|
|||||||||||||||||||||
(151)
فأقبل الصغير يحرِّك الكبير ويقول : قم يا حبيبي ، فقد والله وقعنا فيما كنا نحاذره ، قال لهما : من أنتما ؟ قالا له : يا شيخ ، إن نحن صدقناك فلنا الأمان ؟ قال : نعم ، قالا : أمان الله وأمان رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذمة الله وذمة رسوله ؟ قال : نعم ، قالا : ومحمد بن عبدالله على ذلك من الشاهدين ؟ قال : نعم ، قالا : والله على ما نقول وكيل وشهيد ؟ قال : نعم ، قالا له : يا شيخ ، فنحن من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، هربنا من سجن عبيدالله بن زياد من القتل ، فقال لهما : من الموت هربتما ، وإلى الموت وقعتما ، الحمد لله الذي أظفرني بكما.
فقام إلى الغلامين فشدَّ أكتافهما ، فبات الغلامان ليلتهما مكتفين ، فلمَّا انفجر عمود الصبح دعا غلاماً له أسود ، يقال له : فليح ، فقال : خذ هذين الغلامين ، فانطلق بهما إلى شاطىء الفرات ، واضرب عنقيهما ، وائتني برأسيهما لأنطلق بهما إلى عبيدالله بن زياد ، وآخذ جائزة ألفي درهم. فحمل الغلام السيف ، ومشى أمام الغلامين ، فما مضى إلاَّ غير بعيد حتى قال أحد الغلامين : يا أسود ، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذِّن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! قال : إن مولاي قد أمرني بقتلكما ، فمن أنتما ؟ قالا له : يا أسود ، نحن من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، هربنا من سجن عبيدالله بن زياد من القتل ، أضافتنا عجوزكم هذه ، ويريد مولاك قتلنا ، فانكبَّ الأسود على أقدامهما يقبّلهما ويقول : نفسي لنفسكما الفداء ، ووجهي لوجهكما الوقاء ، يا عترة نبيِّ الله المصطفى ، والله لا يكون محمد ( صلى الله عليه وآله ) خصمي في القيامة ، ثم عدا فرمى بالسيف من يده ناحية ، وطرح نفسه في الفرات ، وعبر إلى الجانب الآخر ، فصاح به مولاه : يا غلام! عصيتني ، فقال : يا مولاي ، إنما أطعتك ما دمت لا تعصي الله ، فإذا عصيت الله فأنا منك بريء في الدنيا والآخرة. فدعا ابنه ، فقال : يا بنيّ ، إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك ، والدنيا محرصٌ (152)
عليها ، فخذ هذين الغلامين إليك ، فانطلق بهما إلى شاطىء الفرات ، فاضرب عنقيهما وائتني برأسيهما ، لأنطلق بهما إلى عبيدالله بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم ، فأخذ الغلام السيف ، ومشى أمام الغلامين ، فما مضى إلاّ غير بعيد حتى قال أحد الغلامين : يا شابّ ، ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنم! فقال : يا حبيبيّ ، فمن أنتما ؟ قالا : من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، يريد والدك قتلنا ، فانكبَّ الغلام على أقدامهما يقبّلهما ، وهو يقول لهما مقالة الأسود ، ورمى بالسيف ناحية ، وطرح نفسه في الفرات وعبر ، فصاح به أبوه : يا بنيَّ! عصيتني ، قال : لأن أطيع الله وأعصيك أحبُّ إلي من أن أعصى الله وأطيعك.
قال الشيخ : لا يلي قتلكما أحد غيري ، وأخذ السيف ومشى أمامهما ، فلمّا صار إلى شاطىء الفرات سلَّ السيف من جفنه ، فلما نظر الغلامان إلى السيف مسلولا اغرورقت أعينهما ، وقالا له : يا شيخ انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا ، ولا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة غداً فقال : لا ، ولكن أقتلكما وأذهب برأسيكما إلى عبيدالله بن زياد ، وآخذ جائزة ألفي درهم. فقالا له : يا شيخ ، أما تحفظ قرابتنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال : ما لكما من رسول الله قرابة ، قالا له : يا شيخ ، فائت بنا إلى عبيد الله ابن زياد حتى يحكم فينا بأمره ، قال : ما إلى ذلك سبيل إلاّ التقرّب إليه بدمكما ، قالا له : يا شيخ ، أما ترحم صغر سننا ؟ قال : ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاً ، قالا : يا شيخ ، إن كان ولابدّ فدعنا نصلّي ركعات ، قال : فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة. فصلّى الغلامان أربع ركعات ، ثم رفعا طرفيهما إلى السماء فناديا : يا حيُّ يا حليم ، يا أحكم الحاكمين ، احكم بيننا وبينه بالحق. فقام إلى الأكبر فضرب عنقه ، وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة ، وأقبل الغلام الصغير يتمرَّغ في دم أخيه وهو يقول : حتى ألقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنا مختضب بدم (153)
أخي ، فقال : لا عليك ، سوف ألحقك بأخيك ، ثم قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه ، وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة ، ورمى ببدنيهما في الماء ، وهما يقطران دماً.
ومرَّ حتى أتى بهما عبيدالله بن زياد وهو قاعد على كرسيٍّ له ، وبيده قضيب خيزران ، فوضع الرأسين بين يديه ، فلمّا نظر إليهما قام ثم قعد ، ثم قام ثم قعد ثلاثاً ، ثم قال : الويل لك ، أين ظفرت بهما ؟ قال : أضافتهما عجوز لنا ، قال : فما عرفت لهما حقّ الضيافة ؟ قال : لا ، قال : فأيَّ شيء قالا لك ؟ قال : قالا : يا شيخ ، اذهب بنا إلى السوق فبعنا وانتفع بأثماننا فلا ترد أن يكون محمد ( صلى الله عليه وآله ) خصمك في القيامة ، قال : فأيَّ شيء قلت لهما ؟ قال : قلت : لا ، ولكن أقتلكما وأنطلق برأسيكما إلى عبيدالله بن زياد ، وآخذ جائزة ألفي درهم ، قال : فأيَّ شيء قالا لك ؟ قال : قالا : ائت بنا إلى عبيدالله بن زياد حتى يحكم فينا بأمره ، قال : فأي شيء قلت ؟ قال : قلت : ليس إلى ذلك سبيل إلاّ التقرّب إليه بدمكما ، قال : أفلا جئتني بهما حيّين ، فكنت أضعف لك الجائزة ، وأجعلها أربعة آلاف درهم ؟ قال : ما رأيت إلى ذلك سبيلا إلاَّ التقرُّب إليك بدمهما ، قال : فأيَّ شيء قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا لي : يا شيخ ، احفظ قرابتنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قال : فأي شيء قلت لهما ؟ قال : قلت : ما لكما من رسول الله قرابة ، قال : ويلك ، فأيَ شيء قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا : يا شيخ ، ارحم صغر سننا ، قال : فما رحمتهما ؟ قال : قلت : ما جعل الله لكما من الرحمة في قلبي شيئاً ، قال : ويلك ، فأيَّ شيء قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا : دعنا نصلّي ركعات ، فقلت : فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة ، فصلّى الغلامان أربع ركعات ، قال : فأيَّ شيء قالا في آخر صلاتهما ؟ قال : رفعا طرفيهما إلى السماء ، وقالا : يا حي يا حليم ، يا أحكم الحاكمين ، أحكم بيننا وبينه بالحق. قال عبيدالله بن زياد : فإن أحكم الحاكمين قد حكم بينكم ، من للفاسق ؟ قال : فانتدب له رجل من أهل الشام ، فقال : أنا له ، قال : فانطلق به إلى الموضع (154)
الذي قتل فيه الغلامين ، فاضرب عنقه ، ولا تترك أن يختلط دمه بدمهما ، وعجِّل برأسه ، ففعل الرجل ذلك ، وجاء برأسه فنصبه على قناة ، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون : هذا قاتل ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (1).
ولله درّ الشيخ صالح الكواز الحلي عليه الرحمة حيث يقول :
فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما ، فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، ولمثلهم فالتذرف الدموع ، وليصرخ الصارخون ، ويضجَّ الضاجون ، ويعجَّ العاجون ، أين الحسن وأين الحسين ، أين أبناء الحسين ، صالح بعد صالح ، وصادق بعد صادق ، أين السبيل بعد السبيل ، أين الخيرة بعد الخيرة ، أين الشموس الطالعة ، أين الأقمار المنيرة ، أين الأنجم الزاهرة ، 1 ـ الأمالي ، الشيخ الصدوق : 143 ـ 149 ح 2. 2 ـ رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 158. (155)
أين أعلام الدين وقواعد العلم (1).
قال الحجّة الشيخ محمد حسين آل سُميسِم النجفي رحمه الله تعالى :
ثمَّ سار ( عليه السلام ) حتى بلغ ذات عرق ، فلقي بشر بن غالب وارداً من العراق فسأله عن أهلها ، فقال : خلَّفت القلوب معك ، والسيوف مع بني أمية ، فقال : صدق أخو بني أسد ، إن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد. قال : ثمَّ سار صلوات الله عليه حتى نزل الثعلبية وقت الظهيرة ، فوضع رأسه فرقد ، ثم استيقظ فقال : قد رأيت هاتفاً يقول : أنتم تسرعون ، والمنايا تسرع بكم إلى الجنة ، فقال له ابنه علي : يا أبه ، أفلسنا على الحق ؟ فقال : بلى ـ يا بنيّ ـ والذي إليه مرجع العباد ، فقال : يا أبه ، إذن لا نبالي بالموت ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : جزاك 1 ـ المزار ، محمد بن المشهدي : 578. 2 ـ سحر البيان وسمر الجنان ، الشيخ محمد حسن آل سميسم : 186. (156)
الله ـ يا بنيّ ـ خير ما جزى ولداً عن والد ، ثمَّ بات ( عليه السلام ) في الموضع.
فلمَّا أصبح إذا برجل من أهل الكوفة ـ يكنَّى أبا هرة الأزدي ـ قد أتاه فسلَّم عليه ، ثم قال : يا ابن رسول الله ، ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : ويحك أبا هرة ، إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية ، ليلبسنهم الله ذلا شاملا ، وسيفاً قاطعاً ، وليسلِّطن عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم ، فحكمت في أموالهم ودمائهم (1). وقال محمد بن أبي طالب : واتّصل الخبر بالوليد بن عتبة أمير المدينة بأن الحسين ( عليه السلام ) توجَّه إلى العراق ، فكتب إلى ابن زياد : أمَّا بعد ، فإن الحسين قد توجَّه إلى العراق ، وهو ابن فاطمة ، وفاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فاحذر ـ يا ابن زياد ـ أن تأتي إليه بسوء فتهيج على نفسك وقومك أمراً في هذه الدنيا لا يصدّه شيء ، ولا تنساه الخاصة والعامة أبداً ما دامت الدنيا ، قال : فلم يلتفت ابن زياد إلى كتاب الوليد. وفي رواية عن الرياشي بإسناده عن راوي حديثه قال : حججت فتركت أصحابي وانطلقت أتعسَّف الطريق وحدي ، فبينما أنا أسير إذ رفعت طرفي إلى أخبية وفساطيط ، فانطلقت نحوها حتى أتيت أدناها ، فقلت : لمن هذه الأبنية ؟ فقالوا : للحسين ( عليه السلام ) ، قلت : ابن علي وابن فاطمة ( عليهما السلام ) ؟ قالوا : نعم ، قلت : في أيِّها هو ؟ قالوا : في ذلك الفسطاط ، فانطلقت نحوه ، فإذا الحسين ( عليه السلام ) متك على باب الفسطاط يقرأ كتاباً بين يديه ، فسلَّمت فردَّ عليَّ ، فقلت : يا ابن رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، ما أنزلك في هذه الأرض القفراء التي ليس فيها ريف ولا منعة ؟ قال : إن هؤلاء أخافوني ، وهذه كتب أهل الكوفة ، وهم قاتلي ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا لله 1 ـ اللهوف ، ابن طاووس : 43 ـ 44 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/367. (157)
محرَّماً إلاَّ انتهكوه بعث الله إليهم من يقتلهم حتى يكونوا أذلَّ من فرم الأمة.
وقال ابن نما : حدَّث عقبة بن سمعان قال : خرج الحسين ( عليه السلام ) من مكة فاعترضته رسل عمرو بن سعيد بن العاص ، عليهم يحيى بن سعيد ، ليردّوه فأبى عليهم وتضاربوا بالسياط ، ومضى ( عليه السلام ) على وجهه ، فبادروه وقالوا : يا حسين ، ألا تتقي الله ، تخرج من الجماعة وتفرِّق بين هذه الأمة ؟ فقال : لي عملي ، ولكم عملكم ، أنتم بريئون مما أعمل ، وأنا بريء مما تعملون. قال : ورويتُ أن الطرماح بن حكم قال : لقيت حسيناً وقد امترتُ لأهلي ميرة فقلت : أذكّرك في نفسك ، لا يغرّنّك أهل الكوفة ، فوالله لئن دخلتها لتقتلنّ ، وإني لأخاف أن لا تصل إليها ، فإن كنت مجمعاً على الحرب فانزل أجأ فإنه جبل منيع ، والله ما نالنا فيه ذلّ قط ، وعشيرتي يرون جميعاً نصرك ، فهم يمنعونك ما أقمت فيهم ، فقال : إن بيني وبين القوم موعداً أكره أن أخلفهم ، فإن يدفع الله عنا فقديماً ما أنعم علينا وكفى ، وإن يكن ما لابدّ منه ففوزٌ وشهادة إن شاء الله. ثمَّ حملت الميرة إلى أهلي وأوصيتهم بأمورهم ، وخرجت أريد الحسين ( عليه السلام ) فلقيني سماعة بن زيد النبهاني فأخبرني بقتله فرجعت. وقال الشيخ المفيد ـ رحمه الله ـ : ولما بلغ عبيدالله بن زياد إقبال الحسين ( عليه السلام ) من مكة إلى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطه ، حتى نزل القادسية ، ونظّم الخيل ما بين القادسية إلى خفان ، وما بين القادسية إلى القطقطانة ، وقال للناس : هذا الحسين يريد العراق. ولما بلغ الحسين ( عليه السلام ) الحاجز من بطن الرمة بعث قيس ابن مسهر الصيداوي ، ويقال : إنه بعث أخاه من الرضاعة عبدالله بن يقطر إلى أهل الكوفة ، وكتب معه إليهم : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن علي إلى إخوانه المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد ، فإن (158)
كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملأكم على نصرنا والطلب بحقنا ، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء ، لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية ، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم ، وجدّوا فإني قادم عليكم في أيامي هذه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكان مسلم كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة ، وكتب إليه أهل الكوفة أن لك ههنا مائة ألف سيف ولا تتأخَّر. فأقبل قيس بن مسهر بكتاب الحسين ( عليه السلام ) حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيدالله بن زياد إلى الكوفة ، فقال له عبيدالله بن زياد : اصعد فسبَّ الحسين بن علي (1). وقال السيّد : فلمّا قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير ليفتّشه ، فأخرج قيس الكتاب ومزَّقه ، فحمله الحصين إلى ابن زياد ، فلمّا مثل بين يديه قال له : من أنت ؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه ( عليهما السلام ) ، قال : فلماذا خرَّقت الكتاب ؟ قال : لئلا تعلم ما فيه ، قال : وممن الكتاب ؟ وإلى من ؟ قال : من الحسين بن علي إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم ، فغضب ابن زياد فقال : والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر وتلعن الحسين بن علي وأباه وأخاه ، وإلاَّ قطَّعتك إرباً إرباً ، فقال قيس : أمّا القوم فلا أخبرك بأسمائهم ، وأمّا لعنة الحسين وأبيه وأخيه فأفعل ، فصعد المنبر وحمد الله ، وصلَّى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأكثر من الترّحم على عليّ وولده صلوات الله عليهم ، ثم لعن عبيدالله بن زياد وأباه ، ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم ، ثم قال : أنا رسول 1 ـ الإرشاد ، المفيد : 2/69 ـ 71. (159)
الحسين إليكم ، وقد خلَّفته بموضع كذا فأجيبوه (1).
ثم قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فأمر به عبيدالله بن زياد أن يرمى من فوق القصر ، فرمي به فتقطَّع ، وروي أنه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسَّرت عظامه ، وبقي به رمق ، فأتاه رجل يقال له : عبدالملك بن عمر اللخمي فذبحه ، فقيل له في ذلك وعيب عليه ، فقال : أردت أن أريحه. ثم أقبل الحسين ( عليه السلام ) من الحاجز يسير نحو العراق ، فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبدالله بن مطيع العدوي ، وهو نازل به ، فلمّا رآه الحسين قام إليه فقال : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ، ما أقدمك ؟ واحتمله وأنزله ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : كان من موت معاوية ما قد بلغك ، وكتب إليَّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم. فقال له عبدالله بن مطيع : أذكِّرك الله ـ يا ابن رسول الله ـ وحرمة الإسلام أن تنهتك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً أبداً ، والله إنها لحرمة الإسلام تنهتك ، وحرمة قريش وحرمة العرب ، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ، ولا تعرِّض نفسك لبني أمية ، فأبى الحسين ( عليه السلام ) إلاّ أن يمضي. وكان عبيدالله بن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام ، وإلى طريق البصرة ، فلا يدعون أحداً يلج ولا أحداً يخرج ، فأقبل الحسين ( عليه السلام ) لا يشعر شيء حتى لقي الأعراب ، فسألهم فقالوا : لا والله ما ندري غير أنا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج ، فسار تلقاء وجهه ( عليه السلام ). وحدَّث جماعة من فزارة ومن بجيلة ، قالوا : كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة ، وكنا نساير الحسين ( عليه السلام ) فلم يكن شيءٌ أبغض علينا من أن 1 ـ اللهوف ، السيد ابن طاووس : 46 ـ 47. (160)
ننازله في منزل ، وإذا سار الحسين ( عليه السلام ) فنزل في منزل لم نجد بدّاً من أن ننازله ، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب ، فبينا نحن جلوس نتغذى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين ( عليه السلام ) حتى سلَّم ، ثمَّ دخل ، فقال : يا زهير بن القين ، إن أبا عبدالله الحسين بعثني إليك لتأتيه ، فطرح كل إنسان منّا ما في يده ، حتى كأنما على رؤوسنا الطير ، فقالت له امرأته ـ قال السيد : وهي ديلم بنت عمرو ـ : سبحان الله! أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ؟ لو أتيته فسمعت كلامه ثم انصرفت.
فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشراً ، قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه ، فقوِّض وحمل إلى الحسين ( عليه السلام ) ، ثم قال لامرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك فإني لا أحبُّ أن يصيبك بسببي إلاّ خير. وزاد السيد ابن طاووس عليه الرحمة : وقد عزمت على صحبة الحسين ( عليه السلام ) لأفديه بروحي ، وأقيه بنفسي ، ثم أعطاها مالها ، وسلَّمها إلى بعض بني عمها ليوصلها إلى أهلها ، فقامت إليه وبكت وودَّعته ، وقالت : خار لله لك ، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين ( عليه السلام ) (1). وقال الشيخ المفيد : ثم قال لأصحابه : من أحبَّ منكم أن يتبعني وإلاَّ فهو آخر العهد ، إني سأحدِّثكم حديثاً ، إنّا غزونا البحر ، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان رحمه الله : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم ؟ فقلنا : نعم ، فقال : إذا أدركتم سيِّد شباب آل محمد فكونوا أشدَّ فرحاً بقتالكم معه مما أصبتم اليوم من الغنائم ، فأمَّا أنا فأستودعكم الله ، قالوا : ثم ـ والله ـ ما زال في القوم مع الحسين حتى قتل رحمه الله (2). وفي المناقب : ولما نزل ( عليه السلام ) الخزيمية أقام بها يوماً وليلة ، فلمَّا أصبح أقبلت 1 ـ اللهوف ، السيد ابن طاووس : 45. 2 ـ الإرشاد ، المفيد : 2/63 ـ 73. (161)
إليه أخته زينب ، فقالت : يا أخي ، ألا أخبرك بشيء سمعته البارحة ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : وما ذاك ؟ فقالت : خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفاً يهتف ، وهو يقول :
وقال السيّد : فاستعبر باكياً ، ثمَّ قال : اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلا كريماً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍّ من رحمتك ، إنك على كل شيء قدير. وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فأخرج للناس كتاباً فقرأ عليهم فإذا فيه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أمَّا بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع : قتل مسلم بن عقيل ، 1 ـ اللهوف ، ابن طاووس : 45 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/374. (162)
وهانىء بن عروة ، وعبدالله بن يقطر ، إلى أن قال ( عليه السلام ) : فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ، ليس عليه ذمام.
فتفرَّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ، ونفر يسير ممن انضمّوا إليه. وإنّما فعل ذلك لأنه ( عليه السلام ) علم أن الأعراب الذين اتّبعوه إنما اتّبعوه وهم يظنّون أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهلها ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون ، فلمّا كان السحر أمر أصحابه فاستقوا ماءً وأكثروا ، ولله درّ الشيخ كاظم الأزري عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 263 ـ 264. (163)
جاء في كتاب المزار للمشهدي عليه الرحمة في بعض الزيارات الشريفة : وأشهد أنكم قد وفيتم بعهد الله وذمّته ، وبكل ما اشترطه عليكم في كتابه ، ودعوتم إلى سبيله ، وأنفدتم طاقتكم في مرضاته ، وحملتم الخلائق على منهاج النبوة ومسالك الرسالة ، وسرتم فيه بسيرة الأنبياء ، ومذاهب الأوصياء ، فلم يُطع لكم أمر ، ولم تَصغ إليكم أذنٌ ، فصلوات الله على أرواحكم وأجسادكم (1).
ثمَّ قال ( عليه السلام ) : والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا 1 ـ المزار ، محمد بن المشهدي : 294. (164)
فعلوا سلَّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذَّل فِرَق الأمم.
ثمّ سار ( عليه السلام ) من بطن العقبة حتى نزل شراف (1) فلما كان السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا ، ثمَّ سار حتى انتصف النهار ، فبينما هو يسير إذ كبَّر رجل من أصحابه ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الله أكبر ، لمِ كبَّرت ؟ فقال : رأيت النخل ، فقال له جماعة ممن صحبه : والله إن هذا المكان ما رأينا فيه نخلة قط ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : فما ترونه ؟ قالوا : والله نراه أسنّة الرماح وآذان الخيل ، فقال : وأنا والله أرى ذلك. ثم قال ( عليه السلام ) : ما لنا ملجأ نلجأ إليه ونجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد ؟ فقلنا له : بلى ، هذا ذو جشم (2) إلى جنبك ، فمل إليه عن يسارك ، فإن سبقت إليه فهو كما تريد ، فأخذ إليه ذات اليسار ، وملنا معه ، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل ، فتبيَّنَّاها وعدلنا ، فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنّتهم اليعاسيب ، وكأن راياتهم أجنحة الطير ، فاستبقنا إلى ذي جشم فسبقناهم إليه ، وأمر الحسين ( عليه السلام ) بأبنيته فضُربت ، وجاء القوم زهاء ألف فارس ، مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين ( عليه السلام ) في حرّ الظهيرة ، والحسين وأصحابه معتّمون متقلدون أسيافهم. فقال الحسين ( عليه السلام ) لفتيانه : اسقوا القوم وارووهم من الماء ، ورشّفوا الخيل ترشيفاً ، ففعلوا وأقبلوا يملأون القصاع والطساس من الماء ، ثمَّ يدنونها من الفرس ، فإذا عبَّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه ، وسُقي آخر ، حتى سقوها عن آخرها. فقال علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر يومئذ ، فجئت في آخر من جاء 1 ـ كقطام : موضع أو ماءة لبني أسد ، أو جبل عال. 2 ـ ذو خشب خ ل ، وفي المصدر : ذو حسم. (165)
من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين ( عليه السلام ) ما بي وبفرسي من العطش قال : أنخ الراوية ـ والراوية عندي السقاء ـ ثمَّ قال : يا ابن الأخ ، أنخ الجمل ، فأنخته ، فقال : اشرب ، فجعلت كلَّما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : اخنث السقاء ـ أي اعطفه ـ فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي.
وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسية ، وكان عبيدالله بن زياد بعث الحصين ابن نمير وأمره أن ينزل القادسية ، وتقدَّم الحر بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم الحسين ( عليه السلام ) فلم يزل الحرّ موافقاً للحسين ( عليه السلام ) حتى حضرت صلاة الظهر فأمر الحسين ( عليه السلام ) الحجاج بن مسروق أن يؤذّن. فلمَّا حضرت الإقامة خرج الحسين ( عليه السلام ) في إزار ورداء ونعلين ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال : أيها الناس ، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم أن : اقدم علينا فليس لنا إمام ، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فأعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم. فسكتوا عنه ولم يتكلَّموا كلمة ، فقال للمؤذِّن : أقم ، فأقام الصلاة ، فقال للحر : أتريد أن تصلي بأصحابك ؟ فقال الحر : لا ، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك ، فصلّى بهم الحسين ( عليه السلام ) ، ثمَّ دخل فاجتمع عليه أصحابه ، وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان فيه ، فدخل خيمة قد ضُربت له ، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه ، وعاد الباقون إلى صفّهم الذي كانوا فيه ، ثمَّ أخذ كل رجل منهم بعنان فرسه وجلس في ظلّها. فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين ( عليه السلام ) أن يتهيأوا للرحيل ففعلوا ، ثمَّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام ، فاستقدم الحسين ( عليه السلام ) وقام فصلَّى بالقوم ، ثمَّ سلَّم |
|||||||||||||||||||||
|