الالهيّات ::: 161 ـ 170
(161)
     والإِجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الوقوف على أَنَّ أَسماءه سبحانه توقيفية و ذلك أَنَّ المشمومات و المذوقات و الملموسات حاضرة لديه سبحانه كحضور المسموعات و المبصرات. كيف ، والوجود الإِمكاني بعامة مراتبه قائم به سبحانه ، و هو الحي القيوم أي القائم بنفسه و المقوِّم لغيره. و على ذلك لا فرق من حيث المِلاك و المصحّح ، لكن لما كان القول بتوقيفية أسمائه تعالى لسدّ باب الهرج و المرج في تعريفه سبحانه لم يصح إطلاق اللامس و الذَّائق و الشامّ عليه.

« السميع » و « البصير » في الكتاب و السنَّة
    إِنَّه سبحانه وصف نفسه بالسميع و البصير ، فقد جاء الأول 41 مرة والثاني 42 مرة في الكتاب العزيز.
    و من الغايات التي يرشد إليها الذكر الحكيم في مقام التوصيف بهما هو إيقاف الإِنسان على أنَّ ربه سميع يسمع ما يتلفظه من كلام ، بصير يرى كل عمل يصدر منه فيحاسبه يوماً حسب ما سمعه ورآه. يقول سبحانه : ( أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1) و يقوله سبحانه : ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2) و يقول سبحانه : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (3) و يقول سبحانه : ( وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيع بَصِيرٌ ) (4).
    و قال الإِمام علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) : « و البَصيرُ لا بِتَفْريقِ آلة ، و الشاهِدُ لا بِمُماسّة » (5).
     1 ـ سورة البقرة : الآية 224.
    2 ـ سورة البقرة : الآية 244.
    3 ـ سورة الحديد : الآية 4.
    4 ـ سورة المجادلة : الآية : 1.
    5 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 155.


(162)
     و قال ( عليه السَّلام ) : « مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَه ، وَ من سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ » (1).
    و قال الإِمام علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) : « لم يَزَل الله تَعالى عَليماً قادراً حيَّاً قَديماً سَميعاً بَصيراً » (2).
    و قال الإِمام جعفر الصادق ( عليه السَّلام ) : « هو تعالى سميعٌ بصيرٌ ، سَميعٌ بغيرِ جارِحَة ، و بصيرٌ بغير آلة ، بل يَسْمَع بِنَفْسِهِ وَ يُبصِر بنفسِه » (3).
    و قال الإِمام محمد الباقر ( عليه السَّلام ) : « إِنَّه سَميعٌ بَصيرٌ ، يَسْمَعُ بما يُبْصِر ، وَ يُبْصِرُ بما يَسْمَع » (4).
    والحديث الأَخير يشير إِلى اتحاد صفاته سبحانه مع ذاته. و اتحاد بعضها مع البعض الآخر في مقام الذات. فليست حقيقة السَّمع في ذاته سبحانه غيرَ حقيقة البصر ، بل هو يَسْمَعُ بالذي يُبْصِر وَ يُبْصِر بالذي يَسْمَع ، فذاته سمعٌ كلُّها و بصرٌ كلُّها.
     1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 182.
    2 ـ توحيد الصدوق ، 140.
    3 ـ توحيد الصدوق ، 144.
    4 ـ المصدر السابق.


(163)
الصّفات الثبوتية الذاتية
(6)


الإِدراك
     قد عدّ بعض المتكلمين الإِدراك من صفاته ، و المدرِك بصيغة الفاعل من أَسمائه ، تَبَعاً لقوله سبحانه : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1).
    و لا شك أَنَّه سبحانه بحكم الآية الشريفة مُدْرِك ، لكن الكلام في أنَّ الإِدراك هل هو وصف وراء العلم بالكليّات و الجزئيات؟ ، أو هو يعادل العلم و يرادفه؟ ، أو هو عِلْم خاص و هو العِلم بالموجودات الجزئية العَيْنِيّة ، فإِدراكُه سبحانه هو شهود الأَشياء الخارجية ووقوفه عليها وقوفاً تاماً.
    يقول العلامة الطباطبائي : الأَلفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أَنواع الإِدراك كثيرة ربما بلغت العشرين كالعِلْم والظَّن و الحُسبان و الشعور و الذِكر و العِرفان والفَهْم و الفِقْه و الدِراية و اليقين و الفِكر و الرَأي و الزَّعم و الحِفْظ و الحِكْمة و الخِبْرة و الشَّهادة و العَقْل و يلحق بها مثل القَوْل و الفَتوى و البَصيرة.
    و هذه الأَلفاظ لا تخلو معانيها عن ملابسة المادَّة و الحركة و التَّغيّر ، غير
     1 ـ سورة الأنعام : الآية 103.

(164)
     خمسة منها و هي : العِلْم الحفظ و الحكمة و الخبرة و الشهادة. فلأجل عدم استلزامها النقص والفقدان استعملت في حقه سبحانه. قال تعالى : ( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيء عَلِيمُ ) (1). و قال تعالى ( وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيء حَفِيظٌ ) (2).
    و قال تعالى : ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (3) و قال سبحانه : ( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ). (4)
    و قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ ) (5).
    و بذلك يظهر أنّ إدراكه سبحانه ليس شيئاً وراءَ ما جاءَ في هذه الآيات و عبّر عنه بالعليم و الحفيظ و الخبير و الحكيم و الشهيد. و الأقرب هو كونه بمعنى الأَخير (الشهيد) ، فشهوده للموجودات و حضورها لدى ذاته و قيامُها به قيام المعنى الحرفي بالإِسمي ، معنى كونه مدركاً للأَشياء ( لاَّ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (6).
     1 ـ سورة النساء : الآية 176.
    2 ـ سورة سبأ : الآية 21.
    3 ـ سورة البقرة : الآية 234.
    4 ـ سورة يوسف : الآية 83.
    5 ـ سورة فصلت : الآية 53 ، لا حظ فيما ذكرناه الميزان ، ج 2 ، ص 259 ـ 261.
    6 ـ سورة الانعام : الآية 103.


(165)
الصّفات الثبوتية الذاتية
(7)


الإِرادة
    إِنَّ الإِرادة من صفاته سبحانه ، والمُريد من أَسمائه ، و لا يشك في ذلك أَحد من الإِلهيين أَبداً. و إِنَّما اختلفوا في حقيقة إِرادته تعالى. و لأجل ذلك يجب علينا الخوض في مقامين :
الأول : استعراض الآراء المطروحة في تفسير الإِرادة على وجه الإِطلاق.
الثاني : تفسير خصوص الإِرادة الإِلهية.

1 ـ ما هي حقيقة الإِرادة؟
    إِنَّ الإِرادة والكراهة كيفيتان نفسانيّتان كسائر الكيفيات النفسانيّة ، يجدهما الإِنسان بذاتهما بلا توسط شيء مثل اللذَّة و الأَلم و غيرهما من الأمور الوجدانية. غير أنَّ الهدف تحليل ذلك الأَمر الوجداني تحليلا علمياً و صياغته في قالب علمي. و إليك الآراء المطروحة في هذا المجال.
    أ ـ فسَّرت المعتزلة الإِرادة ب ـ « اعتقاد النَّفع » و الكراهة ب ـ « اعتقاد


(166)
     الضرر » ، قائلين بأَنَّ نسبة القدرة إلى طرفي الفعل و الترك متساوية ، فإِذا حصل في النفس الإِعتقاد بالنفع في أَحد الطرفين ، يرجُح بسببه ذلك الطرف و يصير الفاعل مؤثرّاً فيه.
و يلاحظ عليه : أَنّه ناقص جداً ، لأَن مجرد الإِعتقاد بالنفع لا يكون مبدأ للتأثير و الفعل ، إذ كثيراً ما يعتقد الإِنسان بوجود النفع في كثير من الأَفعال و لا يريدها ، و ربما لا يعتقد بوجوده فيها ، بل يعتقد بوجود الضرر و مع ذلك يريدها لموافقتها لبعض القوى الحيوانية.
    ب ـ فسرت جماعة أخرى الإِرادة بأَنها شوق نفساني يحصل في الإِنسان تلو اعتقاده النفع.
و يلاحظ عليه : أَنَّ تفسير الإِرادة بالشوق ناقص جداً إِذ ربما تتحقق الإِرادة و لا يكون ثمَّة شوقٌ كما في تناول الأَدوية المُرَّة لأَجل العلاج. و قد يتحقق الشوق المؤكَّد و لا تكون هناك إِرادة موجدة للفعل كما في المحرَّمات و المشتَهَيَات المحظورة للرجل المتقي.
    و لأَجل ذلك صارت النسبة بين الإِرادة و الشوق عموماً و خصوصاً من وجه.
    ج ـ الإِرادة كيفية نفسانيّة متخللة بين العلم الجازم و الفعل و يعبر عنها بالقصد والعزم تارة ، و بالإِجماع و التصميم أخرى. و ليس ذلك القصد من مقولة الشوق بقسميه المؤكَّد و غير المؤكَّد ، كما أَنَّه ليس من مقولة العلم رغم حضوره لدى النفس كسائر الكيفيّات النفسانيّة.
    و باختصار ، حقيقة الإِرادة « القصد و الميل القاطع نحو الفعل ».
    هذه بعض التفاسير المختلفة حول حقيقة الإِرادة و هناك نظريات أُخرى طوينا عنها الكلام.
    و على كل تقدير ، لا يمكن تفسير الإِرادة الإِلهية بواحدة منها ، أما


(167)
     أوّلُها فقد عرفت أنَّ تفسير الإِرادة باعتقاد النفع ملازم لإِنكار الإِرادة مطلقاً في الموجودات الإِمكانية فضلا عن الله سبحانه و ذلك لأَنَّ مرجعها إلى العلم بالنفع ، مع أنَّا نجد في أَنفسنا شيئاً وراء العلم و الإِعتقاد بالنفع ، والقائل بهذه النظرية يثبت العلم و ينكر الإِرادة. فإِذا بطل تفسير الإِرادة بالإِعتقاد بالنفع في الموجودات الإِمكانية يبطل تفسير إرادته سبحانه به أيضاً. و سيوافيك أنَّ من يفسّر إِرادة الله سبحانه بالعلم بالأَصْلَح ، متأثر من هذا التفسير ، غير أَنَّه بدّل العلم بالنفع ـ الظاهر في النفع الشخصي ـ إلى العلم بالأَصْلَح اللائق بحاله سبحانه ، الهادف إلى مصالح العباد ، فانتظر.
    و أَما التفسير الثاني ، أَعني الشوق أو خصوص الشوق المؤكد ، فلو صح في الإِنسان فلا يصح في الله سبحانه ، لأَن الشوق من مقولة الإِنفعال تعالى عنه سبحانه. فإِنَّ الشوق إلى الشيء شأن الفاعل الناقص الذي يريد الخروج من النقص إلى الكمال ، فيشتاق إلى الشيء شوقاً أكيداً.
    و أما التفسير الثالث ، فسواء أفسرت بالقصد و العزم ، أو الإِجماع و التصميم ، فحقيقتها الحدوث بعد العدم ، والوجود بعد اللاوجود و هي بهذا المعنى يستحيل أن تقع وصفاً لذاته لاستلزامه كون ذاته معرضاً للحوادث (1).
    و لأَجل عدم مناسبة هذه التعاريف لذاته سبحانه ، صار المتألهون على طائفتين : طائفة تحاول جعلها من صفات الذات لكن بمعنى آخر ، و طائفة تجعلها من صفات الفعل فتذهب إلى أنَّ الإِرادة كالخلق و الرزق تنتزع من فعله سبحانه و إعمال قدرته و هذه الطائفة أراحت نفسها من الإِشكالات الواردة على كونها من الصفات الذاتية. و إليك الكلام حول نظريات هاتين الطائفتين.
     1 ـ و سيوافيك في الصفات السلبيَّة أنَّ ذاته تعالى ليست محلا للحوادث.

(168)
2 ـ تفسير خصوص الإِرادة الإِلهية
    لما كانت الإِرادة بالمعاني المتقدمة غير مناسبة لساحته سبحانه ، و من جانب آخر إِنَّ الإِرادة و كون الفاعل فاعلا مريداً ـ في مقابل كونه فاعلا مضّطراً ـ كمال فيه ، و عدمها يعد نقصاً فيه ، حاول الحكماء و المحققون توصيفه سبحانه بها بمعنى يصح حملُه عليه و توصيفُه به. و إِليك تفسير هذه المحاولة بصور مختلفة.

أ ـ إرادته سبحانه علمُه بالنظام الأَصلح
    إنَّ إرادَته سبحانه علمُه بالنظام الأَصلح و الأَكمل و الأَتم. و إِنما فسّروها بها فراراً من توصيفه سبحانه بأمر حدوثي و تدرُّجي ، و ما يستلزم الفعل و الإِنفعال ، كما هو الحال في الإِرادة الإِنسانية.
    قال صَدْر المتأَلهين : « معنى كونه مريداً أَنَّه سبحانه يَعْقِل ذاتَه و يعقِلُ نظامَ الخَيْر الموجود في الكُلَّ من ذاته ، و أَنَّه كيف يكون. و ذلك النظام يكون لا محالة كائناً و مستفيضاً » (1).
    و قال أيضاً : « إِنَّ إرادته سبحانه بعينها هي علمه بالنظام الأَتم ، و هو بعينه هو الداعي لا أمرٌ آخر » (2).
    و قال المحقق الطوسي : « إِنَّ إرادته سبحانه هي العلم بنظام الكلُ على الوجه الأَتم ، و إِذا كانت القدرة والعلم شيئاً واحداً ، مقتضياً لوجود الممكنات على النظام الأَكمل كانت القدرة و العلم و الإِرادة شيئاً واحداً في ذاته مختلفاً بالإِعتبارات العقلية » (3).
     1 ـ الأسفار الأربعة ، ج 6 ، ص 316.
    2 ـ المصدر السابق ، ص 333.
    3 ـ المصدر نفسه ، ص 331.


(169)
مناقشة هذه النظرية
    لا شك أَنَّه سبحانه عالم بذاته و عالم بالنظام الأَكمل و الأَتَمّ و الأَصلح ولكن تفسير الإِرادة به ، يرجع إلى إِنكار حقيقة الإِرادة فيه سبحانه. فإِنكارها في مرتبة الذات مساوق لإِنكار كمال فيه ، إذ لا ريب أَنَّ الفاعل المريد أَكمل من الفاعل غير المريد ، فلو فسّرنا إِرادته سبحانه بعلمه بالنظام ، فقد نفينا ذلك الكمال عنه و عرَّفناه فاعلا يشبه الفاعل المضطر في فعله. و بذلك يظهر النظر فيما أفاده المحقق الطوسي حيث تصورَّ أَنَّ القدرة و العلم شيء واحد بذاته مختلفان بالإِعتبارات العقلية. و لأَجل عدم صحة هذا التفسير نرى أَنَّ ائمة أَهل البيت ( عليهم السَّلام ) ينكرون تفسيرها بالعلم. قال بُكَيْر بن أعْيَن : قلت لأبي عبدالله الصادق ( عليه السَّلام ) : علمه و مشيئته مختلفان أَو متّفقان؟
    فقال ( عليه السَّلام ) : « العلم ليس هو المشيئة ، ألاترى أَنك تقول سأفعل كذا إنْ شاءَ الله ، و لا تقول سأفعل كذا إِنْ عَلِمَ الله » (1).
    و إنْ شئت قلت : إِنَّ الإِرادة صفة مخصِّصة لأحد المقدوريْن أَي الفعل و الترك ، و هي مغايرة للعلم و القدرة. أمّا القدرة ، فخاصيّتُها صحة الإِيجاد و اللاإيجاد ، و ذلك بالنسبة إلى جميع الأَوقات و إلى طرفي الفعل و التَّرك على السواء ، فلا تكون نفسُ الإِرادة التي من شأنها تخصيص أَحد الطرفين و إِخراج القدرة عن كونها متساوية بالنسبة إلى الطرفين.
    و أَما العلم فهو من المبادئ البعيدة للإِرادة ، و الإِرادة من المبادئ القريبة إلى الفعل ، فلا معنى لعدِّهما شيئاً واحداً.
    نعم ، كون علمه بالمصالح و المفاسد مخصصاً لأَحد الطرفين ، و إِنْ كان أَمراً معقولا ، لكن لا يصح تسميتُه إِرادةً و إِن اشترك مع الإِرادة في
     1 ـ الكافي ، ج 1 ، ص 109 ، باب الإِرادة.

(170)
     النتيجة و هي تخصيص الفاعل قدرته بأَحد الطرفين ، إِذ الإِشتراك في النتيجة لا يوجب أنْ يقوم العلم مقام الإِرادة و يكون كافياً عن توصيفه بذلك الكمال أَي الإِرادة.

سؤال و جواب
    ربما يقال : لماذا لا تكون حقيقة الإِرادة نفس علمه سبحانه؟ إذ لو كانت واقعية الأَول غير واقعية الثاني للزمت الكثرة في ذاته سبحانه. و الكثرة آية التركيب ، و التركيب يلازم الإِمكان ، لضرورة احتياج الكُلِّ إلى الأَجزاء ، و هو تعالى منزه عن كل ذلك.
    و الجواب : إِنَّ معنى اتحاد الصفات بعضها مع بعض ، و الكل مع الذات ، أن ذاته سبحانه علم كلها ، قدرة كلها ، حياة كلها و أَن تلك الصفات بواقعياتها ، موجودة فيها على نحو البساطة ، و ليس بعضها حياة و بعضها الآخر علماً ، و بعضها الثالث قدرة ، لاستلزام ذلك التركيب في الذات. و لا يُراد من ذلك إِرجاع واقعية إِحدى الصفات إلى الأُخرى بأَنْ يقال مثلا : علمه قدرته. فإِنَّ مردّ ذلك إلى إِنكار جميع الصفات و إِثبات صفة واحدة.
    و باختصار إِنَّ هناك واقعية واحدة بحتة و بسيطة اجتمع فيها العلم و الحياة و القدرة بواقعياتها من دون أنْ يحدث في الذات تكثر و تركّب. و هذا غير القول بأنَّ واقعية إِرادته هي واقعية علمه ، ليلزم من ذلك نفي واقعية الإِرادة و المشيئة. فإنَّ مرد ذلك إلى نفي الإِرادة. كما أَنَّ القول بأَنَّ واقعية قدرته ترجع إلى علمه مردّه إلى نفي القدرة لا إِثبات الوحدة و لتوضيح المطلب نقول :
    إنَّه يمكن أن تنتزع مفاهيم كثيرة من الشيء البسيط و يكون لكل مفهوم واقعية فيه من دون طروء التكثّر و التركُّب. و ذلك مثل الإِنسان الخارجي بالنسبة إلى الله سبحانه ، فهو كله مقدور لله ، كما أنَّ كلّه معلوم لله. لا أنَّ بعضاً منه مقدور ، و بعضاً منه معلوم. فالكل مقدور ، و في الوقت نفسه
الالهيّات ::: الفهرس