المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: 151 ـ 165
(151)
    فأقبل الصغير يحرِّك الكبير ويقول : قم يا حبيبي  ، فقد والله وقعنا فيما كنا نحاذره  ، قال لهما : من أنتما ؟ قالا له : يا شيخ  ، إن نحن صدقناك فلنا الأمان ؟ قال : نعم  ، قالا : أمان الله وأمان رسوله ( صلى الله عليه وآله )   ، وذمة الله وذمة رسوله ؟ قال : نعم  ، قالا : ومحمد بن عبدالله على ذلك من الشاهدين ؟ قال : نعم  ، قالا : والله على ما نقول وكيل وشهيد ؟ قال : نعم  ، قالا له : يا شيخ  ، فنحن من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله )   ، هربنا من سجن عبيدالله بن زياد من القتل  ، فقال لهما : من الموت هربتما  ، وإلى الموت وقعتما  ، الحمد لله الذي أظفرني بكما.
    فقام إلى الغلامين فشدَّ أكتافهما  ، فبات الغلامان ليلتهما مكتفين  ، فلمَّا انفجر عمود الصبح دعا غلاماً له أسود  ، يقال له : فليح  ، فقال : خذ هذين الغلامين  ، فانطلق بهما إلى شاطىء الفرات  ، واضرب عنقيهما  ، وائتني برأسيهما لأنطلق بهما إلى عبيدالله بن زياد  ، وآخذ جائزة ألفي درهم.
    فحمل الغلام السيف  ، ومشى أمام الغلامين  ، فما مضى إلاَّ غير بعيد حتى قال أحد الغلامين : يا أسود  ، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذِّن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! قال : إن مولاي قد أمرني بقتلكما  ، فمن أنتما ؟ قالا له : يا أسود  ، نحن من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله )   ، هربنا من سجن عبيدالله بن زياد من القتل  ، أضافتنا عجوزكم هذه  ، ويريد مولاك قتلنا  ، فانكبَّ الأسود على أقدامهما يقبّلهما ويقول : نفسي لنفسكما الفداء  ، ووجهي لوجهكما الوقاء  ، يا عترة نبيِّ الله المصطفى  ، والله لا يكون محمد ( صلى الله عليه وآله ) خصمي في القيامة  ، ثم عدا فرمى بالسيف من يده ناحية  ، وطرح نفسه في الفرات  ، وعبر إلى الجانب الآخر  ، فصاح به مولاه : يا غلام! عصيتني  ، فقال : يا مولاي  ، إنما أطعتك ما دمت لا تعصي الله  ، فإذا عصيت الله فأنا منك بريء في الدنيا والآخرة.
    فدعا ابنه  ، فقال : يا بنيّ  ، إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك  ، والدنيا محرصٌ


(152)
عليها  ، فخذ هذين الغلامين إليك  ، فانطلق بهما إلى شاطىء الفرات  ، فاضرب عنقيهما وائتني برأسيهما  ، لأنطلق بهما إلى عبيدالله بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم  ، فأخذ الغلام السيف  ، ومشى أمام الغلامين  ، فما مضى إلاّ غير بعيد حتى قال أحد الغلامين : يا شابّ  ، ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنم! فقال : يا حبيبيّ  ، فمن أنتما ؟ قالا : من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله )   ، يريد والدك قتلنا  ، فانكبَّ الغلام على أقدامهما يقبّلهما  ، وهو يقول لهما مقالة الأسود  ، ورمى بالسيف ناحية  ، وطرح نفسه في الفرات وعبر  ، فصاح به أبوه : يا بنيَّ! عصيتني  ، قال : لأن أطيع الله وأعصيك أحبُّ إلي من أن أعصى الله وأطيعك.
    قال الشيخ : لا يلي قتلكما أحد غيري  ، وأخذ السيف ومشى أمامهما  ، فلمّا صار إلى شاطىء الفرات سلَّ السيف من جفنه  ، فلما نظر الغلامان إلى السيف مسلولا اغرورقت أعينهما  ، وقالا له : يا شيخ انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا  ، ولا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة غداً فقال : لا  ، ولكن أقتلكما وأذهب برأسيكما إلى عبيدالله بن زياد  ، وآخذ جائزة ألفي درهم.
    فقالا له : يا شيخ  ، أما تحفظ قرابتنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال : ما لكما من رسول الله قرابة  ، قالا له : يا شيخ  ، فائت بنا إلى عبيد الله ابن زياد حتى يحكم فينا بأمره  ، قال : ما إلى ذلك سبيل إلاّ التقرّب إليه بدمكما  ، قالا له : يا شيخ  ، أما ترحم صغر سننا ؟ قال : ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاً  ، قالا : يا شيخ  ، إن كان ولابدّ فدعنا نصلّي ركعات  ، قال : فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة.
    فصلّى الغلامان أربع ركعات  ، ثم رفعا طرفيهما إلى السماء فناديا : يا حيُّ يا حليم  ، يا أحكم الحاكمين  ، احكم بيننا وبينه بالحق.
    فقام إلى الأكبر فضرب عنقه  ، وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة  ، وأقبل الغلام الصغير يتمرَّغ في دم أخيه وهو يقول : حتى ألقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنا مختضب بدم


(153)
أخي  ، فقال : لا عليك  ، سوف ألحقك بأخيك  ، ثم قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه  ، وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة  ، ورمى ببدنيهما في الماء  ، وهما يقطران دماً.
    ومرَّ حتى أتى بهما عبيدالله بن زياد وهو قاعد على كرسيٍّ له  ، وبيده قضيب خيزران  ، فوضع الرأسين بين يديه  ، فلمّا نظر إليهما قام ثم قعد  ، ثم قام ثم قعد ثلاثاً  ، ثم قال : الويل لك  ، أين ظفرت بهما ؟ قال : أضافتهما عجوز لنا  ، قال : فما عرفت لهما حقّ الضيافة ؟ قال : لا  ، قال : فأيَّ شيء قالا لك ؟ قال : قالا : يا شيخ  ، اذهب بنا إلى السوق فبعنا وانتفع بأثماننا فلا ترد أن يكون محمد ( صلى الله عليه وآله ) خصمك في القيامة  ، قال : فأيَّ شيء قلت لهما ؟ قال : قلت : لا  ، ولكن أقتلكما وأنطلق برأسيكما إلى عبيدالله بن زياد  ، وآخذ جائزة ألفي درهم  ، قال : فأيَّ شيء قالا لك ؟ قال : قالا : ائت بنا إلى عبيدالله بن زياد حتى يحكم فينا بأمره  ، قال : فأي شيء قلت ؟ قال : قلت : ليس إلى ذلك سبيل إلاّ التقرّب إليه بدمكما  ، قال : أفلا جئتني بهما حيّين  ، فكنت أضعف لك الجائزة  ، وأجعلها أربعة آلاف درهم ؟
    قال : ما رأيت إلى ذلك سبيلا إلاَّ التقرُّب إليك بدمهما  ، قال : فأيَّ شيء قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا لي : يا شيخ  ، احفظ قرابتنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، قال : فأي شيء قلت لهما ؟ قال : قلت : ما لكما من رسول الله قرابة  ، قال : ويلك  ، فأيَ شيء قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا : يا شيخ  ، ارحم صغر سننا  ، قال : فما رحمتهما ؟ قال : قلت : ما جعل الله لكما من الرحمة في قلبي شيئاً  ، قال : ويلك  ، فأيَّ شيء قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا : دعنا نصلّي ركعات  ، فقلت : فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة  ، فصلّى الغلامان أربع ركعات  ، قال : فأيَّ شيء قالا في آخر صلاتهما ؟ قال : رفعا طرفيهما إلى السماء  ، وقالا : يا حي يا حليم  ، يا أحكم الحاكمين  ، أحكم بيننا وبينه بالحق.
    قال عبيدالله بن زياد : فإن أحكم الحاكمين قد حكم بينكم  ، من للفاسق ؟ قال : فانتدب له رجل من أهل الشام  ، فقال : أنا له  ، قال : فانطلق به إلى الموضع


(154)
الذي قتل فيه الغلامين  ، فاضرب عنقه  ، ولا تترك أن يختلط دمه بدمهما  ، وعجِّل برأسه  ، ففعل الرجل ذلك  ، وجاء برأسه فنصبه على قناة  ، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون : هذا قاتل ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (1).
    ولله درّ الشيخ صالح الكواز الحلي عليه الرحمة حيث يقول :
وصبية من بني الزهرا مُرَبَّطَة كأنَّ كلَّ فؤاد من عدوِّهِمُ ليت الأُولى أطعموا المسكينَ قُوْتَهُمُ حتى أَتَى هل أتى في مَدْحِ فَضْلِهِمُ يرون بالطفِّ أيتاماً لهم أُسِرَتْ وأرؤساً سائرات بالرِّمَاحِ رَمَى بالحبلِ بين بني حَمَّالَةِ الحطبِ صَخْرُ بنُ حَرْب غدا يُغْرِيه بالحَرَبِ وَتَالِيَيْهِ وهم في غَايَةِ السَّغَبِ مِنَ الإلهِ لهم في أشرفِ الكُتُبِ يستصرخون من الآباءِ كُلَّ أبي مَسِيرَها عُلَمَاءُ النَّجْمِ بالعَطَبِ (2)

    فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما  ، فليبك الباكون  ، وإياهم فليندب النادبون  ، ولمثلهم فالتذرف الدموع  ، وليصرخ الصارخون  ، ويضجَّ الضاجون  ، ويعجَّ العاجون  ، أين الحسن وأين الحسين  ، أين أبناء الحسين  ، صالح بعد صالح  ، وصادق بعد صادق  ، أين السبيل بعد السبيل  ، أين الخيرة بعد الخيرة  ، أين الشموس الطالعة  ، أين الأقمار المنيرة  ، أين الأنجم الزاهرة  ،
1 ـ الأمالي  ، الشيخ الصدوق : 143 ـ 149 ح 2.
2 ـ رياض المدح والرثاء  ، الشيخ حسين القديحي : 158.


(155)
أين أعلام الدين وقواعد العلم (1).
    قال الحجّة الشيخ محمد حسين آل سُميسِم النجفي رحمه الله تعالى :
لإنْ قصد الحُجَّاجُ بيتاً بمكة فإنّي بوادي الطفِّ أصبحت مُحْرِماً تخفُّ له الأرواحُ قَبْلَ جُسُومِها مسحتُ جبيني في ثَرَاهَ ونِلْتُهُ أتسألني عن زمزم هاكَ مدمعي وطافوا عليه والذبيحُ جريحُهُ أطوفُ ببيت والحسينُ ذبيحُه أليس به ثِقْلُ النبيِّ وروحُهُ وَإِنْ عزَّ شأواً حيث إني مسيحُهُ أو الحجرِ الملثومِ هذا ضريحُهُ (2)
    قال السيّد وابن نما رحمهما الله في مسير الحسين ( عليه السلام ) إلى كربلاء : ثمَّ سار ( عليه السلام ) حتى مرَّ بالتنعيم  ، فلقي هناك عيراً تحمل هدية قد بعث بها بحير بن ريسان الحميري عامل اليمن إلى يزيد بن معاوية ـ وكان عامله على اليمن ـ وعليها الورس والحُلل  ، فأخذها ( عليه السلام ) لأن حكم أمور المسلمين إليه  ، وقال لأصحاب الإبل : من أحبَّ منكم أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كراه وأحسنّا صحبته  ، ومن أحبَّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكرى بقدر ما قطع من الطريق  ، فمضى قوم وامتنع آخرون.
    ثمَّ سار ( عليه السلام ) حتى بلغ ذات عرق  ، فلقي بشر بن غالب وارداً من العراق فسأله عن أهلها  ، فقال : خلَّفت القلوب معك  ، والسيوف مع بني أمية  ، فقال : صدق أخو بني أسد  ، إن الله يفعل ما يشاء  ، ويحكم ما يريد.
    قال : ثمَّ سار صلوات الله عليه حتى نزل الثعلبية وقت الظهيرة  ، فوضع رأسه فرقد  ، ثم استيقظ فقال : قد رأيت هاتفاً يقول : أنتم تسرعون  ، والمنايا تسرع بكم إلى الجنة  ، فقال له ابنه علي : يا أبه  ، أفلسنا على الحق ؟ فقال : بلى ـ يا بنيّ ـ والذي إليه مرجع العباد  ، فقال : يا أبه  ، إذن لا نبالي بالموت  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : جزاك
1 ـ المزار  ، محمد بن المشهدي : 578.
2 ـ سحر البيان وسمر الجنان  ، الشيخ محمد حسن آل سميسم : 186.


(156)
الله ـ يا بنيّ ـ خير ما جزى ولداً عن والد  ، ثمَّ بات ( عليه السلام ) في الموضع.
    فلمَّا أصبح إذا برجل من أهل الكوفة ـ يكنَّى أبا هرة الأزدي ـ قد أتاه فسلَّم عليه  ، ثم قال : يا ابن رسول الله  ، ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : ويحك أبا هرة  ، إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت  ، وشتموا عرضي فصبرت  ، وطلبوا دمي فهربت  ، وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية  ، ليلبسنهم الله ذلا شاملا  ، وسيفاً قاطعاً  ، وليسلِّطن عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم  ، فحكمت في أموالهم ودمائهم (1).
    وقال محمد بن أبي طالب : واتّصل الخبر بالوليد بن عتبة أمير المدينة بأن الحسين ( عليه السلام ) توجَّه إلى العراق  ، فكتب إلى ابن زياد : أمَّا بعد  ، فإن الحسين قد توجَّه إلى العراق  ، وهو ابن فاطمة  ، وفاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، فاحذر ـ يا ابن زياد ـ أن تأتي إليه بسوء فتهيج على نفسك وقومك أمراً في هذه الدنيا لا يصدّه شيء  ، ولا تنساه الخاصة والعامة أبداً ما دامت الدنيا  ، قال : فلم يلتفت ابن زياد إلى كتاب الوليد.
    وفي رواية عن الرياشي بإسناده عن راوي حديثه قال : حججت فتركت أصحابي وانطلقت أتعسَّف الطريق وحدي  ، فبينما أنا أسير إذ رفعت طرفي إلى أخبية وفساطيط  ، فانطلقت نحوها حتى أتيت أدناها  ، فقلت : لمن هذه الأبنية ؟ فقالوا : للحسين ( عليه السلام )   ، قلت : ابن علي وابن فاطمة ( عليهما السلام ) ؟ قالوا : نعم  ، قلت : في أيِّها هو ؟ قالوا : في ذلك الفسطاط  ، فانطلقت نحوه  ، فإذا الحسين ( عليه السلام ) متك على باب الفسطاط يقرأ كتاباً بين يديه  ، فسلَّمت فردَّ عليَّ  ، فقلت : يا ابن رسول الله  ، بأبي أنت وأمي  ، ما أنزلك في هذه الأرض القفراء التي ليس فيها ريف ولا منعة ؟ قال : إن هؤلاء أخافوني  ، وهذه كتب أهل الكوفة  ، وهم قاتلي  ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا لله
1 ـ اللهوف  ، ابن طاووس : 43 ـ 44  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/367.

(157)
محرَّماً إلاَّ انتهكوه بعث الله إليهم من يقتلهم حتى يكونوا أذلَّ من فرم الأمة.
    وقال ابن نما : حدَّث عقبة بن سمعان قال : خرج الحسين ( عليه السلام ) من مكة فاعترضته رسل عمرو بن سعيد بن العاص  ، عليهم يحيى بن سعيد  ، ليردّوه فأبى عليهم وتضاربوا بالسياط  ، ومضى ( عليه السلام ) على وجهه  ، فبادروه وقالوا : يا حسين  ، ألا تتقي الله  ، تخرج من الجماعة وتفرِّق بين هذه الأمة ؟ فقال : لي عملي  ، ولكم عملكم  ، أنتم بريئون مما أعمل  ، وأنا بريء مما تعملون.
    قال : ورويتُ أن الطرماح بن حكم قال : لقيت حسيناً وقد امترتُ لأهلي ميرة فقلت : أذكّرك في نفسك  ، لا يغرّنّك أهل الكوفة  ، فوالله لئن دخلتها لتقتلنّ  ، وإني لأخاف أن لا تصل إليها  ، فإن كنت مجمعاً على الحرب فانزل أجأ فإنه جبل منيع  ، والله ما نالنا فيه ذلّ قط  ، وعشيرتي يرون جميعاً نصرك  ، فهم يمنعونك ما أقمت فيهم  ، فقال : إن بيني وبين القوم موعداً أكره أن أخلفهم  ، فإن يدفع الله عنا فقديماً ما أنعم علينا وكفى  ، وإن يكن ما لابدّ منه ففوزٌ وشهادة إن شاء الله. ثمَّ حملت الميرة إلى أهلي وأوصيتهم بأمورهم  ، وخرجت أريد الحسين ( عليه السلام ) فلقيني سماعة بن زيد النبهاني فأخبرني بقتله فرجعت.
    وقال الشيخ المفيد ـ رحمه الله ـ : ولما بلغ عبيدالله بن زياد إقبال الحسين ( عليه السلام ) من مكة إلى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطه  ، حتى نزل القادسية  ، ونظّم الخيل ما بين القادسية إلى خفان  ، وما بين القادسية إلى القطقطانة  ، وقال للناس : هذا الحسين يريد العراق.
    ولما بلغ الحسين ( عليه السلام ) الحاجز من بطن الرمة بعث قيس ابن مسهر الصيداوي  ، ويقال : إنه بعث أخاه من الرضاعة عبدالله بن يقطر إلى أهل الكوفة  ، وكتب معه إليهم : بسم الله الرّحمن الرّحيم  ، من الحسين بن علي إلى إخوانه المؤمنين والمسلمين  ، سلام عليكم  ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو  ، أمّا بعد  ، فإن


(158)
كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم  ، واجتماع ملأكم على نصرنا والطلب بحقنا  ، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع  ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر  ، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء  ، لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية  ، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم  ، وجدّوا فإني قادم عليكم في أيامي هذه  ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    وكان مسلم كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة  ، وكتب إليه أهل الكوفة أن لك ههنا مائة ألف سيف ولا تتأخَّر.
    فأقبل قيس بن مسهر بكتاب الحسين ( عليه السلام ) حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيدالله بن زياد إلى الكوفة  ، فقال له عبيدالله بن زياد : اصعد فسبَّ الحسين بن علي (1).
    وقال السيّد : فلمّا قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير ليفتّشه  ، فأخرج قيس الكتاب ومزَّقه  ، فحمله الحصين إلى ابن زياد  ، فلمّا مثل بين يديه قال له : من أنت ؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه ( عليهما السلام )   ، قال : فلماذا خرَّقت الكتاب ؟ قال : لئلا تعلم ما فيه  ، قال : وممن الكتاب ؟ وإلى من ؟ قال : من الحسين بن علي إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم  ، فغضب ابن زياد فقال : والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر وتلعن الحسين بن علي وأباه وأخاه  ، وإلاَّ قطَّعتك إرباً إرباً  ، فقال قيس : أمّا القوم فلا أخبرك بأسمائهم  ، وأمّا لعنة الحسين وأبيه وأخيه فأفعل  ، فصعد المنبر وحمد الله  ، وصلَّى على النبي ( صلى الله عليه وآله )   ، وأكثر من الترّحم على عليّ وولده صلوات الله عليهم  ، ثم لعن عبيدالله بن زياد وأباه  ، ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم  ، ثم قال : أنا رسول
1 ـ الإرشاد  ، المفيد : 2/69 ـ 71.

(159)
الحسين إليكم  ، وقد خلَّفته بموضع كذا فأجيبوه (1).
    ثم قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فأمر به عبيدالله بن زياد أن يرمى من فوق القصر  ، فرمي به فتقطَّع  ، وروي أنه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسَّرت عظامه  ، وبقي به رمق  ، فأتاه رجل يقال له : عبدالملك بن عمر اللخمي فذبحه  ، فقيل له في ذلك وعيب عليه  ، فقال : أردت أن أريحه.
    ثم أقبل الحسين ( عليه السلام ) من الحاجز يسير نحو العراق  ، فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبدالله بن مطيع العدوي  ، وهو نازل به  ، فلمّا رآه الحسين قام إليه فقال : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله  ، ما أقدمك ؟ واحتمله وأنزله  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : كان من موت معاوية ما قد بلغك  ، وكتب إليَّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم.
    فقال له عبدالله بن مطيع : أذكِّرك الله ـ يا ابن رسول الله ـ وحرمة الإسلام أن تنهتك  ، أنشدك الله في حرمة قريش  ، أنشدك الله في حرمة العرب  ، فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك  ، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً أبداً  ، والله إنها لحرمة الإسلام تنهتك  ، وحرمة قريش وحرمة العرب  ، فلا تفعل ولا تأت الكوفة  ، ولا تعرِّض نفسك لبني أمية  ، فأبى الحسين ( عليه السلام ) إلاّ أن يمضي.
    وكان عبيدالله بن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام  ، وإلى طريق البصرة  ، فلا يدعون أحداً يلج ولا أحداً يخرج  ، فأقبل الحسين ( عليه السلام ) لا يشعر شيء حتى لقي الأعراب  ، فسألهم فقالوا : لا والله ما ندري غير أنا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج  ، فسار تلقاء وجهه ( عليه السلام ).
    وحدَّث جماعة من فزارة ومن بجيلة  ، قالوا : كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة  ، وكنا نساير الحسين ( عليه السلام ) فلم يكن شيءٌ أبغض علينا من أن
1 ـ اللهوف  ، السيد ابن طاووس : 46 ـ 47.

(160)
ننازله في منزل  ، وإذا سار الحسين ( عليه السلام ) فنزل في منزل لم نجد بدّاً من أن ننازله  ، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب  ، فبينا نحن جلوس نتغذى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين ( عليه السلام ) حتى سلَّم  ، ثمَّ دخل  ، فقال : يا زهير بن القين  ، إن أبا عبدالله الحسين بعثني إليك لتأتيه  ، فطرح كل إنسان منّا ما في يده  ، حتى كأنما على رؤوسنا الطير  ، فقالت له امرأته ـ قال السيد : وهي ديلم بنت عمرو ـ : سبحان الله! أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ؟ لو أتيته فسمعت كلامه ثم انصرفت.
    فأتاه زهير بن القين  ، فما لبث أن جاء مستبشراً  ، قد أشرق وجهه  ، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه  ، فقوِّض وحمل إلى الحسين ( عليه السلام )   ، ثم قال لامرأته : أنت طالق  ، الحقي بأهلك فإني لا أحبُّ أن يصيبك بسببي إلاّ خير.
    وزاد السيد ابن طاووس عليه الرحمة : وقد عزمت على صحبة الحسين ( عليه السلام ) لأفديه بروحي  ، وأقيه بنفسي  ، ثم أعطاها مالها  ، وسلَّمها إلى بعض بني عمها ليوصلها إلى أهلها  ، فقامت إليه وبكت وودَّعته  ، وقالت : خار لله لك  ، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين ( عليه السلام ) (1).
    وقال الشيخ المفيد : ثم قال لأصحابه : من أحبَّ منكم أن يتبعني وإلاَّ فهو آخر العهد  ، إني سأحدِّثكم حديثاً  ، إنّا غزونا البحر  ، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم  ، فقال لنا سلمان رحمه الله : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم ؟ فقلنا : نعم  ، فقال : إذا أدركتم سيِّد شباب آل محمد فكونوا أشدَّ فرحاً بقتالكم معه مما أصبتم اليوم من الغنائم  ، فأمَّا أنا فأستودعكم الله  ، قالوا : ثم ـ والله ـ ما زال في القوم مع الحسين حتى قتل رحمه الله (2).
    وفي المناقب : ولما نزل ( عليه السلام ) الخزيمية أقام بها يوماً وليلة  ، فلمَّا أصبح أقبلت
1 ـ اللهوف  ، السيد ابن طاووس : 45.
2 ـ الإرشاد  ، المفيد : 2/63 ـ 73.


(161)
إليه أخته زينب  ، فقالت : يا أخي  ، ألا أخبرك بشيء سمعته البارحة ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : وما ذاك ؟ فقالت : خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفاً يهتف  ، وهو يقول :
أَلاَ يا عينُ فاحتفلي بجهدِ على قوم تسوقُهُمُ المنايا وَمَنْ يبكي على الشهداءِ بعدي بمقدار إلى إنجازِ وَعْدِ
    وقال السيّد عليه الرحمة : أتاه خبر مسلم ( عليه السلام ) في زبالة  ، ثمَّ إنه سار فلقيه الفرزدق فسلَّم عليه ثم قال : يا ابن رسول الله  ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته ؟ قال : فاستعبر الحسين ( عليه السلام ) باكياً ثمَّ قال : رحم الله مسلماً فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه  ، وتحيّته ورضوانه  ، أما إنه قد قضى ما عليه  ، وبقي ما علينا  ، ثم أنشأ يقول :
فإن تكنِ الدنيا تُعَدُّ نفيسةً وإن تكنِ الأبدانُ للموتِ أُنشئت وإن تكنِ الأرزاقُ قسماً مقدَّراً وإن تكنِ الأموالُ للتركِ جَمْعُها فَدَارُ ثوابِ اللهِ أعلى وأنبلُ فقتلُ امرء بالسيفِ في اللهِ أفضلُ فَقِلَّةُ حِرْصِ المرءِ في الرزقِ أجملُ فما بالُ متروك به المرءُ يَبْخَلُ (1)
    وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : ثمَّ انتظر حتى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه : أكثروا من الماء  ، فاستقوا وأكثروا  ، ثمَّ ارتحلوا فسار حتى انتهى إلى زبالة  ، فأتاه خبر عبدالله بن يقطر.
    وقال السيّد : فاستعبر باكياً  ، ثمَّ قال : اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلا كريماً  ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍّ من رحمتك  ، إنك على كل شيء قدير.
    وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فأخرج للناس كتاباً فقرأ عليهم فإذا فيه : بسم الله الرّحمن الرّحيم  ، أمَّا بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع : قتل مسلم بن عقيل  ،
1 ـ اللهوف  ، ابن طاووس : 45  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/374.

(162)
وهانىء بن عروة  ، وعبدالله بن يقطر  ، إلى أن قال ( عليه السلام ) : فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج  ، ليس عليه ذمام.
    فتفرَّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة  ، ونفر يسير ممن انضمّوا إليه.
    وإنّما فعل ذلك لأنه ( عليه السلام ) علم أن الأعراب الذين اتّبعوه إنما اتّبعوه وهم يظنّون أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهلها  ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون  ، فلمّا كان السحر أمر أصحابه فاستقوا ماءً وأكثروا  ، ولله درّ الشيخ كاظم الأزري عليه الرحمة إذ يقول :
أفدي القُرُومَ الأولى سارت ركائُبهم للهِ مَن في مغاني كربلاءَ ثَوَوا ثاروا ولولا قَضَاءُ اللهِ يُمْسِكُهُمْ هُمُ الأسودُ ولكنَّ الوغى أُجُمٌ أبدوا وَقَائِعَ تُنْسي ذِكْرَ غَيْرِهِم سَلْ كربلا كم حَوَتْ منهم هِلاَلَ دُجَىً لم أنسَ حامية الإسلامِ منفرداً رأى قَنَا الدينِ من بَعْدِ استقامتِها فقام يجمعُ شملا غيرَ مجتمع لم أنسه وهو خوَّاضٌ عَجَاجَتَها والموتُ خَلْفَهُمُ يَسْري على الأَثَرِ وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ ما يجري مِنَ القَدَرِ لم يترُكُوا لبني سفيانَ مِنْ أَثَرِ وَلاَ مَخَاليبَ غَيْرُ البيضِ والسُّمُرِ وَالوخزُ بالسُّمْرِ يُنسي الوَخْزَ بالإِبَرِ كأنَّها فَلَكٌ لِلأَنْجُمِ الزُّهُرِ صِفْرَ الأَنَامِلِ من حام ومنتصرِ مغموزةً وعليها صُدْعُ منكسِرِ منها ويجبُرُ كسراً غيرَ مُنْجَبِرِ يشقُّ بالسيفِ منها سَوْرَةَ السورِ (1)

1 ـ رياض المدح والرثاء  ، الشيخ حسين القديحي : 263 ـ 264.

(163)
    جاء في كتاب المزار للمشهدي عليه الرحمة في بعض الزيارات الشريفة : وأشهد أنكم قد وفيتم بعهد الله وذمّته  ، وبكل ما اشترطه عليكم في كتابه  ، ودعوتم إلى سبيله  ، وأنفدتم طاقتكم في مرضاته  ، وحملتم الخلائق على منهاج النبوة ومسالك الرسالة  ، وسرتم فيه بسيرة الأنبياء  ، ومذاهب الأوصياء  ، فلم يُطع لكم أمر  ، ولم تَصغ إليكم أذنٌ  ، فصلوات الله على أرواحكم وأجسادكم (1).
رِجَالُهُمُ صَرْعَى وأسرٌ نساؤُهُمْ وأطفالُهُمْ في السبيِ تشكو حِبَالَها
    وقال آخر :
ورد الحسينُ إلى العراقِ فَضنَهم ما ذاق طعمَ فُراتِهم حَتى قضى تركوا النفاقَ إذا العراقُ كماهيه عطشاً وغُسل بالدِماءِ القانية
    قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : ثمّ سار ( عليه السلام ) حتى مرّ ببطن العقبة  ، فنزل عليها  ، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له : عمر بن لوذان  ، فسأله : أين تريد ؟ فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الكوفة  ، فقال الشيخ : أنشدك الله لمّا انصرفت  ، فوالله ما تقدم إلاَّ على الأسنّة وحدِّ السيوف  ، وإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطَّاؤا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً  ، فأمّا على هذه الحال التي تذكر فإني لا أرى لك أن تفعل  ، فقال له : يا عبدالله  ، ليس يخفى عليَّ الرأي  ، ولكن الله تعالى لا يُغلب على أمره.
    ثمَّ قال ( عليه السلام ) : والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي  ، فإذا
1 ـ المزار  ، محمد بن المشهدي : 294.

(164)
فعلوا سلَّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذَّل فِرَق الأمم.
    ثمّ سار ( عليه السلام ) من بطن العقبة حتى نزل شراف (1) فلما كان السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا  ، ثمَّ سار حتى انتصف النهار  ، فبينما هو يسير إذ كبَّر رجل من أصحابه  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الله أكبر  ، لمِ كبَّرت ؟
    فقال : رأيت النخل  ، فقال له جماعة ممن صحبه : والله إن هذا المكان ما رأينا فيه نخلة قط  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : فما ترونه ؟ قالوا : والله نراه أسنّة الرماح وآذان الخيل  ، فقال : وأنا والله أرى ذلك.
    ثم قال ( عليه السلام ) : ما لنا ملجأ نلجأ إليه ونجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد ؟ فقلنا له : بلى  ، هذا ذو جشم (2) إلى جنبك  ، فمل إليه عن يسارك  ، فإن سبقت إليه فهو كما تريد  ، فأخذ إليه ذات اليسار  ، وملنا معه  ، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل  ، فتبيَّنَّاها وعدلنا  ، فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنّتهم اليعاسيب  ، وكأن راياتهم أجنحة الطير  ، فاستبقنا إلى ذي جشم فسبقناهم إليه  ، وأمر الحسين ( عليه السلام ) بأبنيته فضُربت  ، وجاء القوم زهاء ألف فارس  ، مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين ( عليه السلام ) في حرّ الظهيرة  ، والحسين وأصحابه معتّمون متقلدون أسيافهم.
    فقال الحسين ( عليه السلام ) لفتيانه : اسقوا القوم وارووهم من الماء  ، ورشّفوا الخيل ترشيفاً  ، ففعلوا وأقبلوا يملأون القصاع والطساس من الماء  ، ثمَّ يدنونها من الفرس  ، فإذا عبَّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه  ، وسُقي آخر  ، حتى سقوها عن آخرها.
    فقال علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر يومئذ  ، فجئت في آخر من جاء
1 ـ كقطام : موضع أو ماءة لبني أسد  ، أو جبل عال.
2 ـ ذو خشب خ ل  ، وفي المصدر : ذو حسم.


(165)
من أصحابه  ، فلمّا رأى الحسين ( عليه السلام ) ما بي وبفرسي من العطش قال : أنخ الراوية ـ والراوية عندي السقاء ـ ثمَّ قال : يا ابن الأخ  ، أنخ الجمل  ، فأنخته  ، فقال : اشرب  ، فجعلت كلَّما شربت سال الماء من السقاء  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : اخنث السقاء ـ أي اعطفه ـ فلم أدر كيف أفعل  ، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي.
    وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسية  ، وكان عبيدالله بن زياد بعث الحصين ابن نمير وأمره أن ينزل القادسية  ، وتقدَّم الحر بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم الحسين ( عليه السلام ) فلم يزل الحرّ موافقاً للحسين ( عليه السلام ) حتى حضرت صلاة الظهر فأمر الحسين ( عليه السلام ) الحجاج بن مسروق أن يؤذّن.
    فلمَّا حضرت الإقامة خرج الحسين ( عليه السلام ) في إزار ورداء ونعلين  ، فحمد الله وأثنى عليه  ، ثمَّ قال : أيها الناس  ، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم  ، وقدمت عليَّ رسلكم أن : اقدم علينا فليس لنا إمام  ، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق  ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم  ، فأعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم  ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم.
    فسكتوا عنه ولم يتكلَّموا كلمة  ، فقال للمؤذِّن : أقم  ، فأقام الصلاة  ، فقال للحر : أتريد أن تصلي بأصحابك ؟ فقال الحر : لا  ، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك  ، فصلّى بهم الحسين ( عليه السلام )   ، ثمَّ دخل فاجتمع عليه أصحابه  ، وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان فيه  ، فدخل خيمة قد ضُربت له  ، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه  ، وعاد الباقون إلى صفّهم الذي كانوا فيه  ، ثمَّ أخذ كل رجل منهم بعنان فرسه وجلس في ظلّها.
    فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين ( عليه السلام ) أن يتهيأوا للرحيل ففعلوا  ، ثمَّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام  ، فاستقدم الحسين ( عليه السلام ) وقام فصلَّى بالقوم  ، ثمَّ سلَّم
المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: فهرس