الالهيّات ::: 241 ـ 250
(241)
     مثلا : إِنَّ تصديق كلّ القضايا النظرية يجب أَنْ ينتهي إلى قضية امتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما ، بحيث لو ارتفع التصديق بها لَمَا أَمكن التصديق بشيء من القضايا ، و لذا تسمى ب ـ « أمّ القضايا » و ذلك كاليقين بأَنَّ زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين ، فإِنَّه لا يحصل إلاَّ إذا حصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضية ، أي عدم مساواتها لهما. و إلاَّ فلو احتمل صدق النقيض لما حصل اليقين بالنسبة. و لأجل ذلك اتفقت كلمة الحكماء على أن إقامة البرهان على المسائل النظرية إنما تتم إذا انتهى البرهان إلى أمّ القضايا التي قد عرفت.
    و على ضوء هذا البيان نقول : كما أَنَّ للقضايا النظرية في العقل النظري قضايا بديهية أو قضايا أوليّة تنتهي إليها ، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي ، يجب أَنْ تنتهي إلى قضايا أولية و واضحة عنده بحيث لو ارتفع التصديق بهذه القضايا في الحكمة العملية لما صح التصديق بقضية من القضايا فيها.
    فمن تلك القضايا البديهية في العقل العملي ، مسألة التحسين و التقبيح العقليين الثابتين لجملة من القضايا بوضوح ، مثل قولنا « العدل حسن » و « الظلم قبيح » و « جزاء الإِحسان بالإِحسان حسن » و « جزاؤه بالإِساءة قبيح ».
    فهذه القضايا قضايا أوليّة في الحكمة العملية و العقل العملي يدركها من صميم ذاته و من ملاحظة القضايا بنفسها. و في ضوء التصديق بها يسهل عليه التصديق بما يبنى عليها في مجال العقل العملي من الأحكام غير البديهية ، سواء أكانت مربوطة بالأخلاق أولا ، أم تدبير المنزل ثانياً ، أَم سياسة المدن ثالثاً ، التي يبحث عنها في الحكمة العملية.
    و لنمثل على ذلك : إِنَّ العالِمِ الأَخلاقي يحكم بلزوم تكريم الوالدين والمعلِمين و أولي النعمة ، و ذلك لأَنَّ التكريم من شؤون جزاء الإحسان


(242)
     بالاحسان ، و هو حسن بالذات ، و الإهانة لهم من شؤون جزاء الإِحسان بالإِساءة و هو قبيح بالذات.
    و الباحث عن أَحكام تدبير المنزل يحكم بلزوم القيام بالوظائف الزوجية من الطرفين و قبح التخلف عنها ، ذلك لأن القيام بها قيام بالعمل بالميثاق ، و التخلف عنها تخلف عنه ، و الأول حسن بالذات و الثاني قبيح بالذات. و العالِم الإِجتماعي الذى يبحث عن حقوق الحاكم والحكومة على المجتمع يحكم بأنَّه يجب أَنْ تكون الضرائب معادلة لدخل الأفراد ، و ذلك لأن الخروج عن تلك الضابطة ظلم على الرعيَّة و هو قبيح بالذات.
    والعالِم الإِجتماعى الذي يبحث عن حقوق الحاكم والحكومة على المجتمع يحكم بأَنَّه يجب أَنْ تكون الضرائب معادلة لدخل الأفراد ، و ذلك لأَن الخروج عن تلك الضابطة ظلم على الرعيَّة و هو قبيح بالذات.
    و قس على ذلك كلّ ما يرد عليك من الأَبحاث في الحكمة العملية ، سواء أكانت راجعة إلى الفرد (الإخلاق) ، أو إلى المجتمع الصغير (البيت) ، أَو إلى المجتمع الكبير (السياسة). فكل ما يرد فيها و يبحث عنه الباحثون ، بما أَنَّه من شؤون العقل العملي ، يجب أَنْ ينتهي الحكم فيه إيجاباً و سلباً ، صحة و بطلاناً إلى القضايا الواضحة البديهية في مجال ذلك العقل.
    إلى هنا انتهينا إلى أَنَّه يجب انتهاء الأَحكام غير الواضحة ابتداءً في مجال العقلين (النظري والعملي) إلى أَحكام بديهية مدركة بلا مؤونة شيء منهما. و ذلك دفعاً للدور و التسلسل الذي استند إليه علماء المنطق والحكمة في القسم الأول ، أَي الحكمة النظرية. و الدليل واحد سار في الجميع.
    إذا عرفت ما ذكرنا ، يقع الكلام في أمر آخر و هو تعيين المِلاك لدرك العقل صحة القضايا البديهية أو بطلانها في مجال العقلين ، فنقول :
    إِنَّ المِلاك في مجال العقل النظري عبارة عن انطباق القضية مع التكوين و عدم انطباقها ، فالعقل ، يدرك من صميم ذاته أَن اجتماع النقيضين


(243)
     شيء غير متحقق في الخارج ، و أنَّه لا يمكن الحكم بكون شيء موجوداً و في الوقت نفسه الحكم بكونه معدوماً ، يدرك ذلكبلا حاجة إلى تجربة واستقراء.
    و أما المِلاك في العقل العملي فهو عبارة عن درك مطابقة القضية و ملاءَمتها للجانب المثالي من الإِنسان غير الجانب الحيواني ، أو منافرتها له.
    فالإِنسان بما هو ذو فطرة مثالية ، يتميز بها عن الحيوانات ، يجد بعض القضايا ملائمة لذلك الجانب العالي أو منافية له. فيصف الملائم بالحُسن و لزوم العمل ، و المنافي بالقُبح و لزوم الإِجتناب. و لا يدرك القضايا بهذين الوصفين لشخصه فقط أو لصنف خاص من الإِنسان أو لكل من يطلق عليه الإِنسان ، بل يدرك حسن صدورها أو قبحه لكل موجود عاقل مختار سواء وقع تحت مظلة الإِنسانية أو خارجها. و ذلك لأن المقوم لقضائه بأَحد الوصفين نفس القضية بما هي هي من غير خصوصية للمدرك. فهو يدرك أَنَّ العدل حَسَن عند الجميع و من الجميع ، و الظلم قبيح كذلك ، و لا يختص حكمه بأحدهما بزمان دون زمان و لا جيل دون جيل.
    إلى هنا تم تبيين الأَمرين اللذين لهما دور في الحكم بالتحسين و التقبيح العقليين و يجب أن لا يُخلط أَحدهما بالآخر لكون الأَول مقدمة للثاني ، و هما :
    أ ـ إنتهاء كل القضايا في مجال العقلين إلى قضايا بديهية دفعاً للمحذور.
    ب ـ تبيين مِلاك دركِ العقلِ صحةَ تلك القضايا البديهية في مجال العقلين.
    و قد اتضح بذلك أنَّ المدعي للتحسين و التقبيح العقليين الذاتيين في غنى عن البرهنة لما يتبَّناه ، كما أَنَّ المدعي لا متناع اجتماع النقيضين


(244)
     و ارتفاعهما كذلك. و العجب أنَّ الحكماء و المتكلمين اتفقوا على أَنَّه يجب انتهاء القضايا النظرية في العقل النظري إلى قضايا بديهية ، و إِلاّ عقُمت الأَقِيْسَة و لزم التسلسل في مقام الإِستنتاج ، ولكنهم غفلوا عن إجراء ذلك الأَصل في جانب العقل العملي و لم يقسموا القضايا العملية إلى فكرية و بديهية ، أَو نظرية و ضرورية. كيف و الإِستنتاج و الجزم بالقضايا غير الواضحة الواردة في مجال العقل العملي لا يتم إِلاّ إِذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال. و قد عرفت أَنَّ المسائل المطروحة في الأَخلاق ، مما يجب الإِتصاف به أَو التنزّه عنه ، أو المطروحة في القضايا البيتية و العائلية التي يعبر عنها بتدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة و تدبير المدن ، ليست في وضوح على نمط واحد ، بل لها درجات و مراتب. فلا ينال العقل الجزم بكل القضايا العملية إِلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهية واضحة تبتني عليها القضايا المجهولة العملية حتى يحصل الجزم بها و يرتفع الإِبهام عن وجهها. و لأَجل ذلك نحن في غنى عن التوسع في طرح أَدلة القائلين بالتحسين و التقبيح و لا نذكر إِلاّ النَّزر اليسير منها.
    فكما أَنهم غفلوا عن تقسيم القضايا في الحكمة العملية إلى القسمين ، فهكذا غفلوا عن تبيين ما هو المِلاك لدرك العقل صحة بعض القضايا أوْ بطلانها في ذلك المجال. و يوجد في كلمات المتكلمين في بيان المِلاك و المعيار أمور غير تامة يقف عليها من راجع الكتب الكلامية.

أَدلة القائلين بالتَّحسين و التَّقبيح العقليين
الدّليل الأول :
هو ما أشار إليه المحقق الطّوسي بقوله : « و لإِنتفائهما مطلقاً لو ثبتا شرعاً » (1). أي إنَّا لو قلنا بأنَّ الحُسن و القُبح يثبتان من طريق الشرع ، يلزم من ذلك عدم ثبوتهما بالشرع أيضاً.
    توضيحه : إِنَّ الحُسن والقُبح لو كانا بحكم العقل ، بحيث كان العقل
     1 ـ كشف المراد ، ص 186.

(245)
     مستقلا في إِدراك حُسن الصدق و قبح الكذب ، فلا إِشكال في أَنّ ما أَمر به الشارع يكون حَسَناً و ما نهى عنه يكون قبيحاً ، لحكم العقل بأَنَّ الكذب قبيح ، والشارع لا يرتكب القبيح ، و لا يتصور في حقه ارتكابه.
    و أَما لو لم يستقل العقل بذلك ، فلو أمر الشارع بشيء أو نهى عنه أو أخبر بحسن الصدق و قبح الكذب فلا يحسن لنا الجزم بكونه صادقاً في كلامه حتى نعتقد بمضمونه لاحتمال عدم صدق الشارع في أَمره أَو إِخباره فإِن الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعد ، حتى لو قال الشارع بأَنَّه لا يكذب لم يحصل لنا اليقين بصدقه حتى في هذا الإخبار. فيلزم على قول الأَشعري أَنْ لا يتمكن الإِنسان من الحكم بحسن شيء لا عقلا و لا شرعاً.
    و إِنْ شئت قلت : لو لم يستقل العقل بحسن بعض الأَفعال و قبح بعضها الآخر ، كالصدق و الكذب ، و أَخبرنا الله سبحانه عن طريق أَنبيائه بأنَّ الفعل الفلاني حسن أَو قبيح ، لم نجزم بصدق كلامه لتجويز الكذب عليه.
    ثم إِنَّ الفاضل القوشجي الأشعري أجاب عن هذا الإِستدلال بقوله « إِنَّا لا نجعل الأَمر و النهي دليلي الحُسن و القبح ليرد ما ذكر بل نجعل الحُسن عبارة عن كون الفعل متعلق الأَمر و المدح ، و القبح عن كونه متعلق النهي و الذم » (1).
يلاحظ عليه : إِنَّ البحث تارة يقع في التسمية و المصطلح فيصح أَنْ يقال إِنَّ ما وقع متعلق الأَمر و المدح حَسَن ، و ما وقع متعلق النهي و الذم قبيح. و العلم بذلك لا يتوقف إلاّ على سماعهما من الشرع. و أخرى يقع في الوقوف على الحسن الواقعي أو القبح كذلك عند الشرع ، فهذا مما لا يمكن استكشافه من مجرد سماع تعلق الأَمر و النهي بشيء إذْ من المحتمل أنْ يكون الشارع عابثاً في أَمره و نهيه. و لو قال إِنَّه ليس بعابث ، لا يثبت به نفي
     1 ـ شرح التجريد للفاضل القوشجي ، ص 442.

(246)
     احتمال العابثية عن فعله و كلامه ، لاحتمال كونه هازلا أو كاذباً في كلامه.
    فلأجل ذلك يجب أن يكون بين الإِدراكات العقلية شيء لا يتوقف درك حسنه و قبحه على شيء ، و أن يكون العقل مستقلا في دركه ، و هو حسن العدل و قبح الظلم و حسن الصدق و قبح الكذب حتى يستقل العقل بذلك على أنَّ كل ما حكم به الشرع فهو صادق في قوله. فيثبت عندئذ أنَّ ما تعلق به الأمر حسن شرعاً ، و ما تعلق به النهي قبيح شرعاً. و هذا ما يهدف إليه المحقق الطوسي من أنَّه لولا استقلال العقل في بعض الأفعال ما ثبت حسن و لا قبح بتاتاً.

الدليل الثاني ـ ما أشار إليه المحقق الطوسي أيضاً بقوله : « ولجاز التعاكس » (1) أي في الحسن و القبح.
توضيحه : إِنَّ الشارع على القول بشرعية الحسن و القبح ، يجوز له أن يُحَسّن أو يُقَبّح ما حَسّنه العقل أو قبّحه. و على هذا يلزم جواز تقبيح الإِحسان و تحسين الإِساءة و هو باطل بالضرورة. فإنَّ وجدان كل إنسان يقضي بأنَّه لا يصح أن يُذَمَّ المُحسن أو يُمدَحَ المسيء. قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « و لا يَكُونَنّ المُحسن والمُسيءُ عندَكَ بمنزلة سواء » (2).
    و الإِمام يهدف بكلمته هذه إيقاظ وجدان عامله ، و لا يقولها بما أنَّها كلام جديد غفل عنه عامله.

الدليل الثالث ـ لو كان الحُسن والقُبح شرعيين لما حكم بهما البراهمة والملاحدة الذين ينكرون الشرائع ، و يحكمون بذلك مستندين إلى العقل.
    و هؤلاء الماديون والملحدون المنتشرون في أقطار واسعة من شرق الأرض و مغربها يرفضون الشرائع والدين من أساسه ، و يعترفون بحُسن أفعال و قبح بعضها الآخر.
     1 ـ كشف المراد ، ص 186.
    2 ـ نهج البلاغة ، الكتاب 53.


(247)
     ولأجل ذلك يغرّون شعوب العالم بطرح مفاهيم خدّاعة ، بدعاياتهم الخبيثة ، من قبيل دعم الصلح و السلام العالميين ، و حفظ حقوق البشر والعناية بالأسرى و السجناء و نبذ التمييز العُنصري ، إلى غير ذلك مما يستحسنه الذوق الإِنساني و العقل البشري في جميع الأوساط ، يطرحون ذلك ليصلوا من خلاله إلى أهدافهم و مصالحهم الشخصية. و لولا كون هذه المفاهيم مقبولة عند عامة البشر لما استخدمها دعاة المادية و الإِلحاد في العالم.
    والحاصل أنَّ هناك أفعالا لا يشكّ أحد في حسنها سواء ورد حُسنها من الشرع أم لم يرد. كما أنَّ هناك أفعالا قبيحة عند الكل ، سواء ورد قبحها من الشرع أم لا. و لأجل ذلك لو خُيِّر العاقل الذي لم يسمع بالشرائع ، و لا علم شيئاً من الأحكام ، بل نشأ في البوادي ، خالي الذهن من العقائد كلّها ، بين أن يَصْدُقَ و يُعَطى ديناراً ، أو يَكْذِبَ و يُعْطَى ديناراً ، و لا ضرر عليه فيهما فإِنه يرجحّ الصدق على الكذب. و لولا قضاء الفطرة بحسن الصدق و قبح الكذب لما فرق بينهما ، و لما اختار الصدق دائماً.
    و هذا يعرب عن أَنَّ العقل له قدرة الحكم و القضاء في أمور ترجع إلى الفرد والمجتمع ، فيحكم بحسن إطاعة وليه المنعم و قبح مخالفته ، و أنَّ المحسن و المسيء ليسا بمنزلة سواء ، و نحو ذلك.

الدليل الرابع ـ لو كان الحسن و القبح باعتبار السمع ، لما قبح من الله تعالى شيء. و لو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على أيدي الكاذبين. وتجوز ذلك يسدّ باب معرفة الأنبياء ، فإنَّ أيّ نبي أتى بالمعجزة عقيب الإدّعاء ، لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعواه.
    و هذه النتيجة الباطلة من أهم و أبرز ما يترتب على إنكار القاعدة. و بذلك سدّوا باب معرفة النبوّة.
    والعجب أنَّ الفَضْل بن رُوزبَهان حاول الإِجابة عن هذا الدليل بقوله :


(248)
     « عدم إظهار المعجزة على يد الكذابين ليس لكونه أمراً قبيحاً عقلا ، بل لعدم جريان عادة الله ، الجاري مجرى المحال العادي ، بذلك. فعند ذلك لا ينسد باب معرفة الأنبياء ، لأنَّ العِلْم العادي حَكَم باستحالة هذا الإِظهار » (1).
    فإنَّه يُلاحظ عليه ، إنَّه من أين وقف على تلك العادة ، و أنَّ الله لا يجري الإِعجاز على يد الكاذب. ولو كان التصديق متوقفاً على إحرازها ، لزم أن يكون المكذبون بنبوة نوح أو من قبله و من بعده ، معذورين في إنكارهم لنبوّة الأنبياء ، إذ لم تثبت عندهم تلك العادة ، لأَنَّ العلم بها إنما يحصل من تكرر رؤية المعجزة على يد الصادقين دون الكاذبين.
    و يمكن أن يقال : إِنَّ تحصيل جريان عادة الله بأن لا يظهر المعجزة على يد الكاذب ، يجب أن يستند إلى مصدر ، فإن كان المصدر هو العقل فهو معزول عند الأشاعرة. و إن كان هو السمع فالمفروض أنَّه يحتمل أن يكون الشرع كاذباً في هذا الإِدعاء ، بل لا سمع قبل ثبوت نبوّة النبي.
    و حصيلة البحث : إِنَّ منكر الحُسن والقُبح منكر لما هو من البديهيات. و لا يصحّ الكلام معه ، لأن النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدمات ضرورية و هؤلاء ينازعون فيها.
    ليت شعري ، إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق ، وجَوَّز أن ينهَى الله سبحانه العبد عن الفعل و يخلق فيه اضطراراً و يعاقبه عليه ، فقل : ها ، أيّ أمر يُدرِكُه العقل؟!!.
    قيل : اجتمع النظَّام و النّجّار للمناظرة ، فقال النجار : لم تدفع أن يكلف الله عباده ما لا يطيقون؟.
    فسكت النظَّام ، فقيل له : لم سَكَتّ؟.
     1 ـ دلائل الصّدق ، ج 1 ، ص 369.

(249)
     قال : كنت أريد بمناظرته أن الزمه القول بتكليف ما لا يُطاق ، فإذ التزمه و لم يستح ، فبم الزمه؟.
    و بذلك تعرف مدى و هن ما ذكره أبو الحسن الأشعري في لمعه ، و إليك نصه :
    « فإن قال قائل : هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة؟ قيل له : لله تعالى ذلك ، و هو عادل إن فعله » ... إلى أن قال ... « و لا يقبح منه أن يعذّب المؤمنين ، و يُدخل الكافرين الجنان. و إنما نقول إنَّه لا يفعل ذلك ، لأنه أخبرنا إنه يعاقب الكافرين و هو لا يجوز عليه الكذب في خبره » (1).

أدلة الأشاعرة على نفي التحسين و التقبيح العقليين
الدليل الأول ـ الله مالك كل شيء يفعل في ملكه ما يشاء
    استدل الأشعري على مقالته بقوله : « والدّليل على أنَّ كل ما فعله فله فعله ، أنَّه المالك ، القاهر ، الذي ليس بمملوك ، و لا فوقه مبيح ، و لا آمر ، و لا زاجر ، و لا حاظر ، و لا مَن رَسَمَ له الرسوم ، و حدّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا ، لم يقبح منه شيء ، إذ كان الشيء إنَّما يقبح منّا ، لأنَّا تجاوزنا ما حدّ ورسم لنا ، و أتينا ما لم نملك إتيانه. فلمَّا لم يكن الباري مملوكاً و لا تحت آمر ، لم يقبح منه شيء. فإن قال : فإنما يقبح الكذب لأنه قبّحه ، قيل له : أجل ، و لو حسّنه لكان حسناً ، و لو أمر به لم يكن عليه اعتراض.
    فإن قالوا : فجوِّزوا عليه أن يكذب ، كما جوزتم أن يأمر بالكذب. قيل لهم : ليس كل ما جاز أن يأمر به ، جاز أن يوصف به » (2).
     1 ـ اللّمع ، ص 116.
    2 ـ اللّمع ، ص 117.


(250)
     يلاحظ عليه : أمَّا أوَّلا ـ فإننا نسأل الشيخ الأشعري إنَّه سبحانه إذا أوْلَم طفله في الآخرة و عذّبه بألوان التعذيب ، مع كون الطفل بريئاً لم يصدر منه ذنب ، و رأى الأشعري ذلك بأم عينه في الآخرة ، هل يرى ذلك عين العدل ، و نفس الحُسن؟! أو أنه يجد ذلك الفعل ، من وجدانه ، أمراً مُنْكَراً؟.
    و مثله ما لو فُعل بالأشعري نفس ما فعل بطفله مع كونه مؤمناً ، فهل يرضى بذلك في أعماق روحه ، و يراه نفس العدل ، غير متجاوَز عنه ، بحجة أنَّ الله سبحانه مالِك المُلك يفعل في ملكه ما يشاء؟ أو أنه يقضي بخلاف ذلك؟.
و أَمَّا ثانياً : فلا شك أنَّه سبحانه مالِك المُلك و الملكوت يقدر على كل أمر ممكن ـ كما عرفت ـ من غير فرق بين الحَسَن و القبيح ، فعموم قدرته لكل ممكن ممّا لا شبهة فيه ، ولكن حكم العقل بأنَّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم ، ليس تحديداً لملكه و قدرته. و هذا هو المهم في حلّ عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنَّ قضاء العقل و حكمه في أفعاله سبحانه نوع دخالة في شؤون ربّ العالمين ، ولكن الحق غير ذلك.
توضيحه : إِنَّ العقل بفضل التجربة ، أو بفضل البراهين العقلية ، يكشف عن القوانين السَّائدة على الطبيعة ، كما يكشف عن القوانين الرياضية ، فلو قال العقل : إِنَّ كل زوج ينقسم إلى متساويين ، فهل يحتمل أنَّ العقل بذلك فَرَض حُكْمَه على الطبيعة ، أو يقال إنَّ الطبيعة كانت تحمل ذلك القانون و العقل كشفه و بيّنه؟ فإذا كان هذا هو الفرق بين فرض الحكم و كشفه في عالم الطبيعة ، فليكن هو الفارق بين إدراكِهِ حُسْن الفعل و قُبحه و أنَّ أيّ فعل يصدر منه و أيَّهُ لا يصدر منه ، و فَرْضِهِ الحُكْمَ على الله سبحانه فرضاً يحدد سعة قدرته وَ إرادته و فعله. فليس العقل هنا حاكماً و فارضاً على الله سبحانه ، بل هو بالنظر إلى الله تعالى و صفاته التي منها الكمال والغنى ـ يكشف عن أنَّ الموصوف بمثل هذه الصفات و خاصة الحكمة ، لا
الالهيّات ::: الفهرس