الالهيّات ::: 221 ـ 230
(221)
الصفات الفعلية
(2)


الصدق
    إِتَّفق المسلمون و الإِلهيون على أنَّ « الصادق » من أَسمائه ، و أَن « الصّدقَ » من صفاته ، و إِنِ اختلفوا في طريق البرهنة عليه. والمراد من صدقه كون كلامه منزهاً عن شَوْب الكذب. و لما كان المختار عندنا في « الكلام » أَنَّهُ من الصفات الفعلية ، يكون الصدق في الكلام مثله. لأَنه إذا كان الموصوف بالصّدق من الصفات الفعلية و فعلا قائما بالله سبحانه ، فوصفه أولى بأن يكون من تلك المقولة.
    و يمكن الإِستدلال على صدقه بأن الكذب قبيح عقلا ، و هو سبحانه منزه عما يعدّه العقل من القبائح. و البرهان مبني على كون الحُسن و القبح من الأمور التي يدركها العقل ، و أَنَّه مع قطع النظر عن الطوارئ و العوارض ، يحكم بكون شيء حسناً بالذات أو قبيحاً مثله. و هذا الأَصل هو الأمر المهم الذي فرّق المتكلمين إلى فرقتين.
    فإذا أَخذنا بالجانب الإِيجابي في ناحية ذلك الأصل ، كما هو الحق ، يثبت كونه سبحانه صادقاً. ولكن الأَشاعرة المنكرين للتحسين و التقبيح العقليين يصفونه سبحانه بالصدق ، مستدلين تارة بأَنَّ الكذب نقص ،


(222)
     والنقص على الله تعالى محال. و أُخرى بأنَّ الشرع قد أَخبر عن كونه صادقاً وكلا الدليلين مخدوش جداً.
أما الأَول ، فلأنه لو قلنا بالتحسين والتقبيح العقليين ، يكون النقص محالا على الله سبحانه في ناحية الذات و الفعل ، فذاته منزهة عن النقص ، و فعلهـ كالتكلم ـ و أَمّا إِذا أَنكرنا ذلك الأَصل فلا دليل على استحالة النقص على الله سبحانه في خصوص فعله و إِنْ كان طروء النقص على الذات محالا مطلقاً. و لأَجل ذلك جوّز الأَشاعرة الظلم عليه سبحانه ، و هكذا سائر القبائح ، و إنْ كانت لا تصدر عنه سبحانه لأَجل إِخباره بذلك.
و أما الثاني ، فلأن ثبوت صدقه شرعاً يتوقف على صدق قول النبي و لا يثبت صدقه إلاّ بتصديق الله سبحانه ، فلو توقف تصديقه سبحانه على تصديق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، لزم الدور.
    ولأَجل ذلك يجب أَنْ يكون هناك دليل قاطع وراء الشرع و الوحي على كونه سبحانه صادقاً لا يكذب.
    و هناك دليل آخر ، أَشار اليه بعض المعتزلة و حاصله أَنَّ كذبه ينافي مصلحة العالم ، لأَنه إِذا جاز وقوع الكذب في كلامه تعالى ارتفع الوثوق بإخباره عن أحوال الآخرة ، و في ذلك فوات مصالح لا تحصى. والأَصلح واجب عليه تعالى لا يصح الإِخلال به. و المراد من كونه واجباً هو إِدراك العقل أنَّ موقفه سبحانه في ذلك المجال يقتضي اختيار الأَصلح و ترك غيره. (1)
    ولكن الدليل مبني على الأَصل المقرر عند العدلية من إِدراك العقل الحسنَ و القبْحَ ، مع قطع النظر عن جميع الطوارئ و العوارض. فعند ذلك يدرك الأصلح و الصالح ، أو الصالح و غير الصالح ، كما يدرك لزوم اختيار الأصلح و الصالح على غيرهما. و لأجل ذلك لا يكون دليلا آخر.
     1 ـ شرح القوشجي ، ص 320.

(223)
     هذا إِذا قلنا بأَنَّ كلامه من الصفات الفعلية. و أمَّا لو فسّرناه بالكلام النفسي ـ كما قالت الأَشاعرة ـ فقد عرفت أَنَّه لا يخرج عن اطار العلم و الإِرادة و الكراهة ، فعندئذ يكون صدق كلامه بمعنى صدق علمه ، و لا يمكن تفسير صدق العلم إِلاَّ بكونه مطابقاً للواقع. و أَمَّا صدق الإِرادة و الكراهة فليس له فيهما معنى معقول. و على كل تقدير يكون الصدق عندهم ـ حينئذ ـ من الصفات الذّاتية لا الفعلية.


(224)

(225)
الصفات الفعلية
(3)


الحِكْمَةُ
    إِنَّ الحكمة من صفاته سبحانه ، كما أَنَّ الحكيم من أَسمائه و قد تواترت النصوص القرآنية بذلك ، فقال سبحانه :
    ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1) مشعراً بأنَّ العلم غير الحكمة.
    إِنَّ الحكمة تطلق على معنيين : أحدهما ، كون الفعل في غاية الإِحكام و الإِتقان ، و غاية الإِتمام و الإِكمال. و ثانيها ، كون الفاعل لا يفعل قبيحاً و لا يخلّ بواجب.
    قال الرازي : « في الحكيم وجود : الأول ـ إِنه فعيل بمعنى مُفْعِل ، كأليم بمعنى مُؤلم ، و معنى الإِحكام في حق الله تعالى في خلق الأَشياء ، هو إتقان التدبير فيها ، و حسن التقدير لها ففيها ما لا يوصف بوثاقة البنية كالبقة والنملة و غيرهما ، إلاّ أنَّ آثار التدبير فيها ـ وجهات الدلالات فيها على قدرة الصانع و علمهـ ليست بأَقل من دلالة السموات و الأَرض و الجبال على علم الصانع و قدرته. و كذا هذا في قوله : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيء خَلَقَهُ ) (2).
     1 ـ سورة النساء : الآية 26.
    2 ـ سورة السجدة : الآية 7.


(226)
     و ليس المراد منه الحَسَن الرائق في المنظر ، فإِنَّ ذلك مفقود في القرد والخنزير ، و إِنما المراد منه حسن التدبير في وضع كل شيء موضعه بحسب المصلحة. و هو المراد بقوله : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) (1).
الثانى ـ إِنَّه عبارة عن كونه مقدّساً عن فعل ما لا ينبغي ، قال تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) (2).
    و قال : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ) (3)و (4).
    و نبحث فيما يلي عن كلا المعنيين واحداً بعد الآخر.
     1 ـ سورة الفرقان : الآية 2.
    2 ـ سورة المؤمنون : الآية 115.
    3 ـ سورة ص : الآية 27.
    4 ـ و قد ذكر الرازي هنا معنى ثالثاً و هو أنَّ الحكمة عبارة عن معرفة أفضل المعلومات بأفضل العلوم ، فالحكيم بمعنى العليم ، قال الغزالي : و قد دللنا على أنَّه لا يعرف الله إلاّ الله ، فيلزم أن يكون الحكيم الحق هو الله ، لأنه يعلم أصل الأشياء ، و هو (العلم بأصل الأشياء) أصل العلوم ، و هو علمه الأزلي الدائم الذي لا يُتصور زواله ، المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها الخفاء و لا الشبهة. (أسماء اللهُ الحُسْنى ، ص 279 ـ 280). أقول : و على المعنى الثالث تكون الحكمة من شعب علْمه.


(227)
الحِكْمَة
(1)


الحكيم : المتقن فعله
    قد عَرَفْتَ أنَّ الحكيم يُطلق على الفاعل الذي يعمل بإتقان و يُقدّر و يُدبِّر باتّزان و الله سبحانه حكيم بهذا المعنى.
    و أوضحُ دليل على ذلك أنَّ فعله في غاية البداعة و الإحكام و الإِتقان فإِنَّ الناظر يرى أنَّ العالم خُلِقَ على نظام بديع ، و أنَّ كل نوع خُلق بأَفضل صورة تناسبه ، و جُهّز بكل ما يحتاج إليه من أَجهزة تهديه في حياته و تساعده على السير إلى الكمال. و إنْ شئت فانظر إلى الأَشياء المحيطة بك مما هو من مظاهر حِكْمِتِه تعالى.
    فلاحظ العينَ مثلا فإِنَّ فيها ما يقرب من مائة و أربعين مليون مستقبل حساس للضوء تُسمَّى بالمخاريط والعصي ، وطبقة المخاريط والعصي هذه واحدة من الطبقات العشر التي تشكل شَبَكيّة العين ، و لا يتجاوز ثخانتها ـ بطبقاتها العشر ـ أربعة أَعشار المليمتر الواحد. و يخرج من العين نصف مليون ليف عصبي ينقل الصورة بشكل ملون!
    و هذا القلب و هو مضخة الحياة التي لا تَكِلَّ عن العمل ، فإِنه ينبض يومياً ما يزيد على مائة ألف مرة ، يضخ خلالها ثمانية آلاف ليتر من الدم ،


(228)
     و بمعدل وسطي يضخ ستة و خمسين مليون غالون على مدى حياة الإِنسان ، فترى هل يستطيع محرك آخر القيام بمثل هذا العمل الشاق لمثل تلك الفترة الطويلة من دون حاجة لإِصلاح؟ ...
    و أَمثال ذلك الكثير مما لا تستوعبه السطور بل ولا الزبر.
    إنَّ معطيات العلوم الطبيعية عما في الكون أَفضلُ دليل على وجود الحكمة الإِلهية في الفَلَكيّات و الأَرضيات.و لا نطيل الكلام في الحكمة بهذا المعنى ، فإنها في الحقيقة من شعب القدرة التي استوفينا الكلام فيها. على أنَّه يمكن الإِستدلال على كونه حكيماً من وجهين آخرين غير ما مر :
الأول : إِنَّ إرادته سبحانه تعلقت بخلق كل شيء بأحسن نظام ، و إِلاّ فإِنَّ صدور فعل خارج عن الإِتقان و الإِحكام ، إمَّا لأَجل جهل الفاعل بالنظام الصحيح ، و إمّا لأَجل عجزه ، وكلا العاملين منفيان عن ساحته ، لسعة علمه لكلِّ شيء وسعة قدرته. فعدوله عن مقتضى العِلْم و القدرة الوسيعين يحتاج إلى دليل ، و ليس هو إلاّ كونه عابثاً و لاغياً ، و سيوافيك فيما يأتي أَنَّه منزَّهٌ عن القبيح.
الثاني : إِنَّ أَثر كل فاعل يناسب واقع فاعله و مؤثره ، فهو كالظل يناسب ذا الظل. فالفاعل الكامل من جميع الجهات يكون مصدراً لفعل كامل ، و موجود متوازن أخْذاً بقاعدة مشابهة الظل لذي الظلّ.

الحكمة و الإِتقان في الكتاب و السنة
    إِنَّ توصيفه سبحانه بالحكمة بهذا المعنى ورد في الذكر الحكيم ، قال سبحانه : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيم خَبِير ) (1).
    و قد أشار الإِمام علي ( عليه السَّلام ) إلى الحكمة الإِلهية بمعنى
     1 ـ سورة هود : الآية 1.

(229)
     الإِتقان و الإِحكام بقوله : « قَدّر ما خَلَقْ فأحْكَمَ تقديرَه » (1).
و قوله : « مُبْتَدِعِ الخلائِقِ بِعِلْمِهِ ، و مُنْشئهم بحُكْمِهِ ، بلا اقتِداء و لا تعليم و لا احتذاء لمِثالِ صانع حكيم » (2).
    ثم إِنَّ بعض المغرورين أثاروا شكوكاً حول حكمته تعالى ، و سألوا عن فوائد الأمور التالية و هي :
    1 ـ الزائدة الدودِيّة.
    2 ـ اللوزتان.
    3 ـ ثديا الرجل.
    4 ـ صيوان الأذن.
    5 ـ الفضاء الوسيع.
    ولكن هؤلاء اغتروا بما حصلوا عليه من علوم تجريبية ، و تصوروا أَنهم أحاطوا بأسرار العالم ، مع أَنَّ الواقعيين من العلماء يعترفون بضآلة علومهم و قلة اطلاعهم على سُنَن الكون و رُموزه. قال سبحانه : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) (3).
    و قال سبحانه : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ) (4).
    هذا ، مع أَنَّ العلم الحديث كشف عن الفوائد الجمة لهذه الأمور التي استشكل فيها هؤلاء المغرورون و زعموا أَنَّها مضادة لحكمته سبحانه (5).
     1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة (91).
    2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة (191).
    3 ـ سورة الأسراء : الآية 85.
    4 ـ سورة الروم : الآية 7.
    5 ـ لاحظ « الله خالق الكون » ص 370 ـ 378 ، تحت عنوان « الأعضاء الزائدة لماذا »؟
الالهيّات ::: الفهرس