الالهيّات ::: 151 ـ 160
(151)
     الظرف و لا يتجاوز الشيء في هذه المرحلة عن كونه مفهوماً كلياً. و إِنْ أرادا الثاني ، فعدم تعلق القدرة عليه إِنما هو لأنه من قبيل تحصيل الحاصل و هو محال. و المحال خارج عن إطار القدرة.
و رابعاً ـ إِن ما ذكراه من « تعلق إِرادة العبد على إِيجاده و تعلق إِرادته سبحانه على نقيضه » ، فكرة ثنوية وجدت في الأَوساط الإِسلامية حيث تُصُوِّر أنَّ فعل العبد مخلوق له و ليس مخلوقاً لله سبحانه بالتسبيب و أنَّ هناك فاعلين مستقلين (الله و عبده) ، و لكل مجالُه الخاص. و عند ذلك لا يرتبط مقدور العبد بالله سبحانه بصلة.
    غير أَنَّ ذلك باطل كما سنبيّنه في التوحيد في الخالقيّة. فكل فاعل مختاراً كان أَوْ غيره ، لا يقوم بالفعل إِلاَّ بإِقداره سبحانه و إِرادته. فلو أراد العبد ، فإِنما يريد بإِرادة الله و قدرته على وجه لا يوجب الإِلجاء و الاضطرار كما سنشرحه بإِذنه سبحانه.


(152)

(153)
الصّفات الثبوتيَّة الذاتيَّة
(3)


الحَياة
    أتَّفق الإِلهيون على أنَّ الحياة من صفاته ، و أنّ « الحي » من أسمائه سبحانه. ولكن إِجراء هذا الإِسم عليه سبحانه يتوقف على فهم معنى الحياة حسب الإِمكان ، و كيفية إجرائها على واجب الوجود.
    نقول : لا شك أنَّ كل إنسان يميز بين الموجود الحي و الموجود غير الحي ، و يُدرك بأَنَّ الحياة ضد الموت ، إِلاّ أَنَّه رغم تلك المعرفة العامة ، لا يستطيع أحد إدراك حقيقة الحياة في الموجودات الحية.
    فالحياة أَشدّ الحالات ظهوراً ولكنها أَعسرها على الفهم ، و أَشدها استعصاءً على التحديد.
    و لأَجل ذلك اختلفت كلمة العلماء في تبيين حقيقتها و ذهبوا مذاهب شتى. ولكنها في نظر علماء الطبيعة تلازم الآثار التالية في الموصوف بها :
    1 ـ الجذب و الدفع.
    2 ـ النُموّ و الرشد.
    3 ـ التوالد و التكاثر.
    4 ـ الحركة وردّة الفعل.


(154)
     و هذا التعريف للحياة إِنما يشير إلى آثار الحياة لا إلى بيان حقيقتها ، و هي آثار مشتركة بين أفراد الحي و مع ذلك كلّه نرى البُعدَ الشاسع بين الحياة النباتيّة و الحياة البشريّة. فالنبات الحي يشتمل على الخصائص الأربَع المذكورة ، ولكن الحياة في الحيوان تزيد عليها بالحس و الشعور و هذا الكمال الزائد المتمثل في الحسّ و الشعور لا يجعل الحيوان مصدقاً مغايراً للحياة ، بل يجعله مصداقاً أكمل لها. كما أَنَّ هناك حياةً أَعلى و أَشرف و هي أَن يمتلك الكائن الحي مضافاً إِلى الخصائص الخمس ، خصيصة الإِدراك العلمي و العقلي و المنطقي (1) ، و على ذلك فالخصائص الأَربَع قَدْر مشترك بين جميع المراتب الطبيعية و إِن كانت لكل مرتبة من المراتب خصيصة تمتاز بها عما دونها.
    وليعلم أَن علماء الطبيعة ذكروا هذا التعريف واكتفوا به لأَنه لم يكن لهم هدف إِلاّ الإِشارة إِلى الحياة الواقعة في مجال بحوثهم. و أما الحياة الموجودة خارج عالم الطبيعة فلم تكن مطروحة لديهم عند اشتغالهم بالبحث عن الطبيعة.

تعريف الحياة بنحو آخر
    لا شك أنَّ الحياة النباتية غير الحياة الحيوانية في الكيفية ، و هكذا سائر المراتب العليا للحياة. ولكن ذلك لا يجعل الكلمة مشتركاً لفظياً ذا معان متعددة. بل هي مشترك معنوي يطلق بمعنى واحد على جميع المراتب لكن بعملية تطوير و تكامل.
    توضيحه : إِن الحياة المادية في النبات و الحيوان و الإِنسان ـ بما أَنَّه حيوان ـ تقوم بأَمرين ، هما :
     1 ـ و هذا الإِدراك العلمي و المنطقي و العقلي تطوير للحسّ الموجود في الحياة الحيوانية.

(155)
     الأوَّل : الفعل و الإِنفعال ، و التأثير و التأثّر. و إلى ذلك تهدف الخصائص الأربع التي ذكرها علماء الطبيعة كما أَوضحنا. و يمكن أنْ نرمز إلى هذه الخصيصة ب ـ « الفعّالية ».
الثاني : الحسّ و الدَرْك بالمعنى البسيط. فلا شك أَنَّه متحقق في أنواع الحياة الطبيعية حتى النبات. فقد كشف علماء الطبيعية عن وجود الحس في عموم النباتات و إنْ كان الإِنسان البدائي عالماً بوجوده في بعضها كالنخل و غيره. و إلى هذا الأمر نرمز ب ـ « الدرّاكيّة ».
    فتصبح النتيجة أنَّ مُقَوِّم الحياة في الحياة الطبيعية بمراتبها هو الفعّالية و الدّرّاكيّة ، بدرجاتهما المتفاوتة و مراتبهما المتكاملة ، و أَنَّه لا يصح أَن تُطْلَق الحياة على النبات و الحيوان إلاّ بالتطوير لوجود البَوْن الشاسع بين الحياتين ، فالذي يصحح الإِطلاق و الاستعمال بمعنى واحد هو عملية التطوير بحذف النواقص و الشوائب الملازمة لما يناسب كلا من النبات و الحيوان.
    و على هذا الأَساس يصح اطلاق الحياة على الحياة الإنسانية ، بما هو إنسان لا بما هو حيوان ، والمصحح للإطلاق هو عملية التطوير التي وقفت عليها ، و إِلاّ فكيف يمكن أَنْ تُقاس الحياة الإِنسانية ، بما هو إنسان لا بما هو حيوان ، و المصحح للإِطلاق هو عملية التطوير التي وقفت عليها ، و إلاَّ فكيف يمكن أَنْ تُقاس الحياة الإِنسانية بما دونها من الحياة ، فأَين الفعل المُتَرَقْب من الحياة العقلية في الإِنسان من فعل الخلايا النباتية و الحيوانية! و أَين دَرْكُ الإِنسان للمسائل الكلية و القوانين الرياضية من حسّ النبات و شعور الحيوان! ومع هذا البون الشاسع بين الحياتين ، تَجِد أَنَّا نصف الكل بالحياة ، و نطلق « الحي » بمعنى واحد عليها. و ليس ذاك المعنى الواحد إِلاَّ كون الموجود « فعّالا » و « درّاكاً » ولكن فعلا و دركاً متناسباً مع كل مرتبة من مراتب الحياة.
    و باختصار ، إن ملاك الحياة الطبيعية هو الفعل و الَّدرْك ، و هو محفوظ في جميع المراتب ، ولكن بتطوير و تكامل. فإذا صحّ إِطلاق الحياة بمعنى واحد على تلك الدرجات المتفاوتة فليصح على الموجودات الحية العُلوية لكن بنحو متكامل. فالله سبحانه حيّ بالمعنى الذي تفيده تلك الكلمة ،


(156)
    لكن حياة مناسبة لمقامه الاسمى ، بحذف الزوائد و النواقص و الأخذ بالنخبة و الزبدة واللب والمعنى ، فهو سبحانه حيٌّ أي « فاعل » و « مُدْرِكٌ ». و إنْ شئت قلت : « فعّال » و « درّاك » ، لا كفعّالية الممكنات و درّاكيّتها.

تمثيل لتصوير التطوير في الإِطلاق
    ما ذكرناه في حقيقة الحياة ، و أنَّ العقل بعد ملاحظة مراتبها ينتزع مفهوماً وسيعاً ينطبق على جميعها ، أمر رائج. مثلا : إنَّ لفظ « المصباح » كان يطلق في البداية على الغصن المشتعل ، غير أنَّه تطور حسب تطور الحضارة و التمدن ، فاصبح يطلق على كل مشتعل بالزيت و النفط و الغاز والكهرباء ، بمفهوم واحد ، و ما ذاك إلاّ لأن الحقيقة المقوّمة لصحة الإِطلاق : كون الشيء ظاهراً بنفسه ، مُظهِراً لغيره و مُنيراً ما حوله. و هذه الحقيقة ـ مع اختلاف مراتبها ـ موجودة في جميع المصاديق ، و في المصباح الكهربائي على نحو أتمّ.
    إِنَّ من الوهم تفسير حياة الباري من خلال ما نلمسه من الحياة الموجودة في النبات و الحيوان و الإِنسان. كما أنَّ من الوهم أَنْ يُتصور أنَّ حياتَه رهنُ فعل و انفعال كيميائي أو فيزيائي ، إذّ كل ذلك ليس دخيلا في حقيقة الحياة و إِنْ كان دخيلا في تحققها في بعض مراتبها ، إِذ لولا هذه الأفعال الكيميائيّة أَو الفيزيائيّة ، لامتنعت الحياة في الموجودات الطبيعية.
    لكن دخالته في مرتبة خاصة لا يعد دليلا على كونه دخيلا في حقيقتها مطلقاً. كما أَنَّ اشتعال المصباح بالفتيلة في كثير من أقسامه لا يعد دليلا لكونها مقومة لحقيقة المصباح و إن كانت كذلك لبعض أَقسامه. و عندئذ نخرج بالنتيجة التالية و هي أَنَّ المقوّم للحياة كون الموجود عالماً و عاملا ، مدركاً و فاعلا ، فعّالا و درّاكاً ، أَوْ ما شئت فعبّر.


(157)
دليل حياته سبحانه
    لا أظن أنَّك تحتاج في توصيفه سبحانه بالحياة إلى برهان بعد الوقوف على أمرين :
الأول ـ قد ثبت بالبرهان أَنَّه سبحانه عالم و قادر. و قد تقدم البحث فيه.
الثاني ـ إِنَّ حقيقة الحياة في الدرجات العلوية ، لا تخرج عن كون المتصف بها درّاكاً و فعّالا ، و عالماً و فاعلا.
    فإذا تقرر هذان الأَمران تكون النتيجة القطعية أَنَّه سبحانه ، بما أَنَّه عالم و قادر ، درّاك و فعّال ، لملازمة العلم للدرْك ، و القدرة للفعل و هما نفس الحياة عند تطويرها بحذف الزوائد. و لأَجل ذلك نرى أَنَّ الحكماء يستدلون على حياته بقولهم : « إنه تعالى حي لامتناع كون من يمكن أنْ يوصف بأنَّه قادر عالم ، غير حي » (1).
    و في الحقيقة حياته سبحانه عبارة عن اتصافه بالقدرة و العلم. و سيوافيك أنَّ جميع صفاته سبحانه و إِنْ كانت مختلفة مفهوماً ، لكنها متحدة واقعية و مصداقاً.
    أَضف إلى ذلك أَنَّه سبحانه خلق موجودات حية ، مُدركة و فاعلة ، فمن المستحيل أنْ يكون معطي الكمال فاقداً له.

حياته سبحانه في الكتاب و السنَّة
    إِنَّ الله تعالى يصف نفسه في الذكر الحكيم بالحياة التي لا موت فيها إذ يقول : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) (2). و قد جاء لفظ « الحي » فيه إسماً له سبحانه خمس مرات. يقول جلّ و علا : ( اللَّهُ لاَ
     1 ـ كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد للعلامة الحلي ، ص 46.
    2 ـ سورة الفرقان : الآية 58.


(158)
    إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ) (1).
    و قال الامام محمد بن على الباقر ( عليهما السَّلام ) : « إِنَّ الله تبارك و تعالى كان ولا شيء غيرُه ، نوراً لا ظلامَ فيه ، و صادقاً لا كذب فيه ، و عالماً لا جَهْل فيه ، و حيَّاً لاَ مَوْتَ فيه ، و كذلك هو اليوم و كذلك لا يزال أبداً » (2).
    و قال الامام موسى بن جعفر ( عليهما السَّلام ـ : « إِنَّ الله لا إله إلاَّ هو : كان حياً بلا كَيْف ... كان عزّوجل إِلهاً حيّاً بلا حياة حادِثة ، بل هو حي لنفسه » (3).
    فحياته سبحانه كسائر صفاته الكمالية ، صفةٌ واجبة لا يَتَطَرّق إليها العدم ، ولا يَعرِض لها النفاد و الانقطاع ، لأنَّ تطرق ذلك يضاد وجوبَها و ضرورتَها ، و يناسب إمكانَها ، و المفروض خلافه.
     1 ـ السورة البقرة : الآية 255.
    2 ـ توحيد الصدوق ، ص 141.
    3 ـ توحيد الصدوق ، ص 141.


(159)
الصّفات الثبوتيَّة الذاتيَّة
(4) و (5)


السَّمع و البَصَر
    إِنَّ من صفاته سبحانه السَّمع و البصر ، و إنَّ من أَسمائه السَّميع البصير ، و قد ورد هذان الوصفان في الشريعة الإِسلامية الحقّة ، و تواتر وصفه سبحانه بكونه سميعاً بصيراً في الكتاب و السنة. ولكنهم اختلفوا في حقيقة ذينك الوصفين على أَقوال أَبرزها :
    1 ـ إِنَّ سمعَهُ و بصرَهُ سبحانه ليسا و صفين يغايران وصف العلم ، بل هما من شُعَب علمه بالمسموعات والمُبْصَرات ، فلأَجل علمه بهما صار يطلق عليه أنَّه سميعٌ بصير.
    2 ـ إِنَّهما وصفان حسّيان ، و إِدراكاننظير الموجود في الإِنسان.
    3 ـ إِنَّ السَّمع و البَصَر يغايران مطلق العلم مفهوماً ، ولكنهما علمان مخصوصان وراء علمه المطلق من دون تكثر في الذات و من دون أن يستلزم ذلك التوصيف تجسماً ، و ما هذا إلاّ حضور الهُوِيّات المسموعة و المُبْصَرة عنده سبحانه. فشهود المسموعات سمع ، و شهود المبصرات بصر ، و هو غير علمه المطلق بالأشياء العامة ، غير المسموعة و المبصَرَة (1).
     1 ـ الاسفار ، ج 6 ، ص 421 ـ 423.

(160)
    إذا تعرَّفتَ على الأقوال نذكر مقدمة و هي :
    إنّ السَّماع في الإِنسان يتحقق بأجهزة و أدوات طبيعية و ذلك بوصول الأَمواج الصّوتية إِلى الصَّماخ ، و منها إلى الدماغ المادىّ ثم تدركه النفس.
    غير أَنَّه يجب التركيز على نكتة و هي : إِنَّ وجود هذه الأدوات المادية هل هو من لوازم تحقق الإِبصار و السَّماع في مرتبة خاصة كالحيوان و الإِنسان ، أَوْ أَنَّه دخيل في حقيقتها بصورة عامة؟ لا شك أَنَّ هذه الآلات و الأدوات التي شرحها العلم بمشراطه إِنَّما هي من خصوصيات الإِنسان المادي الذي لا يمكنه أن يقوم بعملية الإِستماع والإِبصار بدونها. فلو فرض لموجود أَنه يصل إلى ما يصل إِليه الإِنسان من دون هذه الأَدوات فهو أَولى بأَن يكون سميعاً بصيراً ، لأن الغاية المتوخاة من السَّماع و الإِبصار هي حضور الأَمواج و الصُوَر عند النفس المدرِكة ، فلو كانت الامواج و الصور حاضرة عند موجود بلا إعمال عمل فيزيائي أو كيميائي فهو سميع بصير أيضاً لتحقق الغاية بنحو أَتم و أَعلى.
    و قد ثبت عند البحث عن مراتب علمه أَنَّ جميع العوالم الإِمكانية حاضرة لديه سبحانه ، فالأشياء على الاطلاق ، و المسموعات و المبصرات خصوصاً ، أفعالُه سبحانه ، و في الوقت نفسه علمه تعالى ، فالعالم بجواهره و أَعراضه حاضر لدى ذاته و على هذا فعلمه بالمسموع كاف في توصيفه بأَنه سميع كما أنَّ علمه بالمبصر كاف في توصيفه بأنه بصير.
    نعم ليس علمه بالمسموعات أَوْ المُبْصَرات مثل علمه سبحانه بالكليات ، و بذلك تقف على الفرق بين القول الأَول و الثالث.

إجابة عن سؤال
    إِذا كان حضور المسموعات و المبصرات لديه سبحانه مصحّحاً لتوصيفه بالسميع و البصير فليكن هذا بعينه مصححاً لتوصيفه بأَنَّه لا مس ذائق شامّ؟
الالهيّات ::: الفهرس