الالهيّات ::: 171 ـ 180
(171)
     معلوم. و مع ذلك ليست واقعية المعلوميّة نفس واقعية المقدوريّة.
    و بهذا تقدر على تجويز أن تكون ذاتُه سبحانه علماً كلُّها ، و قدرةً كلُّها ، و يكون لكل وصف واقعية من دون طروء الكثرة و التركب (1).

ب ـ إرادته سبحانه ابتهاجُهُ بفعِلِه
    إِنَّ إِرادته سبحانه ابتهاجُ ذاته المقدسة بفعلها و رضاها به. و ذلك لأَنه لما كانت ذاته سبحانه صرف الخير و تمامه ، فهو مبتهج بذاته أتَمَّ الإِبتهاج و ينبعث من الإِبتهاج الذاتي ابتهاج في مرحلة الفعل ، فإِنَّ من أَحبَّ شيئاً أَحب آثاره و لوازمه و هذه المحبة الفعلية هي الإِرادة في مرحلة الفعل ، وهي الّتي وردت في الأَخبار الّتي جعلت الإرادة من صفات فعله. فللإِرادة مرحلتان : إِرادة في مقام الذات ، و إِرادة في مقام الفعل : فابتهاجه الذاتي إِرادة ذاتية ، و رضاه بفعله إِرادة في مقام الفعل.
يلاحظ عليه : إِنَّ هذه النظرية كسابقتها لا ترجع إلى محصّل. فإِنَّ حقيقة الإِرادة غير حقيقة الرضا ، و غير حقيقة الإِبتهاج. و تفسير أَحدهما بالآخر إِنكار لهذا الكمال في ذاته سبحانه. و قد مرّ أَنَّ كون الفاعل مريداً ، في مقابل كونه فاعلا مضطراً موجباً ، أَفضل و أَكمل. فلا يمكن نفي هذا الكمال عن ذاته على الإِطلاق ، بل يجب توصيفها بها على التطوير الخاص الذي مرّ مثله في تفسير الحياة ، و سيوافيك بيانه في هذا الباب.

ج ـ إِرادته سبحانه إِعمال القدرة و السلطنة
    إِنَّ جماعة من المتكلمين لما وقفوا على أَنَّه لا يمكن توصيفه سبحانه بالإِرادة و جعلها من صفات ذاته لاستلزامه بعض الإِشكالات التي مرت عليك ، عمدوا إلى جعلها من صفات الفعل كالخالقية و الرازقية. قالوا : « إِنَّا
     1 ـ إِنَّ للشيخ المحقق الأصفهاني في تعليقاته على الكفاية كلاماً في المقام ينفعك جداً ، فراجع نهاية الدراية ج 1 ، ص 116 ـ 117 ، ط طهران.

(172)
     لا نتصور لإِرادته تعالى معنى غير إِعمال القدرة و السلطَنَة ، و لما كانت سلطنته تعالى تامة من جميع الجهات و النواحي ، و لا يتصور النقص فيها أَبداً ، فبطبيعة الحال يتحقق الفعل في الخارج و يوجد صِرْفُ إِعمال القدرة من دون توقفه على أيّة مقدمة أخرى ، كما هو مقتضى قوله سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1).
يلاحظ عليه : إِنَّ إعمال القدرة و السلطنة إِما إِختياريُّ له سبحانه أو اضطراريٌّ ، و لا سبيل إلى الثاني لأَنه يستلزم أنْ يكون تعالى فاعلا مضطراً و لا يصح توصيفه بالقدرة و لا تسميته بالقادر. و على الأَول ، فما هو مِلاك كونه فاعلا مختاراً؟. لا بد أن يكون هناك قبل إعمال السلطنة و تنفيذ القدرة شيءٌ يدور عليه كونه فاعلا مختاراً ، فلا يصح الأَكتفاء بإِعمال القدرة.
    و باختصار ، إِنَّ الإِكتِفاء بإِعمال القدرة من دون إِثبات اختيار له في مقام الذات بنحو من الأَنحاء ، غير مفيد.

د ـ إرادته سبحانه نسبة تمامية السبب إلى الفعل
    جعل العلامة الطباطبائي إرادته تعالى من صفات فعله ، و حاصل نظريته : إنَّ الصفة الوحيدة من بين الصفات النفسانية التي يجدها الإِنسان في صميم ذاته ، القابلة للإِنطباق على عنوان « الإِرادة » ، هي صفة « القصد ».
    و « القصد » الذي هو واسطة بين العلم بالفعل و تحققه ، عبارة عن الميل النفسي للفاعل إلى الإِتيان بالفعل.
    و لا يصح أبداً تفسير الإِرادة بصفة العلم. لأننا ندرك بالوجدان أنّ ارادتنا متوسطة بين علمنا بالفعل و الاتيان به ، لا نفس العلم.
    و على هذا ، فإذا أردنا توصيفه تعالى بالإِرادة ـ بعد تجريدها من النقائص ـ لا يمكننا تطبيقها على علمه تعالى ، لأن ماهية و حقيقة العلم غير ماهية الإِرادة.
     1 ـ سورة يس : الآية 82 المحاضرات ، ج 2 ، ص 38.

(173)
     و تجريد الإِرادة عن النقائص لا يجعلها متحدة مع العلم حقيقة.
    ثم إن الإِرادة ـ بعد تجريدها من النقائص ـ تكون صفة فعلية لله تعالى ، كصفات الخلق و الإِيجاد و الرحمة.
    بيان ذلك : عندما تكتمل جميع مقدمات و أسباب إيجاد الفعل ، تنتزع عند ذاك صفة الإِرادة ، فيكون تعالى « مريداً » ، و الفعل « مراداً » ، من دون أن تكون هناك واقعية ما بإزاء صفة الإِرادة سوى حالة تمامية الأسباب.
    و بعبارة أُخرى : الإِرادة في الله تعالى صفة منتزعة من اجتماع علل و مقتضيات وجود الشيء. إذا عند ذاك ، تارة ينسب اكتمال مقدمات الفعل و تماميتها إلى الفعل ، وأخرى ينسب إلى الله تعالى. فإذا نسب إلى الفعل سميت هذه الحالة (اكتمال المقدمات) : « إرادة الفعل » ، ونفس الفعل : « مراد الله ». وإذا نسب إلى الله تعالى سميت هذه الحالة : « إرادة الله » ، و الله تعالى : « مريداً ».
و يقول العلامة ( قدس سره ) : إن البراهين التي أقامها الحكماء لإِثبات كون الإِرادة إحدى صفات الذات ، لا تثبت أزيد من أن جميع مظاهر الوجود مستندة إلى قدرته تعالى و علمه بالنظام الأَصلح ، و لا تثبت أن إرادته تعالى عين علمه أو قدرته. (1)
يلاحظ عليه : إِنَّه لو كان الملاك لإِطلاق الإِرادة هو تماميّة الفعل من حيث السَّبب ، يلزم صحة إِطلاقها فيما إِذا كان الفاعل المضطر تاماً في سببيَّته ، و هو كماترى.
    أَضف إلى ذلك أنَّ تمامية السبب فيما إِذا كان الفاعل عالماً و شاعراً ، حقيقةٌ ، و الإِرادةُ حقيقةٌ أُخرى. و قد قلنا إِنَّه يجب إِجراء الصفات على الله سبحانه بعد التجريد عن شوائب الإِمكان و المادية ، مع التَّحفُّظ على معناها ، لا سَلْخها عن حقيقتها و واقعيتها.
     1 ـ ما أوردناه هو تقرير واضح لما أفاده ( قدس سره ) في تعاليق الأسفار ج 6 ، ص 315 و 316. و نهاية الحكمة ص 300.

(174)
هـ ـ الحق في الموضوع
    الحق أنَّ الإِرادة من الصفات الذاتية و تجري عليه سبحانه على التطوير الذي ذكرناه في « الحياة » و لأَجل توضيح المطلب نأتي بكلمة مفيدة في جميع صفاته سبحانه و هي :
    يجب على كل إلهي ـ في إجراء صفاته سبحانه عليهـ تجريدها من شوائب النقص و سمات الإِمكان ، و حملها عليه بالمعنى الذي يليق بساحته مع التحفظ على حقيقتها و واقعيتها حتى بعد التجريد.
    مثلا ، إنّا نصفه سبحانه بالعلم ، و نُجريه عليه مُجَرَّداً عن الخصوصيات و الحدود الإِمكانية ولكن مع التحفّظ على واقعيته ، و هو حضور المعلوم لدى العالم. و أما كَونُ علمه كَيْفاً نفسانيِاً أو إضافةً بين العالِم و المعلوم ، فهو مُنَزّه عن هذه الخصوصيات. و مثل ذلك الإِرادة ، فلا شك أنها وصف كمال له سبحانه ، و تجري عليه سبحانه مجرّدة عن سِمات الحدوث و الطُروء و التَدرّج و الانقضاء بعد حصول المراد ، فإنَّ ذلك كلَّه من خصائص الإِرادة الإِمكانية. و إنما يُراد من توصيفه بالإِرادة كونه فاعلا مختاراً في مقابل كونه فاعلا مضطراً. و هذا هو الأصل المُتّبع في إجراء صفاته سبحانه و إليك توضيحه في مورد الإِرادة :
    إِنَّ الفاعل إمّا أنْ يكون مؤثّراً بِطَبْعِه غيرَ عالم بفعله ، و هو الفاعل الطبيعي ، كالنار بالنسبة إلى الإِحراق. و إِمَّا أن يكون عالماً بفعله غير مُريد له فيصدر منه الفعل عن شعور بلا إرادة كرعشة المرتعش. و إما أن يكون عالماً مريداً عن كراهة لمراده وإنما أراده لأجل أنَّه أقل الخطيرن وأضعف الضررين ، كما في الفاعل المكره. وإمّا أن يكون عالماً مريداً لكن لا عن كراهة بل عن رضا بفعله و هو الفاعل المريد الراضي بفعله. و القسمان الأخيران و إن كانا يشتركان في كون الفاعل فيهما مريداً لكن لمّا كان الفاعل في القسم الأول منهما مقهوراً بعامل خارجي ، لا يُعد فعله مظهر


(175)
     للإِختيار التام ، بخلاف الثاني فالفاعل فيه فاعل مختار تام وفعله مَجْلىً للإِختيار.
    و هذا الحصر الحقيقي الذي يدور بين النفي و الإِثبات يجرّنا إلى القول بأنَّ فاعليته سبحانه بأحد الوجوه الأربعة :
    إمَّا أن يكون فاعلا فاقداً للعلم ، أو يكون عالماً فاقداً للإِرادة ، أو يكون عالماً و مريداً ولكن عن كراهة لفعله لأجل إحاطة قدرة قاهرة عليه ، أو يكون عالماً و مريداً راضياً بفعله. و فاعلية الباري سبحانه غير خارجة عن إحدى هذه الوجوه. و الثلاثة الأَول غير لائقة بساحته سبحانه فتعيّن كونه فاعلا مريداً مالكاً لزمام فعله و عمله ، و لا يكون مقهوراً في الإِيجاد و الخلق. هذا من جانب.
    و من جانب آخر إنَّ الإِرادة في المراتب الإِمكانية لا تنفك عن الحدوث و التدرّج و الانقضاء بعد حصول المراد ، و من المعلوم إِنَّ إجراءها بهذه السِمات على الله سبحانه ، محال لاستلزامه طروء الحدوث على ذاته. فيجب علينا في إجرائها عليه سبحانه حذف هذه الشوائب ، فيكون المراد من إرادته حينئذ اختياره و عدم كونه مضطراً في فعله و مجبوراً بقدرة قاهرة.
    فلو صح تسمية هذا الإِختيار بالإِرادة فنعم المراد ، و إلاّ وجب القول بكونها من صفات الفعل.
    و بعبارة أُخرى : إِنَّ الإِرادة صفة كمال لا لأجل كونها حادثة طارئة منقضية بعد حدوث المراد ، و إنما هي صفة كمال لكونها رمز الإِختيار و سِمَةَ عدم المَقْهُوريّة حتى إن الفاعل المريد المُكْرهَ له قِسْط من الإِختيار ، حيث يختار أحد طرفي الفعل على الآخر تلو محاسبات عقلية فيرجح الفعل على الضرر المتوعد به. فإِذا كان الهدف و الغاية من توصيف الفاعل بالإِرادة هو إثبات الإِختيار و عدم المقهوريّة فتوصيفه سبحانه بكونه مختاراً غير مقهور في سلطانه ، غير مجبور في إعمال قدرته ، كاف في جري الإِرادة عليه ، لأن المختار واجد لكمال الإِرادة على النحو الأتم و الأكمل. و قد مرّ أنه يلزم في إجراء الصفات ترك المبادي و الأخذ بجهة الكمال ، فكمال الإِرادة ليس في


(176)
     كونها طارئة زائلة عند حدوث المراد أو كون الفاعل خارجاً بها عن القوة إلى الفعل أو من النقص إلى الكمال. بل كمالها في كون صاحبها مختاراً ، مالكاً لفعله آخذاً بزمام عمله ، فلو كان هذا هو كمال الإِرادة ، فالله سبحانه واجد له على النحو الأكمل إذْ هو الفاعل المختار غير المقهور في سلطانه ، ( وَ الله غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) (1).

الإِرادة في السُنَّة
    يظهر من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) أنَّ مشيئته و إرادته من صفات فعله ، كالرازقيّة و الخالقيّة ، و إليك نُبَذاً من هذه الروايات :
    1 ـ روى عاصِم بن حُمَيْد عن أبي عبدالله ( عليه السَّلام )قال : « قلت : لم يَزَل الله مريداً؟. قال : إِنَّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه. لم يزل الله عالماً قادراً ، ثم أراد » (2).
    يبدو أنَّ الإِرادة التي كانت في ذهن الراوي وسأل عنها الارادة بمعنى العزم على الفعل ، الذي لا ينفك غالباً عن الفعل. فأراد الإِمام هدايته إلى أنَّ الإِرادة بهذا المعنى لا يمكن أن تكون من أوصافه الذاتية ، لأنه يستلزم قدم المراد أو حدوث المريد. و لأجل أن يتلقى الراوي معنى صحيحاً للإِرادة ، يناسب مستوى تفكيره ، فَسّر ( عليه السَّلام ) الإِرادة بالمعنى الذي يجري عليه سبحانه في مقام الفعل و قال : « لم يزل الله عالماً قادراً ثم أراد » أي ثم خلق. ولكن ما جاءت به الرواية لا ينفي أن تكون الإِرادة من أوصافه الذاتية بشكل لا يستلزم قدم المراد ، و هو كونه سبحانه مختاراً بالذات غير مضطر و لا مجبور.
    و بذلك ظهر أنَّ لإِرادته سبحانه مرحلتان كعلمه ، ولكل تفسيره
     1 ـ سورة يوسف : الآية 21.
    2 ـ الكافي ج 1 ، باب الإِرادة ، ص 109 ، الحديث الأول.


(177)
     الخاص.
    2 ـ روى صَفْوان بن يَحيى قال : قلت لأبي الحسن ( عليه السَّلام ) : « أخْبِرْني عن الإِرادة من الله ، و من الخلق ».
    قال : فقال ( عليه السَّلام ) : « الإِرادة من الخلق الضمير ، و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، و أما من الله تعالى فإِرادته ، إحداثه لا غير ذلك ، لأنه لا يُروّي و لا يَهمّ و لا يتفكّر ، و هذه الصفات منفية عنه ، و هي صفات الخلق. فإِرادة الله الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون ، بلا لفظ ، ولا نُطْق بلسان ، و لا هِمَّة ، و لا تَفَكُّر و لا كَيْف لذلك ، كما أنَّه لا كَيْف له » (1).
    و هذه الرواية تتحد مع سابقتها في التفسير و التحليل. فالإِرادة التي كان البحث يدور عليها بين الإِمام والراوي هي الإِرادة بمعنى « الضمير و ما يبدو للمريد بعد الضمير من الفعل ». و من المعلوم أنَّ الإِرادة بهذا المعنى سمة الحدوث ، و آية الإِمكان ، و لا يصح توصيفه سبحانه به. و لأجل ذلك ركّز الإِمام على نفيها بهذا المعنى عن الباري ، فقال : « لأنه لا يروّي ولا يهمّ و لا يتفكّر ».
    ولكن ـ لأجل أن يتلقى الراوي مفهوماً صحيحاً عن الإِرادة يناسب مستوى عقليّته فسّر الإِمام الإِرادة ، بالإِرادة الفعليّة ، فقال : « فإِرادة الله الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون ... ». فمع ملاحظة هذه الجهات لا يصح لنا أن نقول إنَّ الإِمام بصدد نفي كون الإِرادة من صفات الذات ، حتى بالمعنى المناسب لساحة قدسه سبحانه.
    3 ـ روى محمد بن مسلم عن أبي عبدالله ( عليه السَّلام ) قال : « المشيئة مُحْدَثَة » (2).
    والهدف من توصيف مشيئته سبحانه بالحدوث هو إبعاد ذهن الراوي
     1 ـ المصدر السابق ، الحديث 3.
    2 ـ الكافي ، ج 1 ، باب الإِرادة ، الحديث 7.


(178)
     عن تفسيرها بالعزم على الفعل و جعلها و صفاً للذّات ، فإنَّ تفسير الإِرادة بهذا المعنى لا يخلو عن مفاسد ، منها كون المُراد قديماً. فلأجل ذلك فسّر الإِمام الإِرادة بأحد معنييها و هو الإِرادة في مقام الفعل و قال : « المشيئة مُحَدَثَة » ، كناية عن حدوث فعله و عدمِ قدمه.
    و بذلك تقدر على تفسير ما ورد حول الإِرادة من الروايات التي تركز على كونها و صفاً لفعله سبحانه (1).
    
    ثم إِنَّ ها هنا أسئلة حول كون إرادته سبحانه من صفاته الذاتية ، و أنت بعد الإِحاطة بما ذكرنا تقدر على الإِجابة عنها. و إليك بعض تلك الأسئلة :
    1 ـ إِنَّ الميزان في تمييز الصفات الذاتيّة عن الصفات الفعلية ـ كما ذكره الشيخ الكليني في ذيل باب الإِرادة ـ هو أنَّ الأُولى لا تدخل في إطار النفي و الإِثبات بل تكون أحادية التعلق ، فلا يقال إنَّ الله يعلم و لا يعلم ، بخلاف الثانية فإنها تقع تحت دائرة النفي والإِثبات فيقال إِنَّ الله يُعطي و لا يعطي. فعلى ضوء هذا ، يجب أن تكون الإِرادة من صفات الفعل إذ هي مما يتوارد عليها النفي و الإِثبات. يقول سبحانه : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (2).
    والجواب عن هذا السؤال بوجهين :
أحدهما : إِنَّ الإِرادة التي يتوارد عليها النفي و الإِثبات هي الإِرادة في مقام الفعل ، و أما الإِرادة في مقام الذات التي فسّرناها بكمال الإِرادة و هو الإِختيار ، فلا تقع في إطار النفي و الإِثبات.
و ثانيهما : ما أجاب به صدر المتألهين معتقداً بأنَّ لله سبحانه إرادةً بسيطةً مجهولةَ الكُنه و أن الذي يتوارد عليه النفي و الإِثبات ، الإِرادة العددية الجزئية المتحققة في مقام الفعل. و أما أصل الإِرادة البسيطة ، و كونه سبحانه
     1 ـ لا حظ الكافي ، لثقة الإِسلام الكلينى ، ج 1 ، ص 109 ـ 111.
    2 ـ سورة البقرة : الآية 185.


(179)
     فاعلا عن إرادة لا عن اضطرار و إيجاب ، فلا يجوز سلبه عن الله سبحانه. و أنَّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الإِرادة البسيطة في مقام الذات ، الّتي لا تتعدد ولا تتثنى ، وبين الإرادة العددية المتحققة في مقام الفعل التي تتعدد و تتثنى ويرد عليها النفي و الإِثبات.
    قال : « فرق بين الإِرادة التفصيليّة العددية التي يقع تعلّقها بجُزْئِيٍّ من أعداد طبيعة واحدة أو بكل واحد من طَرَفَيْ المقدور كما في القادرين من الحيوانات ، و بين الإِرادة البسيطة الحقّة الإِلهية التي يَكِلّ عن إدراكها عقول أكثر الحكماء فضلا عن غيرهم » (1).
    2 ـ لو كانت الإِرادة نفس ذاته سبحانه لزم قدم العالم ، لأَنَّها متحدة مع الذات ، و الذات موصوفة بها ، و هي لا تنفك عن المراد.
يلاحظ عليه : أولا ـ إنَّ الإِشكال لا يختص بمن جعل الإِرادة بمعناها الحقيقي وصفاً لذاته سبحانه ، بل الإِشكال يتوجه أيضاً على من فسّر إرادته بالعلم بالأصلح لاستناد وجود الأشياء إلى العلم بالنظام الأتمّ الذي هو عَيْن ذاته ، و استحالة انفكاك المعلول عن العلّة أمر بَيِّن من غير فرق بين تَسْمِيَة هذا العلم إرادة أو غيرها ، فلو كان النظام الأصلح معلولا لعلمه ، والمفروض أنَّ علمه قديم ، للزم قدم النظام لقدم علّته.
    و ثانياً ـ إذا قلنا بأنَّ إرادته سبحانه عبارة عن كونه مختاراً غير ملزم بواحد من الطرفين ، لا يلزم عندئذ قِدَم العالم إذا اختار إيجاد العالم متأخراً عن ذاته.
    و ثالثاً ـ إِنَّ لصدر المتألهين و من حذا حذوه من الاعتقاد بالإِرادة الذاتية البسيطة المجهولة الكُنْه ، أنْ يجيب بأنَّ جهْلَنا بحقيقة هذه الإِرادة و كيفيّة إعمالها يصُدّنا عن البحث عن كيفية صدور فعله عنه و أنَّه لماذا خلق حادثاً و لم يخلق قديماً.
     1 ـ الاسفار ، ج 6 ، ص 324.

(180)
     وها هنا نكتة نعلقها على هذا البحث بعد التنبيه على أمر و هو أنَّ الزمان كمٌّ مُتّصل يُنتزع من حَرَكة الشيء و تغيّره من حال إلى حال و من مكان إلى مكان و من صورة نوعية إلى أخرى ، فمقدار الحركة عبارة عن الزمان ، و لولا المادة و حركتها لما كان للزمان مفهومٌ حقيقيٌ بل مفهوم وهمي.
    هذا ما أثبتته الأبحاث العميقة في الزمان و الحركة. و قد كان القدماء يزعمون أنَّ الزمان يتولد من حركة الأفلاك و النيّرين و غير ذلك من الكواكب السيارة ، ولكن الحقيقة أَنَّ كل حركة حليفة الزمان وراسمته و مولدته.
    و بعبارة ادقّ : إِنَّ التبدّلات عنصرية كانت أو أثيرية ، مشتملة على أمرين : الأول ، حالة الانتقال من المبداً إلى المنتهى ، سواء أكان الإِنتقال في الوصف أم في الذات. الثاني ، كَوْن ذلك الانتقال على وجه التدريج و السيلان لا على نحو دَفْعي.
    فباعتبار الأمر الأول تُوصف بالحركة ، و باعتبار الثاني تُوصف بالزمان.
    فكأنَّ شيئاً واحداً باسم التغير و التبدل و الإِنتقال ، يكون مبدءً لانتزاع مفهومين منه ، لكن كل باعتبار خاص ، هذا من جانب.
    و من جانب آخر ، إِنَّ المادة تتحقق على نحو التدريج و التجزئة و لا يصح وقوعها بنحو جمعي ، لأن حقيقتها حقيقة سيّالة متدرجة أشبه بسيلان الماء ، فكل ظاهرة ماديّة تتحقق تلو سبب خاص ، و ما هذا حاله يستحيل عليه التحققق الجمعي أو تقدم جزء منه أو تأخره بل لا مناص عن تحقُّق كل جزء في ظرفه و موطنه ، و بهذا الاعتبار تشبه الأرقام و الأعداد ، فالعدد « خمسة » ليس له موطن إلاّ الوقوع بين « الأربعة و الستة ». و تقدمه على موطنه كتأخره عنه مستحيل. و على ذلك فالأسباب و المسببات المترتبة بنظام خاص يستحيل عليها خروج أي جز من أجزائها عن موطنه و محله.
    إذا عرفت هذا الأمر نرجع إلى بيان النكتة و هي : ماذا يريد القائل من قوله لو كانت الإِرادة صفة ذاتية لله سبحانه يلزم قدم العالم؟. فإن أراد أنَّه يلزم تحقق العالم في زمان قبله وفي فترة ماضية ، فهذا ساقط بحكم المطلب الأول ، لأنَّ المفروض أنَّه لازمان قبل عالم المادة لما عرفت من أنَّ حركة
الالهيّات ::: الفهرس