|
||||||||||||||||||||||||
(61)
لي عيناً لا تخفي عني شيئاً من أمورهم.
ثم دعا الحسين ( عليه السلام ) بدواة وبياض وكتب هذه الوصية لأخيه محمد : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية ، أن الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، جاء بالحق من عند الحق ، وأن الجنة والنار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ( صلى الله عليه وآله ) ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين ، وهذه وصيتي يا أخي إليك ، وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكَّلت وإليه أنيب. قال : ثمَّ طوى الحسين ( عليه السلام ) الكتاب وختمه بخاتمه ، ودفعه إلى أخيه محمد ، ثم ودَّعه وخرج في جوف الليل (1). وقال محمد بن أبي طالب : روى محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الرسائل بسنده عن حمزة بن حمران ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : ذكرنا خروج الحسين ( عليه السلام ) وتخلُّف ابن الحنفية فقال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : يا حمزة ، إني سأخبرك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسك هذا ، إن الحسين لما فصل متوجِّهاً ، دعا بقرطاس وكتب فيه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم ، أمَّا بعد فإنه من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلَّف لم يبلغ مبلغ الفتح ، والسلام. قال : وقال شيخنا المفيد بإسناده إلى أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : لما سار أبو عبدالله ( عليه السلام ) من المدينة لقيه أفواج من الملائكة المسوّمة ، في أيديهم الحراب ، على 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/327 ـ 331. (62)
نجب من نجب الجنة ، فسلَّموا عليه ، وقالوا : يا حجة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه ، إن الله سبحانه أمدَّ جدَّك بنا في مواطن كثيرة ، وإن الله أمدَّك بنا ، فقال لهم : الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها وهي كربلا ، فإذا وردتها فأتوني ، فقالوا : يا حجَّة الله! مرنا نسمع ونطع ، فهل تخشى من عدوّ يلقاك فنكون معك ؟ فقال : لا سبيل لهم عليَّ ، ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي.
وأتته أفواج مسلمي الجن فقالوا : يا سيِّدنا ، نحن شيعتك وأنصارك ، فمرنا بأمرك وما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل كل عدوّ لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك ، فجزاهم الحسين خيراً وقال لهم : أو ما قرأتم كتاب الله المنزل على جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) « أَيْنََما تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَة » وقال سبحانه : « لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ » وإذا أقمت بمكاني فبماذا يبتلى هذا الخلق المتعوس ؟ وبماذا يختبرون ؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء ؟ وقد اختارها الله يوم دحا الأرض ، وجعلها معقلا لشيعتنا ، ويكون لهم أماناً في الدنيا والآخرة ، ولكن تحضرون يوم السبت ، وهو يوم عاشوراء الذي في آخره أقتل ، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي وإخوتي وأهل بيتي ، ويسار برأسي إلى يزيد لعنه الله. فقالت الجن : نحن والله يا حبيب الله وابن حبيبه ، لولا أن أمرك طاعة وأنه لا يجوز لنا مخالفتك قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك ، فقال صلوات الله عليه لهم : نحن والله أقدر عليهم منكم ، ولكن ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة (1). قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : ووجدت في بعض الكتب أنه ( عليه السلام ) لما عزم على الخروج من المدينة أتته أم سلمة رضي الله عنها فقالت : يا بنيَّ ، لا تحزنّي 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/330 ـ 331. (63)
بخروجك إلى العراق ، فإني سمعت جدَّك ( صلى الله عليه وآله ) يقول : يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء ، فقال لها : يا أُمَّاه ، وأنا والله أعلم ذلك ، وإني مقتول لا محالة ، وليس لي من هذا بدّ ، وإني والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه ، وأعرف من يقتلني ، وأعرف البقعة التي أدفن فيها ، وإني أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي ، وإن أردت يا أمَّاه أريك حفرتي ومضجعي.
ثم أشار ( عليه السلام ) إلى جهة كربلاء فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره ، وموقفه ومشهده ، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاء شديداً ، وسلَّمت أمره إلى الله ، فقال لها : يا أمّاه ، قد شاء الله عزَّ وجلَّ أن يراني مقتولا مذبوحاً ظلماً وعدواناً ، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرَّدين ، وأطفالي مذبوحين مظلومين ، مأسورين مقيَّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً. ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ الشواهد المنبرية ، الشيخ علي الجشي : 42. (64)
فجعلها في قارورة وأعطاها إياها وقال : اجعليها مع قارورة جدّي ، فإذا فاضتا دماً فاعلمي أني قد قتلت.
ثم قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فسار الحسين ( عليه السلام ) إلى مكة وهو يقرأ : « فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » (1) ولزم الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته : لو تنكَّبت عن الطريق كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب ، فقال : لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض (2). وروي عن سكينة بنت الحسين ( عليه السلام ) قالت : خرجنا من المدينة في ليلة مظلمة ، ذات رعد وبرق ، حتى خلنا أنَّ السماء أُطبقت على الأرض (3). وفي رواية عن المنتخب قالت ( عليها السلام ) لما خرجنا من المدينة ما كان أحد أشدّ خوفاً منا أهل البيت (4). وفي رواية أخرى قالت سكينة ( عليها السلام ) : حين خرجنا من المدينة وما أهل بيت أشد غماً ولا خوفاً من أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ). سبحان الله خرجن بنات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من المدينة خائفات ومعهن حماتهن ورجالهن ، ليت شعري فما حالهن يوم سيروهن من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشام ، وليس معهن من رجالهن ولي ، ولا من حُماتهن حمي ، وكأني بزينب الكبرى ( عليها السلام ) تنادي بلسان الحال :
1 ـ سورة القصص ، الآية : 21. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/331 ـ 332. 3 ـ سعادة الدارين فيما يتعلق بالإمام الحسين ( عليه السلام ) ، الشيخ حسين القديحي : 93. 4 ـ المنتخب ، الطريحي : 411. 5 ـ معالي السبطين ، الحائري : 1/227 ـ 228. (65)
أيام ، فبقيت في المدينة ثم تبعته إلى أن صار عزمه بالتوجّه إلى العراق ، فقلت في نفسي : أمضي وأنظر إلى ملك الحجاز كيف يركب ، وكيف جلالته وشأنه ، فأتيت إلى باب داره فرأيت الخيل مسرجة ، والرجال واقفين ، والحسين ( عليه السلام ) جالس على كرسي ، وبنو هاشم حافّون به ، وهو بينهم كأنه البدر ليلة تمامه وكماله.
ورأيت نحواً من أربعين محملا وقد زيِّنت المحامل بملابس الحرير والديباج ، قال : فعند ذلك أمر الحسين ( عليه السلام ) بني هاشم بأن يُركِّبوا محارمهن على المحامل ، فبينما أنا أنظر وإذا بشاب قد خرج من دار الحسين ( عليه السلام ) وهو طويل القامة ، وعلى خدّه علامة ، ووجهه كالقمر الطالع وهو يقول : تنحّوا يا بني هاشم ، وإذا بامرأتين قد خرجتا من الدار وهما تجران أذيالهما على الأرض حياء من الناس ، وقد حفَّت بهما إماؤهما ، فتقدَّم ذلك الشاب إلى محمل من المحامل وجثا على ركبتيه ، وأخذ بعضديهما وأركبهما المحمل ، فسألت بعض الناس عنهما فقيل : أما إحداهما فزينب ، والأخرى أم كلثوم بنتا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقلت : ومن هذا الشاب ؟ فقيل لي : هو قمر بني هاشم العباس ابن أمير المؤمنين ، ثم رأيت بنتين صغيرتين كأن الله تعالى لم يخلق مثلهما ، فجعل واحدة مع زينب والأخرى مع أم كلثوم ، فسألت عنهما فقيل لي : هما سكينة وفاطمة بنتا الحسين ( عليه السلام ) ، ثم خرج غلام آخر كأنه البدر الطالع ومعه امرأة ، وقد حفَّت بها إماؤها ، فأركبها ذلك الغلام المحمل ، فسألت عنها وعن الغلام فقيل لي : أمَّا الغلام فهو علي الأكبر بن الحسين ( عليه السلام ) ، والإمرأة أمه ليلى زوجة الحسين ( عليه السلام ) ، ثم خرج غلام ووجهه كفلقة القمر ، ومعه امرأة ، فسألت عنها فقيل لي : أمَّا الغلام فهو القاسم بن الحسن المجتبى ( عليه السلام ) والإمرأة أمه. ثم خرج شاب آخر وهو يقول : تنحّوا عني يا بني هاشم ، تنحّوا عن حرم أبي عبدالله ، فتنحَّى عنه بنو هاشم ، وإذا قد خرجت امرأة من الدار وعليها آثار الملوك ، وهي تمشي على سكينة ووقار ، وقد حفَّت بها إماؤها ، فسألت عنها فقيل (66)
لي : أمّا الشاب فهو زين العابدين ابن الإمام ، ثم أركبوا بقية الحرم والأطفال على المحامل ، فلمَّا تكاملوا نادى الإمام ( عليه السلام ) : أين أخي ؟ أين كبش كتيبتي ؟ أين قمر بني هاشم ؟ فأجابه العباس : لبيك لبيك يا سيّدي ، فقال له الإمام ( عليه السلام ) : قدِّم لي يا أخي جوادي ، فأتى العباس بالجواد إليه وقد حفَّت به بنو هاشم ، فأخذ العباس بركاب الفرس حتى ركب الإمام ، ثم ركب بنو هاشم ، وركب العباس وحمل الراية أمام الإمام ( عليه السلام ) (1).
ولله درّ السيد محمد حسين القزويني عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ معالي السبطين ، الحائري : 1/220 ، أسرار الشهادة ، الدربندي : 367. 2 ـ مثير الأحزان ، الجواهري : 115. (67)
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : فهل المحن يا ساداتي إلاَّ التي لزمتكم ، والمصائب إلاَّ التي عمَّتكم ، والفجايع إلاَّ التي خصَّتكم ، والقوارع إلاّ التي طرقتكم ، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم ، ورحمة الله وبركاته ، بأبي وأمي يا آل المصطفى ، إنّا لا نملك إلاَّ أن نطوف حول مشاهدكم ، ونعزّي فيها أرواحكم ، على هذه المصائب العظيمة الحالّة بفنائكم ، والرزايا الجليلة النازلة بساحتكم ، التي أثبتت في قلوب شيعتكم القروح ، وأورثت أكبادهم الجروح ، وزرعت في صدروهم الغصص ، فنحن نشهد الله أنّا قد شاركنا أولياءكم وأنصاركم المتقدِّمين ، في إراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقتلة أبي عبدالله سيِّد شباب أهل الجنة يوم كربلاء ، بالنيَّات والقلوب ، والتأسُّف على فوت تلك المواقف ، التي حضروا لنصرتكم ، والله وليي يبلغكم مني السلام (1).
1 ـ المزار ، محمد بن المشهدي : 299. (68)
يبكون على نساء أهل بيتي ، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ، ويجدِّدون العزاء جيلا بعد جيل في كل سنة ، فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساء ، وأنا أشفع للرجال ، وكل من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنة ، يا فاطمة! كل عين باكية يوم القيامة إلاَّ عين بكت على مصاب الحسين فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة (1).
وعن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبدالله ( عليه السلام ) وأحدثه ، فدخل عليه ابنه فقال له : مرحباً ، وضمَّه وقبَّله وقال : حقَّر الله من حقَّركم ، وانتقم ممن وتركم ، وخذل الله من خذلكم ، ولعن الله من قتلكم ، وكان الله لكم ولياً وحافظاً وناصراً ، فقد طال بكاء النساء ، وبكاء الأنبياء والصديقين والشهداء وملائكة السماء ، ثمَّ بكى وقال : يا أبا بصير ، إذا نظرتُ إلى ولد الحسين أتاني ما لا أملكه بما أُتي إلى أبيهم وإليهم ، يا أبا بصير ، إن فاطمة لتبكيه وتشهق ، فتزفر جهنم زفرة لولا أن الخزنة يسمعون بكاءها وقد استعدّوا لذلك مخافة أن يخرج منها عنق أو يشرد دخانها ، فيحرق أهل الأرض ، فيكبحونها ما دامت باكية ، ويزجرونها ويوثقون من أبوابها مخافة على أهل الأرض ، فلا تسكن حتى يسكن صوت فاطمة ، وإن البحار تكاد أن تنفتق فيدخل بعضها على بعض ، وما منها قطرة إلاَّ بها ملك موكل ، فإذا سمع الملك صوتها أطفأ نأرها بأجنحته ، وحبس بعضها على بعض ، مخافة على الدنيا ومن فيها ومن على الأرض ، فلا تزال الملائكة مشفقين ، يبكون لبكائها ويدعون الله ويتضرَّعون إليه ، ويتضرَّع أهل العرش ومن حوله ، وترتفع أصوات من الملائكة بالتقديس لله مخافة على أهل الأرض ، ولو أن صوتاً من أصواتهم يصل إلى الأرض لصعق أهل الأرض وتقلَّعت الجبال ، وزلزلت الأرض بأهلها. قلت : جعلت فداك ، إن هذا الأمر عظيم ، قال : غيره أعظم منه ما لم تسمعه ، ثمَّ 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/292. (69)
قال : يا أبا بصير ، أما تحبُّ أن تكون فيمن يُسعد فاطمة ؟ فبكيت حين قالها ، فما قدرت على المنطق ، وما قدرت على كلامي من البكاء ، ثم قام إلى المصلَّى يدعو وخرجت من عنده على تلك الحال ، فما انتفعت بطعام ، وما جاءني النوم ، وأصبحت صائماً وجلا حتى أتيته ، فلمَّا رأيته قد سكن سكنت ، وحمدت الله حيث لم تنزل بي عقوبة (1).
وعن عبدالملك بن مقرن عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : إذا زرتم أبا عبدالله ( عليه السلام ) فالزموا الصمت إلاَّ من خير ، وإن ملائكة الليل والنهار من الحفظة تحضر الملائكة الذين بالحائر فتصافحهم ، فلا يجيبونها من شدّة البكاء ، فينتظرونهم حتى تزول الشمس وحتى ينور الفجر ، ثم يكلِّمونهم ويسألونهم عن أشياء من أمر السماء ، فأمَّا ما بين هذين الوقتين فإنهم لا ينطقون ولا يفترون عن البكاء والدعاء ، ولا يشغلونهم في هذين الوقتين عن أصحابهم ، فإنهم شغلهم بكم إذا نطقتم ، قلت : جعلت فداك ، وما الذي يسألونهم عنه ؟ وأيهم يسأل صاحبه : الحفظة أو أهل الحائر ؟ قال : أهل الحائر يسألون الحفظة لأن أهل الحائر من الملائكة لا يبرحون ، والحفظة تنزل وتصعد ، قلت : فما ترى يسألونهم عنه ؟ قال : إنهم يمرّون إذا عرجوا بإسماعيل صاحب الهواء ، فربما وافقوا النبيَّ ( صلى الله عليه وآله ) عنده وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من مضى منهم فيسألونهم عن أشياء ، وعمَّن حضر منكم الحائر ، ويقولون : بشِّروهم بدعائكم ، فتقول الحفظة : كيف نبشِّرهم وهم لا يسمعون كلامنا ؟ فيقولون لهم : باركوا عليهم وادعوا لهم عنّا فهي البشارة منا ، وإذا انصرفوا فحفّوهم بأجنحتكم حتى يحسّوا مكانكم ، وإنا نستودعهم الذي لا تضيع ودائعه ، ولو يعلموا ما في زيارته من الخير ، ويعلم ذلك الناس لاقتتلوا على زيارته بالسيوف ، ولباعوا أموالهم في إتيانه ، وإن فاطمة ( عليها السلام ) إذا نظرت إليهم ومعها ألف 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/208 ح 14 عن كامل الزيارات. (70)
نبيّ وألف صدّيق ، وألف شهيد ومن الكرّوبيين ألف ألف يسعدونها على البكاء ، وإنها لتشهق شهقة فلا يبقى في السماوات ملك إلاَّ بكى رحمة لصوتها ، وما تسكن حتى يأتيها النبي فيقول : يا بنيَّة ، قد أبكيت أهل السماوات ، وشغلتهم عن التقديس والتسبيح ، فكفّي حتى يقدِّسوا ، فإن الله بالغ أمره ، وإنها لتنظر إلى من حضر منكم ، فتسأل الله لهم من كل خير ، ولا تزهدوا في إتيانه فإن الخير في إتيانه أكثر من أن يُحصى (1).
وقال ابن نما : ورأت سكينة في منامها وهي بدمشق كأن خمسة نجب من نور قد أقبلت ، وعلى كل نجيب شيخ ، والملائكة محدقة بهم ، ومعهم وصيف يمشي ، فمضى النجب وأقبل الوصيف إليَّ وقرب مني وقال : يا سكينة ، إن جدَّكِ يسلِّم عليك ، فقلت : وعلى رسول الله السلام ، يا رسول! من أنت ؟ قال : وصيف من وصائف الجنة ، فقلت : من هؤلاء المشيخة الذين جاؤوا على النجب ؟ قال : الأول آدم صفوة الله ، والثاني إبراهيم خليل الله ، والثالث موسى كليم الله ، والرابع عيسى روح الله ، فقلت : من هذا القابض على لحيته يسقط مرة ويقوم أخرى ؟ فقال : جدّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقلت : وأين هم قاصدون ؟ قال : إلى أبيك الحسين ، فأقبلت أسعى في طلبه لأعرِّفه ما صنع بنا الظالمون بعده ، فبينما أنا كذلك إذ أقبلت خمسة هوادج من نور ، في كل هودج امرأة ، فقلت : من هذه النسوة المقبلات ؟ قال : الأولى حواء أم البشر ، والثانية آسية بنت مزاحم ، والثالثة مريم ابنة عمران ، والرابعة خديجة بنت خويلد ، فقلت : من الخامسة الواضعة يدها على رأسها تسقط مرة وتقوم أخرى ؟ فقال : جدّتك فاطمة بنت محمد أم أبيك ، فقلت : والله لأخبرنّها ما صنع بنا ، فلحقتها ووقفت بين يديها أبكي وأقول : يا أُمتاه جحدوا والله حقَّنا ، يا أمتاه بدَّدوا والله شملنا ، يا أُمتاه ، استباحوا والله حريمنا ، يا أُمتاه ، قتلوا 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/224 ح 17 عن كامل الزيارات. (71)
والله الحسين أبانا ، فقالت : كفّي صوتك يا سكينة فقد أحرقت كبدي ، وقطَّعت نياط قلبي ، هذا قميص أبيك الحسين معي لا يفارقني حتى ألقى الله به ، ثم انتبهت وأردت كتمان ذلك المنام ، وحدَّثت به أهلي فشاع بين الناس.
وفي رواية أُخرى قال السيِّد عليه الرحمة : وقالت سكينة : فلمّا كان اليوم الرابع من مقامنا رأيت في المنام وذكرت مناماً طويلا تقول في آخره : ورأيت امرأة راكبة في هودج ويدها موضوعة على رأسها ، فسألت عنها فقيل لي : هذه فاطمة بنت محمد أم أبيك ، فقلت : والله لأنطلقنّ إليها ولأخبرنّها بما صنع بنا ، فسعيت مبادرة نحوها حتى لحقت بها ، فوقفت بين يديها أبكي وأقول : يا أمتاه ، جحدوا والله حقَّنا ، يا أمتاه ، بدَّدوا والله شملنا ، يا أمتاه ، استباحوا والله حريمنا ، يا أمتاه ، قتلوا والله الحسين أبانا ، فقالت لي : كفّي صوتك يا سكينة ، فقد قطَّعت نياط قلبي ، هذا قميص أبيك الحسين ( عليه السلام ) لا يفارقني حتى ألقى الله به (1). ولله درّ الشريف الرضي عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/140. (72)
جاء في بعض زيارات الإمام الحسين ( عليه السلام ) الشريفة : أشهد أن دمك سكن في الخلد ، واقشعرَّت له أظلّة العرش ، وبكى له جميع الخلائق ، وبكت له السماوات السبع ، والأرضون السبع ، وما فيهن وما بينهن ، ومن يتقلَّب في الجنة والنار من خلق ربِّنا وما يرى وما لا يرى.. (2). ورحم الله بعض الشعراء إذ يقول :
1 ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/267 ـ 268. 2 ـ الكافي ، الكليني : 4/576. (73)
يوماً إلى الحسن ( عليه السلام ) ، فلمَّا نظر إليه بكى ، فقال له : ما يبكيك يا أبا عبدالله ؟ قال : أبكي لما يصنع بك ، فقال له الحسن ( عليه السلام ) : إن الذي يؤتى إليَّ سم يُدس إليَّ فأُقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبدالله ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل ، يدّعون أنهم من أمة جدِّنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وينتحلون دين الإسلام ، فيجتمعون على قتلك ، وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك ، فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة ، وتمطر السماء رماداً ودماً ، ويبكي عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار (1).
وروى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن ثابت بن أبي صفية ، قال : نظر سيد العابدين علي بن الحسين ( عليهما السلام ) إلى عبيدالله بن العباس بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فاستعبر ، ثم قال : ما من يوم أشدّ على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من يوم أحد ، قتل فيه عمّه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمِّه جعفر بن أبي طالب. ثم قال ( عليه السلام ) : ولا يوم كيوم الحسين ( عليه السلام ) ، ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل ، يزعمون أنهم من هذه الأمة ، كل يتقرَّب إلى الله عزَّ وجلَّ بدمه ، وهو بالله يذكِّرهم فلا يتعظون ، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً.. (2). وروي عن زرارة ، قال : قال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : يا زرارة ، إن السماء بكت على الحسين ( عليه السلام ) أربعين صباحاً بالدم ، وإن الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد ، وإن الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة ، وإن الجبال تقطَّعت وانتثرت ، وإن البحار تفجَّرت ، وإن الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين ، وما اختضبت منا امرأة ولا ادّهنت ولا اكتحلت ولا رجَّلت حتى أتانا رأس عبيدالله بن زياد لعنه الله ، وما زلنا في عبرة بعده ، وكان جدّي إذا ذكره بكى حتى 1 ـ الأمالي ، الشيخ الصدوق : 177 ـ 178 ح 3 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/238. 2 ـ الأمالي ، الشيخ الصدوق : 547 ح 10. (74)
تملأ عيناه لحيته ، وحتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه ، وإن الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كل من في الهواء والسماء من الملائكة (1).
وعن ابن خارجة ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : كنا عنده فذكرنا الحسين بن علي ( عليه السلام ) وعلى قاتله لعنة الله ، فبكى أبو عبدالله ( عليه السلام ) وبكينا ، قال : ثم رفع رأسه فقال : قال الحسين بن علي ( عليه السلام ) : أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلاَّ بكى ، وذكر الحديث (2). وعن أبي عمارة المنشد قال : ما ذكر الحسين بن علي ( عليه السلام ) عند أبي عبدالله ( عليه السلام ) في يوم قط فرئي أبو عبدالله ( عليه السلام ) متبسِّماً في ذلك اليوم إلى الليل ، وكان أبو عبدالله ( عليه السلام ) يقول : الحسين عبرة كل مؤمن (3). وروى داود الرقي ، قال : كنت عند أبي عبدالله ( عليه السلام ) إذا استسقى الماء ، فلمَّا شربه رأيته قد استعبر ، واغرورقت عيناه بدموعه ، ثمَّ قال لي : يا داود ، لعن الله قاتل الحسين ( عليه السلام ) ، فما من عبد شرب الماء فذكر الحسين ولعن قاتله إلاَّ كتب الله له مائة ألف حسنة ، وحطَّ عنه مائة ألف سيئة ، ورفع له مائة ألف درجة ، وكأنما أعتق مائة ألف نسمة ، وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد (4). وروي أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال لعبدالله بن حمّاد البصري في مصيبة الحسين ( عليه السلام ) : فإنه غريب بأرض غربة ، يبكيه من زراره ، ويحزن له من لم يزره ، ويحترق له من لم يشهده ، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله ، في أرض فلاة ، لا حميم قربه ولا قريب ، ثمَّ مُنع الحق ، وتوازر عليه أهل الردّة ، حتى قتلوه وضيَّعوه وعرَّضوه للسباع ، ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب ، وضيَّعوا حقَّ 1 ـ كامل الزيارات ، ابن قولويه : 167 ـ 168 ح 58 بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 45/206 ح 13. 2 ـ بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 44/279 ح 5. 3 ـ بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 44/280 ح 11. 4 ـ كامل الزيارات ، ابن قولويه : 212 ح 1. (75)
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيّته به وبأهل بيته ، فأمسى مجفَّواً في حفرته ، صريعاً بين قرابته وشيعته ، بين أطباق التراب ، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جدّه ، والمنزل الذي لا يأتيه إلاَّ من امتحن الله قلبه للإيمان وعرَّفه حقَّنا ، إلى أن قال ( عليه السلام ) : ولقد حدَّثني أبي أنه لم يخلُ مكانه منذ قُتل من مصلٍّ يصلّي عليه من الملائكة ، أو من الجن ، أو من الإنس ، أو من الوحش ، وما من شيء إلاَّ وهو يغبط زائره ويتمسَّح به ، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره.
ثمَّ قال : بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ، ونساء يندبنه ، وذلك في النصف من شعبان ، فمن بين قارىء يقرأ ، وقاص يقصّ ، ونادب يندب ، وقائل يقول المراثي ، فقلت له : نعم جعلت فداك ، قد شهدت بعض ما تصف ، فقال : الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا ، وجعل عدوَّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم ، يهدرونهم ويقبِّحون ما يصنعون (1). وعن إبراهيم بن أبي محمود قال : قال الرضا ( عليه السلام ) : إن المحرَّم شهر كان أهل الجاهلية يحرِّمون فيه القتال ، فاستحلّت فيه دماؤنا ، وهتكت فيه حرمتنا ، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأضرمت النيران في مضاربنا ، وانتهب ما فيها من ثقلنا ، ولم ترع لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حرمة في أمرنا ، إن يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلَّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام ، ثم قال ( عليه السلام ) : كان أبي إذا دخل شهر المحرَّم لا يرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته 1 ـ كامل الزيارات ، ابن قولويه : 537 ـ 539 ح 1. |
||||||||||||||||||||||||
|