الالهيّات ::: 201 ـ 210
(201)
     فعل الغير من أفعال الآمر الإِختيارية ، فلا محيص من القول بأن إرادة الآمر متعلقة بفعل نفسه و هو الأمر و النهي ، و إن شئت قلت إنشاء البعث إلى الفعل أو الزجر عنه ، و كلاهما واقع في إطار اختيار الآمر و يعدان من أفعاله الإِختيارية.
    نعم ، الغاية من البعث و الزجر هو انبعاث المأمور إلى ما بُعث إليه ، أو انتهاؤه عمّا زُجر عنه لعلم المكلِّف بأنَّ في التخلف مضاعفات دنيوية أو أُخروية.
    و على ذلك يكون تعلق إرادة الآمر في الأوامر الجدّية و الإِختبارية على وزان و هو تعلق إرادته ببعث المأمور و زجره ، لا فعل المأمور و لا انزجاره فإنه غاية للآمر لا مراد له. فالقائل خلط بين متعلَّق الإِرادة ، و ما هو غاية الأمر و النهي.
    و ربما يبدو في الذهن أن يُعترض على ما ذكرنا بأنَّ الآمر إذا كان إنساناً لا تتعلق إرادته بفعل الغير لخروجه عن اختياره و أما الواجب سبحانه فهو آمر قاهر ، إرادته نافذة في كل شيء ، ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) (1).
    ولكنَّ الإِجابة عن هذا الإِعتراض واضحة ، فإنَّ المقصود من الإِرادة هنا هو الإِرادة التشريعية لا الإِرادة التكوينية القاهرة على العباد المُخرجة لهم عن وصف الإِختيار الجاعلة لهم كآلة بلا إرادة ، فهي خارجة عن مورد البحث.
    قال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الاَْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) (2).
    فهذه الآية تعرب عن عدم تعلق مشيئته سبحانه بإيمان من في الأرض ، ولكن من جانب آخر تعلقت مشيئته بإيمان كل مكلف واع. قال سبحانه : ( وَاللَّهُ
     1 ـ سورة مريم : الآية 93.
    2 ـ سورة يونس : الآية 99.


(202)
    يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) (1). فقوله : « الحقّ » عام ، كما أنَّ هدايته السبيل عامة مثله لكل الناس.
    و قال سبحانه : ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) (2) ، إلى غير ذلك من الآيات الناصَّة على عموم هدايته التشريعية (3).
الثالث : إِنَّ العصاة والكفار مكلّفون بما كُلّف به أهل الطاعة و الإيمان بنصّ القرآن الكريم ، و التكليف عليهم لا يكون ناشئاً من إرادة الله سبحانه و إلاّ لزم تفكيك إرادته عن مراده ، و لا بدّ أن يكون هناك منشأ آخر للتكليف و هو الذي نسميه بالكلام النفسي تارة ، و الطلب أُخرى ، فيستنتج من ذلك أنَّه يوجد في الإِنشاء شيء غير الإِرادة.
    و قد أجابت عنه المعتزلة بأن إرادته سبحانه لو تعلقت بفعل نفسه فلا تنفك عن المراد ، و أمَّا إذا تعلَّقتْ بفعل الغير ، فبما أنَّها تعلقت بالفعل الصادر من العبد عن حرية و اختيار فلا محالة يكون الفعل مسبوقاً باختيار العبد ، فإن أراد و اختار العبد يتحقق الفعل ، و إن لم يرد فلا يتحقق.
    و بعبارة أخرى لم تتعلق مشيئته سبحانه على صدوره الفعل من العبد على كل تقدير ، أيْ سواء أراده أمْ لم يرده ، و إنَّما تعلقت على صدور منه بشرط سبق الإِرادة ، فإنْ سبقت يتحقق الفعل و إلاَّ فلا.
و الأوْلى أنْ يقال : إِنَّ إرادته سبحانه لا تتخلف عن مراده مطلقاً من غير فرق بين الإِرادة التكوينية و الإرادة التشريعيَّة. أمَّا الأُولى ، فلأنَّه لو تعلقت إرادته التكوينية على إيجاد الشيء مباشرة أوْ عن طريق الأسباب فيتحقق لا محالة ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن
     1 ـ سورة الاحزاب : الآية 4.
    2 ـ سورة النساء : الآية 26.
    3 ـ سيوافيك البحث مفصلا في عموم هدايته سبحانه في ختام الفصل السَّادس من الكتاب.


(203)
    فَيَكُونُ ) (1).
    و أمَّا الثَانية ، فلأن متعلّقها هو نفس الإنشاء و البعث ، أو نفس الزجر و التنفير ، و هو متحقق بلا شك في جميع أوامره و نواهيه ، سواء امتثل العبد أمْ خالف.
    و أمَّا فعل العبد و انتهاؤه فليسا متعلقين للإِرادة التشريعية في أوامره و نواهيه ، فتخلُّفُهما لا يُعَدّ نقضاً للقاعدة ، لأنَّ فعل الغير لا يكون متعلقاً لإِرادة أحد ، لعدم كون فعل الغير في اختيار المريد (2) ; و لأجل ذلك قلنا في محله إِنَّ الإِرادة التشريعية إنما تتعلق بفعل النفس ، أيْ إنشاء البعث و الزجر ، لا فعل الغير.
    فخرجنا بهذه النتيجة و هي أنَّ الإِرادة التشريعيَّة موجودة في مورد العُصاة و الكُفّار ، و المتعلَّق متحقق ، و إِنْ لم يمتثل العبد.
الرابع ـ ما ذكره الفَضْل بن رُوزبَهان من أنَّ كلّ عاقل يعلم أنَّ المتكلم من قامت به صفة التكلّم ، ولو كان معنى كونه سبحانه متكلماً هو خَلْقُه الكلام ، فلا يكون ذلك الوصف قائماً به ، فلا يقال لخالق الكلام متكلم ، كما لا يقال لخالق الذَوْق أنَّه ذائق (3).
يلاحظ عليه : إِنَّ قيام المبدأ بالفاعل ليس قسماً واحداً و هو القسم الحلولي ، بل له أقسام ، فإنَّ القيام منه ما هو صدوري ، كالقتل و الضرب في القاتل و الضَّارب ، و منه حُلولي كالعلم و القدرة في العالِم والقادر.
    و التَّكَلُّم كالضرب ليس من المبادئ الحُلولية في الفاعل بل من المبادئ الصدوريّة ، فلأجل أنَّه سبحانه موجِد الكلام يطلق عليه أنَّه متكلم وزان إطلاق القاتل عليه سبحانه. بل ربما يصح الإِطلاق و إنْ لم يكن المبدأ قائماً
     1 ـ سورة يس : الآية 82.
    2 ـ حتى لو كان المريد هو الله تعالى ـ و إن أمكن ـ و إِلا كان على وجه الإِلجاء و الجبر المنفيين عنه سبحانه كما سيأتي في الفصل السادس.
    3 ـ دلائل الصّدق ، ج 1 ، ص 147 ، ط النَّجف الأشرف.

(204)
     بالفاعل أبداً لا صدورياً و لا حُلوليّاً بل يكفي نوع ملابسة بالمبدأ ، كالتَّمار و اللبّان لبائع التمر و اللبن. و أما عدم إطلاق الذائق على خالق الذوق فلأجل أنَّ صِدْق المشتقات بإحدى أنواع القيام ليست قياسية حتى يطلق عليه سبحانه الذائق و الشامّ بسبب إيجاده الذوق و الشم. و ربما احترز الإِلهيون عن توصيفه بهما لأجل الإِبتعاد عمّا يوهم التجسيم و لوازمه.
الخامس ـ إِنَّ لفظ الكلام كما يطلق على الكلام اللفظي ، يطلق على الموجود في النفس. قال سبحانه : ( وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) (1).
يلاحظ عليه : إِنَّ إطلاق « القول » على الموجود في الضمير من باب العناية و المشاكلة. فإنَّ « القول » من التقوّل باللسان فلا يطلق على الموجود في الذهن الذي لا واقعية له إلاَّ الصورة العلميَّة إلاّ من باب العناية.

حصيلة البحث
    إِنَّ الأشاعرة زعموا أنَّ في ذهن المتكلم في الجملة الخبرية و الإِنشائية وراء التصورات و التصديقات في الأولى ، ووراء الإِرادة في الثانية شيئاً يسمونه « الكلام النفسي » ، و ربما خصوا لفظ « الطلب » بالكلام النفسي في القسم الإِنشائي. و بذلك صححوا كونه سبحانه متكلماً ، ككونه عالماً و قادراً و أنَّ الكُلّ من الصفات الذاتية.
    و لكنَّ البحث و التحليل ـ كما مرّ عليك ـ أوقَفَنا على خلاف ما ذهبوا إليه ، لِما عرفت من أنه ليس وراء العلم في الجُمَل الخبرية ، و لا وراء الإِرادة و الكراهة في الجمل الإِنشائية شيء نسميه كلاماً نفسيّاً ، كما عرفت أنَّ الطلب أيضاً هو نفس الإِرادة. و لو أرادوا بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي تنطبق على لفظه ، يرجع لبه إلى العلم و لا
     1 ـ سورة الملك : الآية 13.

(205)
     يزيد عليه ، و إِنْ أرادوا به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إِذا راجعناه.
    و أما التجاء الأشعري فيما ذهب إليه إلى انشاد قول الشاعر :
    إنَّ الكلام لفي الفؤاد و إنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا.
    فالأبحاث العقلية أرفع مكانة من أَنّْ يستدل عليها بأشعار الشعراء (1).
    و بذلك تقف على أنَّ ما يقوله المحقق الطوسي من أَنَّ « الكلام النفسي غيرُ معقول » ، أمر متين لا غبار عليه.
    إلى هنا تم بيان النظريات الثَّلاث : المعتزلة و الحكماء و الأشاعرة (2).
    و به تم الكلام في المقام الأول ، و حان أَوان البحث في المقام الثاني و هو حدوث كلامه تعالى أو قدمه.

المقام الثاني ـ في حدوثه و قدمه
    لما ظهرت الفلسفة و أثيرت مسائل صفات الله تعالى بين المتكلمين ، كانت أهمّ مسألة طُرحت على بساط البحث مسألة كلام الله تعالى و خَلْق القرآن. و قد تبنى المعتزلة القول بخَلْق القرآن و انبَرُوا يدافعون عنه بشتى الوسائل. و لما كانت الخلافة العباسية في عصر المأمون و من بعده إلى زمن الواثق بالله ، تؤيد حركة الاعتزال و آراءها ، استفاد المعتزلة من هذا الغطاء ، و قاموا باختبار علماء الأَمصار الإِسلامية في هذه المسألة. و كانت نتيجة هذا الإِمتحان أَنْ أَجاب جميع الفقهاء في ذلك العصر بنظرية الخَلْق و لم يمتنع إلاّ نفر قليل على رأسهم الإِمام أحمد بن حنبل.
    و يمكن إرجاع مسألة أنَّ كلام الله تعالى غير مخلوق إلى القرن الثاني.
     1 ـ لاحظ الميزان ، ج 14 ، ص 250.
    2 ـ و أما نظرية الحنابلة فنبحث عنها في المقام الثاني لئلا يلزم التكرار.


(206)
     و بقيت في طي الكتمان إلى زمن المأمون. و مع أنَّ أهل الحديث يلتزمون بعدم التفوه بشيء لم يرد فيه نص عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ـ أَو عهد من الصحابة ، إلاّ أَنَّهم خالفوا مبدأهم في هذه المسألة ، إلى أَنِ انجرّ بهم الأَمر إِلى إِعلانها على رؤوس الأَشهاد و صَهَوات المنابر. و السبق في ذلك بينهم يرجع إلى أحمد بن حنبل و مواقفه. فقد أَخذ يروج لفكرة عدم خلق القرآن أو قِدَمه ، و يدافع عنها بحماس ، متحملا في سبيلها من المشاق ما هو مسطور في زُبُر التاريخ. و قد عرفت امتناعه عن الإِقرار بخلق القرآن عند استجواب الفقهاء فسُجن و عُذّب و جُلِد بالسياط ، و رغم كل ذلك لم يُر منه إلاّ الثبات و الصمود ، و كان هذا هو أَبرز العوامل التي أَدّت إلى اشتهاره و طيران صِيته في البلاد الإِسلامية فيما بعد. و قد سجل التاريخ جملة من المناظرات التي جرت بينه و بين المفكرين من المتكلمين.
    و لأَجل إيضاح الحال في المقام نأتي بما جاء به أَحمد بن حنبل و أبو الحسن الأشعري في هذا المجال.
    قال أحمد بن حنبل : « والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أَنَّ القرآن مخلوق فهو جَهْمِيّ كافر ، و من زعم أَنَّ القرآن كلام الله عزَّ وجل و وقف ولم يقل مخلوق و لا غير مخلوق ، فهو أَخبث من الأول. و من زعم أَنَّ أَلفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة ، و القرآن كلام الله ، فهو جَهْميّ. و من لم يُكَفِّر هؤلاء القوم كلهم فهو مثلهم.
    و كلّم الله موسى تكليماً ، من الله سمع موسى يقيناً ، و ناوله التوراة من يده ، و لم يزل الله متكلماً عالماً ، تبارك الله أحسن الخالقين » (1).
    و قال أبو الحسن الأشعري : « نقول إِنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق و إِنَّ من قال بخلْق القرآن فهو كافر » (2).
     1 ـ كتاب السنة ، لأحمد بن حنبل ، ص 49.
    2 ـ الإِبانة ، ص 21 ، و لاحظ مقالات الإِسلاميين ، ص 321.


(207)
     و قد نقل عن إِمام الحنابلة أنَّه قيل له : ها هنا قوم يقولون القرآن لا مخلوق و لا غير مخلوق. فقال : هؤلاء أَضرّ من الجَهْمِيّة على الناس ، ويلكم فإنْ لم تقولوا : ليس بمخلوق فقولوا مخلوق. فقال أحمد هؤلاء قوم سوء. فقيل له : ما تقول؟ قال : الذي أَعتقد و أَذهب إليه و لا شكّ فيه أنَّ القرآن غير مخلوق. ثم قال : سبحان الله ، و من شك في هذا؟ (1).
    هذا ما لدى المحدّثين و الحنابلة و الأَشاعرة. و أَمَّا المعتزلة فيقول القاضي عبدالجبار : « أما مذهبنا في ذلك إِنَّ القرآن كلام الله تعالى و وحيه و هو مخلوق مُحْدَث أنزله الله على نبيه ليكون علماً و دالا على نبوته ، و جعله دلالة لنا على الأَحكام لنرجع إليه في الحلال و الحرام ، و استوجب منا بذلك الحمد و الشكر ، و إذاً هو الذي نسمعه اليوم و نتلوه و إنْ لم يكن (ما نقرؤه) مُحدَثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة كما يضاف ما نَنْشِدُهُ اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة ، و إنْ لم يكن (امروء القيس) مُحدِثاً لها الآن » (2).
    و قبل الخوض في تحليل المسألة نقدم أموراً :
    1 ـ إذا كانت مسألة خلق القرآن أو قدمه بمثابة أوجدت طائفتين يكفّر كل منهما عقيدة الآخر ، فإمام الحنابلة يقول : إنَّ من زعم أَنَّ القرآن مخلوق فهو جَهْميّ كافر ، و المعتزلة تقول : إِنَّ القول بكون القرآن غير مخلوق أو قديم شِرْك بالله سبحانه ، فيجب تحليلها على ضوء العقل و الكتاب و السنة باجتناب كل هياج و لَغْط. و مما لا شك فيه أَن المسألة كانت قد طرحت في أجواء خاصة عزّ فيها التفاهم و ساد عليها التناكر. و إلاّ فلا معنى للإِفتراق في أمر تزعم إحدى الطائفتين أنه ملاك الكفر و أنَّ التوحيد في خلافه ، و تزعم الطائفة الأُخرى عكس ذلك.
    و لو كانت مسألة خلق القرآن بهذه المثابة لكان على الوحي التصريح
     1 ـ الإِبانة ، ص 69 ، وقد ذكر في ص 76 ، أسماء المحدثين القائلين بأنَّ القرآن غير مخلوق.
    2 ـ شرح الأَصول الخمسة ، ص 528.


(208)
     بأحد القولين و رفع الستار عن وجه الحقيقة ، مع أَنَّا نرى أَنَّه ليس في الشريعة الإِسلامية نص في المسألة ، و إنَّما ظهرت في أوائل القرن الثاني. نعم ، استدلت الطائفتان ببعض الآيات ، غير أَنَّ دلالتها خَفيّة ، لا يقف عليها ـ على فرض الدلالة ـ إلاّ الأوحدي. و ما يُعدّ مِلاك التوحيد و الشِّرك يجب أنْ يرِدَ فيه نص لا يقبل التأويل و يقف عليه كل حاضر و باد.
    و قد نقل الأشعري في كتابه (الإِبانة) أخباراً في شِرْكِ أبي حنيفة والبراءة منه و استتابة ابن أبي ليلى إياه لقوله بخلق القرآن ، فتاب تقية ، مخافة أنْ يُقدِم عليه ، كما صَرَّح هو نفسه بذلك (1). مع أنَّ الطَحاوي ذكر في عقائده ما يناقض ذلك و قال بعدم خلق القرآن رغم أنَّه حنفيّ ، المشرب والمسلك.
    2 ـ كان بعض السلف يتحرّجون من وصف القرآن بأنه قديم و قالوا فقط إِنه غير مخلوق. لكنهم تدرّجوا في هذا القول حتى وصفوا كلام الله بأنه قديم. و من المعلوم أنَّ توصيف شيء بأنه غير مخلوق أو قديم مما لا يتجرَّأُ عليه العارف ، لأن هذين الوصفين من خصائص ذاته فلو كان كلامه سبحانه غير ذاته فكيف يمكن أَنْ يتصف بكونه غير مخلوق أو كونه قديماً. ولو فرضنا صحة تلك العقيدة التي لا ينالها إلاّ الأوحدي في علم الكلام فكيف يمكن أنْ تكون هذه المسألة الغامضة مما يجب الاعتقاد به على كل مسلم مع أَنَّ الإِنسان البسيط بل الفاضل لا يقدر أنْ يحلل و يدرك كون شيء غير الله سبحانه و في الوقت نفسه غير مخلوق.
    إنَّ سهولة العقيدة و يسر التكليف من سمات الشريعة الإِسلامية و بها تفارق سائر المذاهب السائدة على العالم ، مع أنَّ تصديق كون كلامه تعالى ـ و هو غير ذاتهـ غير مخلوق أو قديم ، شيء يعسر على الخاصة فكيف على العامة.
     1 ـ الإِبانة ، ص 71 ـ 72.

(209)
     3 ـ إِنَّ الظاهر من أهل الحديث هو قدم القرآن « المقروء » و هو أمر تنكره البداهة و العقل و نفس القرآن. و قد صارت تلك العقيدة بمنزلة من البطلان حتى تحامل عليها الشيخ محمد عبده إذْ قال : « والقائل بقدم القرآن المقروء أشنع حالا و أضل اعتقاداً من كل ملة جاء القرآن نفسه بتضليلها و الدعوة إلى مخالفتها » (1).
    و لما رأى ابن تيميّة ، الذي نصب نفسه مروجاً لعقيدة أهل الحديث ، أنَّها عقيدة تافهة صرح بحدوث القرآن المقروء و حدوث قوله ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) (2). و ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) (3). و قوله ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَدِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) (4) ... إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حدوث النداء والسمع من حينه لا من الأزل (5).
    والعجب أَنَّه يستدل بدليل المعتزلة على حدوث القرآن المقروء ، و يقول إِنَّ ترتيب حروف الكلمات و الجمل يستلزم الحدوث ، لأنَّ تحقق كلمة « بسم الله » يتوقف على حدوث الباء و انعدامها ثم حدوث السين كذلك إلى آخر الكلمة. فالحدوث والإِنعدام ذاتي لمفردات الحروف لا ينفك عنها ، و إلا لما أمكن أَنْ توجد كلمة ، فإذن كيف يمكن أنْ يكون مثل هذا قديماً أزلياً مع الله تعالى؟.
    4 ـ لما كانت فكرة عدم خلق القرآن أو القول بقدمه شعار أهل الحديث و سِمَتهم و من جانب آخر كان القول بقدم القرآن المقروء والملفوظ شيئاً لا يقبله العقل السليم ، جاء الأشاعرة بنظرية جديدة أصلحوا بها القول
     1 ـ رسالة التوحيد ، الطبعة الأولى. و قد حُذف نحو صفحة من الرسالة في الطبعات اللاحقة ، لاحظ ص 49 من طبعة مكتبة الثقافة العربية.
    2 ـ سورة المزمل : الآية 1.
    3 ـ سورة المدثر : الآية 1.
    4 ـ سورة المجادلة : الآية 1.
    5 ـ مجموعة الرسائل الكبرى ، ج 3 ، ص 97.


(210)
     بعدم خلق القرآن و قدمه و التجأوا إلى أنّ المراد من كلام الله تعالى ليس هو القرآن المقروء بل الكلام النفسي ، و قد عرفت مدى صحة القول بالكلام النفسي (1).
    و على كل تقدير فالقول بِقدَم الكلام النفسي ليس بمنزلة القول بِقدَم القرآن المقروء.
    5 ـ كيف يكون القول بخلق القرآن و حدوثه مِلاكاً للكفر مع أنَّه سبحانه يصفه بأنَّه محدث أَيٌ أَمر جديد؟
    قال سبحانه : ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَة مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْر مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَث إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) (2). والمراد من الذكر هو القرآن الكريم لقوله سبحانه : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (3) ، و قوله سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ) (4).
    والمراد من « مُحْدَث » هو الجديد ، و هو وصف لِلذِكْر. و معنى كونه جديداً أنه أتاهم بعد الإِنجيل. كما أنَّ الإِنجيل جديد لأنه أتاهم بعد التوراة. و كذلك بعضُ سور القرآن و آياته ذكر جديد أتاهم بعد بعض. و ليس المراد كونه مُحْدَثاً من حيث نزوله ، بل المراد كونه مُحْدَثاً بذاته بشهادة أَنَّه وصف ل ـ « ذكر ». فالذكر بذاته مُحْدَث ، لا بنزوله فلا معنى لتوصيف المحدث بالذات بكونه من حيث النزول (5).
    و كيف يمكن القول بقدم القرآن مع أنه سبحانه يقول في حقه : ( وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَتَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ) (6) ، فهل
     1 ـ ليس هذا أَول مورد تقوم فيه الأشاعرة لإِصلاح عقيدة أهل الحديث ، بل قامت بذلك في عدة موارد بهدف إخراجها في قالب يقبله العقل.
    2 ـ سورة الأنبياء : الآية 1 ـ 2.
    3 ـ سورة الحجر : الآية 9.
    4 ـ سورة الزخرف : الآية 44.
    5 ـ لِتَقَدُّمِ ما بالذَّات على ما بِالعَرَض.
    6 ـ سورة الإِسراء : الآية 86.
الالهيّات ::: الفهرس