المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: 121 ـ 135
(121)
بالإحسان على لزوم طاعته  ، وبالإساءة على معصيته والخروج عن حوزته  ، ثم قال : يا أهل الكوفة  ، إن أمير المؤمنين يزيد ولانّي بلدكم  ، واستعملني على مصركم  ، وأمرني بقسمة فيئكم بينكم  ، وإنصاف مظلومكم من ظالمكم  ، وأخذ الحقّ لضعيفكم من قويّكم  ، والإحسان للسامع المطيع  ، والتشديد على المريب  ، فأبلغوا هذا الرجل الهاشميَّ مقالتي ليتّقي غضبي  ، ونزل  ، يعني بالهاشمي مسلم بن عقيل ( عليه السلام ).
    وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وأقبل ابن زياد إلى الكوفة  ، ومعه مسلم بن عمرو الباهلي  ، وشريك بن الأعور الحارثي  ، وحشمه وأهل بيته حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء  ، وهو متلثِّم  ، والناس قد بلغهم إقبال الحسين ( عليه السلام ) إليهم  ، فهم ينتظرون قدومه  ، فظنّوا حين رأوا عبيدالله أنه الحسين ( عليه السلام )   ، فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس إلاَّ سلَّموا عليه  ، وقالوا : مرحباً بك يا ابن رسول الله  ، قدمت خير مقدم  ، فرأى من تباشرهم بالحسين ( عليه السلام ) ما ساءه  ، فقال مسلم بن عمرو لمَّا أكثروا : تأخَّروا  ، هذا الأمير عبيدالله ابن زياد.
    وسار حتى وافى القصر بالليل ومعه جماعة قد التفّوا به  ، لا يشكّون أنه الحسين ( عليه السلام ) فأغلق النعمان بن بشير عليه وعلى خاصته  ، فناداه بعض من كان معه ليفتح لهم الباب  ، فاطلع عليه النعمان وهو يظنّه الحسين ( عليه السلام ) فقال : أنشدك الله إلاَّ تنحّيت  ، والله ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي  ، ومالي في قتالك من إرب  ، فجعل لا يكلِّمه  ، ثم إنه دنا وتدلَّى النعمان من شرف القصر  ، فجعل يكلِّمه  ، فقال : افتح لا فتحت فقد طال ليلك  ، وسمعها إنسان خلفه  ، فنكص إلى القوم الذين اتّبعوه من أهل الكوفة على أنه الحسين ( عليه السلام ) فقال : يا قوم! ابن مرجانة والذي لا إله غيره  ، ففتح له النعمان فدخل  ، وضربوا الباب في وجوه الناس وانفضّوا.
    وأصبح فنادى في الناس : الصلاة جامعة  ، فاجتمع الناس  ، فخرج إليهم


(122)
فحمد الله وأثنى عليه  ، ثم قال : أمّا بعد  ، فإن أمير المؤمنين يزيد ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم  ، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم  ، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم كالوالد البرّ  ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي  ، فليتق امرؤٌ على نفسه  ، الصدق ينبي عنك لا الوعيد  ، ثمَّ نزل  ، وأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً فقال : اكتبوا إليَّ العرفاء  ، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين  ، ومن فيكم من أهل الحرورية  ، وأهل الريب الذين شأنهم الخلاف والنفاق والشقاق  ، فمن يجيء لنا بهم فبريء  ، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمن لنا من في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف  ، ولا يبغي علينا باغ  ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله  ، أيّما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره  ، وألغيت تلك العرافة من العطاء.
    ولما سمع مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) مجيء عبيدالله إلى الكوفة  ، ومقالته التي قالها  ، وما أخذ به العرفاء والناس  ، خرج من دار المختار حتى انتهى إلى دار هانىء بن عروة فدخلها  ، فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانىء على تستّر واستخفاء من عبيدالله  ، وتواصوا بالكتمان.
    فدعا ابن زياد مولى له يقال له : معقل  ، فقال : خذ ثلاثة آلاف درهم  ، واطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه  ، فإذا ظفرت بواحد منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم  ، وقل لهم : استعينوا بها على حرب عدوّكم  ، وأعلمهم أنك منهم  ، فإنك لو قد أعطيتهم إياها لقد اطمأنّوا إليك ووثقوا بك  ، ولم يكتموك شيئاً من أمورهم وأخبارهم  ، ثم غد عليهم ورح حتى تعرف مستقرَّ مسلم بن عقيل  ، وتدخل عليه.
    ففعل ذلك  ، وجاء حتى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وهو يصلّي  ، فسمع قوماً يقولون : هذا يبايع للحسين ( عليه السلام )   ، فجاء وجلس


(123)
إلى جنبه حتى فرغ من صلاته  ، ثم قال : يا عبدالله  ، إني امرؤ من أهل الشام  ، أنعم الله عليَّ بحبِّ أهل البيت ( عليهم السلام ) وحبِّ من أحبَّهم  ، وتباكى له وقال : معي ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، فكنت أريد لقاءه فلم أجد أحداً يدلّني عليه  ، ولا أعرف مكانه  ، فإني لجالس في المسجد الآن إذ سمعت نفراً من المؤمنين يقولون : هذا رجل له علم بأهل هذا البيت  ، وإني أتيتك لتقبض مني هذا المال  ، وتدخلني على صاحبك  ، فإني أخ من إخوانك  ، وثقة عليك  ، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه.
    فقال له ابن عوسجة : أحمد الله على لقائك إياي  ، فقد سرَّني ذلك  ، لتنال الذي تحبّ  ، ولينصرنَّ الله بك أهل بيت نبيِّه عليه وعليهم السلام  ، ولقد ساءني معرفة الناس إياي بهذا الأمر قبل أن يتمَّ مخافة هذا الطاغية وسطوته  ، فقال له معقل : لا يكون إلاّ خيراً  ، خذ البيعة عليَّ! فأخذ بيعته  ، وأخذ عليه المواثيق المغلَّظة ليناصحنَّ وليكتمنَّ  ، فأعطاه من ذلك ما رضي به  ، ثمَّ قال له : اختلف إليَّ أياماً في منزلي  ، فإني طالب لك الإذن على صاحبك  ، وأخذ يختلف مع الناس فطلب له الإذن فأذن له  ، وأخذ مسلم بن عقيل بيعته  ، وأمر أبا ثمامة الصائدي بقبض المال منه  ، وهو الذي كان يقبض أموالهم  ، وما يعين به بعضهم بعضاً  ، ويشتري لهم به السلاح  ، وكان بصيراً وفارساً من فرسان العرب  ، ووجوه الشيعة  ، وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم فهو أول داخل وآخر خارج  ، حتى فهم ما احتاج إليه ابن زياد من أمرهم  ، فكان يخبره به وقتاً فوقتاً (1).
    وقال ابن شهر آشوب عليه الرحمة : لما دخل مسلم الكوفة سكن في دار سالم بن المسيب فبايعه اثنا عشر ألف رجل  ، فلمّا دخل ابن زياد انتقل من دار سالم إلى دار هانىء في جوف الليل  ، ودخل في أمانه  ، وكان يبايعه الناس حتى بايعه
1 ـ الإرشاد  ، المفيد : 2/43 ـ 46.

(124)
خمسة وعشرون ألف رجل  ، فعزم على الخروج  ، فقال هانىء : لا تعجل  ، وكان شريك ابن الأعور الهمداني جاء من البصرة مع عبيدالله بن زياد  ، فمرض فنزل دار هانىء أياماً  ، ثمَّ قال لمسلم : إن عبيدالله يعودني  ، وإني مطاوله الحديث  ، فاخرج إليه بسيفك فاقتله  ، وعلامتك أن أقول : اسقوني ماء  ، ونهاه هانىء عن ذلك.
    فلمَّا دخل عبيدالله على شريك وسأله عن وجعه  ، وطال سؤاله ورأى أن أحداً لا يخرج فخشي أن يفوته فأخذ يقول :
ما الانتظارُ بسلمى أن تحيِّيها كأسَ المنيَّةِ بالتعجيلِ اسْقُوها
    وفي مقاتل الطالبيين :
ما الانتظارُ بسلمى أَنْ تحيّوها حيّوا سُليمى وَحَيُّوا مَنْ يحيّيها
كأسَ المنيَّةِ بالتعجيلِ أسقوها (1)
    فتوهَّم ابن زياد وخرج  ، فلمَّا دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب أخذه من يدي عبدالله بن يقطر فإذا فيه : للحسين بن علي ( عليهما السلام )   ، أمَّا بعد فإني أخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة كذا  ، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل العجل فإن الناس كلهم معك  ، وليس لهم في يزيد رأي ولا هوى  ، فأمر ابن زياد بقتله (2).
    وقال ابن نما الحلي عليه الرحمة : فلمَّا خرج ابن زياد دخل مسلم والسيف في كفّه قال له شريك : ما منعك من الأمر ؟ قال مسلم : هممت بالخروج فتعلَّقت بي امرأةٌ وقالت : نشدتك الله إن قتلت ابن زياد في دارنا  ، وبكت في وجهي  ، فرميت السيف وجلست  ، قال هانىء : يا ويلها  ، قتلتني وقتلت نفسها  ، والذي فررت منه وقعت فيه.
    وقال أبو الفرج في المقاتل : قال هانىء لمسلم : إني لا أحبّ أن يقتل في داري  ، قال : فلمّا خرج مسلم قال له شريك : ما منعك من قتله ؟ قال : خصلتان :
1 ـ مقاتل الطالبيين  ، الأصبهاني : 65.
2 ـ مناقب آل أبي طالب : 4/91 ـ 92.


(125)
أما إحداهما فكراهية هانىء أن يقتل في داره  ، وأمّا الأخرى فحديث حدَّثنيه الناس عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن الإيمان قيد الفتك  ، فلا يفتك مؤمن  ، فقال له هانىء : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً (1).
    قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وخاف هانىء بن عروة عبيدالله على نفسه  ، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض  ، فقال ابن زياد لجلسائه : ما لي لا أرى هانئاً ؟ فقالوا : هو شاك  ، فقال : لو علمت بمرضه لعدته  ، ودعا محمد بن الأشعث  ، وأسماء ابن خارجة  ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ـ وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانىء بن عروة  ، وهي أم يحيى بن هانىء ـ فقال لهم : ما يمنع هانىء بن عروة من إتياننا ؟ فقالوا : ما ندري  ، وقد قيل إنه يشتكي  ، قال : قد بلغني أنه قد برىء  ، وهو يجلس على باب داره  ، فالقوه ومروه أن لا يدع ما عليه من حقنا  ، فإني لا أحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب.
    فأتوه حتى وقفوا عليه عشيَّةً وهو جالس على بابه  ، وقالوا له : ما يمنعك من لقاء الأمير ؟ فإنه قد ذكرك وقال : لو أعلم أنه شاك لعدته  ، فقال لهم : الشكوى تمنعني  ، فقالوا : قد بلغه أنك تجلس كل عشيَّة على باب دارك  ، وقد استبطأك  ، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان  ، أقسمنا عليك لما ركبت معنا  ، فدعا بثيابه فلبسها  ، ثمَّ دعا ببغلته فركبها حتى إذا دنا من القصر كأن نفسه أحسَّت ببعض الذي كان  ، فقال لحسان بن أسماء بن خارجة : يا ابن الأخ  ، إني والله لهذا الرجل لخائف  ، فما ترى ؟ فقال : يا عمّ  ، والله ما أتخوَّف عليك شيئاً  ، ولم تجعل على نفسك سبيلا  ، ولم يكن حسان يعلم في أيِّ شيء بعث إليه عبيدالله.
    فجاء هانىء حتى دخل على عبيدالله بن زياد وعنده القوم  ، فلما طلع قال
1 ـ مقاتل الطالبيين  ، الأصبهاني : 71 والحديث رواه أبو داود في سننه : 2/79 ومعناه أن الإيمان يمنع من الفتك الذي هو القتل بعد الأمان.

(126)
عبيدالله : أتتك بخائن رجلاه  ، فلما دنا من ابن زياد ـ وعنده شريح القاضي ـ التفت نحوه فقال :
أريدُ حباءَه ويريدُ قتلي عذيرُكَ مِنْ خليلِكَ مِنْ مُرَادِ
    وقد كان أول ما قدم مكرماً له ملطفاً  ، فقال له هانىء : وما ذاك أيها الأمير ؟ قال : إيه يا هانىء بن عروة  ، ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين  ، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك  ، وجمعت له الجموع  ، والسلاح والرجال في الدور حولك  ، وظننت أن ذلك يخفى عليَّ ؟ قال : ما فعلت ذلك وما مسلم عندي  ، قال : بلى قد فعلت  ، فلما كثر بينهما وأبى هانىء إلاَّ مجاحدته ومناكرته  ، دعا ابن زياد معقلا ذلك العين  ، فجاء حتى وقف بين يديه وقال : أتعرف هذا  ؟ قال : نعم  ، وعلم هانىء عند ذلك أنه كان عيناً عليه  ، وأنه قد أتاه بأخبارهم فأسقط في يده ساعة.
    ثم راجعته نفسه  ، فقال : اسمع مني وصدِّق مقالتي  ، فوالله ما كذبت  ، والله ما دعوته إلى منزلي  ، ولا علمت بشيء من أمره حتى جاءني يسألني النزول  ، فاستحييت من ردّه  ، وداخلني من ذلك ذمام فضيَّفته وآويته  ، وقد كان من أمره ما بلغك  ، فإن شئت أن أعطيك الآن موثقاً مغلَّظاً أن لا أبغيك سوءاً ولا غائلة  ، ولآتينّك حتى أضع يدي في يدك  ، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك  ، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض  ، فأخرج من ذمامه وجواره.
    فقال له ابن زياد : والله لا تفارقني أبداً حتى تأتيني به  ، قال : لا والله لا أجيئك به أبداً  ، أجيئك بضيفي تقتله ؟ قال : والله لتأتيني به  ، قال : والله لا آتيك به  ، فلمّا كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي ـ وليس بالكوفة شاميٌّ ولا بصريّ غيره ـ فقال : أصلح الله الأمير  ، خلّني وإياه حتى أكلِّمه  ، فقام فخلا به


(127)
ناحية من ابن زياد  ، وهما منه بحيث يراهما  ، فإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان.
    فقال له مسلم : يا هانىء  ، أنشدك الله أن تقتل نفسك  ، وأن تدخل البلاء في عشيرتك  ، فوالله إني لأنفس بك عن القتل  ، إن هذا ابن عمِّ القوم  ، وليسوا قاتليه ولا ضائريه  ، فادفعه إليهم  ، فإنه ليس عليكم بذلك مخزاة ولا منقصة  ، إنما تدفعه إلى السلطان.
    فقال هانىء : والله إن عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأرى  ، شديد الساعد  ، كثير الأعوان  ، والله لو لم يكن لي إلاَّ واحد ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه  ، فأخذ يناشده وهو يقول : والله لا أدفعه إليه أبداً.
    فسمع ابن زياد لعنه الله ذلك فقال : أدنوه مني  ، فأدنوه منه  ، فقال : والله لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك  ، فقال هانىء : إذاً والله تكثر البارقة حول دارك  ، فقال ابن زياد : والهفاه عليك  ، أباالبارقة تخوِّفني ؟ وهو يظنّ أن عشيرته سيمنعونه  ، ثمَّ قال : أدنوه منّي  ، فأدني منه  ، فاستعرض وجهه بالقضيب  ، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدّه حتى كسر أنفه  ، وسالت الدماء على وجهه ولحيته  ، ونثر لحم جبينه وخدّه على لحيته  ، حتى كسر القضيب  ، وضرب هانىء يده على قائم سيف شرطي وجاذبه الرجل ومنعه.
    فقال عبيدالله : أحروري سائر اليوم ؟ قد حلّ دمك  ، جرُّوه  ، فجرُّوه فألقوه في بيت من بيوت الدار  ، وأغلقوا عليه بابه  ، فقال : اجعلوا عليه حرساً  ، ففعل ذلك به  ، فقام إليه حسان بن أسماء فقال : أَرُسُلُ غَدْر سائر اليوم ؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا جئناك به هشَّمت أنفه ووجهه  ، وسيَّلت دماءه على لحيته  ، وزعمت أنك تقتله ؟
    فقال له عبيدالله : وإنك لههنا ؟ فأمر به فلهز وتعتع وأجلس ناحية  ، فقال


(128)
محمد بن الأشعث : قد رضينا بما رأى الأمير  ، لنا كان أم علينا  ، إنما الأمير مؤدِّب. وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئاً قد قتل فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم  ، وقال : أنا عمرو بن الحجاج  ، وهذه فرسان مذحج ووجوهها  ، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة  ، وقد بلغهم أن صاحبهم قد قُتل فأعظموا ذلك  ، فقيل لعبيدالله بن زياد : وهذه فرسان مذحج بالباب ؟!
    فقال لشريح القاضي : ادخل على صاحبهم فانظر إليه  ، ثم اخرج فأعلمهم أنه حيّ لم يُقتل  ، فدخل شريح فنظر إليه  ، فقال هانىء لما رأى شريحاً : يا لله يا للمسلمين  ، أهلكت عشيرتي ؟ أين أهل الدين ؟ أين أهل المصر ؟ والدماء تسيل على لحيته  ، إذ سمع الضجّة على باب القصر  ، فقال : إني لأظنّها أصوات مذحج  ، وشيعتي من المسلمين  ، إنه إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني.
    فلمَّا سمع كلامه شريح خرج إليهم فقال لهم : إن الأمير لما بلغه كلامكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه  ، فأمرني أن ألقاكم وأعرِّفكم أنه حيٌّ  ، وأن الذي بلغكم من قتله باطل  ، فقال له عمرو بن الحجاج وأصحابه : أمَّا إذا لم يُقتل فالحمد لله  ، ثم انصرفوا.
    فخرج عبيدالله بن زياد فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشُرطه وحشمه  ، فقال : أمّا بعد أيها الناس  ، فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم  ، ولا تفرَّقوا فتهلكوا وتذلّوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا  ، إن أخاك من صدقك  ، وقد أعذر من أنذر  ، والسلام.
    ثمَّ ذهب لينزل فما نزل عن المنبر حتى دخلت النظارة المسجد من قبل باب التمارين يشتدّون ويقولون : قد جاء ابن عقيل  ، فدخل عبيدالله القصر مسرعاً وأغلق أبوابه  ، فقال عبدالله بن حازم : أنا ـ والله ـ رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هانىء  ، فلمَّا ضُرب وحُبس ركبت فرسي فكنت أول داخل الدار


(129)
على مسلم بن عقيل بالخبر  ، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين : يا عبرتاه  ، يا ثكلاه  ، فدخلت على مسلم فأخبرته الخبر  ، فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور حوله فكانوا فيها أربعة آلاف رجل  ، فقال : ناد : يا منصور أمت  ، فناديت فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا عليه.
    فعقد مسلم رحمه الله لرؤوس الأرباع : كندة ومذحج وتميم وأسد ومضر وهمدان  ، وتداعى الناس واجتمعوا  ، فما لبثنا إلاّ قليلا حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق  ، وما زالوا يتوثّبون حتى المساء  ، فضاق بعبيدالله أمره  ، وكان أكثر عمله أن يمسك باب القصر  ، وليس معه إلاّ ثلاثون رجلا من الشُرَط  ، وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته وخاصته  ، وأقبل من نأى عنه من أشراف الناس يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميين  ، وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم وهم يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم.. (1).
    ولله درّ الشفهيني عليه الرحمة إذ يقول :
يَا وَاقِفاً في الدارِ مفتكراً إِنْ تُمْسِ مكتئباً لِبَيْنِهِمُ هلاَّ صَبَرْتَ على المصابِ بهم وجعلتَ رُزْءَكَ في الحسينِ ففي مكروا به أَهْلُ النفاقِ وهل بصحائف كوجوهِهِمْ وَرَدَتْ حتى أناخ بِعقرِ سَاحَتِهِم وتسارعوا لقتالِهِ زُمَرَاً طافوا بأَرْوَعَ في عَرينتِهِ مهلا فقد أودى بك الفِكْرُ فعقيبَ كُلِّ كآبة وِزْرُ وعلى المصيبةِ يُحْمَدُ الصبرُ رُزْءِ ابنِ فاطمة لكَ الأجرُ لمنافق يُسْتَبْعَدُ المَكْرُ سُوداً وَفَحْوُ كَلاَمِهِم هَجْرُ ثِقَةً تَأَكَّدَ منهُمُ الْغَدْرُ مَا لا يحيطُ بعدِّهِ حَصْرُ يُحْمَى النزيلُ وَيَأْمَنُ الثَّغْرُ

1 ـ الإرشاد  ، المفيد : 2/46 ـ 52  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/344 ـ 349.

(130)
جيشٌ لَهَامٌ يومَ معركة فكأنَّهم سِرْبٌ قد اجتمعت حتى إذا قَرُبَ المدى وبه أردوه منعفراً تمجُّ دماً تَطَأُ الخيولُ إِهَابَه وعلى الـ ظَام يبلُّ أَوامَ غُلَّتِهِ تأباها إجلالا فتزجُرُها فتجولُ في صَدْر أَحَاطَ على بأبي القتيلَ وَمَنْ بمصرعِهِ بأبي الذي أَكْفَانُهُ نُسِجَتْ وليومِ سِلْم وَاحِدٌ وترُ ألفاً فبدَّدَ شَمْلَها صَقْرُ طَافَ العدى وَتَقَاصَرَ العمرُ منه الظُّبا والذُّبَّلُ السُّمْرُ خدِّ التريبِ لوطيِهَا أَثْرُ ريّاً بفيضِ نجيعِهِ النَّحْرُ فئةٌ يقودُ عُصَاتَها شِمْرُ عِلْمِ النبوَّةِ ذلك الصَّدْرُ ضَعُفَ الهدى وَتَضَاعَفَ الكُفْرُ من عِثْيَر وَحَنُوطُهُ عَفْرُ (1)

    جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : فهل المحن يا ساداتي إلاَّ التي لزمتكم  ، والمصائب إلاَّ التي عمَّتكم  ، والفجايع إلاَّ التي خصَّتكم  ، والقوارع إلاَّ التي طرقتكم  ، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم  ، ورحمة الله وبركاته  ، بأبي وأمي يا آل المصطفى  ، إنّا لا نملك إلاَّ أن نطوف حول مشاهدكم  ، ونعزّي فيها أرواحكم  ، على هذه المصائب العظيمة الحالّة بفنائكم  ، والرزايا الجليلة النازلة بساحتكم  ، التي أثبتت في قلوب شيعتكم القروح  ، وأورثت أكبادهم الجروح  ، وزرعت في صدورهم الغصص  ، فنحن نُشهد الله أنّا قد شاركنا أولياءكم وأنصاركم
1 ـ الغدير  ، الشيخ الأميني : 6/367.

(131)
المتقدِّمين  ، في إراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين  ، وقتلة أبي عبدالله سيِّد شباب أهل الجنة يوم كربلاء  ، بالنيَّات والقلوب  ، والتأسُّف على فوت تلك المواقف  ، التي حضروا لنصرتكم  ، والله وليّي يبلِّغكم منّي السلام (1).
    روي عن ابن عباس  ، قال : قال علي ( عليه السلام ) لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا رسول الله  ، إنك لتحبّ عقيلا ؟ قال : إي والله  ، إنّي لأحبُّه حبين : حبّاً له  ، وحباً لحبِّ أبي طالب له  ، وإن ولده لمقتول في محبّة ولدك  ، فتدمع عليه عيون المؤمنين  ، وتصلّي عليه الملائكة المقرَّبون  ، ثمَّ بكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى جرت دموعه على صدره  ، ثم قال : إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي (2).
    قال الراوي فيما يخص أمر مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) في الكوفة : إن ابن زياد دعا كثير بن شهاب  ، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه في مذحج  ، فيسير في الكوفة ويخذّل الناس عن ابن عقيل ( عليه السلام )   ، ويخوِّفهم الحرب  ، ويحذّرهم عقوبة السلطان  ، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت  ، فيرفع راية أمان لمن جاء من الناس  ، وقال مثل ذلك لقعقاع الذهلي  ، وشبث بن ربعي التميمي  ، وحجار بن أبجر السلمي  ، وشمر بن ذي الجوشن العامري  ، وحبس باقي وجوه الناس عنده استيحاشاً إليهم لقلّة عدد من معه من الناس.
    فخرج كثير بن شهاب يخذّل الناس عن مسلم  ، وخرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة  ، فبعث ابن عقيل إلى محمد بن الأشعث عبدالرحمن بن شريح الشيباني  ، فلمّا رأى ابن الأشعث كثرة من أتاه تأخَّر عن مكانه  ، وجعل محمد بن الأشعث  ، وكثير بن شهاب  ، والقعقاع بن ثور الذهلي  ، وشبث بن ربعي يردّون الناس عن اللحوق بمسلم  ، ويخوّفونهم السلطان  ، حتى اجتمع إليهم عدد
1 ـ المزار  ، محمد بن المشهدي : 299.
2 ـ الأمالي  ، الصدوق : 191 ح 3  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 22/288 ح 58.


(132)
كثير من قومهم وغيرهم  ، فصاروا إلى ابن زياد من قبل دار الروميين  ، ودخل القوم معهم.
    فقال كثير بن شهاب : أصلح الله الأمير! معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك  ، فاخرج بنا إليهم  ، فأبى عبيدالله  ، وعقد لشبث بن ربعي لواء وأخرجه  ، وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتى المساء  ، وأمرهم شديد  ، فبعث عبيدالله إلى الأشراف فجمعهم  ، ثمَّ أشرفوا على الناس فمنَّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة  ، وخوَّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة  ، وأعلموهم وصول الجند من الشام إليهم.
    وتكلَّم كثير بن شهاب حتى كادت الشمس أن تغرب  ، فقال : أيها الناس  ، الحقوا بأهاليكم  ، ولا تعجلوا الشرَّ  ، ولا تعرِّضوا أنفسكم للقتل  ، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت  ، وقد أعطى اللهَ الأميرُ عهداً لئن تممتم على حربه  ، ولم تنصرفوا من عشيَّتكم  ، أن يحرم ذرّيّتكم العطاء  ، ويفرِّق مقاتليكم في مفازي الشام  ، وأن يأخذ البريء منكم بالسقيم  ، والشاهد بالغائب  ، حتى لا يبقى له بقية من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها  ، وتكلَّم الأشراف بنحو من ذلك.
    فلمّا سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرَّقون  ، وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول : انصرف! الناس يكفونك  ، ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه ويقول : غداً تأتيك أهل الشام  ، فما تصنع بالحرب والشرّ ؟ انصرف! فيذهب به فينصرف  ، فما زالوا يتفرَّقون حتى أمسى ابن عقيل  ، وصلَّى المغرب وما معه إلاّ ثلاثون نفساً في المسجد.
    فلمّا رأى أنه قد أمسى وليس معه إلاّ أولئك النفر خرج متوجهاً إلى أبواب كندة  ، فلم يبلغ الأبواب إلاَّ ومعه منه عشرة  ، ثمَّ خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان يدلّه  ، فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحداً يدلّه على الطريق  ، ولا يدلّه على منزله  ،


(133)
ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ  ، فمضى على وجهه متلدِّداً في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب ؟ حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة  ، فمضى حتى أتى إلى باب امرأة يقال لها طوعة  ، أم ولد كانت للأشعث بن قيس  ، وأعتقها وتزوَّجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا  ، وكان بلال قد خرج مع الناس  ، وأمه قائمة تنتظره.
    فسلَّم عليها ابن عقيل فردَّت عليه السلامَ  ، فقال لها : يا أمة الله  ، اسقيني ماء  ، فسقته وجلس  ، ودخلت ثمَّ خرجت فقالت : يا عبدالله  ، ألم تشرب ؟ قال : بلى  ، قالت : فاذهب إلى أهلك  ، فسكت  ، ثمَّ أعادت مثل ذلك  ، فسكت  ، ثم قالت في الثالثة : سبحان الله! يا عبدالله  ، قم عافاك إلى أهلك  ، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي  ، ولا أحلّه لك  ، فقام وقال : يا أمة الله  ، ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة  ، فهل لك في أجر ومعروف  ، ولعلي مكافيك بعد هذا اليوم  ، قالت : يا عبدالله  ، وما ذاك ؟ قال : أنا مسلم بن عقيل  ، كذّبني هؤلاء القوم  ، وغرّوني وأخرجوني  ، قالت : أنت مسلم ؟! قال : نعم  ، قالت : ادخل.
    فدخل إلى بيت في دارها غير البيت الذي تكون فيه  ، وفرشت له وعرضت عليه العشا فلم يتعش  ، ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه  ، فقال لها : والله إنه ليريبني كثرة دخولك إلى هذا البيت وخروجك منه منذ الليلة  ، إن لك لشأناً  ، قالت له : يا بنيَّ  ، الهُ عن هذا  ، قال : والله لتخبريني  ، قالت له : أقبل على شأنك  ، ولا تسألني عن شيء  ، فألحَّ عليها فقالت : يا بنيّ  ، لا تخبرن أحداً من الناس بشيء مما أخبرك به  ، قال : نعم  ، فأخذت عليه الأيمان فحلف لها  ، فأخبرته فاضطجع وسكت.
    ولما تفرَّق الناس عن مسلم بن عقيل ( عليه السلام )   ، طال على ابن زياد  ، وجعل لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتاً كما كان يسمع قبل ذلك  ، فقال لأصحابه : أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحداً ؟ فأشرفوا فلم يجدوا أحداً  ، قال : فانظروهم لعلهم


(134)
تحت الظلال قد كمنوا لكم  ، فنزعوا تخاتج المسجد  ، وجعلوا يخفضون بشعل النار في أيديهم وينظرون  ، وكانت أحياناً تضيء لهم  ، وتارة لا تضيء لهم كما يريدون  ، فدلّوا القناديل  ، وأطنان القصب تشدّ بالحبال ثم يجعل فيها النيران  ، ثمّ تدلّى حتى ينتهي إلى الأرض  ، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها حتى فعل ذلك بالظلّة التي فيها المنبر  ، فلمَّا لم يروا شيئاً أعلموا ابن زياد بتفرّق القوم.
    ففتح باب السدّة التي في المسجد  ، ثمَّ خرج فصعد المنبر  ، وخرج أصحابه معه  ، وأمرهم فجلسوا قبيل العتمة  ، وأمر عمر بن نافع فنادى : ألا برئت الذمة من رجل من الشُرَط أو العرفاء والمناكب أو المقاتلة صلَّى العتمة إلاَّ في المسجد  ، فلم يكن إلاّ ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس  ، ثم أمر مناديه فأقام الصلاة وأقام الحرس خلفه وأمرهم بحراسته من أن يدخل إليه من يغتاله  ، وصلَّى بالناس. ثمَّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه  ، ثم قال : أما بعد  ، فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق  ، فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره  ، ومن جاء به فله ديته  ، اتقوا الله عباد الله  ، والزموا الطاعة وبيعتكم  ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.
    يا حصين بن نمير! ثكلتك أمك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة  ، وخرج هذا الرجل ولم تأتني به  ، وقد سلَّطتك على دور أهل الكوفة  ، فابعث مراصد على أهل الكوفة ودورهم  ، وأصبح غداً واستبرء الدور  ، وجسْ خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل  ، وكان الحصين بن نمير على شرطه  ، وهو من بني تميم  ، ثم دخل ابن زياد القصر وقد عقد لعمرو بن حريث راية  ، وأمَّره على الناس.
    فلمّا أصبح جلس مجلسه وأذن للناس  ، فدخلوا عليه  ، وأقبل محمد بن الأشعث فقال : مرحباً بمن لا يُستغشّ ولا يُتَّهم  ، ثم أقعده إلى جنبه  ، وأصبح ابن تلك العجوز فغدا إلى عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث  ، فأخبره بمكان مسلم بن


(135)
عقيل عند أمه  ، فأقبل عبدالرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد فسارَّه  ، فعرف ابن زياد سراره  ، فقال له ابن زياد بالقضيب في جنبه : قم فأتني به الساعة  ، فقام وبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصاب فيهم مثل مسلم بن عقيل.
    فبعث معه عبيدالله بن عباس السلمي في سبعين رجلا من قيس حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل ( عليه السلام )   ، فلمَّا سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال علم أنه قد أتي.
     ( وفي رواية : فعجَّل دعاءه الذي كان مشغولا به بعد صلاة الصبح  ، ثمَّ لبس لامته وقال لطوعة : قد أدَّيتِ ما عليك من البر  ، وأخذتِ نصيبك من شفاعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، ولقد رأيت البارحة عمي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في المنام وهو يقول لي : أنت معي في الجنة ) (1) وخرج إليهم مصلتاً سيفه وقد اقتحموا عليه الدار  ، فشدَّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار  ، قال ابن شهر آشوب عليه الرحمة : فحمل مسلم عليهم وهو يقول :
هو الموتُ فاصنع وَيْكَ ما أنت صَانِعُ فصبراً لأمرِ اللهِ جَلَّ جلالُهُ فأنتَ لكأسِ الموتِ لا شكَّ جَارِعُ فَحُكْمُ قَضَاءِ اللهِ في الخلقِ ذائعُ
    فقتل منهم واحداً وأربعين رجلا (2)
    قال محمد بن أبي طالب : لما قَتل مسلم منهم جماعة كثيرة  ، وبلغ ذلك ابن زياد  ، أرسل إلى محمد بن الأشعث يقول : بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به  ، فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة  ، فكيف إذا أرسلناك إلى غيره ؟ فأرسل ابن الأشعث : أيها الأمير  ، أتظنّ أنك بعثتني إلى بقَّال من بقالي الكوفة  ، أو إلى جرمقاني من جرامقة
1 ـ نفس المهموم  ، الشيخ عباس القمي : 56.
2 ـ مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوف : 4/93  ، مقتل الحسين ( عليه السلام )   ، المقرم : 159.
المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: فهرس