الالهيّات ::: 191 ـ 200
(191)
     كلامه تعالى وصف له ، و كل ما هو وصف له فهو قديم ، فكلامه تعالى قديم. و أما غيرهم فقد تبعوا قياساً غيره ، و هو : كلامه تعالى مؤلف من أجزاء مترتبة متفاوتة متعاقبة في الوجود ، و كل ما هو كذلك فهو حادث ، فكلامه تعالى حادث.
    و الأشاعرة : ـ لأجل تصحيح كونه قديماً ـ فسَّروه بأنَّه معنى قائم بذاته يسمى الكلام النفسي. و المعتزلة و الإِمامية أخذوا بالقياس الثاني و قالوا إِنَّ معنى كلامه أنَّه موجد للحروف و أصوات في الخارج ، فهو حادث.
    و لبعض الحنابلة هنا قول آخذ بكلا القياسين المتناقضين حيث قالوا إنَّ كلامه حروف و الأصوات قائمة بذاته و في الوقت نفسه هي قديمة ، و هذا من غرائب الأقوال و الأفكار.
الثاني : إِنَّ تفسير كونه سبحانه متكلماً لا ينحصر في الآراء الثلاثة المنقولة عن الأشاعرة و العدلية (المعتزلة و الإِمامية) و الحنابلة ، بل هناك رأي رابع أيدّته البراهين الفلسفية و أوضحته النصوص القرآنية وورد في أحاديث أئمة أهل البيت ، و حاصله : إِنَّ العالم بجواهره و أعراضه ، فعلُه و في الوقت نفسه كلامُه ، و سوف يوافيك توضيح هذه النظرية.
الثالث : إِنَّ الطريق إلى ثبوت هذه الصفة عند الأشاعرة هو العقل و عند العدلية هو السمع ، و سوف يوافيك دليل الأشاعرة عند البحث عن نظريتهم. و أمَّا النقل فقد تضافرت الآيات على توصيفه به ، قال تعالى : ( مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ) (1). و قال تعالى : ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (2). و قال سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّه ) (3). و قال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَر أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ
     1 ـ سورة البقرة : الآية 253.
    2 ـ سورة النساء : الآية 164.
    3 ـ سورة الاعراف : الآية 143.


(192)
    بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (1). و قد بَيَّن تعالى أن تكليمه الإنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية :
    1 ـ « إلاّ وحياً ».
    2 ـ « أو من وراء حجاب ».
    3 ـ « أو يرسل رسولا ».
    فقد أشار بقوله : ( إلاَّ وحياً ) إلى الكلام المُلقى في روْع الإنبياء بسرعة و خفاء.
    كما أشار بقوله : ( أو من وراء حجاب ) إلى الكلام المسموع لموسى ( عليه السَّلام ) في البقعة المباركة. قال تعالى : ( فَلَمَّا أَتَ ـ اهَا نُودِيَ مِن شَاطِىَ الْوَادِ الاَْيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَ ـ ارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَ ـ الَمِينَ ) (2).
    و أشار بقوله : ( أو يرسل رسولا ) إلى الإِلقاء الذي يتوسط فيه ملك الوحي ، قال سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَْمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ ) (3) ففي الحقيقة الموحي في الأقسام الثلاثة هو الله سبحانه تارة بلا واسطَة بالإِلقاء في الرَّوْع ، أو بالتكلم من وراء حجاب بحيث يُسمع الصوت و لا يُرى المتكلم ، و أُخرى بواسطة الرسول. فهذه الأقسام الثلاثة هي الواردة في الآية المباركة.
الرابع : في حقيقة كلامه سبحانه.
    قد عرفت أنه لا خلاف بين المسلمين في توصيفه سبحانه بالتكلم و إنما الخلاف في حقيقته أولا ، و يتفرع عليه حدوثه و قدمه ثانياً ، فيجب البحث في مقامين.
     1 ـ سورة الشورى : الآية 51.
    2 ـ سورة القصص : الآية 30.
    3 ـ سورة الشعراء : الآيتان 193 و 194.


(193)
المقام الأول ـ حقيقة كلامه تعالى
    إليك فيما يلي الآراء المطروحة في حقيقة كلامه تعالى :

أ ـ نظرية المعتزلة :
قالت المعتزلة ، كلامه تعالى أصوات و حروف ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرائيل أو النبي. و قد صرح بذلك القاضي عبدالجبار فقال : « حقيقة الكلام ، الحروف المنظومة ، و الأصوات المقطّعة ، و هذا كما يكون مُنْعِماً بِنعْمَة توجَد في غيره ، ورازقاً بِرزْق يُوجد في غيره ، فهكذا يكون متكلماً بإِيجاد الكلام في غيره و ليس من شرط الفاعل أن يَحِلّ عليه الفعل » (1).
    و الظاهر أنَّ كونه سبحانه متكلماً بهذا المعنى لا خلاف فيه ، إِنَّما الكلام في حصر التكلم بهذا المعنى. قال في شرح المواقف : « هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره بل نحن نقوله و نسميه كلاماً لفظياً و نعترف بحدوثه و عدم قيامه بذاته تعالى ولكن نثبت أمراً وراء ذلك » (2).
    يلاحظ على هذه النظرية أنَّ ما ذكره من تفسير كلامه سبحانه بإِيجاد الحروف و الأصوات في الأَشياء ، إنَّما يصح في الكلام الذي يخاطب به سبحانه شخصاً أو أمة. فطريقه هو ما ذكره المعتزلة ، و إليه ينظر ما ذكرنا من الآيات حول تكليمه سبحانه موسى أو غيره (3). و امَّا إذا لم يكن هناك مخاطب خاص لجهة الخطاب فلا بدّ أن يكون كلامه سبحانه على وجه الإِطلاق هو فعله المُنْبِئ عن جماله ، المظهر لكماله. فاكتفاء المعتزلة بما ذكَروا من التفسير إنَّما يناسب القسم الأول ، و أمَّا القسم الثاني فلا ينطبق عليه. إذ فعله على وجه الإِطلاق ليس من قبيل الأصوات و الألفاظ ، بل عبارة عن الأعيان الخارجية و الجواهر و الأعراض. و قد سَمَّى سبحانه فعلَه
     1 ـ شرح الأصول الخمسة للقاضي عبدالجبار ، المتوفي عام 415 ، ص 528. و شرح المواقف للسيد الشريف ص 495.
    2 ـ شرح المواقف ، ج 1 ، ص 77. و سيوافيك الأمر الآخر الذي يثبته الأشاعرة.
    3 ـ قال سبحانه : ( وَكَلّم الله مُوسَى تَكْلِيمَاً ) سورة النساء : الآية 164. و قال سبحانه : ( وَ مَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلّمَهُ الله إِلاّ وَحْياً .. ) سورة الشورى : الآية 51.


(194)
     كلاماً في غير واحد من الآيات و هذه هي النظرية التي نذكرها فيمايلي :

ب ـ نظرية الحكماء :
لا شك أنَّ الكلام في أنظار عامة الناس هو الحروف و الأصوات الصادرة من المتكلم ، القائمة به.و هو يحصل من تَمَوُّج الهواء و اهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج زال الكلام معه. ولكن الإِنسان الاجتماعي يتوسَّع في إطلاقه فيطلق الكلام على الخطبة المنقولة أو الشعر المروي عن شخص ، و يقول هذا كلام النبي أو إلقاء امرئ القيس ، مع أنَّ كلامهما قد زال بزوال الموجات و الاهتزازات. و ما هذا إلاّ من باب التوسُّع في الإِطلاق و مشاهدة ترتّب الأثر على المروي و المنقول.
    و على هذا فكل فعل من المتكلم أفاد نفس الأثر الذي يفيده كلامه من إبراز ما يكتنفه الفاعل في سريرته من المعاني و الحقائق ، يصح تسميته كلاماً من باب التوسّع و التَّطوير. و قد عرفت أنَّ المصباح وضع حينما وضع على مصداق بسيط لا يعدو الغصن المشتعل. ولكن لما كان أثرهـ و هو الإِنارة ـ موجوداً في الجهاز الزيتي و الغازي و الكهربائي أطلق على الجميع ، و مثل ذلك الحياة على النحو الذي أوضحناه. فإذا صحت تلك التسمية و جاز ذلك التوسع في ذينك اللفظين ، يجوز في لفظ « الكلام » فهو و إنْ وُضع يوم وضع للأصوات والحروف المتتابعة الكاشفة عما يقوم في ضمير المتكلم من المعاني ، ، إلاّ أنَّه لو وجد هناك شيء يفيد ما تفيده الأصوات و الحروف المتتابعة بنحو أعلى و أتم لصحت تسميته كلاماً أو كلمة. و هذا الشيء الذي يمكن أن يقوم مقام الكلام اللفظي هو فعل الفاعل الذي يليق أن يسمى بالكلام الفعلي ، ففعل كل فاعل يكشف عن مدى ما يكتنفه الفاعل من العلم و القدرة و العظمة و الكمال. غير أنَّ دلالة الألفاظ على السرائر و الضمائر اعتبارية و دلالة الأفعال و الآثار على ما عليه الفاعل و المؤثر من العظمة تكوينية.
    و لأجل ذلك نرى أنَّه سبحانه يصف عيسى بن مريم بأنَّه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم العذراء و يقول :


(195)
     ( يا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَ ـ اهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) (1).
    و كيف لا يكون سيدنا المسيح كلمة الله مع أنه يكشف عن قدرةِ الله سبحانه على خلق الإِنسان في الرحم من دون لقاء بين أُنثى و ذكر ، ولأجل ذلك عدّ وجوده آية و معجزة.
    و في ضوء هذا الأصل يَعُدّ سبحانه كل ما في الكون من كلماته و يقول : ( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) (2).
    و يقول سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الاَْرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَ ـ اتُ اللَّهِ ) (3).
    يقول علي ( عليه السَّلام ) : « يَقُول لِما أَرادَ كَوْنَهُ : كُنْ ، فَيَكُونْ. لا بِصَوْت يَقْرَع ، و لا بِنداء يُسْمع ، و إِنَّما كلامُه سبحانَهُ فِعْلٌ منه ، أَنشأه و مثّلهُ ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، و لو كان قديماً لكان إِلهاً ثانياً » (4).
    و قد نقل عنه ( عليه السَّلام ) أنَّه قال مبيّناً عظمة خلقة الإِنسان :
أتزعم أنّكَ جرمٌ صغيرٌ و أنتَ الكتابُ المبينُ الذي و فيكَ انطوى العالُمُ الأكبرُ بأحرُفِهِ يَظْهَرُ المُضْمَرُ
فكل ما في صحيفة الكون من الموجودات الإِمكانية كلماته ، و تخبر عمّا في المبدأ من كمال و جمال و علم و قدرة.
    و هناك كلام للعلامة الطباطبائي ( قدس سرهـ نأتي بخلاصته :
     1 ـ سورة النساء : الآية 171.
    2 ـ سورة الكهف : الآية 109.
    3 ـ سورة لقمان : الآية 27.
    4 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 179 ، ج 2 ، ص 122 ، ط عبده.


(196)
     ما يُسمى عند الناس قولا و كلاماً عبارةٌ عن إبراز الإنسان المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى ، فإذا قرع سمعُ المخاطب أو السامع انتقل المعنى الموجود في ذهن المتكلم إلى ذهنهما فحصل بذلك الغرض من الكلام و هو التفهيم و التَفَهّم. و هناك نكتة نبه عليها الحكماء فقالوا : حقيقة الكلام متقوّمة بما يدل على معنى خفي مُضمر ، و أما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الإِنسان ، و مروره من طريق الحنجرة و اعتماده على مقاطع الفم و كونه بحيث يقبل أنْ يقع مسموعاً ، فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق و ليست دخيلة في حقيقة المعنى الذي يَتَقَوّم به الكلام.
    فالكلام اللفظي الموضوع ، الدال على ما في الضمير ، كلام. و كذا الإِشارة الوافية لإِراءة المعنى ، كلام ، كما أنَّ إشاراتك بيدك إلى القعود و القيام ، أمر وقول. و كذا الوجودات الخارجية فإنها لمَّا كانت حاكية بوجودها عن وجود علّتها ، و بخصوصياتها عن الخصوصيات الكامنة فيها ، صارت الوجودات الخارجية ـ بما أنَّ وجودها مثال لكمال علّتها ـ كلاماً. و عليه فمجموع العالم الإِمكاني كلام الله سبحانه ، يتكلم به بإِيجاده و إنشائه ، فيظهر المكنون من كمال أسمائه و صفاته. و كما أنَّه تعالى خالق العالَم و العالَم مخلوقه ، كذلك هو تعالى متكلم بالعالم ، مظهر به خبايا الأسماء و الصفات ، و العالم كلامه (1).
    قال أمير المؤمنين و سيد الموحدين ( عليه السَّلام ) في نهج البلاغة : « يُخْبِر لا بلسان و لَهَوات ، ويَسْمَعُ لا بخرُوق وادوات ، يقول و لا يَلفِظُ ، و يَحْفَظُ و لا يَتَحَفَّظُ ، و يُريد و لا يُضْمِر ، يُحِبّ و يرضى من غير رِقَّة ، و يُبْغِضُ و يغضب من غير مشقّة ، يقول لمن أراد كونه : كن. فيكون ، لا بصوت يَقْرَع ، و لا بِنداء يُسْمَع ، و إنما كلامه سبحانه فِعْلٌ منه أنشأه وَ مَثَّلَهُ ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، و لو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً » (2).
     1 ـ الميزان ، ج 2 ، ص 325 ، ط بيروت ، بتلخيص.
    2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 179 ، ج 2 ، ص 122 ، ط عبده.


(197)
     و إلى ذلك يشير المحقق السبزواري في منظومته بقوله :
لسالك نهج البلاغة انتَهَج إِنْ تَدْرِ هذا ، حمدَ الأشيا تعرِف كلامه سبحانه الفعل خَرَج إِنْ كلماتُه إِليها تُضف (1)
إلى هنا وقفت على نظرية الحكماء في كلامه سبحانه و قد حان وقت البحث عن نظرية الأشاعرة في هذا المقام.

ج ـ نظرية الأشاعرة :
جعلت الأشاعرة التكلم من الصفات الذاتيّة ، ووصفوا كلامه سبحانه بالكلام النفسي ، و قالوا : إنَّ الكلام النفسي غير العلم و غير الإِرادة و الكراهة. و قد تفننوا في تقريب ما ادّعوه بفنون مختلفة ، و قبل أن نقوم بنقل نصوصهم نرسم مقدمة مفيدة في المقام فنقول : لا شك أَنَّ المتكلم عندما يخبر عن شيء ففيه عدة تصورات و تصديق ، كلها من مقولة العلم ، أما التصور فهو عبارة عن إحضار الموضوع و المحمول و النسبة بينهما في الذهن. و أما التصديق فهو الإِذعان بنفس النسبة على المشهور.
    ولا شك أنَّ التصور و التصديق شعبتا العلم. و العلم ينقسم إليهما. و قد قالوا : العلم إن كان إذعاناً بالنسبة فتصديق و إلاَّ فتصور. هذا في الإِخبار عن الشيء.
    و أما الإِنشاء ، ففي مورد الأمر ، إرادة في الذهن ، و في مورد النهي ، كراهة فيه. وفي الاستفهام والتمني و الترجيّ ما يناسبها.
    فالأشاعرة قائلون بأنَّ في الجمل الإِخبارية ـ وراء العلم ـ و في الإِنشائية ، كالأمر و النهي مثلا ، وراء الإِرادة و الكراهة ، شيء في ذهن المتكلم يسمى بالكلام النفسي و هو الكلام حقيقة ، و أما الكلام اللفظي فهو تعبير عنه ، و هذا الكلام (النفسي) في الإِنسان حادث يتبع حدوث ذاته ، و فيه سبحانه قديم لقدم ذاته ، ولأجل إيضاح الحال نأتي بنصوص أقطاب الأشاعرة في المقام.
     1 ـ شرح منظومة السبزواري ، لناظمها ، ص 190.

(198)
     1 ـ قال الفاضل القوشجي في شرح التجريد : « إنَّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو إستخبار أو غير ذلك يجد في نفسه معاني يعبّر عنها ، نسمّيها بالكلام الحسيّ. و المعنى الذي يجده في نفسه ويدور في خِلْده ، لا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع و الاصطلاحات ، و يقصد المتكلم حصوله في نفس السامع على موجبه ، هو الذي نسمّيه الكلام » (1).
    و لا يخفى أن ما ذكره مجمل لا يعرب عن شيء واضح ، ولكن الفضل بن روزبهان ذكر كلاماً أوضح من كلامه.
    2 ـ قال الفضل في نهج الحق : « إِنَّ الكلام عندهم لفظ مشترك يطلقونه على المؤلف من الحروف المسموعة ، و تارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ و يقولون هو الكلام حقيقة ، و هو قديم قائم بذاته. و لا بد من إِثبات هذا الكلام ، فإنَّ العرف لا يفهمون من الكلام إلاّ المؤلف من الحروف و الأصوات فنقول :
    ليرجع الشخص إلى نفسه أنَّه إذا أراد التكلّم بالكلام فهل يفهم من ذاته أنَّه يزوّر و يرتب معاني فيعزِم على التكلّم بها ، كما أنَّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم فإنه يرتب في نفسه معاني و أشياء و يقول في نفسه سأتكلم بهذا. فالمنصف يجد من نفسه هذا البتَّة. فها هو الكلام النفسي. (2)
    ثم نقول على طريقة الدليل إِنَّ الألفاظ التي نتكلم بها لها مدلولات قائمة بالنفس فنقول هذه المدلولات هي الكلام النفسي.
يلاحظ عليه : إِنَّ ما ذكره صحيح ولكن المهم إِثبات أنَّ هذه المعاني في الإِخبار غير العلم ، و هو غير ثابت بل الثابت خلافه ، و أنَّ المعاني التي تدور في خِلْد المتكلم ليست إلاّ تصور المعاني المفردة ، أو المركبة ، أو
     1 ـ شرح التجريد للقوشجي ، ص 420.
    2 ـ نهج الحق المطبوع في ضمن دلائل الصدق ، ج 1 ، ص 146 ، ط النجف.


(199)
     الإِذعان بالنسبة ، فيرجع الكلام النفسي إلى التصورات و التصديقات ، فأي شيء هنا وراء العلم حتى نسمّيه بالكلام النفسي. كما أنَّه عندما يرتب المتكلم المعاني الإِنشائية ، فلا يرتب إلا إرادته و كراهته أو ما يكون مقدمة لهما ، كتصور الشيء و التصديق بالفائدة. فيرجع الكلام النفسي في الإِنشاء إلى الإِرادة و الكراهة ، فأي شيء هنا غيرهما و غير التصوّر حتى نسميه بالكلام النفسي. و عند ذلك لا يكون التكلم و صفاً وراء العلم في الإِخبار ووراءه مع الإِرادة في الإِنشاء. مع أنَّ الأشاعرة يصرّون على إثبات وصف للمتكلم وراء العلم و الإِرادة ، و لأجل ذلك يقولون : كونه متكلماً بالذات ، غير كونه عالماً و مريداً بالذات. و الأوْلى أن نستعرض ما استدلوا به على أنَّ الكلام النفسي شيء وراء العلم. و هذا بيانه :
الأول : إنَّ الكلام النفسي غير العلم لأن الرجل قد يخبر عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ، فالإِخبار عن الشيء غير العلم به. قال السيد الشريف في شرح المواقف : « والكلام النفسي في الإِخبار معنى قائم بالنفس لا يتغير بتغير العبارات و هو غير العلم إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه ، أو يشكّ فيه » (1).
يلاحظ عليه : إنَّ المراد من رجوع كل ما في الذهن في ظرف الإِخبار إلى العلم ، هو الرجوع إلى العلم الجامع بين التصور و التصديق. فالمخبر الشاك أو العالم بالخلاف يتصور الموضوع و المحمول و النسبة الحُكميّة ثم يخبر. فما في ذهنه من هذه التصورات الثلاثة لا يخرج عن إطار العلم ، و هو التصور. نعم ليس في ذهنه الشق الآخر من العلم و هو التصديق. و منشأ الإِشتباه تفسير العلم بالتصديق فزعموا أنَّه غيرموجود عند الإِخبار في ذهن المُخبر الشاك أو العالِم بالخلاف ، و الغفلةُ عن أنَّ عدم وجود العلم بمعنى التصديق لا يدُلّ على عدم وجود القسم الآخر من العلم و هو التصوّر.
     1 ـ شرح المواقف ، ج 2 ، ص 94.

(200)
     الثاني : ما استدلوا به في مجال الإِنشاء قائلين بأنه يوجد في ظرف الإِنشاء شيء غير الإِرادة و الكراهة ، و هو الكلام النفسي ، لأنه قد يأمر الرجُل بما لا يريده ، كالمُخْتَبِر لعبده هل يطيعُه أولا ، فالمقصود هو الإِختبار دون الإِتيان (1).
يلاحظ عليه : أولا : إِنَّ الأَوامر الإِختبارية على قسمين :
    قسم تتعلق الإِرادة فيه بنفس المقدِّمة و لا تتعلق بنفس الفعل ، كما في أمره سبحانه « الخليل » ( عليه السَّلام ) بذبح اسماعيل. و لأجل ذلك لما أتى « الخليل » بالمقدمات نودي ( أنْ يا إِبراهيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُؤْيَا ... ) (2).
    و قسم تتعلق الإِرادة فيه بالمقدمة و ذيها غاية الأمر أنَّ الداعي إلى الأمر مصلحة مترتبة على نفس القيام بالفعل ، لا على ذات الفعل ، كما إذا أمر الأميرُ أحدَ وزرائه في الملأ العام بإحضار الماء لتفهيم الحاضرين بأنَّه مطيع غير متمرّد. و في هذه الحالة ـ كالحالة السابقة ـ لا يخلو المقام من إرادة ، غاية الأمر أنَّ القسم الأول تتعلق الإِرادة فيه بالمقدمة فقط ، و هنا بالمقدمة مع ذيها. فما صحّ قولُهم إنَّه لا توجد الإِرادةُ في الأوامر الإِختبارية.
و ثانياً : إِنَّ الظاهر من المستدل هو تصور أنَّ إرادة الآمر تتعلق بفعل الغير ، أي المأمور ، فلأجل ذلك يحكم بأنَّه لا إرادة متعلّقة بفعل الغير في الأوامر الإِمتحانية ، و يستنتج أنَّ فيها شيئاً غير الإِرادة ربما يسمى بالطلب عندهم أو بالكلام النفسي. ولكن الحق غير ذلك فإنَّ إرادة الآمر لا تتعلق بفعل الغير لأنَّ فعله خارج عن إطار اختيار الآمر ، و ما هو كذلك لا يقع متعلقاً للإِرادة. فلأجل ذلك ، إِنَّ ما اشتهر من القاعدة من تعلّق إرادة الآمر و الناهي بفعل المأمور به ، كلامُ صوري ، إذْ هي لا تتعلق إلاّ بالفعل الإِختياري و ليس
     1 ـ نفس المصدر.
    2 ـ سورة الصافات : الآيتان 104 ـ 105.
الالهيّات ::: الفهرس