الالهيّات ::: 211 ـ 220
(211)
     يصح توصيف القديم بالإِذهاب و الإِعدام؟!.
    6 ـ العجب أَنَّ مَحَطَّ النزاع لم يُحَدّد بشكل واضح يقدر الإِنسان على القضاء فيه ، فها هنا احتمالات ، يمكن أنْ تكون محط النَّظر لأهل الحديث و الأشاعرة عند توصيف كلامه سبحانه بالقِدَم نطرحها على بساط البحث و نطلب حكمها من العقل و القرآن.
    أ ـ الألفاظ و الجمل الفصيحة البليغة التي عجز الإِنسان في جميع القرون عن الإِتيان بمثلها ، و قد جاء بها أمين الوحي إلى النبي الأكرم ، و قرأها الرسول فتلقتها الأَسماع و حرّرتها الأَقلام على الصُحُف المطهرة. فهي ليست بمخلوقة على الإِطلاق لا لله سبحانه ولا لغيره.
    ب ـ المعاني السامية و المفاهيم الرفيعة في مجالات التكوين و التشريع و الحوادث و الأَخلاق و الآداب و غيرها.
    ج ـ ذاته سبحانه و صفاته من العلم و القدرة و الحياة التي بحث عنها القرآن و أَشار إليها بأَلفاظه و جُمَلِه.
    د ـ علمه سبحانه بكل ما ورد في القرآن الكريم.
    هـ ـ الكلام النفسي القائم بذاته.
    و ـ القرآن ليس مخلوقاً للبشر و إن كان مخلوقاً لله.
    و هذه المحتملات لا تختص بالقرآن الكريم بل تَطّرد في جميع الصحف السماوية النازلة إلى أنبيائه و رسله.
    و إليك بيان حكمها من حيث الحدوث و القدم.
أَما الأَول ـ فلا أَظن أَنَّ إنساناً يملك شيئاً من الدَّرْك و العقل يعتقد بكونها غير مخلوقة أو كونها قديمة ، كيف و هي شيء من الأَشياء ، و موجود من الموجودات ، ممكن غير واجب. فإذا كانت غير مخلوقة وجب أن تكون واجبة بالذات و هو نفس الشِّرك بالله سبحانه و حتى لو فُرض أَنَّه سبحانه يتكلم بهذه الأَلفاظ و الجمل ، فلا يخرج تكلُّمه عن كونه فعله ، فهل يمكن أَنْ يقال إنَّ فعله غير مخلوق أو قديم؟!


(212)
     و أَما الثَّاني ـ فهو قريب من الأَول في البداهة ، فإنَّ القرآن يشتمل ، و كذا سائر الصحف على الحوادث المحقَّقة في زمن النبي من مُحاجّة أهل الكتاب والمشركين وما جرى في غزواته وحروبه من الحوادث المؤلمة أو المُسِرّة ، فهل يمكن أنْ نقول بأَنَّ الحادثة التي يحكيها قوله سبحانه : ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ بَصِيرٌ ) (1) ، قديمة.
    و قد أخبر الله تبارك و تعالى في القرآن و الصحف السماوية عما جرى على أَنبيائه من الحوادث و ما جرى على سائر الأمم من أَلوان العذاب ، كما أَخبر عما جرى في التكوين من الخلق و التدبير ، فهذه الحقائق الواردة في القرآن الكريم ، حادثة بلا شك ، لا قديمة.
و أَما الثَّالث ـ فلا شك أَنَّ ذاته و صفاته من العلم و القدرة و الحياة و كل ما يرجع اليها كشهادتِه أنَّه لا إله إلاّ هو ، قديم بلا إشكال و ليس بمخلوق بالبداهة ، ولكنه لا يختص بالقرآن بل كل ما يتكلم به البشر و يشير به إِلى هذه الحقائق ، فمعانيه المشار اليها بالألفاظ والأَصوات قديمة ، و في الوقت نفسه ما يشار به من الكلام و الجمل حادث.
و أَما الرَّابع ـ أي عِلْمه سبحانه بما جاء في هذه الكتب و ما ليس فيها ، فلا شك أنَّه قديم نفس ذاته. ولم يقل أَحد من المتكلمين الإِلهيين إلاّ من شذّ من الكرّامية ـ بحدوث علمه.
و أما الخامس ـ أعنى كونه سبحانه متكلماً بكلام قديم أزلي نفساني ليس بحروف الأصوات ، مغاير للعلم و الإِرادة ، فقد عرفت أن ما سمّاه الأشاعرة كلاماً نفسيّاً لا يخرج عن إطار العلم و الإِرادة و لا شك أنّ علمه و إرادته البسيطة قديمان.
و أما السَّادس ـ و هو أنَّ الهدف من نفي كونه غير مخلوق ، كون القرآن
     1 ـ سورة المجادلة : الآية 1.

(213)
     غير مخلوق للبشر ، و في الوقت نفسه هو مخلوق لله سبحانه ، فهذا أمر لا ينكره مسلم. فإِنَّ القرآن مخلوق لله سبحانه و الناس بأَجمعهم لا يقدرون على مثله. قال سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا ) (1).
    و هذا التحليل يُعْرِبُ عن أنّ المسألة كانت مطروحة في أجواء مُشَوّشة و قد اختلط الحابُل فيها بالنابِل و لم يكن محط البحث محرَّراً على وجه الوضوح حتى يعرف المُثْبَت عن المَنْفي ، و يُمخض الحق من الباطل. و مع هذا التشويش في تحرير محل النزاع نرى أنَّ أهلَ الحديث و الأشاعرة يستدلون بآيات من الكتاب على قدم كلامه و كونه غير مخلوق. و إليك هذه الأدلة واحداً بعد واحد.

أَدلة الأَشاعرة على كون القرآن غير مخلوق
    إستدلَّ الأَشعري بوجوه.
الدليل الأول : قوله سبحانه ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (2). قال الأشعري : و مما يدل من كتاب الله على أنَّ كلامه غير مخلوق قوله عز وجل : ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (3).
    فلو كان القرآن مخلوقاً لوجب أنْ يكون مقولا له « كن فيكون ». و لو كان الله عز وجل قائلا للقول « كن » لكان للقول قول. و هذا يوجب أَحد أمرين : إِما أَنْ يؤول الأَمر إلى أَنَّ قول الله غير مخلوق ، أو يكون كل قول واقعاً بقول لا إلى غاية و ذلك محال. و إذا استحال ذلك صحَّ و ثبت أنَّ لله عز وجل قولا غير مخلوق (4).
     1 ـ سورة الإِسراء : الآية 88.
    2 ـ سورة النحل : الآية 40.
    3 ـ سورة النحل : الآية 40.
    4 ـ الإِبانة ، ص 52 ـ 53.


(214)
     يلاحظ عليه : أوَّلا ـ إنَّ الإِستدلال مبني على كون الأمر بالكون في الآية و نظائرها أمراً لفظيّاً مؤلفاً من الحروف و الأصوات. و أنَّه سبحانه كالسلطان الآمر ، فكما أنَّه يتوسل عند أمرِهِ وزراءه و أعوانه باللفظ ، فهكذا سبحانه يتوسّل عند خلق السَّموات و الأرض باللفظ و القول ، فيخاطب المعدوم المطلق بلفظة « كن ».
    و لا شك أَنَّ هذا الإِحتمال باطل جداً ، إذ لا معنى لخطاب المعدوم.
    و ما يقال في تصحيحه بأنَّ المعدوم معلوم لله تعالى فهو يعلم الشيء قبل وجوده و أَنَّه سيوجد في وقت كذا ، غير مفيد ، لأن العلم بالشيء لا يصحح الخطاب ، و إنْ كنت في شك من ذلك فلاحظ النّجار الذي يريد صناعة الكرسي بالمعدات و الآلات ، فهل يصح أنْ يخاطبها بهذا اللفظ ، هذا و إنْ كان بين المثالِ و المُمَثَّل له فَرْق أو فُروق.
    و إِنَّما المراد من الأمر في الآية ، كما فهمه جمهور المسلمين ، هو الأمر التكويني المُعبّر عن تَعَلُّق الإِرادة القطعية بإيجاد الشيء ، و المقصود من الآية أنَّ تعلق إرادته سبحانه يعقبه وجوده ، و لا يأبى عنه الشيء ، و أنَّ ما قضاه من الأُمور و أَراد كونه فإنه يتكون و يدخل في حيز الوجود من غير امتناع و لا توقف ، كالمأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ، لا يتوقف و لا يمتنع و لا يكون منه الإِباء.
    و بذلك تقف على الفرق بين الأمر التكليفي التشريعي الوارد في الكتاب و السنَّة ، و الأمر التكويني. فالأَول يخاطَب به الإِنسان العاقل للتكليف و لا يخاطب به غيره فضلا عن المعدوم. و هذا بخلاف الأَمر التكويني فإِنَّه رمز لتعلق الإِرادة القطعية بإيجاد المعدوم.
    و هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يفسّر الأَمر التكويني بقوله « يقول لِمَا أراد كونَه كُنْ ، فَيكونُ. لا بصوت يَقْرَعُ و لا بِنداء يُسمَع ، و إنَّما كلامُهُ سُبْحانَه فعلٌ منه ، أنْشَأهُ وَ مَثَّله ، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبلِ ذلِكَ كائناً ، و لَو كانَ


(215)
     قديماً لَكانَ إِلهاً ثانياً » (1).
و ثانياً ـ نحن نَختارُ الشِقّ الثاني ، و لا يلزم التسلسل. و نلتزم بأنَّ هنا قولا سابقاً على القرآن هو غير مخلوق أوجد به سبحانه مجموع القرآن و أَحدثه حتى كلمة « كن » الواردة في تلك الآية و نظائرها. فتكون النتيجة حدوث القرآن و جميع الكتب السماوية و جميع كَلِمِه و كلامه إِلاَّ قولا واحداً سابقاً على الجميع. فينقطع التسلسل بالإِلتزام بعدم مخلوقية لفظ واحد.
ثالثاً ـ كيف يمكن أنْ تكون كلمةُ « كن » الواردة في الآية و أَمثالها قديمةً. مع أنها إخبار عن المستقبل فتكون حادثة. يقول سبحانه مخبراً عن المستقبل ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيء إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ). و لأَجل ذلك التجأ المتأخرون من الأَشاعرة إلى أَنَّ لفظ « كن » حادث و القديم هو المعنى الأَزلي النفساني (2).
الدَّليل الثاني ـ قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَات بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَْمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (3).
    قال الأشعري : ف ـ « الخلق » جميع ما خلق داخل فيه ، و لما قال « والأمر » ذكر أَمراً غير جميع الخلق. فدل ما وصفناه على أنَّ أَمر الله غير مخلوق. و أَما أَمر الله فهو كلامه. و باختصار : إِنَّه سبحانه أَبان الأَمر من الخلق ، و أمرُ الله كلامه ، و هذا يوجب أنْ يكون كلام الله غير مخلوق (4).
يلاحَظُ عليه : إِنَّ الإِستدلال مبني على أَنَّ « الأَمر » في الآية بمعنى كلام الله و هو غير ثابت بل القرينة تدل على أَنَّ المراد منه غيره ، كيف و قد قال
     1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 186.
    2 ـ دلائل الصدق حاكياً عن الفضل بن روزبهان الأشعري ، ج 1 ، ص 153.
    3 ـ سورة الأعراف : الآية 54.
    4 ـ الإِبانة ، ص 51 ـ 52.


(216)
     سبحانه في نفس الآية : ( و النُّجومَ مُسَخَّرات بِأمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ ) و المراد من اللفظين واحد ، و الأول قرينة على الثاني. و هدف الآية هو أنّ الخلقَ ـ بمعنى الإِيجاد ـ و تدبيرَه كلاهما من الله سبحانه و ليس شأنه سبحانه خلق العالم و الأَشياء ثم الإِنصراف عنها و تفويض تدبيرها إلى غيره حتى يكون الخلق منه و التدبير على وجه الإِستقلال من غيره ، بل الكل من جانبه سبحانه.
    فالمراد من الخلق إِيجاد ذوات الأَشياء ، والمراد من الأَمر النظام السَّائد عليها ، فكأَنَّ الخلق يتعلق بذواتها و الأَمر بالأوضاع الحاصلة فيها و النظام الجاري بينها. و يدل على ذلك بعض الآيات التي تذكر « تدبير الأمر » بعد الخلق.
    يقول سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَدَبِّرُ الاَْمْرَ مَا مِن شَفِيع إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) (1).
    و قال تعالى : ( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لاَِجَل مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الاَْمْرَ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (2).
    فليس المراد من الأَمر ما يقابل النهي ، بل المراد الشؤون الراجعة إِلى التكوين ، فيكون المقصود أَنَّ الإِيجاد أَوّلا ، و التصرف و التدبير ثانياً منه سبحانه فهو الخالق المالك لا شريك له في الخلق و الإِيجاد و لا في الإِرادة و التدبير.
الدليل الثَّالث ـ قوله سبحانه : ( إنْ هَذا إلاّ قَوْلُ البَشَرِ ) (3)
    قال الاشعري : « فمن زعم أَنَّ القرآن مخلوق فقد جعله قولا للبشر ،
     1 ـ سورة يونس : الآية 3.
    2 ـ سورة الرعد : الآية 2.
    3 ـ سورة المدثر : الآية 25.


(217)
     و هذا ما أَنكره الله على المشركين » (1).
يلاحظ عليه : إِنَّ من يقول بأَنَّ القرآن مخلوق لا يريد إِلاّ كونه مخلوقاً لله سبحانه. فالله سبحانه خلقه و أَوحى به إلى النبي و نزّله عليه مُنِّجماً على مدى ثلاث و عشرين سنة و جعله فوق قدرة البشر فلن يأتوا بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
    نعم ، كون القرآن مخلوقاً لله سبحانه لا ينافي أَنْ يكون ما يقرؤه الإِنسان مخلوقاً له لبداهة أنَّ الحروف و الأصوات التي ينطق بها الناس مخلوقة لهم و هذا كمعلقة امرئ القيس و غيرها ، فأصلها مخلوق لنفس الشاعر ، ولكن المقروء مثال له ، و مخلوق للقارئ.
    والعجب أَنَّ الأشعري و من قبله و من بعدَه لم ينقّحوا موضع النزاع فزعموا أنَّه إذ قيل « القرآن مخلوق » فإنما يراد منه كون القرآن مصنوعاً للبشر ، مع أَنَّ الضرورة قاضية بخلافه ، فكيف يمكن لمسلم يعتنق القرآن و يقراً قول البارئ سبحانه فيه : ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) (2) ، أن يَتَفَوّه بأنَّ القرآن مخلوق للبشر. بل المسلمون جميعاً يقولون في القرآن نفس ما قاله سبحانه في حقّه. غير أَنَّ المقروء على ألسنتهم مخلوق لأنفسهم ، فيكون مثال ما نزله سبحانه مخلوقاً للإِنسان ، و كون المثال مخلوقاً لهم ليس دليلا على أَنَّ المُمَثَّل مخلوقاً لهم. و الناس بأجمعهم عاجزون عن إيجاد مثل القرآن ولكنهم قادرون على إيجاد مثاله. فلاحظ و تدبر.
    و بذلك تقف على أنَّ أكثر ما استدل به الأشعري في كتاب « الإِبانة » غير تام من جهة الدلالة ، و لا نطيل المقام بإِيراده و نقده. و فيما ذكرنا كفاية.
بقي هنا نكتة ننبه عليها و هي : إِنَّ المعروف من إِمام الحنابلة أنَّه ما كان يرى الخوض في المسائل التي لم يخض فيها السَلَف الصالح لأَنه ما كان يرى
     1 ـ الإبانة ـ ص 56.
    2 ـ سورة الانعام : الآية 155. و مثله قوله : ( تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) (الجاثية : الآية 2) و آياتٌ كثيرةٌ اُخرى.


(218)
     علماً إِلاّ علْمَ السَلَف ، فما يخوضون فيه يخوض فيه ، و ما لا يخوضون فيه من أمور الدّين يراه ابتداعاً يجب الإِعتراض عنه. و هذه المسألة لم يتكلم فيها السلف فلم يكن له أن يتكلم فيها. و المبتدعون هم الذين يتكلمون ، فما كان له أن يسير وراءهم و كان من واجبه حسب أصوله أن يتوقف و لا يَنْبُس بِبِنْتِ شَفَة. نعم نقل عنه ما يوافق التوقف ـ رغم ما نقلنا عنه من خلافه و أنَّه قال : من زعم أنَّ القرآن مخلوق فهو جهمي ، و من زعم أنَّه غير مخلوق فهو مبتدع.
    ويرى المحققون أنَّ إِمام الحنابلة كان في أوليات حياته يرى البحث حول القرآن ، بأنَّه مخلوق أَوْ غير مخلوق ، بدعة. ولكنه بعدما زالت المحنة و طلب منه الخليفة العباسي المتوكل ، المؤيد له ، الإِدلاء برأيه ، إِختار كون القرآن ليس بمخلوق. و مع ذلك لم يؤثر عنه أنَّه قال : إِنَّه قديم (1).

موقف أَهل البيت ( عليهم السَّلام )
    إِنَّ تاريخ البحث و ما جرى على الفريقين من المحن ، يشهد بأَنَّ التشدّد فيه لم يكن لإحقاق الحق و إِزاحة الشكوك ، بل استغلت كل طائفة تلك المسألة للتنكيل بخصومها. فلأجل ذلك نرى أَنَّ أَئمة أَهل البيت ( عليهم السَّلام )منعوا أَصحابهم من الخوض في تلك المسألة ، فقد سأل الرّيّانُ بن الصَّلْت الإِمام الرضا ( عليه السَّلام ) و قال له : ما تقول في القرآن ؟
    فقال ( عليه السَّلام ) : « كلامُ الله لا تَتَجاوَزُهُ و لا تَطْلُبوا الهُدى في غَيرِه ، فَتَضِلّوا » (2).
    ورَوى علي بن سالم عن أبيه قال : سألت الصادق جعفر بن محمد
     1 ـ تاريخ المذاهب الإِسلامية ، ص 300.
    2 ـ التوحيد للصَّدوق ، باب القرآن ما هو ، الحديث 2 ، ص 223.


(219)
     فقلت له : يابن رسول الله ما تقول في القرآن؟
    فقال : « هو كلامُ اللهِ وقَوْلُ اللهِ ، و كتابُ اللهِ و وَحْيُ اللهِ ، و تنزيلُه ، و هو الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يَدَيْهِ و لا مِن خلفه ، تنزيلٌ من حكيم حميد » (1).
    وحدّث سليمان بن جعفر الجعفري قال ، قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر ( عليه السَّلام ) : يا ابن رسول الله ، ما تقول في القرآن؟ فقد اختلف فيه مَنْ قَبْلَنا ، فقال قوم إنه مخلوق ، و قال قوم إنه غير مخلوق.
    فقال ( عليه السَّلام ) : أما إني لا أقول في ذلك ما يقولون ، ولكنّي أقولُ : إنه كلامُ الله (2).
    فإنا نرى أَنَّ الإِمام ( عليه السَّلام ) يبتعد عن الخوض في هذه المسألة لِمَا رأى من أَنَّ الخوض فيها ليس لصالح الإِسلام ، و أنَّ الإِكتفاء بأنَّه كلام الله أَحسم لمادة الخلاف. ولكنهم ( ـ عليهم السَّلام ) عندما أحسوا بسلامة الموقف ، أَدلوا برأْيهم في الموضوع ، و صرّحوا بأَنَّ الخالق هو الله و غيره مخلوق و القرآن ليس نفسه سبحانه ، و إلاّ يلزم اتحاد المُنْزَل و المُنْزِل ، فهو غيره ، فيكون لا محالة مخلوقاً.
    فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني أنَّه كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام )إلى بعض شيعته ببغداد : « بسم الله الرحمن الرحيم ، عَصَمَنا اللهُ و إيّاكَ مِنَ الفِتْنَةِ ، فإنْ يَفْعَل فقد أعْظَمَ بها نِعمة ، و إنْ لا يَفْعَل فهي الهَلَكَة. نحن نرى أنَّ الجِدالَ في القرآن بِدْعَةٌ ، اشترك فيها السائل و المُجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، و يتكلَّفُ المُجيب ما ليس عليه ، و ليس الخالقُ إِلاّ اللهَ عزّوجل ، و ما سواهُ مخلوقٌ ، و القرآنُ كلامُ الله ، لا تَجْعَل لَه إِسماً مِنْ عندِك فتكونَ من الضّالّين ، جَعَلَنا الله ، و إياك من الذين يَخْشَوْنَ ربهم بالغيب و هم من الساعة مُشفقون » (3).
     1 ـ التّوحيد ، للصّدوق ، باب القرآن ، الحديث 3 ، ص 224.
    2 ـ المصدر السابق ، الحديث 5 ، ص 224.
    3 ـ المصدر السابق ، الحديث 4.


(220)
     و فى الروايات المروية إشارة إلى المحنة التي نقلها المؤرخون ، حيث كان أحمد بن أبي دؤاد في عصر المأمون كتب إلى الولاة في العواصم الإِسلامية أنْ يختبروا الفقهاء و المحدّثين في مسأَلة خلق القرآن ، و فرض عليهم أنْ يعاقبوا كل من لا يرى رأي المعتزلة في هذه المسألة. و جاء المعتصم و الواثق فطبقا سيرته و سياسته مع خصوم المعتزلة و بلغت المحنة أَشدها على المحدثين ، و بقى أحمد بن حنبل ثمانية وعشرين شهراً تحت العذاب فلم يتراجع عن رأيه (1). و لما جاء المتوكل العباسي ، نصر مذهب الحنابلة و أقصى خصومهم ، فعند ذلك أَحسّ المحدثون بالفرج و أَحاطت المحنة بأولئك الذين كانوا بالأمس القريب يفرضون آراءهم بقوة السلطان.
    فهل يمكن عدّ مثل هذا الجدال جدالا إسلامياً ، و قرآنياً ، لمعرفة الحقيقة و تبيّنها ، أو أنه كان وراءه شيء آخر؟ الله العالم بالحقائق و ضمائر القلوب.
     1 ـ لا حظ سير أعلام النبلاء للذهبي ، ج 11 ، ص 252. و قد عُقد في الكتاب باب مفصلّ في احوال الإِمام أحمد.
الالهيّات ::: الفهرس