المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: 46 ـ 60
(46)
وعدّوا عليّاً ذا المناقبِ والعُلاَ وحمزةَ والعباسَ ذاالدينِ والتقى أولئك مشؤمون هنداً وحزبَها هُمُ منعوا الآباءَ من أَخْذِ حقِّهم سأبكيهم ما حجَّ للهِ راكبٌ فيا عينُ بكِّيهم وجودي بعبرة وآلُ زياد في الحُصُونِ منيعةٌ ديارُ رسولِ اللهِ أصبحنَ بلقعاً وآلُ رسولِ اللهِ نُحْفٌ جسومُهُمْ وآلُ رسولِ اللهِ تُدمى نحورُهُمْ وآلُ رسولِ اللهِ تُسبى حريمُهُمْ إذا وُتِروا مدّوا إلى واتريهِمُ سأبكيهم ما ذَرَّ في الأرضِ شارقٌ وما طلعت شمسٌ وَحَانَ غُرُوبُها وفاطمةَ الزهراءَ خيرَ بناتِ وجعفَرها الطيَّارَ في الحجباتِ سميَّةَ من نَوكَى ومن قَذِرَاتِ وهم تركوا الأبناءَ رَهْنَ شَتَاتِ وما ناح قَمْريٌّ على الشجراتِ فقد آنَ للتَّسْكَابِ والهَمَلاتِ وآلُ رسولِ اللهِ في الفَلَواتِ وآلُ زياد تسكُنُ الحُجُراتِ وآلُ زياد غُلَّظُ القصراتِ وآلُ زياد ربَّهُ الحجلاتِ وآلُ زياد آمِنُوا السَّرَبَاتِ أكفّاً عن الأوتارِ منقبضاتِ ونادى منادي الخيرِ للصلواتِ وبالليلِ أبكيهم وبالغَدَواتِ (1)

    جاء في الزيارة الناحية الشريفة مخاطبا لسيد الشهداء ( عليه السلام ) : كُنتَ للرسولِ ( صلى الله عليه وآله ) ولداً  ، وللقرآن مُنقِذاً  ، وللأُمّةِ عَضُداً  ، وفي الطاعةِ مجتهداً  ، حافظاً للعهدِ والميثاقِ  ، ناكباً عن سُبُل الفُسَّاقِ  ، باذلاً للمجهودِ  ، طويلَ الركوعِ والسجودِ  ،
1 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/257.

(47)
زاهداً في الدنيا زُهدَ الراحِلِ عنها  ، ناظراً إليها بعينِ المستوحشين منها  ، آمالُك عنها مكفوفةٌ  ، وهِمَّتُك عن زينتِها مصروفةٌ  ، وألحاظُكَ عن بَهجَتِها مطروفةٌ  ، ورغبتُكَ في الآخرةِ معروفةٌ  ، حتى إذا الجور مَدَّ بَاعَهُ  ، وأسفر الظُّلْمُ قِنَاعَهُ  ، وَدَعا الغيُّ أَتباعَهُ  ، وأنت في حَرَم جَدِّك قاطنٌ  ، وللظالمين مُبَاينٌ  ، جليسُ البيتِ والمحرابِ  ، معتزلٌ عن اللذاتِ والشهواتِ  ، تُنكِرُ المنكرَ بِقَلْبِك ولِسَانِك  ، على قَدْرِ طَاقَتِكَ وإمكانِك.
    ثم اقتضاك العلمُ للإنكارِ  ، ولَزِمَك أن تُجاهدَ الفجَّارَ  ، فَسِرْتَ في أولادِك وأهاليك  ، وشيعتِك ومَوَاليك  ، وصَدَعْتَ بالحقِّ والبيَّنةِ  ، ودعوتَ إلى اللهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ  ، وأمرتَ بإقامةِ الحدودِ  ، والطاعةِ للمعبودِ  ، ونهيتَ عن الخبائثِ والطُّغْيَانِ  ، وواجهوك بالظُّلم والعُدوان. (1)
    روي عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال : إن المحرم شهر كان أهلُ الجاهلية يُحرِّمون فيه القتال  ، فاستحلّت فيه دماؤنا  ، وهُتكت فيه حُرمتنا  ، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا  ، وأُضرمت النيران في مضاربنا  ، وانتُهب ما فيها من ثقلنا  ، ولم ترع لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حرمة في أمرنا  ، إن يوم الحسين أقرح جفوننا  ، وأسبل دموعنا  ، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء  ، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء  ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون  ، فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام (2).
    قال الشيخ المفيد عليه الرحمة في الإرشاد : روى الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السيرة  ، قالوا : لما مات الحسن ( عليه السلام ) تحرَّكت الشيعة بالعراق  ، وكتبوا إلى الحسين ( عليه السلام ) في خلع معاوية والبيعة له  ، فامتنع عليهم  ، وذكر أن بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه  ، حتى تمضي المدة  ، فإذا مات معاوية نظر في
1 ـ المزار  ، المشهدي : 502 ـ 503.
2 ـ الأمالي  ، الصدوق : 190 ـ 191 ح 2.


(48)
ذلك.
    فلما مات معاوية ـ وذلك للنصف من شهر رجب سنة ستين من الهجرة ـ كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ وكان على المدينة من قبل معاوية ـ أن يأخذ الحسين ( عليه السلام ) بالبيعة له  ، ولا يرخِّص له في التأخير عن ذلك  ، فأنفذ الوليد إلى الحسين في الليل فاستدعاه  ، فعرف الحسين ( عليه السلام ) الذي أراد  ، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح  ، وقال لهم : إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت  ، ولست آمن أن يكلِّفني فيه أمراً لا أجيبه إليه  ، وهو غير مأمون  ، فكونوا معي  ، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب  ، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عني.
    فصار الحسين ( عليه السلام ) إلى الوليد بن عتبة فوجد عنده مروان بن الحكم  ، فنعى إليه الوليد معاوية  ، فاسترجع الحسين  ، ثمَّ قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : إني لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتى أبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس  ، فقال له الوليد : أجل  ، فقال الحسين : فتصبح وترى رأيك في ذلك  ، فقال له الوليد : انصرف على اسم الله تعالى حتى تأتينا مع جماعة الناس.
    فقال له مروان : والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه  ، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه  ، فوثب الحسين ( عليه السلام ) عند ذلك وقال : أنت يا ابن الزرقاء تقتلني أم هو ؟ كذبت والله وأثمت  ، وخرج يمشي ومعه مواليه حتى أتى منزله (1).
    وفي رواية السيد ابن طاووس عليه الرحمة قال : كتب يزيد إلى الوليد يأمره بأخذ البيعة على أهلها وخاصة على الحسين ( عليه السلام ) ويقول : إن أبى عليك فاضرب عنقه  ، وابعث إليَّ برأسه  ، فأحضر الوليد مروان واستشاره في أمر الحسين ( عليه السلام )   ،
1 ـ الإرشاد  ، المفيد : 2/32 ـ 33  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/324 ح 2.

(49)
فقال : إنه لا يقبل  ، ولو كنت مكانك ضربت عنقه  ، فقال الوليد : ليتني لم أك شيئاً مذكوراً.
    ثم بعث إلى الحسين ( عليه السلام ) فجاءه في ثلاثين من أهل بيته ومواليه ـ وساق الكلام إلى أن قال ـ : فغضب الحسين ( عليه السلام ) ثم قال : ويلي عليك يا ابن الزرقاء  ، أنت تأمر بضرب عنقي ؟ كذبت والله وأثمت.
    ثم أقبل على الوليد فقال : أيها الأمير! إنّا أهل بيت النبوة  ، ومعدن الرسالة  ، ومختلف الملائكة  ، وبنا فتح الله  ، وبنا ختم الله  ، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر  ، قاتل النفس المحرَّمة  ، معلن بالفسق  ، ومثلي لا يبايع مثله  ، ولكن نصبح وتصبحون  ، وننظر وتنظرون  ، أيّنا أحق بالبيعة والخلافة  ، ثم خرج ( عليه السلام ) فقال مروان للوليد : عصيّتني ! فقال : ويحك إنك أشرت إليَّ بذهاب ديني ودنياي والله ما أظن أحداً يلقى الله بدم الحسين ( عليه السلام ) إلا وهو خفيف الميزان لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذابٌ أليم (1).
    وفي رواية ابن شهر آشوب عليه الرحمة لما امتنع الإمام الحسين ( عليه السلام ) من البيعة  ، قال : فأغلظ الوليد في كلامه وارتفعت الأصوات فهجم تسعة عشر رجلاً قد انتضوا خناجرهم وأخرجو الحسين ( عليه السلام ) إلى منزله قهراً (2).
    ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
وافى الوليدَ بفتية كلٌّ حَلاَ فأقامهم بالبابِ لكنْ مُذْ عَلاَ وبه أحاطت كالأسودِ وأرغمت يا ليتها في الطفِّ لمَّا صُرِّعت وغدا وحيداً والعدى أَمُّوه مِنْ وقد استغاث ولا مجيبَ له سوى قاموا لنصرتِهِ وكلٌّ قائلٌ مُرُّ المنونِ لديه دون هَوَانِهِ صوتُ العميدِ عَدَتْ على عُدْوَانِهِ أَنْفَ العدوِّ وعاد في سلطانِهِ من دونِهِ وثوت على كُثْبَانِهِ رام إليه وطاعن بسنانِهِ صوت شَجَاه من بُكَا نِسْوَانِهِ لبَّيك داعي ربِّنا بلسانِهِ

1 ـ اللهوف  ، ابن طاووس : 16 ـ 17.
2 ـ مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 3/240.


(50)
يتسابقون إلى الكفاحِ ودونه وقفت تلقَّى النبلَ عن جُثْمانِهِ (1)
    وقال ابن شهر آشوب عليه الرحمة : كتب ـ يزيد ـ إلى الوليد بأخذ البيعة من الحسين ( عليه السلام ) وعبدالله بن عمر  ، وعبدالله بن الزبير  ، وعبدالرحمان بن أبي بكر أخذاً عنيفاً ليست فيه رخصة  ، فمن يأبَ عليك منهم فاضرب عنقه  ، وابعث إليَّ برأسه  ، فشاور في ذلك مروان فقال : الرأي أن تحضرهم وتأخذ منهم البيعة قبل أن يعلموا.
    فوجَّه في طلبهم وكانوا عند التربة  ، فقال عبدالرحمن وعبدالله : ندخل دورنا ونغلق أبوابنا  ، وقال ابن الزبير : والله ما أبايع يزيد أبداً  ، وقال الحسين ( عليه السلام ) : أنا لابد لي من الدخول على الوليد  ، وذكر قريباً مما مرَّ (2).
    قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فقال مروان للوليد : عصيتني  ، لا والله لا يمكنك مثلها من نفسه أبداً  ، فقال الوليد : ويح غيرك يا مروان  ، إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني ودنياي  ، والله ما أحبُّ أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسيناً  ، سبحان الله! أقتل حسيناً أن قال لا أبايع  ، والله إني لأظنّ أن امرءاً يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة.
    فقال له مروان : فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت  ، يقول هذا وهو غير الحامد له على رأيه (3).
    وقال محمد بن أبي طالب الموسوي رحمه الله تعالى : لما ورد الكتاب على الوليد بقتل الحسين ( عليه السلام ) عظم ذلك عليه  ، ثمَّ قال : والله لا يراني الله أقتل ابن نبيه ولو جعل يزيد لي الدنيا بما فيها (4).
1 ـ الشواهد المنبرية  ، الشيخ علي الجشي : 41 ـ 42.
2 ـ مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 4/88.
3 ـ الإرشاد  ، المفيد : 2/33  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/324 ح 2.
4 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/327.


(51)
    قال السيد عليه الرحمة : فلمَّا أصبح الحسين ( عليه السلام ) خرج من منزله يستمع الأخبار فلقيه مروان بن الحكم فقال له : يا أبا عبدالله  ، إني لك ناصح  ، فأطعني ترشد  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : وما ذاك ؟ قل حتى أسمع  ، فقال مروان : إني آمرك ببيعة يزيد أمير المؤمنين  ، فإنه خير لك في دينك ودنياك  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : إنا لله وإنا إليه راجعون  ، وعلى الإسلام السلام  ، إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد  ، ولقد سمعت جدّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : الخلافة محرَّمة على آل أبي سفيان  ، وطال الحديث بينه وبين مروان حتى انصرف مروان وهو غضبان.
    فلما كان الغداة توجَّه الحسين ( عليه السلام ) إلى مكة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين  ، فأقام بها باقي شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة (1).
    قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فأقام الحسين ( عليه السلام ) في منزله تلك الليلة  ، وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين من الهجرة  ، واشتغل الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد  ، وامتناعه عليهم  ، وخرج ابن الزبير من ليلته عن المدينة متوجِّهاً إلى مكة  ، فلمَّا أصبح الوليد سرَّح في أثره الرجال فبعث راكباً من موالي بني أمية في ثمانين راكباً فطلبوه فلم يدركوه  ، فرجعوا.
    فلما كان آخر نهار السبت بعث الرجال إلى الحسين ( عليه السلام ) ليحضر فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية  ، فقال لهم الحسين ( عليه السلام ) : أصبحوا ثم ترون ونرى  ، فكفوا تلك الليلة عنه  ، ولم يلحّوا عليه  ، فخرج ( عليه السلام ) من تحت ليلته ـ وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب ـ متوجّهاً نحو مكه  ، ومعه بنوه وإخوته وبنو أخيه  ، وجلُّ أهل بيته إلاّ محمد بن الحنفيّة رحمه الله  ، فإنه لما علم عزمه على الخروج عن المدينة لم يدر أين يتوجَّه  ، فقال له : يا أخي  ، أنت أحبُّ الناس إليَّ وأعزُّهم عليَّ  ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك  ، وأنت أحقُّ بها  ، تنحَّ ببيعتك عن يزيد بن
1 ـ اللهوف  ، ابن طاووس : 18 و 21  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/326.

(52)
معاوية  ، وعن الأمصار ما استطعت  ، ثم ابعث رسلك إلى الناس  ، ثم ادعهم إلى نفسك  ، فإن تابعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك  ، وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك  ، ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك  ، إني أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم  ، فمنهم طائفة معك وأخرى عليك  ، فيقتتلون فتكون أنت لأوَّل الأسنَّة غرضاً  ، فإذا خيرُ هذه الأمة كلها نفساً وأباً وأماً أضيعها دماً وأذلّها أهلا.
    فقال له الحسين ( عليه السلام ) : فأين أنزل يا أخي ؟ قال : انزل مكة  ، فإن اطمأنَّت بك الدار بها فسبيل ذلك  ، وإن نبتْ بك لحقت بالرمال وشعف الجبال  ، وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس  ، فإنك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالا  ، فقال ( عليه السلام ) : يا أخي  ، قد نصحت وأشفقت  ، وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفَّقاً (1).
    وعن حمزة بن حمران  ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : ذكرنا خروج الحسين ( عليه السلام ) وتخلّف ابن الحنفية  ، فقال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : يا حمزة  ، إني سأخبرك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسك هذا  ، إن الحسين ( عليه السلام ) لما فصل متوجّهاً  ، دعا بقرطاس وكتب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم  ، من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم  ، أما بعد  ، فإن من لحق بي منكم استشهد  ، ومن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح والسلام (2).
    وروى السيد ابن طاووس عليه الرحمة من كتاب الشافي في النسب بإسناده إلى جده محمد بن عمر قال : سمعت أبي عمر بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يحدث أخوالي آل عقيل قال : لما امتنع أخي الحسين ( عليه السلام ) عن البيعة ليزيد بالمدينة  ، دخلت عليه فوجدته خاليا فقلت له : جُعلت فداك يا أبا عبدالله  ، حدثني أخوك
1 ـ الإرشاد  ، المفيد : 2/34 ـ 35.
2 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/330.


(53)
أبو محمد الحسن عن أبيه ( عليهما السلام ) ثم سبقتني الدمعة وعلا شهيقي فضمني إليه وقال : حدثك أني مقتول  ؟ فقلت : حوشيت يابن رسول الله  ، فقال : سألتك بحق أبيك  ، بقتلي خبرك  ؟ فقلت : نعم  ، فلو لا تأولت وبايعت  ؟ فقال : حدثني أبي أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبره بقتله وقتلي  ، وأن تربتي تكون بقرب تربته  ، فتظن إنك علمت ما لم أعلمه  ، وإنه لا أعطي الدنية عن نفسي أبدا  ، ولتلقين فاطمة أباها شاكية ما لقيت ذريتها من أمته  ، ولا يدخل الجنة أحدٌ آذاها في ذريتها (1).
    وروى ابن قولويه عليه الرحمة  ، عن جابر  ، عن محمد بن علي ( عليهما السلام )   ، قال : لما همَّ الحسين ( عليه السلام ) بالشخوص عن المدينة أقبلت نساء بني عبدالمطلب فاجتمعن للنياحة حتى مشى فيهنَّ الحسين ( عليه السلام )   ، فقال : أنشدكنَّ الله أن تبدين هذا الأمر معصية لله ولرسوله ( صلى الله عليه وآله )   ، فقالت له نساء بني عبد المطلب : فلمن نستبقي النياحة والبكاء  ، فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي وفاطمة ورقية وزينب وأم كلثوم  ، فننشدك الله  ، جعلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور  ، وأقلبت بعض عمَّاته تبكي وتقول : أشهد يا حسين لقد سمعت الجن ناحت بنوحك  ، وهم يقولون :
فإن قتيلَ الطفِّ من آلِ هاشم حبيبُ رسولِ اللهِ لم يكُ فاحشاً أذلَّ رقاباً من قريش فذلَّتِ أبانت مصيبتُك الأنوفَ وجلَّتِ
    وقلن أيضاً :
أبكي حُسيناً سيداً ولقتلِهِ زُلزلتمُ واحمَّرت آفاقُ السما وتغيَّرت شَمْسُ البلا ولقتلِهِ شاب الشَّعَرْ ولقتلِهِ انكسف القَمَرْ ءِ من العشيَّةِ والسَّحَرْ د بهم وأظلمت الكورْ

1 ـ اللهوف في قتلى الطفوف  ، السيد ابن طاووس : 19 ـ 20.

(54)
ذاك ابن فاطمة المصـ أورثتنا ذلا به ـاب به الخلائقُ والبَشَرْ جدع الأنوف مَعَ الغرر (1)
    وجاء في معالي السبطين للحائري عليه الرحمة قال : ثم إن نساء بني هاشم أقبلن إلى أم هاني عمَّة الحسين ( عليه السلام ) وقلن لها : يا أمَّ هاني  ، أنت جالسة والحسين ( عليه السلام ) مع عياله عازم على الخروج ؟ فأقبلت أم هاني  ، فلمَّا رآها الحسين ( عليه السلام ) قال : أما هذه عمتي أم هاني ؟ قيل : نعم  ، فقال : يا عمّة  ، ما الذي جاء بك وأنت على هذه الحالة ؟ فقالت : وكيف لا آتي وقد بلغني أن كفيل الأرامل ذاهب عني ؟ ثم إنها انتحبت باكيةً  ، وتمثَّلت بأبيات أبيها أبي طالب ( عليه السلام ) :
وأبيضَ يستسقى الغمامُ بوجهِهِ تطوفُ به الهلاَّكُ من آلِ هاشم ثِمالُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ فهم عنده في نعمة وفَوَاضِلِ
    ثم قالت : سيدي  ، وأنا متطيِّرة عليك من هذا المسير لهاتف سمعت البارحة يقول :
وإنَّ قتيلَ الطفِّ من آلِ هاشم حبيبُ رسولِ اللهِ لم يك فاحشاً أذلَّ رقاباً من قريش فذلَّتِ أبانت مصيبتُهُ الأنوفَ وجلَّتِ
    فقال لها الحسين ( عليه السلام ) : يا عمَّة  ، لا تقولي : من قريش  ، ولكن قولي : ( أذلَّ رقاب المسلمين فذلَّت )   ، ثم قال : يا عمَّة  ، كل الذي مقدَّر فهو كائن لا محالة  ، وقال ( عليه السلام ) :
وما هم بقوم يغلبون ابنَ غالب ولكن بعلمِ الغيبِ قد قُدِّرَ الأمرُ
    فخرجت أم هاني من عنده باكية وهي تقول :
وما أمُّ هاني وحدَها سَاءَ حالَها ولكنَّما القبرُ الشريفُ وَمَنْ به خروجُ حسين عن مدينةِ جدِّهِ ومنبرُهُ يبكون من أجلِ فَقْدِهِ

1 ـ كامل الزيارات  ، ابن قولويه : 195 ـ 196 ح 8.

(55)
    أقول : ليت شعري ما حال أم هاني وبنات عبدالمطلب يوم ورد الناعي بقتل الحسين ( عليه السلام )   ، قال الرواي : ولما ورد نعي الحسين ( عليه السلام ) المدينة فلم أسمع والله واعية مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على الحسين ( عليه السلام ) (1).
    وخرجت أسماء ـ وفي رواية أم لقمان بنت عقيل بن أبي طالب ـ في جماعة من نساء بني هاشم وهي حاسرة تلوي بثوبها حتى انتهت إلى قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، فلاذت به وشهقت عنده  ، ثم التفتت إلى المهاجرين والأنصار وهي تقول :
ماذا تقولون إن قال النبيُّ لكم بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ماذا فعلتم وأنتم آخرُ الأُمَمِ منهم أسارى ومنهم ضرِّجوا بدمِ (2)
    قال بعض الرواة : وتهيَّأ الحسين بن علي ( عليهما السلام ) وعزم على الخروج من المدينة  ، ومضى في جوف الليل إلى قبر أمه فصلَّى عند قبرها وودَّعها  ، ثم قام عن قبرها وصار إلى قبر أخيه الحسن ففعل مثل ذلك  ، ثم رجع إلى منزله (3).
    ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
بأبي حُسيناً حين أزعجه العدى قد ودَّعَ الأطهارَ من أهلِ العَبَا ولدى الترحُّلِ ودَّعته وابتغت حتى إذا أمسى لقىً في كربلا وَجَدَتْهُ مقطوعَ الكريمِ موزَّعَ الـ من أرضِ طيبةَ للأحبَّةِ ودَّعا بقبورِهم إذ بالترحُّلِ أزمعا بَدَلَ الزيارةِ للزيارةِ موضعا زارته في حال إليها أفجعا أشلا وبجدلُ منه حزَّ الإصبعا (4)
    روى الشيخ المفيد عليه الرحمة بإسناده عن إبراهيم بن داحة قال : أول شعر
1 ـ معالي السبطين  ، الحائري : 1/214 ـ 215.
2 ـ روضة الواعظين  ، الفتال النيسابوري : 192 ـ 193  ، تاريخ الطبري : 4/357  ، معالي السبطين  ، الحائري : 1/215.
3 ـ كتاب الفتوح  ، ابن أعثم الكوفي : 5/21  ، مقتل الحسين ( عليه السلام )   ، الخوارزمي : 1/187.
4 ـ الشواهد المنبرية  ، الشيخ علي الجشي : 43.


(56)
رثي به الحسين بن علي ( عليهما السلام ) قول عقبة بن عمرو السهمي من بني سهم بن عوف بن غالب :
إذا العينُ قرَّتْ في الحياةِ وأنتُمُ مررتُ على قبرِ الحسينِ بكربلا فما زلتُ أرثيه وأبكي لشجوِهِ وبكَّيتُ من بعد الحسين عصائباً سلامٌ على أهلِ القبورِ بكربلا سلامٌ بآصالِ العشيِّ وبالضحى ولا بَرِحَ الوفَّادُ زوَّارُ قبرِهِ تخافون في الدنيا فأظلمَ نورُها ففاض عليه من دموعي غزيرُها ويُسْعِدُ عيني دمعُها وزفيرُها أطافت به من جانبيها قبورُها وقلَّ لها مني سلامٌ يزورُها تؤدِّيه نكباءُ الرياحِ ومُورُها يفوحُ عليهم مِسْكُها وعبيرُها (1)
    وقال شاعر آخر :
تبيتُ النشاوى من أميَّةَ نُوَّماً وما قتلَ الإسلامَ إلاَّ عصابةٌ فأضحت قناةُ الدينِ في كفِّ ظالم وبالطفِّ قتلى ما ينامُ حميمُها تأمَّرَ نَوْكَاها ونام زعيمُها إذا اعوجَّ منها جانبٌ لا يقيمُها (2)

    جاء في زيارات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : يا مواليَّ  ، فلو عاينكم المصطفى  ، وسهام الأئمة معرقة في أكبادكم  ، ورماحهم مشرعة في نحوركم  ، وسيوفها مولغة في دمائكم  ، يشفي أبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم  ، وغيظ الكفر من إيمانكم  ،
1 ـ الأمالى  ، الشيخ المفيد : 324.
2 ـ مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 3/268.


(57)
وأنتم بين صريع في المحراب قد فَلق السيفُ هامتَه  ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانُه  ، وقتيل بالعراء قد رُفع فوق القناة رأسُه  ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه  ، ومسموم قد قُطِّعت بجُرع السمِّ أمعاؤه (1)   ، فإنّا لله إنّا إليه راجعون  ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم  ، ولله درّ السيد صالح القزويني عليه الرحمة إذ يقول :
فلهفي عليهم ما قضى حَتْفَ أنفِهِ تجنَّت عليهم آلُ حرب تجرُّماً فكم جَزَروا بالطفِّ منهم أماجداً فَيَالِرؤس في الرماحِ وأضلع ويالِلُحُوم غسَّلتها دماؤُها ولهفي على سبطِ النبيِّ تذودُهُ كريمٌ لهم إلاَّ بسمٍّ وَصَارِمِ وجالت عليهم باحتباءِ الجرائمِ على ظمأ بالبيضِ جَزْرَ السوائمِ تحطِّمُها خيلُ العدى بالمناسمِ وكفَّنها نَسْجُ الرياحِ النواسمِ عن الماءِ أرجاسُ الأعادي الغواشمِ (2)
    روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حديث له عما يجري على أهل بيته ( عليهم السلام ) من المحن والمصائب  ، وقد سُئل عن سبب بكائه لما رأى الحسين ( عليه السلام ) قال : وإني لما رأيته تذكرت ما يُصنع به بعدي  ، كأني به وقد استجار بحرمي وقبري فلا يُجار  ، فأضمه في منامه إلى صدري  ، وآمره بالرحلة عن دار هجرتي  ، وأُبشره بالشهادة  ، فيرتحل عنها إلى أرض مقتله  ، وموضع مصرعه  ، أرض كرب وبلا  ، وقتل وفناء  ، تنصره عصابة من المسلمين  ، أولئك من سادة شهداء أمتي يوم القيامة.. (3)
    وقال ابن عباس في كتابه إلى يزيد بن معاوية لعنه الله تعالى : وما أنسى من الأشياء  ، فلستُ بناس إطرادك الحسين بن علي ( عليه السلام ) من حَرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى
1 ـ المزار  ، محمد بن المشهدي : 298.
2 ـ مثير الأحزان  ، الجواهري : 155.
3 ـ الأمالي  ، الصدوق : 177 ح2.


(58)
حَرم الله  ، ودسك إليه الرجال تغتاله  ، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة  ، فخرج منها خائفاً يترقب  ، وقد كان أعزَّ أهلِ البطحاء بالبطحاء قديماً  ، وأعزَّ أهلها بها حديثاً  ، وأطوعَ أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاماً  ، واستحل بها قتالاً  ، ولكن كَره أن يكون هو الذي يستحل حرمة البيت  ، وحرمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأكبر من ذلك ما لم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم  ، وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام وعرضه للعائر وأراقل العالم  ، وأنت  ؟ لأنت المستحل فيما أُظن بل لا شك فيه أنك للمحرف العريف  ، فإنك حلف نسوة  ، صاحب ملاه  ، فلما رأى سوء رأيك شخص إلى العراق  ، ولم يبتغك ضراباً  ، وكان أمر الله قدرا مقدورا (1).
    قال الراوي : وخرج الحسين ( عليه السلام ) من منزله ذات ليلة  ، وأقبل إلى قبر جدّه ( صلى الله عليه وآله ) فقال : السلام عليك يا رسول الله  ، أنا الحسين بن فاطمة  ، فرخك وابن فرختك  ، وسبطك الذي خلَّفتني في أمتك  ، فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم قد خذلوني  ، وضيَّعوني  ، ولم يحفظوني  ، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك  ، قال : ثم قام فصفَّ قدميه فلم يزل راكعاً ساجداً.
    قال : وأرسل الوليد إلى منزل الحسين ( عليه السلام ) لينظر أخرج من المدينة أم لا ؟ فلم يصبه في منزله  ، فقال : الحمد لله الذي خرج ولم يبتلني بدمه  ، قال : ورجع الحسين ( عليه السلام ) إلى منزله عند الصبح فلمَّا كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضاً وصلَّى ركعات  ، فلمَّا فرغ من صلاته جعل يقول : اللهم هذا قبر نبيك محمد  ، وأنا ابن بنت نبيك  ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت  ، اللهم إني أحبُّ المعروف  ، وأنكر المنكر  ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه إلاَّ اخترت لي ما هو لك رضى  ، ولرسولك رضى.
1 ـ تأريخ اليعقوبي : 2/249.

(59)
    قال : ثم جعل يبكي عند القبر حتى إذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى  ، فإذا هو برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه حتى ضمَّ الحسين إلى صدره  ، وقبَّل بين عينيه وقال : حبيبي يا حسين  ، كأني أراك عن قريب مرمَّلا بدمائك  ، مذبوحاً بأرض كرب وبلاء  ، بين عصابة من أمتي  ، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى  ، وظمآن لا تروى  ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي  ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة  ، حبيبي يا حسين  ، إن أباك وأمَّك وأخاك قدموا عليَّ وهم مشتاقون إليك  ، وإن لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلاَّ بالشهادة.
    قال : فجعل الحسين ( عليه السلام ) في منامه ينظر إلى جدِّه ويقول : يا جدَّاه  ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا  ، فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك  ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لابدَّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة  ، وما قد كتب الله لك فيها من الثواب العظيم  ، فإنك وأباك وأخاك وعمَّك وعمَّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة  ، حتى تدخلوا الجنة.
    ولله درّ المرحوم الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي عليه الرحمة إذ يقول :
أفدي حسيناً حين خفَّ مودِّعاً وافى إلى توديعِهِ وفؤادُهُ وغدا يبثُّ له زفيرَ شجونِهِ يا جدُّ حسبي ما أُكابدُ من عناً فأجابه صبراً بُنيَّ على الأذى ولقد حباك اللهُ أمراً لم يكن وكأنني بك يا بنيُّ بكربلا ولقد رآه بمشهد من زينب قبراً به ثقلُ النبوةِ أودعا بمُدَى الفراقِ يكادُ أن يتقطَّعا بشكاتِهِ والطرفُ يذري الأدمعا في هذه الدنيا يقضُّ المضجعا حتى تنالَ بذا المقامَ الأرفعا بسوى الشهادةِ ظهرُهُ لك طيِّعا تمسي ذبيحاً بالسيوف مبضَّعا هو والوصيُّ وأمُّه الزهرا معا


(60)
ملقىً برمضاءِ الهجيرِ على الثرى في مصرع سُفِكَتْ عليه دِمَاؤُهُ تطأُ السنابكُ صدرَه والأضلعا أفدي بنفسي منه ذاك المصرعا (1)
    قال الراوي : فانتبه الحسين ( عليه السلام ) من نومه فزعاً مرعوباً  ، فقصَّ رؤياه على أهل بيته وبني عبدالمطلب  ، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب قومٌ أشدّ غماً من أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا أكثر باك ولا باكية منهم.
    قال : وتهيَّأ الحسين ( عليه السلام ) للخروج عن المدينة  ، ومضى في جوف الليل إلى قبر أمِّه فودَّعها  ، ثم مضى إلى قبر أخيه الحسن ففعل كذلك  ، ثم رجع إلى منزله وقت الصبح  ، فأقبل إليه أخوه محمد بن الحنفيَّة وقال : يا أخي  ، أنت أحبُّ الخلق إليَّ  ، وأعزُّهم عليَّ  ، ولست والله أدّخر النصيحة لأحد من الخلق  ، وليس أحد أحقُّ بها منك; لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري وكبير أهل بيتي  ، ومن وجبت طاعته في عنقي  ، لأن الله قد شرَّفك عليَّ  ، وجعلك من سادات أهل الجنة. وساق الحديث إلى أن قال : تخرج إلى مكة فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك  ، وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن  ، فإنهم أنصار جدِّك وأبيك  ، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً  ، وأوسع الناس بلاداً  ، فإن اطمأنّت بك الدار  ، وإلاَّ لحقت بالرمال وشعوب الجبال  ، وجزت من بلد إلى بلد  ، حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس  ، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين.
    قال : فقال الحسين ( عليه السلام ) : يا أخي  ، والله لو لم يكن ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية  ، فقطع محمد بن الحنفية الكلام وبكى  ، فبكى الحسين ( عليه السلام ) معه ساعة ثم قال : يا أخي  ، جزاك الله خيراً  ، فقد نصحت وأشرت بالصواب  ، وأنا عازم على الخروج إلى مكة  ، وقد تهيَّأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي  ، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي  ، وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة  ، فتكون
1 ـ ديوان الفرطوسي : 1/93.
المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: فهرس