ تقييد قدرة الله. و يبدو أنّ أكثَر هؤلاء تأثّروا بالآراء الدخيلة الوافدة إلى بلاد الإِسلام في عصر نهضة الترجمة. و ستوافيك شبهاتهم و تحليلها بعد استعراض أَدلة القائلين بعموم قدرته.

أَدلة القائلين بعموم القدرة الإِلهية
    إِنَّ المقصود من عموم قدرته سبحانه هو سعتها لكل شيء ممكن. بمعنى أنَّه تعالى قادر على خلق كل ما يكون ممكناً لذاته غير ممتنع كذلك. و قد استدل المحققون عليه بقولهم :
    « إنَّ المقتضي موجود و المانع مفقود. أما الأول فلأن المقتضي لكونه
     1 ـ و قد نقل عنه القول بكون دلالة الألفاظ ذاتية لا وضعية ولم نقف على ترجمته في المعاجم.
    و قد ذكر العلامة الحلي نظريته في قدرته سبحانه في « نهج الامسترشدين ». لا حظ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين ، ص 189.
    2 ـ هو أبوالقاسم الكعبي المتوفي عام 317 هـ .
    3 ـ و هما الشيخ أبو علي محمد بن عبدالوهاب المتوفي عام 303 هـ .و ابنه أبو هاشم عبد السلام بن محمد المتوفي عام 321 هـ . و كانا من رؤساء المعتزلة و أَقطابهم و لهما آراء خاصة يخالفان فيها سائر شيوخها.
    4 ـ يأتي البحث عن عقائد الثنوية في مبحث التوحيد في الخالقيَّة.
الالهيّات ::: الفهرس