|
|||||||||||||||||||||||||||||||||
(136)
الحيرة ؟ أو لم تعلم أيها الأمير أنك بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام ، في كفّ بطل همام ، من آل خير الأنام ، فأرسل إليه ابن زياد : أعطه الأمان فإنك لا تقدر عليه إلاّ به (1) وفي رواية قال : وإنما أرسلتني إلى سيف من أسياف محمد بن عبدالله ( صلى الله عليه وآله ) ، فمدّه بالعسكر (2).
قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : روي في بعض كتب المناقب عن عمرو بن دينار قال : أرسل الحسين ( عليه السلام ) مسلم بن عقيل إلى الكوفة وكان مثل الأسد ، قال عمرو وغيره : لقد كان من قوّته أنه يأخذ الرجل بيده ، فيرمي به فوق البيت (3). رجعنا إلى رواية الشيخ المفيد عليه الرحمة قال : ثمَّ عادوا إليه ، فشدَّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمري ضربتين ، فضرب بكر فم مسلم ، فقطع شفته العليا ، وأسرع السيف في السفلى وفصلت له ثنيتاه ، وضرب مسلم في رأسه ضربة منكرة ، وثنَّاه بأخرى على حبل العاتق ، كادت تطلع إلى جوفه. فلمَّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت ، وأخذوا يرمونه بالحجاة ، ويلهبون النار في أطنان القصب ثمَّ يرمونها عليه من فوق البيت ، فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتاً بسيفه في السكة ، فقال محمد بن الأشعث : لك الأمان لا تقتل نفسك ، وهو يقاتلهم ويقول :
1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/354. 2 ـ المنتخب ، الطريحي : 299 الليلة العاشرة. 3 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/354. (137)
عمك ، وليسوا بقاتليك ، ولا ضائريك ، وكان قد أثخن بالحجارة ، وعجز عن القتال فانتهز واستند ظهره إلى جنب تلك الدار.
( وجاء في بعض الروايات : وأثخنته الجراحات وأعياه نزف الدم فاستند إلى جنب تلك الدار ، فتحاملوا عليه يرمونه بالسهام والحجارة ، فقال : ما لكم ترموني بالحجارة كما ترمى الكفار وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار ؟ ألا ترعون حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عترته ؟ فقال له ابن الأشعث : لا تقتل نفسك وأنت في ذمتي ، قال مسلم ( عليه السلام ) : أأوسر وبي طاقة ؟ لا والله لا يكون ، لا يكون ذلك أبداً ، وحمل على ابن الأشعث فهرب منه ، ثمَّ حملوا عليه من كل جانب ، وقد اشتد به العطش ، فطعنه رجل من خلفه فسقط إلى الأرض وأسر (1). وقيل : إنهم عملوا له حفيرة وستروها بالتراب ، ثمَّ انكشفوا بين يديه حتى إذا وقع فيها أسروه ) (2) ولله درّ السيد رضا الهندي عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 44/244 ، مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، الخوارزمي 1/209 ـ 210. 2 ـ المنتخب ، الطريحي : 299 الليلة العاشرة. 3 ـ المنتخب من الشعر الحسيني ، السيد علي أصغر الحسيني : 174. (138)
ثمَّ تنحَّى.
فقال مسلم : أما لو لم تأمنوني ما وضعت يدي في أيديكم ، فأتي ببغلة فحمل عليها ، واجتمعوا حوله ونزعوا سيفه ، وكأنه عند ذلك يئس من نفسه ، فدمعت عيناه ، ثمَّ قال : هذا أول الغدر ، فقال له محمد بن الأشعث : أرجو أن لا يكون عليك بأس ، قال : وما هو إلاَّ الرجاء ؟ أين أمانكم ؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وبكى ، فقال له عبيدالله بن العباس : إن من يطلب مثل الذي طلبت إذا ينزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ ، قال : والله إني ما لنفسي بكيت ، ولا لها من القتل أرثي ، وإن كنتُ لم أحبَّ لها طرفة عين تلفاً ، ولكني أبكي لأهلي المقبلين ، إني أبكي للحسين وآل الحسين ( عليه السلام ). ولله درّ الشيخ حسين الحياوي عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 146. (139)
أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إن أهل الكوفة قد كذبوك وليس لمكذوب رأي ، فقال ابن الأشعث : والله لأفعلنَّ ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك.
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر ، واستأذن فأذن له ، فدخل على عبيدالله بن زياد ، فأخبره خبر ابن عقيل ، وضرب بكر إياه ، وما كان من أمانه له ، فقال له عبيدالله : وما أنت والأمان ؟ كأنّا أرسلناك لتؤمنه ، إنما أرسلناك لتأتينا به ، فسكت ابن الأشعث وانتهى بابن عقيل إلى باب القصر ، وقد اشتدَّ به العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس ، ينتظرون الإذن ، فيهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو ، وكثير بن شهاب ، وإذا قلّةٌ باردةٌ موضوعةٌ على الباب ، فقال مسلم : اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو : أتراها ما أبردها ؟! لا والله لا تذوق منها قطرة أبداً حتى تذوق الحميم في نار جهنم ، فقال له ابن عقيل : ويحك ، من أنت ؟ فقال : أنا الذي عرف الحق إذ أنكرته ، ونصح لإمامه إذ غششته ، وأطاعه إذ خالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له ابن عقيل : لأمك الثكل ، ما أجفاك واقطعك وأقسى قلبك! أنت ـ يا ابن باهلة ـ أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني. ثم جلس فتساند إلى حائط ، وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فأتاه بقلّة عليها منديل وقدح ، فصبَّ فيه ماء ، فقال له : اشرب ، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فمه ، ولا يقدر أن يشرب ، ففعل ذلك مرتين ، فلمَّا ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثناياه في القدح ، فقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته. ولله درّ من قال من الشعراء :
(140)
فقال له مسلم : كذبت يا بن زياد ، إنما شقَّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأما الفتنة فإنما ألقحها أنت وأبوك زياد بن عبيد ، عبد بني علاج من ثقيف ، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته (3). فقال له ابن زياد : لعمري لتقتلن ، قال : كذلك ؟ قال : نعم ، قال : فدعني أوصي إلى بعض قومي ، قال : افعل ، فنظر مسلم إلى جلساء عبيدالله بن زياد ، 1 ـ المنتخب من الشعر الحسيني ، السيد علي أصغر المدرسي : 171. 2 ـ الإرشاد ، المفيد : 2/58 ـ 61. 3 ـ اللهوف في قتلى الطفوف ، السيد ابن طاووس الحسني : 35. (141)
وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا عمر ، إن بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة ، وقد يجب لي عليك نجح حاجتي ، وهي سرٌّ ، فامتنع عمر أن يسمع منه ، فقال له عبيدالله بن زياد : لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك ؟ فقام معه فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد ، فقال له : إن عليَّ بالكوفة ديناً استدنته منذ قدمت الكوفة سبع مائة درهم ، فبع سيفي ودرعي فاقضها عني ، وإذا قتلت فاستوهب جثتي من ابن زياد فوارها ، وابعث إلى الحسين ( عليه السلام ) من يردّه ، فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ، ولا أراه إلاّ مقبلا.
فقال عمر لابن زياد : أتدري ـ أيها الأمير ـ ما قال لي ؟ إنه ذكر كذا وكذا فقال ابن زياد : إنه لا يخونك الأمين ، ولكن قد يؤتمن الخائن ، أمّا ماله فهو له ، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحبَّ ، وأمّا جثّته فإنا لا نبالي إذا قتلناه ما صُنع بها ، وأمّا حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده. ثمَّ قال ابن زياد : إيه ابن عقيل ، أتيت الناس وهم جمع فشتَّت بينهم ، وفرّقت كلمتهم ، وحملت بعضهم على بعض ، قال : كلا لست لذلك أتيت ، ولكنَّ أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل ، وندعو إلى الكتاب ، فقال له ابن زياد : وما أنت وذاك يا فاسق ؟ لِمَ لمْ تعمل فيهم بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر ؟ قال مسلم : أنا أشرب الخمر ؟ أما ـ والله ـ إن الله ليعلم أنك غير صادق وأنك قد قلت بغير علم ، وأني لست كما ذكرت ، وأنك أحقّ بشرب الخمر مني ، وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغاً ، فيقتل النفس التي حرَّم الله قتلها ، ويسفك الدم الذي حرَّم الله على الغصب والعداوة ، وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب ، كأن لم يصنع شيئاً. فقال له ابن زياد : يا فاسق ، إن نفسك منَّتك ما حال الله دونه ، ولم يرك الله له (142)
أهلا ، فقال مسلم : فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله ؟ فقال ابن زياد : أمير المؤمنين يزيد ، فقال مسلم : الحمد لله على كل حال ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم ، فقال له ابن زياد : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس.
فقال له مسلم : أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن ، وإنك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السيرة ، ولؤم الغلبة ، لا أحد أولى بها منك ، فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعلياً وعقيلا ، وأخذ مسلم لا يكلِّمه. ولله درّ السيد رضا الهندي عليه الرحمة إذ يقول :
وقال السيد ابن طاووس عليه الرحمة بعد ما ذكر بعض ما مرَّ : فضرب عنقه ونزل مذعوراً ، فقال له ابن زياد : ما شأنك ؟ فقال : أيها الأمير ، رأيت ساعة قتلته 1 ـ المنتخب من الشعر الحسيني ، السيد علي أصغر الحسيني : 174. 2 ـ كتاب الإرشاد ، المفيد : 2/61 ـ 63. (143)
رجلا أسود سيّيء الوجه حذائي ، عاضّاً على إصبعه أو قال : شفتيه ، ففزعت فزعاً لم أفزعه قط! فقال ابن زياد : لعلّك دهشت (1).
وقال المسعودي : دعا ابن زياد بكير بن حمران الذي قتل مسلماً ، فقال : أقتلته ؟ قال : نعم ، قال : فما كان يقول وأنتم تصعدون به لتقتلوه ؟ قال : كان يُكبِّر ويُسبِّح ويُهلِّل ويستغفر الله ، فلمّا أدنيناه لنضرب عنقه قال : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا ثم خذلونا وقتلونا ، فقلت له : الحمد لله الذي أقادني منك ، وضربته ضربة لم تعمل شيئاً ، فقال لي : أوما يكفيك فيَّ خدش مني وفاء بدمك أيها العبد ؟ قال ابن زياد : وفخراً عند الموت ؟ قال : وضربته الثانية فقتلته (2). قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فقام محمد بن الأشعث إلى عبيدالله بن زياد فكلَّمه في هانىء بن عروة ، فقال : إنك قد عرفت موضع هانىء من المصر ، وبيته في العشيرة ، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك ، وأنشدك الله لمّا وهبته لي ، فإني أكره عداوة المصر وأهله ، فوعده أن يفعل ، ثم بداله وأمر بهانىء في الحال ، فقال : أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه ، فأخرج هانىء حتى أتي به إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم ، وهو مكتوف ، فجعل يقول : وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، يا مذحجاه ، يا مذحجاه ، أين مذحج ؟ فلمَّا رأى أن أحداً لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف ، ثم قال : أما من عصا أو سكين أو حجارة أو عظم يحاجز به رجل عن نفسه ؟ ووثبوا إليه فشدّوه وثاقاً ، ثم قيل له : امدد عنقك ، فقال : ما أنا بها بسخيٍّ ، وما أنا بمعينكم على نفسي ، فضربه مولى لعبيدالله بن زياد تركي يقال له : رشيد بالسيف ، فلم يصنع شيئاً ، فقال له هانىء : إلى الله المعاد ، اللهم إلى رحمتك ورضوانك ، ثم ضربه أخرى فقتله. 1 ـ اللهوف في قتلى الطفوف ، ابن طاووس : 36 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/357. 2 ـ مروج الذهب ، المسعودي : 3/60. (144)
ولما قتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة رحمة الله عليهما بعث ابن زياد برأسيهما مع هانىء بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد ابن معاوية...
وفي مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة رحمهما الله يقول عبدالله بن الزبير الأسدي :
قال السيد ابن طاووس عليه الرحمة : ثمَّ سار الحسين ( عليه السلام ) حتى بلغ زبالة ، فأتاه فيها خبر مسلم بن عقيل ، فعرَّف بذلك جماعة ممن تبعه فتفرَّق عنه أهل الأطماع والارتياب ، وبقي معه أهله وخيار الأصحاب. قال الراوي : وارتجَّ الموضع بالبكاء والعويل لقتل مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) ، 1 ـ الإرشاد ، المفيد : 2/63 ـ 65 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/349 ـ 360. (145)
وسالت الدموع كل مسيل ، ثم إن الحسين ( عليه السلام ) سار قاصداً لما دعاه الله ، فلقيه الفرزدق الشاعر فسلَّم عليه وقال : يا ابن رسول الله ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمِّك مسلم بن عقيل وشيعته ؟ قال : فاستعبر الحسين ( عليه السلام ) باكياً ثم قال : رحم الله مسلماً ، فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه ، وتحيّته ورضوانه ، أما إنه قد قضى ما عليه ، وبقي ما علينا ، ثم أنشأ يقول :
قال : لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، ورأيتهما يجّران بأرجلهما في السوق ، فأقبلنا حتى لحقنا الحسين ( عليه السلام ) فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسياً ، فجئنا حين نزل فسلَّمنا عليه فردَّ علينا السلام ، فقلنا له ، رحمك الله ، إن عندنا خبراً إن شئت حدَّثناك علانية وإن شئت سراً ، فنظر إلينا 1 ـ اللهوف في قتلى الطفوف ، ابن طاووس : 45 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/347. (146)
وإلى أصحابه ثمَّ قال : ما دون هؤلاء سر ، فقلنا له : رأيت الراكب الذي استقبلته عشية أمس ؟ قال : نعم ، وقد أردت مسألته ، فقلنا : قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل ، وإنه حدَّثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهاني ورآهما يجّران في السوق بأرجلهما.
فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما ، يردِّد ذلك مراراً ، فقلنا له : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلاَّ انصرفت من مكانك هذا ، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة ، بل نتخوَّف أن يكونوا عليك ، فنظر إلى بني عقيل فقال : ما ترون فقد قتل مسلم ؟ فقالوا : والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق ، فأقبل علينا الحسين ( عليه السلام ) وقال : لا خير في العيش بعد هؤلاء ، فعلمنا أنه قد عزم رأيه على المسير ، فقلنا له : خار الله لك. فقال : رحمكما الله. فقال له أصحابه : إنك والله ما أنت مثل مسلم ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع ، فسكت. وارتجَّ الموضع بالبكاء لقتل مسلم بن عقيل ، وسالت الدموع عليه كلَّ مسيل ، وفي رواية : وبكى ( عليه السلام ) وبكى معه الهاشميون ، وكثر صراخ النساء حتى ارتجّ الوضع لقتل مسلم بن عقيل (1). وجاء في معالي السبطين للحائري عليه الرحمة قال : وفي بعض كتب المقاتل : كانت لمسلم ( عليه السلام ) بنت عمرها إحدى عشرة سنة ، واسمها حميدة ، وأمها أم كلثوم بنت علي ( عليه السلام ) ، وقيل : اسمها عاتكة وأمها رقيّة بنت علي ( عليه السلام ) وعمرها سبع سنين ، وهي التي سُحقت يوم الطفّ بعد شهادة الحسين ( عليه السلام ) لما هجم القوم على المخيَّم ، وكانت مع الحسين ( عليه السلام ) فلمَّا قام الحسين ( عليه السلام ) من مجلسه جاء إلى الخيمة فعزَّز البنت وقرَّبها من مجلسه ، فحسَّت البنت بالشرّ ، فمسح الحسين ( عليه السلام ) على رأسها وناصيتها 1 ـ مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، المقرم : 178. (147)
كما يُفعل بالأيتام ، فقالت : يا عمّ ، ما رأيتك قبل هذا اليوم تفعل بي مثل ذلك ، أظنّ أنه قد اُستشهد والدي ، فلم يتمالك الحسين ( عليه السلام ) من البكاء ، وقال : يا بنتي ، أنا أبوكِ وبناتي أخواتكِ ، فصاحت ونادت بالويل ، فسمع أولاد مسلم بن عقيل ذلك الكلام ، وتنفسَّوا الصعداء ، وبكوا بكاءً شديداً ورموا بعمائمهم إلى الأرض ، ونادوا : وا مسلماه ، وا ابن عقيلاه (1).
1 ـ معالي السبطين ، الحائري : 1/266. 2 ـ لواعج الأشجان ، الأمين : 84. (148)
روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة في الأمالي ، قال : حدَّثنا أبي ( رحمه الله ) ، قال : حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن رجاء الجحدري ، عن علي بن جابر ، قال : حدَّثني عثمان بن داود الهاشمي ، عن محمد بن مسلم ، عن حمران بن أعين ، عن أبي محمد شيخ لأهل الكوفة ، قال : لما قُتل الحسين بن علي ( عليهما السلام ) أُسر من معسكره غلامان صغيران ، فأتي بهما عبيدالله بن زياد ، فدعا سجاناً له ، فقال : خذ هذين الغلامين إليك ، فمن طيِّب الطعام فلا تطعمهما ، ومن البارد فلا تسقهما ، وضيِّق عليهما سجنهما ، وكان الغلامان يصومان النهار ، فإذا جنَّهما الليل أُتيا بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح.
فلمَّا طال بالغلامين المكث حتى صارا في السنة قال أحدهما لصاحبه : يا أخي ، قد طال بنا مكثنا ، ويوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا ، فإذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا ، وتقرَّب إليه بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) لعله يوسِّع علينا في طعامنا ، ويزيد في شرابنا. فلما جنَّهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح ، فقال له الغلام الصغير : يا شيخ ، أتعرف محمداً ؟ قال : فكيف لا أعرف محمداً وهو نبيّي! قال : أفتعرف جعفر بن أبي طالب ؟ قال : وكيف لا أعرف جعفراً وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء ؟! قال : أفتعرف عليَّ بن أبي طالب ؟ قال : وكيف لا أعرف علياً هو ابن عمِّ نبيّي وأخو نبيّي ؟! قال له : يا شيخ ، فنحن من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، ونحن من ولد مسلم بن (149)
عقيل بن أبي طالب ، بيدك أسارى ، نسألك من طيِّب الطعام فلا تطعمنا ، ومن بارد الشراب فلا تسقينا ، وقد ضيَّقت علينا سجننا ، فانكبَّ الشيخ على أقدامهما يقبِّلهما ويقول : نفسي لنفسكما الفداء ، ووجهي لوجهكما الوقاء ، يا عترة نبيِّ الله المصطفى ، هذا باب السجن بين يديكما مفتوح ، فخذا أيَّ طريق شئتما ، فلمَّا جنَّهما الليل أتاهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح ووقفهما على الطريق ، وقال لهما : سيرا ـ يا حبيبيَّ ـ الليل ، واكمنا النهار حتى يجعل الله عزَّ وجلَّ لكما من أمركما فرجاً ومخرجاً ، ففعل الغلامان ذلك. ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
فقالت لهما : فمن أنتما يا حبيبيَّ ؟ فقد شممت الروائح كلها ، فما شممت رائحة أطيب من رائحتكما ، فقالا لها : يا عجوز ، نحن من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل ، قالت العجوز : يا حبيبيَّ ، إن لي ختناً فاسقاً ، قد شهد الواقعة مع عبيد الله بن زياد ، أتخوَّف أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما ، قالا : 1 ـ ديوان العلامة الجشي : 365. (150)
سواد ليلتنا هذه ، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق ، فقال : سآتيكما بالطعام ، ثم أتتهما بطعام فأكلا وشربا ، فلمَّا ولجا الفراش قال الصغير للكبير : يا أخي ، إنا نرجو أن نكون قد أمنا ليلتنا هذه ، فتعال حتى أعانقك وتعانقني ، وأشمَّ رائحتك وتشمَّ رائحتي قبل أن يفرِّق الموت بيننا ، ففعل الغلامان ذلك ، واعتنقا وناما.
فلمَّا كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز (1) الفاسق حتى قرع الباب قرعاً خفيفاً ، فقالت العجوز : من هذا ؟ قال : أنا فلان ، قالت : ما الذي أطرقك هذه الساعة ، وليس هذا لك بوقت ؟ قال : ويحكِ ، افتحي الباب قبل أن يطير عقلي ، وتنشقَّ مرارتي في جوفي ، جهد البلاء قد نزل بي. قالت : ويحك ، ما الذي نزل بك ؟ قال : هرب غلامان صغيران من عسكر عبيد الله بن زياد ، فنادى الأمير في معسكره : من جاء برأس واحد منهما فله ألف درهم ، ومن جاء برأسيهما فله ألفا درهم ، فقد أتعبت وتعبت ولم يصل في يدي شيء ، فقالت العجوز : يا ختني ، احذر أن يكون محمد خصمك في يوم القيامة ، قال لها : ويحكِ ، إن الدنيا محرص عليها ، فقالت : وما تصنع بالدنيا ، وليس معها آخرة ؟ قال : إني لأراك تحامين عنهما ، كأن عندك من طلب الأمير شيئاً ، فقومي فإن الأمير يدعوك ، قالت : وما يصنع الأمير بي ؟ وإنما أنا عجوز في هذه البرية ، قال : إنما لي طلب ، افتحي لي الباب حتى أريح وأستريح ، فإذا أصبحت بكَّرت في أي طريق آخذ في طلبهما. ففتحت له الباب ، وأتته بطعام وشراب فأكل وشرب ، فلما كان في بعض الليل سمع غطيط (2) الغلامين في جوف البيت ، فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج ، ويخور كما يخور الثور ، ويلمس بكفه جدار البيت حتى وقعت يده على جنب الغلام الصغير ، فقال له : من هذا ؟ قال : أمّا أنا فصاحب المنزل ، فمن أنتما ؟ 1 ـ الختن : كل من كان من قبل المرأة كأبيها وأخيها ، وكذلك زوج البنت أو زوج الأخت. 2 ـ الغطيط : الصوت الذي يخرج مع نفس النائم. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||
|