الالهيّات ::: 231 ـ 240
(231)
الحِكْمَة
(2)


الحكيم : المنزَّه عن فعل ما لا ينبغي
    إِنَّ المعنى الثاني للحكمة هو التَنَزُّه عن فعل ما لا ينبغي ، و هي بهذا المعنى أَعمّ من العدل الذي نعرفه بعدَم الجور و الظلم ، و غيره. فالحكيم ـ بعبارة أخرى ـ هو الذي لا يفعل القبيح.
    و التصديق بثبوت هذه الصفة للباري تعالى مبني على القول بالتحسين و التقبيح العقليين. فإِنَّ مفاد تلك المسألة أَنَّ هناك أَفعالا يدرك العقل كونها حسنة أو قبيحة ، و يُدرك أَنَّ الغَنيّ بالذات مُنَزّه عن الإِتصاف بالقبيح ، و فعل ما لا ينبغي.
    و هذا هو الأَساس للحكم باتصافه تعالى بالحكمة و العدل و أَنه موجود لا يجور و لا يظلم و من هنا يلزمنا البحث عن تلك المسألة على ضوء العقل و الكتاب العزيز.

التحسين و التقبيح العقليان
    ذهبت العدلية إلى أَنَّ هناك أَفعالا يدرك العقل من صميم ذاته من دون استعانة من الشرع أَنها حسنة ، يجب القيام بها ، أَو قبيحة يجب التنزه


(232)
     عنها. ولو أَمر الشارع بالأُولى و نهى عن الثَّانية ، فهو كاشف عما يدركه العقل و مرشد إليه. و ليس للشرع أَنْ يعكس القضية بأَنْ يُحَسِّنَ ما قَبَّحهُ العقل ، أَو يُقبِّح ما حَسَّنه.
    و قالت الأَشاعرة ، لا حكم للعقل فى حُسْن الأَشياء و قبحها ، و لا يتسم فعل بالحُسن أو القُبح بذاته قبل ورود الشرع ، فلأجل ذلك لا حَسَنَ إلاَّ ما حسّنه الشارع ، و لا قبيح الاَّ ما قبحه. فلو كان الظلم قبيحاً ، فلأن الشارع نهى عنه ، و لو كان العدل حَسَناً فلأنه أمَر به. و لو عكس وجعل العدل قبيحاً والظلم حَسَناً ، لكان كما قال.
    ثم إنَّ القائلين بالحُسن و القُبح العقليين يقسّمون الأفعال من حيث الإِتّصاف بهما إلى أقسام ثلاثة :
الأول : ما يكون الفعل بنفسه علَّة تامة للحُسْن و القبح ، و هذا ما يسمّى بالحُسْن و القُبح الذاتيين ، مثل العدل و الظلم. فالعدل بما هو عدل ، لا يكون إلاّ حَسَناً أبداً ، و متى ما وجد لا بُدّ أن يُمدَح فاعله و يعدّ محسِناً ، و كذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون الاّ قبيحاً و متى ما وجد ففاعله مذموم و مسيء. و يستحيل أن يكون العدل قبيحاً و الظلم حَسَناً.
الثاني : ما لا يكون الفعل علَّة تامة لأحدهما ، بل يكون مقتضياً للإِتصاف بهما ، بحيث لو خلّي الفعل و نفسه ، فإمَّا أن يكون حَسَناً كتعظيم الصديق بما هو هو أو يكون قَبيحاً كتحقيره. ولكنه لا يمتنع أن يكون التعظيم مذموماً لعروض عنوان عليه كما إذا كان سبباً لظلمِ ثالث ، أو يكون التحقير ممدوحاً لعروض عنوان عليه كما إذا صار سبباً لنجاته. و لا ينحصر المثال بهما بل الصدق والكذب أيضاً من هذا القبيل. فالصدق الذي فيه ضرر على المجتمع قبيح ، كما أنَّ الكذب الذي فيه نجاة الإِنسان البريء حَسَن. و هذا بخلاف العدل و الظلم فلا يجوز أن يتّسم العدل ـ بما هو عدل ـ بالقُبح ، و الظُلم ـ بما هو ظلم ـ بالحُسن.


(233)
     الثالث ـ ما لا علّية له و لا اقتضاء فيه في نفسه للإِتصاف بأحدهما ، و إنما يتبع الجهات الطارئة و العناوين المنطبقة عليه ، و هذا كالضَّرب فإنَّه حَسَن للتأديب ، و قَبيحٌ للإِيذاء.
    هذا هو التقسيم الرائج بينهم. و الغرض المطلوب في هذا البحث هو تبيين أنَّ هناك أفعالا يدرك العقل إذا طالعها ، بقطع النظر عن كل الجهات الطارئة عليها ، أنَّها حسنة يجب أن يمدح فاعلها أو قبيحة يجب أن يُذمَّ. و لا نقول إنَّ كل فعل من الأفعال داخل في هذا الإطار.
    وبعبارة أخرى : إنَّ النزاع بين الفريقين دائر بين الإيجاب الجزئي والسلب الكلّي ، فالعدلية يقولون بالأول والأشاعرة بالثاني.

في إطلاقات الحُسن و القُبح
    لا شك أنَّ للحسن و القبح معنى واحداً ، و إنما الكلام في مِلاك كون الشيء حَسَناً أو قبيحاً. و هو يختلف باختلاف الموارد ، فقد ذكر للحُسن والقُبح مِلاكات نوردها فيما يلي :
    1 ـ ملاءَمةُ الطَبْع و منافرته. فالمشهد الجميل ـ بما أنَّه يلائم الطبع ـ يُعدّ حَسَناً ، كما أنَّ المشهد المخُوف ، ـ بما أنَّه منافر للطبع ـ يُعَدّ قَبيحاً.
    و مثله الطعام اللذيذ و الصوت الناعم ، فإنهما حَسَنان كما أنّ الدواء المُرّ و نهيق الحمار قبيحان. و الحُسن و القُبح بهذا المِلاك ليسا محل البحث و الاختلاف. أضف إلى ذلك أنَّهما لا يمكنهما الثبات و الدوام ، لاختلاف الطبائع.
    2 ـ موافقة الغَرَض و المصلحة الشخصيَّة و النوعيّة و مخالفتهما. فقتل إنسان لعَدائه حَسَن ، حيث إنَّه موافق لأغراض القاتل الشخصيّة. ولكنه قبيح لأصدقاء المقتول و أهله ، لمخالفته لأغراضهم و مصالحهم الشخصية. هذا في المجال الشخصي. و أَمَّا في المجال النوعي ، فإنَّ العدل بما أنَّه حافظ لنظام المجتمع و مصالح النوع فهو حَسَن و بما أنَّ الظلم هادم للنظام و مخالف


(234)
     لمصلحة النوع فهو قبيح. و هذا أيضاً خارج عن مجال البحث بين العدليّة و الأشاعرة ، فإنَّ المصالح الشخصيَّة لا تصحح توصيف الفعل بالحُسن و القُبح على وجه الدوام ، لما عرفت من اختلاف الأغراض و المصالح الشخصية. فرُبَّ فعل كالقتل حَسَنَ عند فرد أو جَمع و قَبيحٌ عند آخرين ، و البحث إنَّما هو عن الحُسن و القُبح الذاتيين اللذين لا يتغير الإِتصاف بهما عند قوم دون قوم ، وجيل دون جيل ، بل يكون حُكْماً ثابتاً للفعل أبداً.
    و أمَّا المصالح النوعيَّة ـ كبقاء النظام و انهدامه فهي و إن كانت تصبغ الفعل بالحُسن و القُبح على وجه الثبات و الدوام ، لكن لا يصحّ توصيف الحُسن و القُبح في هذا المورد بالذاتيين. لأنَّ المراد بالذاتي كون ملاحظة نفس الفعل ـ مع غضّ النظر عن غيره موجباً لإِدراك العقل حُسنَه أو قُبحَه ، و ليس الأمر كذلك في توصيف الفعل بالحُسن أو القُبح لأجل المصالح و المفاسد النوعية ، فإنَّ لتلك الأغراض الخارجة عن حقيقة الفعل دخالة في إدراك العقل و توصيفه. فلأجل ذلك يجب أن يكون مثل ذلك خارجاً عن محل النزاع ، و لو اعترف الأشاعرة بحسن العدل و قبح الظلم من هذه الزاوية ، فلا يمكن عدهم موافقين للعدلية.
    3 ـ كون الشيء كمالا للنفس أو نقصاً لها ، كالعِلْم و الجهل ، فالأول زَيْن لها و الثاني شَيْن. ولكنَّ التحسين و التقبيح بهذا المعنى لا غبار عليه و ليس محلا للنقاش. إذ لا أظن أنَّ أحداً على أديم الأرض ينكر كونَ العلمِ و الشجاعة و الفصاحة كمالا و حسَناً ، و الجهلِ و الجُبِن و الفهاهةِ نقصاً و قبيحاً.
    فهذه الملاكات الثلاثة على فرض كونها ملاكات للإِتصاف بالحُسْن و القُبح ، خارجة عن حريم البحث ، و إنَّما البحث بين العدلية و غير هم في المِلاك الرابع التالي :
    4 ـ ما استحق من الأَفعال مدح فاعله عُدّ عند العقلاء حَسَناً ، و ما استحق منها ذماً عُدّ عندهم قبيحاً. و ذلك بملاحظة الفعل نفسه من حيث هو


(235)
     هو ، من دون ضم شيء إليه ، و من دون أن يلاحظ كونه مشتملا على نفع شخصي أو نوعي ، فيستقل العقل بحُسنه و وجوب فعله ، أو قُبحه و وجوب تركه.
    و إِنْ شئت قلت : إِذا وقع الفعل في إطار العقل البشري من دون فرق بين الأَفراد ، و مع غض النظر عن أَي شيء آخر غير الفعل نفسه ، و جده العقل موصوفاً بالحُسن و قابلا للمدح ، أَو على العكس. و هذا كما إِذا لاحظ جزاء الإِحسان بالإِحسان فيحكم بحسنه ، و جزاءه بالإِساءة فيحكم بقبحه.
    فالعقل في حكمه هذا ، لا يلاحظ سوى نفس الموضوع ، من دون أن يتصور كونه يتضمن صلاحاً أَو فساداً. فمبحث الحُسن و القُبح الذاتيين ، لا يهدف إِلاّ إلى هذا القسم.
    و الأَقسام الثلاثة الأُولى خارجة عن مجال البحث ، كما أَنَّ التحسين و التقبيح العاديين ، كتحسين خروج الجندي بالبَزَّة العسكرية و تقبيح خروج العالم باللباس غير المناسب ، خارجان أيضاً عن محل البحث.
    و ربما يتوهم أَنَّ للتحسين و التقبيح مِلاكاً خامساً ، هو أَنَّ الحَسَنَ ما استَحق الثواب عند الله ، و القَبيح ما استحق العقاب عنده. ولكنه خارج عن مجال البحث أَيضاً ، كيف و قد بحث عن أَصل التحسين و التقبيح البراهمة الذين لا يدينون بشريعة فضلا عن الإِعتقاد بالثواب و العقاب في الآخرة ، فكيف يكون هذا مِلاك البحث. نعم قد اتخذ هذا الوجه سناداً من أراد أنْ ينكر الحُسنَ و القُبحَ ، بحجة أَنَّ العلم باستحقاق الثواب و العقاب على الفعل خارج عن نطاق العقل ، و داخل في مجال الشرع.
    و مما قدمنا يعلم ما فيه.
    و لأجل زيادة البيان في تعيين محل النزاع بين الأشاعرة و العدلية نأتي بالتوضيح التالي :


(236)
     إِنَّ كثيراً من الباحثين عن التحسين و التقبيح العقليين ، يعلّلون حُسن العدل و الإِحسان ، و قُبَح الظلم و العدوان ، باشتمال الأَول على مصلحة عامة و باشتمال الثاني على مفسدة كذلك. و لأجل تلك النتائج عم الإِعتراف بحُسن الأَول و قبح الثاني الجميع. ولكنك عرفت أنَّ مِلاك البحث أوسع من ذلك ، و أَنَّ المسألة مركزة على لحاظ نفس الفعل مع غض النطر عن تواليه و توابعه ، هل يدرك العقل حسنه أَو قبحه ، أَو لا؟ و هل العقل يمدح إحسان المحسن بالإِحسان ، و يذم جزاء المحسن بالإِساءة أَو لا؟ و هل العقل يقبح تكليف الإِنسان بما لا يطيقه ، أَو لا؟ و هل العقل يحسّن عمل العامل بالميثاق ، أَو لا؟ فالنقاش على هذا الصعيد لا بالنظر إلى الأَغراض و المصالح ، فرديَّة كانت أَمْ اجتماعيَّة.
    فالقائلون بالتقبيح و التحسين العقليين يقولون : إِنَّ كل عاقل مميِّز ، يجد من صميم ذاته حُسن بعض الأَفعال وقُبح بعضها الآخر ، وإنَّ هذه الأحكام نابعة من صميم القوة العاقلة و الهُويَّة الإِنسانيَّة المِثاليَّة.
    و أَول من قام بتحرير محل النزاع على الوجه الذي قررناه هو المحقق اللاهيجي في تأليفه الكلامية. و أَوضح دليل على صواب تحريره هو أَن الغرض من طرح هذه المسألة التوصل إلى التعرف على أَفعاله سبحانه ، و أَنَّ العقل هل يستطيع أَنْ يستكشف وصف أَفعاله ، أَو لا؟ و أَنَّ ما هو حسن عند العقل أَو قبيح عنده هل هو كذلك عند الله تعالى؟ و لا يمكن ذلك الإستكشاف إلاّ بكون المدار في التحسين و التقبيح على ملاحظة نفس الفعل بما هو هو.
    و على ذلك فلا معنى للبحث عن التحسين و التقبيح بالمِلاكات السَّابقة من الملاءمة و المنافرة للطبع ، أو موافقة الغَرَض و مخالفته ، أَو كونه حافظاً و هادماً للنظام و المجتمع ، و إِلاّ لبطلت الغاية التي طرحت لأَجلها تلك المسألة و هي التعرف على أَفعال الباري سبحانه.


(237)
هل التَّحسين و التَّقبيح العقليَّان من المشهورات؟
    ربما يظهر من بعض الحكماء و المتكلمين أَنَّ التحسين و التقبيح العقليين من المشهورات التي اتفقت عليها آراء العقلاء و تسمى ب ـ « الآراء المحمودة ».
    و قال الشيخ الرئيس في (الإِشارات) : فأَما المشهورات ... و منها الآراء المسماة ب ـ « المحمودة » ، و ربما خصصناها باسم « المشهورة » ، إذْ لا عمدة لها إِلاّ الشهرة. و هي آراء لو خُلّي الإِنسان و عقله المجرد ، و وهمّه و حسّه ، و لم يْؤدَّب بقبول قضاياها و الإِعتراف بها ، و لم يَمِل الإِستقراء بظنه القوي إلى حُكم ، لكثرة الجزئيات ، و لم يستدَعِ إليها ما في طبيعة الإِنسان من الرحمة و الخجل و الأَنفَةَ و الحَمِيّة و غير ذلك ، لم يقض بها الإِنسان طاعةً لعقله أو وهمه أو حسّه. مثل حكمنا إِنَّ سلب مال الإِنسان قبيح و إِنَّ الكذب قبيح لا ينبغي أنْ يقدم عليه. و من هذا الجنس ما يسبق إلى وهم كثير من الناس ، و إنْ صَرَف كثيراً عنه الشرع من قبح ذبح الحيوان ، اتباعاً لما في الغريزة من الرقة لمن تكون غريزته كذلك ، وهم أَكثر الناس.
    و ليس شيء من هذا يوجبه العقل الساذج ، ولو توهم نفسه و أَنَّه خُلق دفعة تام العقل و لم يسمع أَدبا ولم يطع انفعالا نفسانياً أَو خلقياً ، لم يقض في أَمثال هذه القضايا بشيء ، بل أَمكنه أَنْ يجهله و يتوقف فيه. و ليس كذلك حال قَضائه بأَنَّ الكُلَّ أعظمُ من الجزء ـ إلى أَنْ قال ـ : فالمشهورات إمَّا من الواجبات وإما من التأديبات الصلاحية ، وما يتطابق عليه الشرائع الإلهية ، وإمَّا خُلُقِيّات وانفعاليّات ، وإمَّا استقرائيات وإما اصطلاحيّات ، وهي إمَّا بحسب الإِطلاق ، و إِما بحسب أصحاب صناعة و ملة » (1).
     1. الإِشارات و التنبيهات ، ج 1 ، ص 219 ـ 220 ـ قوله : « و إمَّا اصطلاحيات » : يريد منه أن تكون مشهورة عند الكل كقولنا : « العلم بالمتقابلات واحد » ، فإِنَّ العلم بأبوة زيد لعمرو مساوق للعلم ببنوة عمرو لزيد. أو عند أصحاب صناعة كقولنا : « التسلسل محال » ، و هو مشهور عند المناظرة. أو عند أصحاب ملة كقولنا : « الإله واحد » و « الرِّبا حرام ».

(238)
     فها إِنَّك ترى أَنَّ الشيخ الرئيس يَعُدَّ كون سلب مال الإِنسان قبيحاً ، من القضايا المشهورة و أنَّه ليس له مدرك سوى آراء العقلاء و أن الإِنسان لوخُلي و عقله ، و لم يؤدب بقبول قضاياها ، لم يقض بقبحه.
    و قد وافقه على ذلك المحقق الطوسي في شرحه على الإِشارات.
يُلاحظ عليه : إنَّ القياس ينقسم إلى أقسام خمسة :
    1 ـ برهاني ، 2 ـ جَدَلي ، 3 ـ خِطابي ، 4 ـ شِعري ، 5 ـ سَفْسَطي.
    والأول منها يتركب من اليقينيّات وأصولها ستة :
    1 ـ الأوليّات ، 2 ـ المُشاهَدات ، 3 ـ التَجريبيّات ، 4 ـ الحَدْسِيّات ، 5 ـ المُتَواتِرات ، 6 ـ الفِطْريات.
    و أَما الثاني ـ أعني القياس الجَدَلي ـ فيتألف من المشهورات والمُسَلَّمات ، سواء أكانت عند الكل أمْ عند طائفة خاصة.
    و على ذلك فالمشهورات من مبادئ الجَدَل ، و هو يقابل القياس البرهاني. فلو جعل التحسين و التقبيح العقليان من المشهورات و أدخل في القياس الجدلي و عرف بأنَّه لا مدرك له إلاّ الشهرة التي لو خلي الإِنسان و عقله المجرّد ووهمه و حسّه ، و لم يؤدَّب بقبول قضاياها لم يقض بها ، يلزم إِنكار التحسين و التقبيح العقليين و إِثبات العقلائي منهما. و هو غير ما يتبناه القائلون بالعقلي.
    أَضف إليه أنَّ جعلهما من المشهورات و إخراجهما من القياس البرهاني و إدخالهما تحت القياس الجدلي يُبطل جميع الأَحكام و الآثار التي تترتب على القول بالعقلي ، كما أَوضحناه. إِذْ على هذا ، لا يكون التحسين و التقبيح برهانياً ، فلا يكون ما يترتب عليه مُبَرْهَناً به بل يُعَدّ من المشهورات التي تطابقت عليها آراء العقلاء. و من الممكن جداً اتفاق العقلاء على


(239)
     ضدها ، فعند ذلك يكون الحَسَن قبيحاً و القَبيح حسناً.
    فإنْ قلت : إنَّ الشيخ الرئيس جعل المشهورات أعم مما هو من مبادئ الجَدَل ، فأدخل فيها الأوليّات حيث قال في صدر كلامه : « أمّا المشهورات من هذه الجملة فمنها أَيضاً هذه الأَوليات و نحوها مما يجب قبوله و منها الآراء المسماة ب ـ (المحمودة) و ربما خصصناها باسم (المشهورة) إِذْ لا عمدة لها إلاّ الشهرة ».
    قلت : ما ذكرتم صحيح ، فإِنَّ المشهورات عنده أَعمّ من اليقينيات و غيرها حتى أَنَّ الأَوليات لها اعتباران ، فمن حيث انه يعترف بها عموم الناس تعدّ مشهورات ، و من حيث إنه يحكم بها محض العقل و يجب قبولها يقينيات. و في مقابل هذا القسم ، قسم آخر للمشهورات و هي غير يقينيات و يتوقف العقل الصِرْف في الحكم بها ، ولكن لعموم النَّاس بها اعتراف و تسمى « آراء محمودة » ، و ربما يخصص هذا القسم باسم المشهورات.
    فالمشهورات تقال بالإِشتراك المعنوي على ما يعمّ اعتراف الناس بها ، ولها قسمان : يقينيّات ، و غير يقينيّات. ولكن الشيخ و من تبعه عدُّوا التحسين والتقبيح من القسم الثاني ، و هو يستلزم إنكار التحسين و التقبيح العقليين و ما بني عليه من الأحكام ، فلاحظ.

ما هو المِلاك للحكم بحسن الأَفعال و قبحها؟
    إِذا كان محل النزاع ما ذكرنا من إدراك العقل حُسن الفعل أو قُبحه بالنظر إلى ذاته مع غض النظر عما يترتب عليه من التوالي ، فيقع الكلام في أنَّ العقل كيف يقضي بالحسن والقُبح ، و ما هو المِلاك في قضائه؟
    إِنَّ المِلاك لقضاء العقل هو أنه يجد بعض الأَفعال موافقاً للجانب الأَعلى من الإِنسان والوجه المثالي في الوجود البشري ، و عدم موافقة بعضها الآخر لذلك.
    و إِنْ شئت قلت : إِنَّه يدرك أَنَّ بعض الأَفعال كمال للموجود الحي


(240)
     المختار ، و بعضها الآخر نقص له ، فيحكم بحُسن الأَول و لزوم الإِتصاف به ، و قبح الثاني و لزوم تركه. و لو عمّم الطبع ـ فيما ذكرنا من المِلاكات ـ لهذا المعنى أي الطبع الإَعلى في الإِنسان ، لكان هذا المعنى داخلا في الملاك الأَول.
توضيح ذلك : إِنَّ الحكماء قسموا العقل إلى عقل نظري و عقل عملي ، فقد قال المعلم الثاني : « إِنَّ النظرية هي التي بها يَحُوز الإِنسان علم ما ليس من شأنه أن يعمله إنسان ، والعملية هي التي يعرف بها ما من شأنه أن يعمله الإِنسان بإِرادته ».
    و قال الحكيم السبزواري في توضيحه : « إِنَّ العقل النظري و العقل العملي من شأنهما التعقّل ، لكن النظري شأنه العلوم الصِرفة غير المتعلقة بالعمل مثل : الله موجود واحد ، و أنَّ صفاته عين ذاته ، و نحو ذلك.
    والعملي شأنه العلوم المتعلقة بالعمل مثل : « التوكّل حسن » و « الرضا و التسليم و الصبر محمودة ». و هذا العقل هو المستعمل في علم الأَخلاق ، فليس العقلان كقوتين متباينتين أو كضميمتين ، بل هما كجهتين لشيء واحد و هو الناطقة » (1).
    ثم ، كما أنّ في الحِكمة النظرية قضايا نظرية تنتهي إلى قضايا بديهية ، و لولا ذلك لعقمت القياسات و صارت غير منتجة ، فهكذا في الحكمة العملية ، قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالإنتهاء إلى قضايا ضرورية ، و إِلاّ لما عَرِف الإِنسان شيئاً من قضايا الحكمة العملية. فكما أنَّ العقل يدرك القضايا في الحكمة النظرية من صميم ذاته فهكذا يدرك بديهيات القضايا في الحكمة العملية من صميم ذاته بلا حاجة إلى تصور شيء آخر.
     1 ـ تعليقات الحكيم السبزواري على شرح المنظومة ، ص 310.
الالهيّات ::: الفهرس