الالهيّات ::: 141 ـ 150
(141)
     تعالى قادراً هو ذاته ، و نسبتُها إلى الجميع متساوية لكونها منزهة عن الزمان و المكان و الجهة فليس شيء أَقرب إليه من شيء حتى تتعلق به القدرة دون الآخر.
    و أَما الثاني فلأَن المقتضي لكون الشيء مقدوراً هو إمكانه ، و الإِمكان مشترك بين الكل فتكون صفة المقدورية أَيضاً مشتركة بين الممكنات و هو المطلوب ».
    و يمكن توضيح ذلك الدليل بالبيان التالي :
    إن موانع عموم قدرته يمكن أنْ تكون أحد الأمور التالية :
أولا ـ أنْ لا يكون الشيء ممكناً بالذات ، مثل اجتماع النقيضَيْن أو الضِدَّين.
ثانياً ـ أَنْ يكون هناك مانع من نفوذ قدرته و شمولها للجميع. و هذا كما إذا كان في مقابله قدرةٌ مضاهيةٌ و معارضةٌ لقدرته.
ثالثاً ـ أنْ تكون ذاته غيرَ متساوية بالنسبة إلى الأَشياء.
    والعوامل الثلاثة منتفية بِرُمَّتِها. أما الأَول ، فلأن المقصودَ من عموم قدرته هو شمولُها لكل أَمر ممكن دون الممتنع بالذات ، فلا تتعلق القدرة الإِلهية به أَبداً ، لا لقصور في الفاعل بل لقصور في المورد. و أَما الثاني ، فلأن القُدرة المُضاهِيَة المعارِضَة لقُدْرته مرفوضة بما ثَبَتَ و يثْبُتُ في محله من وَحْدَةِ الواجبِ سبحانه ذاتاً و عدم مثيل له في صفحِة الوجود ، و أما القُدرة المُمْكِنَة فليست مُزاحِمَة لقدرته إذ هي مَخلوقةٌ له.
    و أما الثالث ، فلأَن تَنَزُّهَه عن كلّ قيد و شرط وجهة و مكان يجعله متساوياً بالنسبة إلى كل ممكن بالذات فلا وجه لأن يقع بعضُ الممكنات في إِطار قدرته دون الآخر. فإن التبعيض في قدرته سبحانه رَهْن كونِ بعضِ


(142)
     الأشياءِ قريبةً إليه دون بعضها الآخر ، كالإِنسان الذي يعيش في مكان و زمان خاص. فإِنَّ الأشياء الغابرةِ أو المستقبَلَة خارجةٌ عن حَوْزة قدرته ، لمحدودية ذاته بالقيود الزمانية و المكانية. و أَما المجرد التام الخالق لكل الأَزمنة و الأَمكنة و الجواهر و الأَعراض فلا معنى لأن تكون ذاتُه قريبة إلى واحد و بعيدة عن الآخر.
    هذا توضيح ذلك البرهان.

و هناك برهان آخر
    أروع و أبْهى مما ذُكر يبتنى على عدم تناهي ذاته سبحانه في الجمال و الكمال و حاصله أنَّ وجوده سبحانه غير محدود ولا متناه ، بمعنى أَنَّه وجود مُطْلَق لا يَحُدُّه شيء من الحدود العقلية والخارجية. و ما هو غير متناه في الوجود ، غير متناه في الكمال و الجمال ، لأَن منبع الكمال هو الوجود ، فعدم التّناهي في جانب الوجود يُلازم عدمه في جانب الكمال ، و أيّ كمال أروع و أبهى من القدرة فهي غير متناهية تبعاً لعدم تناهي كماله ، فيثبت سعة قدرته لكل ممكن بالذات.

سعة قدرته سبحانه بمعنى آخر
    إِنَّ لِسَعَةِ قدرته سبحانه معنيين أَحدهما ما تعرفت عليه ، و الثاني ما طرحه الحكماء في كتبهم. و حاصلُه أنَّ الظواهرَ الكونية ، مجرَّدَها و مادّيَّها ، ذاتَها و فعلَها ، تنتهي إلى قدرته سبحانه. فكما أنَّه لا شريك له في ذاته ، لا شريك له في فاعليته. فكلُّ ما يُطلَق عليه كلمةُ الموجود فهو مخلوق لله سبحانه مباشرةً أو على نحو الأسباب و المُسبَّبات ، فالكل يستند إليه لا محالة. و هذا هو التَّوحيد في الخالقية الذي سنشرحه عند البحث في الصّفات السَّلبية.
    و المخالف لهذا المعنى من سعة القدرة هم الثنوية الذين جعلوا فاعل الخير غير فاعل الشر ، و عامةُ المعتزلة الذين صيروا الإِنسان فاعلا مستقلا في


(143)
     أَفعاله. و سنوضح ، بإِذنه تعالى ، في محله بطلان هاتين العقيدتين (1).
    و أَما قول الحكماء بكون الصادر عن الله سبحانه هو العقل الأول و منه صدر العقل الثاني إلى أَنْ تنتهي دائرة الوجود إلى المادة و الهَيُولى ، فالظاهر أَنها فرضية لا تخالف انتهاء الموجودات إلى الله سبحانه عن طريق الأَسباب و المسبّبات ، و التفصيل موكول إلى محله.

النصوص الدينية و سعة قدرته سبحانه
    لقد تضافرت النصوص من الكتاب و السنة على سعة قدرته و إِطلاقها ، نذكرمنها :
    قوله سبحانه : ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرًا ) (2). و قوله سبحانه : ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء مُّقْتَدِرًا ) (3). و قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيء فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الاَْرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ) (4).
    و قال الإِمام الصادق ( عليه السَّلام ) : « الأَشياء له سواءُ ، علماً و قدرةً و سلطاناً و ملكاً » (5).
    و قال الإِمام موسى بن جعفر ( عليه السَّلام ) : « هو القادرُ الذي لا يَعْجَزْ » (6).
     1 ـ سنذكر بطلان عقيدة الثنوية عند البحث في التوحيد في الخالقية ، و بطلان مقالة المعتزلة عند البحث في الجبر و التفويض.
    2 ـ سورة الأحزاب : الآية 27.
    3 ـ سورة الكهف : الآية 45.
    4 ـ سورة فاطر : الآية 44.
    5 ـ توحيد الصدوق ، ص 131.
    6 ـ توحيد الصدوق ، ص 76.


(144)
أَسئلة و أَجوبتها
    إِنَّ القائلين بعموم قدرته سبحانه قوبلوا بعدة أَسئلة نطرحها ثم نحللها ، و هذه هيالأسئلة :
    1 ـ هل يقدر سبحانه على خلقِ مِثْلِهِ؟ فلوأُجيب بالإِيجاب لزم افتراضُ الشريك له سبحانه ، ولو أُجيب بالنفي ثَبَت ضِيقُ قدرته و عدم عمومها.
    2 ـ هل هو قادر على أَنْ يجعل العالم الفسيحَ في البيضة من دون أَن يَصْغُر حجم العالم أَو تَكْبُر البيضة؟ فإِنْ أُجيب بالإِيجاب لزم خلاف الضرورة و هو كون المظروف أَكبر من الظرف و إِنْ أُجيب بالنَّفي لزم عدم عموم قدرته.
    3 ـ هل يمكنه سبحان أنْ يوجد شيئاً لا يقدر على إفنائِه؟ فإنْ أُجيب بالإِيجاب لزم عدمُ سعة قدرته حيث لا يقدر على إِفنائه. و إِنْ أُجيب بالسلب لزم أَيضاً عدم عموم قدرته. ففي هذا السؤال يلزم من الجواب ، إِيجاباً و سلباً ، ضِيقُ قدرته.
    هذه هي الأسئلة ، و أمّا الإِجابة عنها فبوجهين تارة بالإِجمال و أخرى بالتفصيل.
أما الإِجمال : فلأن المدَّعى هو تعلق قدرته بالممكن بالذات و ما ورد في هذه الأسئلة ليست أُموراً ممكنة بالذات بل كلُّها إِمَّا محال بالذات أَو شيء يستلزم ذلك المحال. و لا يُعَدّ عدمُ القدرة عليها نقصاً في الفاعل. فعدم قدرة الخياط على خياطة القميص من الآجُرّ ، و عدم قدرةِ الرسام على رسم صورة الطاووس على الماء لا يعد نقصاً في قدرتهما.
    و هذا مثلما إِذا طلبنا من عالم رياضي ماهر أَنْ يجعل نتيجة (2×2) خمسة. و على هذا الأَساس لا ينحصر السؤال فيما ذُكر ، بل كل ما لا يكون ممكناً بالذات لا يقع في إِطار القدرة لقُصور فيه لا لقصور في القدرة.


(145)
و أما الجواب التفصيلي عن الأسئلة الثلاثة فإليك بيانه :
    أما الأول ، فلأن المِثْلَ مَحال بالذات أنْ يقع في إِطار القدرة و المطالبة بخلقِه ، مطالبة بأَمر محال.
    و ببيان آخر ، إِنَّ القيام بخلق المِثْل يستلزم اجتماع الضدين في شيء واحد ، فبما أنّ المُفْتَرَضَ وجوده مِثْلُه سبحانه ، يجب أنْ يكون واجباً لا ممكناً ، قديماً لا حادثاً ، غير متناه لا متناه. و بما أنَّه تعلقت به القدرة و هي لا تتعلق إلاّ بشيء غير موجود ، يجب أنْ يكون حادثاً لا قديماً ، ممكناً لا واجباً ، متناهياً لا غير متناه. و هذا ما قلناه من أنه يستلزم اجتماع الضدين في شيء واحد.
    و بهذا تتبين الإِجابة عن السؤال الثاني. فإِنَّ عدم تعلق القدرة بجعل الشيء الكبير في الظرف الصغير ، هو من جهة كونه غير ممكن في حد ذاته. إذ البداهة تحكم بأَنَّ الظرف يجب أَن يكون أَكبر من مظروفه ، هذا من جانب و من جانب آخر ، لو جعل الكبير في الظرف الصغير يلزم نقيضُه أَيْ كون الظرف أَصغر من مظروفه. فالقيامُ بهذا الإِيجاد يستلزم كونَ شيء واحد أعني الظرفَ أو المظروفَ في آن واحد صغيراً و كبيراً.
    و أَما السؤال الثالث ، فلأن المفترض محال لاستلزامه المحال بالذات ، ففرض خلقه سبحانه شيئاً لا يقدر الخالق على إفنائه ، لا ينفك عن المحال ، بيانه :
    إِنَّ الشيء المذكور بما أَنَّه أَمر ممكن فهو قابل للفناء ، و بما أَنَّه مُقَيَّد بعدم إِمكان إِفنائه فهو واجب غير ممكن. فتصبح القضية كونَ شيء واحد ممكناً و واجباً ، قابلا للفناء و غير قابل له.
    و بعبارة أُخرى : إِنَّ كونه مخلوقاً يلازم إِمكان إِفنائه ، لأَن المخلوق


(146)
     قائم بالخالق فلو قُطِعت صلتُه به لزم انعدامه ، و كونه غير قابل للإِفناء يستلزم أَنْ لا يكون مخلوقاً ، فالمفروض في السؤال يستلزم تحققهـ على الفرض ـ اجتماع النقيضين. و بهذا تَقْدِرُ على الإِجابة على نظائر هذه الأَسئلة مثل أَنْ يقال : هل الله قادر على خلق جسم لا يقدر على تحريكه؟ فإِنَّ هذا من باب الجمع بين المتناقضين. فإِنَّ فرض كونه مخلوقاً يلازم كونه متناهياً ، قابلا للتحريك. و في الوقت نفسه فرضنا أَنَّه سبحانه غيرُ قادر على تحريكه!!
    إِنَّ هذه الفروض و أَمثالها لا تضرّ بعموم القدرة ، و إِنما يَغْتَرُّبها بُسطاء العقول من الناس ، و أَما أهل الفضل والكمال فأَجلّ من أنْ يخفى عليهم جوابها.

شبهات النافين لعموم القدرة
    قد عرفت بعض التفاصيل في هذه المسألة في صدر البحث. و قد حان وقت البحث عنها و تحليلها بشكل يناسب وضع الكتاب.

أ ـ الله سبحانه لا يقدر على فعل القبيح
    إستدل النَّظَّام على أَنَّه تعالى لا يقدر على القبيح بأنه لو كان قادراً عليه لصدر عنه ، فيكون إِما جاهلا بقُبحه أو محتاجاً إلى فعله و كلا الأمرين محال.
    و الإِجابة عنه واضحة ، إِذ المقصود قدرته على القبيح و أنها بالنسبة إليه و إلى الحسن سواء. فكما هو قادر على إرسال المطيع إلى الجنة قادر على إدخاله النار. و ليس هنا ما يعجزه عن ذلك العمل. لكن لما كان هذا العمل مخالفاً لحكمته سبحانه و عدله و قسطه ، فلا يصدر عنه. لأَن القبيح لا يرتكبه الفاعل إلاّ لجهله بقبحه أوْ لحاجته إليه ، وكلا الأَمرين منتفيان عن ساحته المقدَّسة. فكم فرق بين عدم القدرة على الشيء أَصلا و عدم القيام به لعدم


(147)
     الداعي. فالوالد المشفق قادر على ذبح ولده ، ولكن الدواعي إلى هذا الفعل منتفية ، و لا يصدر هذا الفعل إِلاّ من جاهل شقيّ أو محتاج مُعدَم.
    فالنَّظَّام خلط بين عدم القدرة و عدم الداعي.

ب ـ عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه
    ذهب عبَّاد بن سليمان الصَّيْمُري إلى عدم سعة قدرته قائلا بأَنَّ ما علم الله تعالى و قوعه ، يقع قطعاً ، فهو واجب الوقوع ، و ما علم عدم وقوعه لا يقع قطعاً ، فهو ممتنع الوقوع. و ما هو واجب أو ممتنع لا تتعلق به القدرة ، إذ القدرة تتعلق بشيء يصح وقوعه و لا وقوعه. و الشيء الذي صار ـ حسب تعلق علمهـ أحادي التعلق ، أي ذا حالة واحدة حتمية ، لا يقع في إطار القدرة.
مثلا : إذا علم سبحانه و تعالى ولادة رجل في زمن معيَّن ، يكون وجوده في ذاك الزمن قطعياً و معلوماً ، فلا تتعلق قدرته بعدمه الذي هو خلاف ما علم. لأن المفروض أَنَّ وجوده صار واجباً و عدمه صار ممتنعاً ، لكون علمه كاشفاً عن الواقع كشفاً تاماً.
    و الإِجابة عنه بوجهين : أما أولا ـ فلأن لازم ما ذكره أَنْ لا تتعلق قدرته بأَي شيء أَصلا. لأَنَّ كل شيء إِما أَنْ يكون معلوم التحقق في علمه سبحانه أو معلوم العدم. فالأَول واجبُ التحقق ، و الثاني ممتنعهُ. فيكون كل شيء داخلا في أَحد هذين الإِطارين ، فيلزم أنْ يمتنع توصيفه بالقدرة على أي شيء ، و هو مُسلّم البطلان.
و ثانياً ـ إنَّ عبّاد لم يفرق بين الواجب بالذات و الواجب بالغير ، كما لم يفرق بين الممتنع بالذات و الممتنع بالغير. فالمانع من تعلق القدرة هو الوجود و الإِمتناع الذاتيان ، لا الوجود و الإِمتناع الغيريان اللاحقان بالشيء من جانب وجود علته و من جانب عدم علته.


(148)
     توضيحه : إِنَّ كلّ شيء تتعلق به القدرة يجب أَنْ يكون في حدّ ذاته ممكناً تتساوى إليه نسبة الوجود و العدم. و كونه واجب الوجود عند وجود علته لا يخرجه عن حدّ الإِمكان. كما أَنَّ كونه ممتنع الوجود عند عدم علته لا يخرجه عن ذلك الحد. و على ذلك فمعلومه سبحانه ، و إِنْ كان بين محقَّق الوجود أو محقَّق العدم ـ أي بين ضرورة الوجود بالنسبة إلى وجود علته و ضرورة العدم بالنسبة إلى عدم علّتهـ لكن هذه الضرورة في كلا الطرفين لا تجعل الشيء واجباً بالذات أَو ممتنعاً كذلك. بل الشيء حتى بعد لحوق الضرورة أو الإِمتناع من جانب وجود علّته أو عدمه ، موصوف بالإِمكان غير خارج عن حد الإِستواء.
    ففي المثال المفروض ـ أعني ولادة الإِنسان في وقت معين ـ قد تعلق علمه و إرادته سبحانه على خلقه في ذاك الظرف ، و لا يقع نقيضه. ولكن عدم وقوعه ليس لأجل عدم قدرته سبحانه عليه ، بل في وسعه سبحانه قطع الفيض و عدم خلق المعلوم ، بل لكونه على خلاف ما علم و أراد ، فكم فرق بين عدم القيام بالشيء (عدم الخلقة) لأجل كونه خلاف ما علم صلاحه ، و عدم قدرته عليه.

ج ـ عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد
    ذهب البلخي إلى أَنَّ الله تعالى لا يقدر على مِثْل مَقدور العبد ، لأَنه إمّا طاعة أوْ معصية أوْ عبث ، و فعل الإِنسان لا يخرج عن هذه العناوين الثلاثة ، و كلُّها مستحيلة عليه تعالى و إلاّ لزم اتصاف فعله بالطاعة أَوْ المعصية أوْ العبث. و الأوَّلان يستلزمان أنْ يكون لله تعالى آمر ، و هو محال. و الأخير يدخل تحت القبيح و هو مستحيل عليه سبحانه. و قد مرّت الإِجابة عن عدم قدرته على القبيح فلا نعيد. و أَمَّا الأَولان فنقول :
    إِنَّ الطاعة و المعصية ليستا من الأمور الحقيقية القائمة بالشيء نفسه ،


(149)
     بل هما أَمران يدركهما العقل من مطابقة الفعل للمأمور به و مخالفته له. فعندئذ ليس هنا أي إِشكال في قدرته سبحانه على مِثْل ما قام به العبد بما هو مِثْلٌ ، بأَنْ يكون فعله سبحانه متحد الذات و الهيئة مع فعل العبد و هيئته. و أما عدم اتصاف فعله سبحانه حينئذ بوصف الطاعة و العصيان فلا يضرّ بقدرته تعالى على مثل ما أتى به الإِنسان ، لأن المِلاك في المِثْلِيّة هو واقعية الفعل و حقيقته الخارجية لا العناوين الإِعتبارية أو الإِنتزاعية غير الداخلة في حقيقة الشيء. و إلى ما ذكرنا ينظر قول العلامة الحلّي في شرح التجريد : « إنَّ الطاعة و العبث و صفان لا يقتضيان الإِختلاف الذاتي » (1). نفترض أنَّ إنساناً قام ببناء بيت امتثالا لأمر آمره ، فالله سبحانه قادر على إِجاد مثل ذلك البيت من دون تفاوتِ قدرِ شعرة بينهما و يتَّسم فعل العبد بالطاعة دون فعله سبحانه ، لكن ذلك لا يوجد فرقاً جوهرياً بين الفعلين ، بل الفعلان متحدان ماهية و هيئة.
    و إِنما الإِختلاف في الأَمر الإِعتباري أوْ الإِنتزاعي ، ففعل الإِنسان إذا نُسب إلى أَمر الآمر يتّسم بالطاعة دون فعله سبحانه. و هذا لا يوجب التَّقول بأَنه سبحانه لا يقدر على مثل فعل عبده.
    نعم ، هناك أَفعال صادرة عن الإِنسان بالمباشرة ، قائمة به قيام العَرَض بالموضوع ، كالشرب و الأكل. فعدم صدورهما عن الله سبحانه سبَبُه كونُهما من الأفعال المادية القائمة بالموضوع المادي ، والله سبحانه منزه عن المادة ، فلا يتصف بهذه الأفعال. و مع ذلك كله : فالإِنسان و ما يصدر منه من الأَفعال المباشرة بإقداره سبحانه و حوله و قوته ، بحيث لو انقطع الفيض من ربه لصار الإِنسان مع فعله خبراً بعد أثر.
     1 ـ كشف المراد ، ص 174 ـ طبعة صيدا.

(150)
د ـ عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد
    ذهب الجُبَّائيّان إلى عدم سعة قدرته سبحانه ، كما ذهب من تقدم ، ولكن بتفصيل آخر ، و هو أَنَّه تعالى لا يقدر على عَيْن مقدور العبد ، و إِلاّ لزم اجتماع النقيضين إذا أراده الله و كرهه العبد ، أَوْ بالعكس.
    بيان الملازمة : إنَّ المَقدور من شأنه الوقوع عند داعي القادر عليه ، و البقاء على العدم عند وجود صارفه. فلو كان مقدورٌ واحدٌ واقعاً من قادرين ، و فرضنا وجود داع لأَحدهما ووجود صارف للآخر في وقت واحد ، لزم أنْ يوجد بالنظر إلى الدّاعي و أنْ يبقى على العدم بالنظر إلى الصارف ، فيكون موجوداً غير موجود ، و هما متناقضان.
والجواب : أولا ـ إنَّ الإِمتناع لا يختص بالصورة التي ذكرها الجُبَّائيّان أعني التي تَعَلَّق فيها داعي أَحدهما بالفعل و صارف الآخر بعدمه ، بل يجري الإِمتناع فيما إذا تعلقت إرادة كل منهما بإيجاد نفس المقدور و عينه ، فإِنَّ لازم ذلك اجتماع علَّتين تامَّتين على معلول واحد.
ثانياً ـ إنَّ عدم قدرته سبحانه على عين فعل العبد ، لأَجل أَنَّها إِنَّما تتعلق بالممكن بما هو مُمْكن فإذا صار ممتنعاً و محالا ، فلا تتعلق به القدرة. و عدم تعلُّقِها بالممتنع لا يدل على عدم سعتها. و ما فرضه الجبّائيّان من الصور ، أو ما أَضفناه إليها لا يثبت أَكثر من أَنَّ صدور الفعل في تلك الظروف محال لاستلزامه اجتماع النقيضين ـ في فرض الجبّائيان ـ أو اجتماع العلَّتين التامتين على معلول واحد كما في فَرْضِنا. و ما هو محالٌ خارجٌ عن إِطار القدرة و لا يطلق عليه عدم القدرة.
و ثالثاً ـ ماذا يريدان من قولهما « عين مقدور العبد »؟ هل يريدان منه الشيء قبل وجوده ، أو بعده؟ فإِذا أراد الأَول فلا عينية و لا تَشَخُّص في هذا
الالهيّات ::: الفهرس