|
|||||||||||||||||||||||||||
(166)
وانصرف إليهم بوجهه ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : أمّا بعد أيها الناس ، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمد ( صلى الله عليه وآله ) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلاَّ الكراهية لنا ، والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت عليَّ به رسلكم انصرفت عنكم.
فقال له الحر : أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) لبعض أصحابه : يا عقبة بن سمعان ، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليَّ ، فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه ، فقال له الحر : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أُمرنا أنا إذا لقيناك لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيدالله بن زياد. فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الموت أدنى إليك من ذلك ، ثمَّ قال لأصحابه : قوموا فاركبوا ، فركبوا ، وانتظر حتى ركبت نساؤه ، فقال لأصحابه : انصرفوا ، فلمَّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسين ( عليه السلام ) للحر : ثكلتك أمّك ، ما تريد ؟ فقال له الحر : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً من كان ، ولكن والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه. فقال له الحسين ( عليه السلام ) : فما تريد ؟ قال : أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيدالله ابن زياد ، فقال : إذاً والله لا أتّبعك ، فقال : إذاً والله لا أدعك ، فترادّا القول ثلاث مرّات ، فلما كثر الكلام بينهما قال له الحر : إني لم أؤمر بقتالك ، إنما أُمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة ، يكون بيني وبينك نصفاً حتى أكتب إلى الأمير عبيدالله بن زياد ، فلعلّ الله أن يرزقني العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك فخذ هاهنا. (167)
فتياسر عن طريق العذيب والقادسية ، وسار الحسين ( عليه السلام ) وسار الحر في أصحابه يسايره ، وهو يقول له : يا حسين ، إني أذكّرك الله في نفسك ، فإني أشهد لئن قاتلت لتُقتلنَ ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : أفبالموت تخوِّفني ؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخوَّفه ابن عمه وقال : أين تذهب فإنك مقتول ؟ فقال :
عمَّره اللهُ بَقَاءِ الدَّهْرِ
1 ـ الإرشاد ، المفيد : 2/76 ـ 81 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/375 ـ 378. (168)
بأصحابه ناحية والحسين ( عليه السلام ) في ناحية ، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات ، ثم مضى الحسين ( عليه السلام ) حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به ، وإذا هو بفسطاط مضروب ، فقال : لمن هذا ؟ فقيل : لعبيدالله بن الحر الجعفي ، قال : ادعوه إليَّ ، فلمَّا أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي ( عليهما السلام ) يدعوك ، فقال عبيدالله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والله ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهية أن يدخلها الحسين وأنا فيها ، والله ما أريد أن أراه و لا يراني.
فأتاه الرسول فأخبره ، فقام إليه الحسين ( عليه السلام ) فجاء حتى دخل عليه وسلَّم وجلس ، ثم دعاه إلى الخروج معه ، فأعاد عليه عبيدالله بن الحر تلك المقالة واستقاله مما دعاه إليه ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : فإن لم تكن تنصرنا فاتق الله أن لا تكون ممن يقاتلنا ، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلاّ هلك ، فقال له : أمّا هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله. ثم قام الحسين ( عليه السلام ) من عنده حتى دخل رحله ، ولما كان في آخر الليل أمر فتيانه بالاستقاء من الماء ، ثمَّ أمر بالرحيل فارتحل من قصر بني مقاتل (1). وفي رواية الشيخ الصدوق عليه الرحمة في الأمالي أنه التقى معه في القطقطانية ، قال عليه الرحمة : إن الحسين ( عليه السلام ) لما نزل القطقطانية حين مسيره إلى الكوفة دعا عبيدالله بن الحر الجعفي إلى نصرته ، فامتنع عبيدالله عن الإجابة ، وقدَّم للحسين ( عليه السلام ) فرسه ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك ، وما كنت متخذ المضلين عضداً (2). ويروى أن عبيدالله بن الحر ندم بعد مقتل الحسين ( عليه السلام ) وأخذته الحسرة والأسف على تركه نصرة الحسين ( عليه السلام ) ، فقال : 1 ـ الإرشاد ، المفيد : 2/81 ـ 82 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/378 ـ 379. 2 ـ الأمالي ، الصدوق : 219. (169)
فلمَّا أصبح نزل وصلَّى بهم الغداة ، ثم عجَّل الركوب وأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرِّقهم فيأتيه الحر بن يزيد فيردّه وأصحابه ، فجعل إذا ردَّهم نحو الكوفة ردّاً شديدا امتنعوا عليه فارتفعوا ، فلم يزالوا يتسايرون كذلك حتى انتهوا إلى نينوى ـ المكان الذي نزل به الحسين ( عليه السلام ) ـ فإذا راكب على نجيب له ، عليه السلاح ، متنكِّب قوساً مقبل من الكوفة ، فوقفوا جميعاً ينتظرونه ، فلمّا انتهى إليهم سلَّم على الحرّ وأصحابه ، ولم يسلِّم على الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، ودفع إلى الحر كتاباً من 1 ـ ذوب النضار ، ابن نما الحلي : 72. (170)
عبيدالله بن زياد لعنه الله ، فإذا فيه : أما بعد ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا ويقدم عليك رسولي ، ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام.
فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر : هذا كتاب الأمير عبيدالله ، يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني كتابه ، وهذا رسوله وقد أمره أن لا يفارقني حتى أنفذ أمره فيكم ، فنظر يزيد بن المهاجر الكندي ـ وكان مع الحسين ( عليه السلام ) ـ إلى رسول ابن زياد فعرفه فقال له : ثكلتك أمك ، ماذا جئت فيه ؟ قال : أطعت إمامي ووفيت ببيعتي ، فقال له ابن المهاجر : بل عصيت ربَّك ، وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، وكسبت العار والنار ، وبئس الإمام إمامك ، قال الله عزَّ وجلّ : « وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ » (1) فإمامك منهم ، وأخذهم الحرّ بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : دعنا ـ ويحك ـ ننزل هذه القرية أو هذه ـ يعني نينوى والغاضرية ـ أو هذه ـ يعني شفية ـ قال : لا والله ما أستطيع ذلك ، هذا رجل قد بعث إليَّ عيناً عليَّ ، فقال له زهير بن القين : إني والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشد مما ترون ، يا ابن رسول الله ، إن قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : ما كنت لأبدأهم بالقتال ، ثمَّ نزل ، وذلك اليوم يوم الخميس ، وهو اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين (2). وقال السيد ابن طاووس رحمه الله : فقام الحسين ( عليه السلام ) خطيباً في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال : إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإن الدنيا تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها ، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش 1 ـ سورة القصص ، الآية : 41. 2 ـ الإرشاد ، المفيد : 2/82 ـ 84 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/379 ـ 381. (171)
كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقاً حقاً ، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً.
فقام زهير بن القين فقال : قد سمعنا ـ هداك الله يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنا فيها مخلدين ، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها. قال : ووثب هلال بن نافع البجلي فقال : والله ما كرهنا لقاء ربنا ، وإنا على نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ، ونعادي من عاداك. قال : وقام برير بن خضير فقال : والله يا ابن رسول الله ، لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، فتُقطَّع فيك أعضاؤنا ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة. قال : ثم إن الحسين ( عليه السلام ) قام وركب وسار ، وكلما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى حتى بلغ كربلاء ، وكان ذلك في اليوم الثاني من المحرم (1). وفي المناقب : فقال له زهير : فسر بنا حتى ننزل بكربلاء ، فإنها على شاطىء الفرات ، فنكون هنالك ، فإن قاتلونا قاتلناهم ، واستعنا الله عليهم ، قال : فدمعت عينا الحسين ( عليه السلام ) ثم قال : اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء ، ونزل الحسين ( عليه السلام ) في موضعه ذلك ، ونزل الحر بن يزيد حذاءه في ألف فارس ، ودعا الحسين ( عليه السلام ) بدواة وبيضاء ، وكتب إلى أشراف الكوفة ممن كان يظنّ أنه على رأيه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن علي إلى سليمان بن صرد ، والمسيب بن نجبة ، ورفاعة بن شداد ، وعبدالله بن وأل ، وجماعة المؤمنين. أمّا بعد ، فقد علمتم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد قال في حياته : من رأى سلطاناً جائراً مستحلا لحُرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله 1 ـ اللهوف ، السيد ابن طاووس : 48 ـ 49 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/381. (172)
بالإثم والعدوان ، ثمَّ لم يغيِّر بقول ولا فعل ، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله ، وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتولّوا عن طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطَّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرَّموا حلاله ، وإني أحقّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم ، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظّكم ورشدكم ، ونفسي مع أنفسكم ، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم ، فلكم بي أسوة ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتكم ، فلعمري ما هي منكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي ، والمغرور من اغترَّ بكم ، فحظَّكم أخطأتم ، ونصيبَكم ضيَّعتم ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم ، والسلام.
ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مسهر الصيداوي ـ وساق الحديث كما مرَّ ـ ثم قال : ولما بلغ الحسين ( عليه السلام ) قتل قيس استعبر باكياً ، ثمَّ قال : اللهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلا كريماً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ، إنك على كل شيء قدير. قال : فوثب إلى الحسين ( عليه السلام ) رجل من شيعته ـ يقال له هلال بن نافع البجلي ـ فقال : يا ابن رسول الله ، أنت تعلم أن جدَّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يقدر أن يُشرب الناس محبته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبَّ ، وقد كان منهم منافقون يعدون بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمرَّ من الحنظل ، حتى قبضه الله إليه ، وإن أباك علياً رحمة الله عليه قد كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين ، حتى أتاه أجلُه ، فمضى إلى رحمة الله ورضوانه ، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته ، فلن يضرَّ إلاَّ نفسه ، والله مغن عنه ، فسر بنا راشداً (173)
معافىً ، مشرِّقاً إن شئت ، وإن شئت مغرِّباً ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربِّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ، ونعادي من عاداك.
ثم وثب إليه برير بن خضير الهمداني فقال : والله يا بن رسول الله ، لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، تُقطَّع فيه أعضاؤنا ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة بين أيدينا ، لا أفلح قوم ضيَّعوا ابن بنت نبيِّهم ، أفٍّ لهم غداً ماذا يلاقون ؟ ينادون بالويل والثبور في نار جهنم. قال : فجمع الحسين ( عليه السلام ) ولده وإخوته وأهل بيته ، ثمَّ نظر إليهم فبكى ساعة ، ثمَّ قال : اللهم إنا عترة نبيك محمد ، وقد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدنا ، وتعدَّت بنو أمية علينا ، اللهم فخذ لنا بحقنا ، وانصرنا على القوم الظالمين. قال : فرحل من موضعه حتى نزل في يوم الأربعاء أو يوم الخميس بكربلاء ، وذلك في الثاني من المحرم سنة إحدى وستين. ثم أقبل على أصحابه فقال ( عليه السلام ) : الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه مادرَّت معايشهم ، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديانون ، ثمَّ قال : أهذه كربلاء ؟ فقالوا : نعم يا ابن رسول الله ، فقال : هذا موضع كرب وبلاء ، ههنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، ومقتل رجالنا ، ومسفك دمائنا. قال : فنزل القوم وأقبل الحر حتى نزل حذاء الحسين ( عليه السلام ) في ألف فارس ، ثم كتب إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين بكربلا (1). وفي رواية أخرى : قال الحسين ( عليه السلام ) : وما اسم هذا المكان ؟ قالوا له : كربلاء ، قال : ذات كرب وبلاء ، ولقد مرَّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه ، فوقف فسأل عنه ، فأخبر باسمه ، فقال : هاهنا محطّ ركابهم ، وهاهنا مهراق 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/381 ـ 383. (174)
دمائهم ، فسُئل عن ذلك فقال : ثقل لآل بيت محمد ، ينزلون هاهنا (1).
وقبض قبضة منها فشمَّها وقال : هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنني أقتل فيها ، أخبرتني أم سلمة (2). وفي رواية عن أبي مخنف في مقتله بإسناده عن الكلبي أنه قال : وساروا جميعاً إلى أن أتوا إلى أرض كربلاء ، وذلك في يوم الأربعاء ، فوقف فرس الحسين ( عليه السلام ) من تحته ، فنزل عنها وركب أخرى فلم ينبعث من تحته خطوة واحدة ، ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتى ركب سبعة أفراس وهن على هذا الحال ، فلما رأى الإمام ذلك الأمر الغريب قال ( عليه السلام ) : ما يقال لهذه الأرض ؟ قالوا : أرض الغاضرية ، قال : فهل لها اسم غير هذا ؟ قالوا : تسمَّى نينوى ، قال : هل لها اسم غير هذا ؟ قالوا : تسمَّى بشاطىء الفرات ، قال : هل لها اسم غير هذا ؟ قالوا : تسمَّى كربلاء. فتنفّس الصعداء وقال : أرض كرب وبلاء ، ثم قال : قفوا ولا ترحلوا منها ، فهاهنا والله مناخ ركابنا ، وهاهنا والله سفك دمائنا ، وهاهنا والله هتك حريمنا ، وهاهنا والله قتل رجالنا ، وهاهنا والله ذبح أطفالنا ، وهاهنا والله تزال قبورنا ، وبهذه التربة وعدني جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا خُلف لقوله (3). ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ الأخبار الطوال ، الدينوري : 252 ـ 253. 2 ـ كلمات الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، الشيخ الشريفي : 374. 3 ـ الدمعة الساكبة ، البهبهاني : 4/256. 4 ـ الشواهد المنبرية ، الشيخ علي الجشي : 45. (175)
ولله درّ المرحوم الشيخ الفرطوسي إذ يقول :
المجلس الثالث ، من اليوم الخامس
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : يا مواليَّ ، فلو عاينكم المصطفى ، وسهام الأمة معرقة في أكبادكم ، ورماحهم مشرعة في نحوركم ، وسيوفها مولغة في دمائكم ، يشفي أبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم ، وغيظ
مرور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بكربلاء وبكاؤه على الحسين ( عليه السلام ) 1 ـ ملحمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، الفرطوسي : 3/274 ـ 275. (176)
الكفر من إيمانكم ، وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانه ، وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه ، ومسموم قد قطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حوله ولا قوّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم ، ولله درّ الشيخ عبدالحسين الحياوي إذ يقول :
قال : فبكى طويلا حتى اخضلّت لحيته ، وسالت الدموع على صدره ، وبكينا معاً وهو يقول : أوه أوه ، مالي ولآل أبي سفيان ؟ مالي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر ؟ صبراً يا أبا عبدالله ، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم. ثمَّ دعا بماء فتوضَّأ وضوء الصلاة ، فصلَّى ما شاء الله أن يصلي ، ثمَّ ذكر نحو كلامه الأول إلاَّ أنه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة ، ثمَّ انتبه فقال : يا ابن عباس ، فقلت : ها أنا ذا ، فقال : ألا أحدِّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رقدتي ؟ فقلت : نامت عيناك ورأيت خيراً يا أمير المؤمنين. قال : رأيت كأني برجال قد نزلوا من السماء ، معهم أعلام بيض ، قد تقلَّدوا 1 ـ مثير الأحزان ، الجواهري : 146. (177)
سيوفهم وهي بيض تلمع ، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة ، ثم رأيت كأن هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدم عبيط ، وكأني بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخي قد غرق فيه ، يستغيث فيه فلا يغاث ، وكأن الرجال البيض قد نزلوا من السماء ، ينادونه ويقولون : صبراً آل الرسول ، فإنكم تُقتلون على أيدي شرار الناس ، وهذه الجنة ـ يا أبا عبدالله ـ إليك مشتاقة ، ثم يُعزّونني ويقولون : يا أبا الحسن أبشر ، فقد أقرَّ الله به عينك يوم يقوم الناس لربِّ العالمين.
ثمَّ انتبهت هكذا ، والذي نفس عليٍّ بيده ، لقد حدَّثني الصادق المصدَّق أبو القاسم ( صلى الله عليه وآله ) أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا ، وهذه أرض كرب وبلاء ، يُدفن فيها الحسين ( عليه السلام ) وسبعة عشر رجلا من ولدي وولد فاطمة ( عليها السلام ) ، وإنها لفي السماوات معروفة ، تذكر أرض كرب وبلاء ، كما تذكر بقعة الحرمين ، وبقعة بيت المقدس. ثمَّ قال لي : يا ابن عباس ، اطلب في حولها بعر الظباء ، فوالله ما كذبت ولا كُذبت ، وهي مصفرَّة ، لونها لون الزعفران ، قال ابن عباس : فطلبتها فوجدتها مجتمعة ، فناديته : يا أمير المؤمنين ، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي ، فقال علي ( عليه السلام ) : صدق الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ). ثم قام ( عليه السلام ) يهرول إليها فحملها وشمَّها ، وقال : هي هي بعينها ، أتعلم يا ابن عباس ما هذه الأبعار ؟ هذه قد شمَّها عيسى بن مريم ، وذلك أنه مرَّ بها ومعه الحواريون ، فرأى ههنا الظباء مجتمعة وهي تبكي ، فجلس عيسى وجلس الحواريون معه ، فبكى وبكى الحواريون ، وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى. فقالوا : يا روح الله وكلمته ، ما يبكيك ؟ قال : أتعلمون أيَّ أرض هذه ؟ قالوا : لا ، قال : هذه أرض يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وفرخ الحرَّة الطاهرة البتول شبيهة أمي ، ويُلحد فيها ، طينة أطيب من المسك لأنها طينة الفرخ المستشهد ، (178)
وهكذا يكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء ، فهذه الظباء تكلِّمني وتقول : إنها ترعى في هذه الأض شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك ، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض ، ثمَّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمَّها وقال : هذه بعر الظباء على هذه الطيب لمكان حشيشها ، اللهم فأبقها أبداً حتى يشمَّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة.
قال : فبيقت إلى يوم الناس هذا ، وقد اصفرَّت لطول زمانها ، وهذه أرض كرب وبلاء ، ثم قال بأعلى صوته : يا ربّ عيسى بن مريم! لا تبارك في قتلته ، والمعين عليه ، والخاذل له. ثمَّ بكى بكاء طويلا وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلا ، ثم أفاق فأخذ البعر فصَّره في ردائه ، وأمرني أن أصرَّها كذلك ، ثم قال : يا ابن عباس ، إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً ، ويسيل منها دم عبيط ، فاعلم أن أبا عبدالله قد قتل بها ، ودفن. قال ابن عباس : فوالله لقد كنت أحفظها أشدَّ من حفظي لبعض ما افترض الله عزَّ وجلَّ عليَّ ، وأنا لا أحلّها من طرف كمّي ، فبينما أنا نائم في البيت إذ انتبهت فإذا هي تسيل دماً عبيطاً ، وكان كمي قد امتلأ دماً عبيطاً ، فجلست وأنا باك وقلت : قد قتل والله الحسين ، والله ما كذبني عليٌّ قط في حديث حدَّثني ، ولا أخبرني بشيء قط أنه يكون إلاَّ كان كذلك; لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره ، ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر ، فرأيت والله المدينة كأنها ضباب لا يستبين منها أثر عين ، ثمَّ طلعت الشمس ورأيت كأنها منكسفة ، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط ، فجلست وأنا باك فقلت : قد قُتل والله الحسين ( عليه السلام ) ، وسمعت صوتاً من ناحية البيت وهو يقول :
(179)
ثم بكى بأعلى صوته وبكيت ، فأثبتُّ عندي تلك الساعة ، وكان شهر المحرم يوم عاشورا لعشر مضين منه ، فوجدته قتل يوم ورد علينا خبره وتاريخه كذلك ، فحدَّثت هذا الحديث أولئك الذين كانوا معه ، فقالوا : والله لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة ولا ندري ما هو ، فكنا نرى أنه الخضر ( عليه السلام ) (1).
وعن جرداء بنت سمين ، عن زوجها هرثمة بن أبي مسلم ، قال : غزونا مع علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) صفين ، فلمَّا انصرفنا نزل بكربلا فصلَّى بها الغداة ، ثم رفع إليه من تربتها فشمَّها ، ثم قال : واهاً لك أيتها التربة ، ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب. فرجع هرثمة إلى زوجته ـ وكانت شيعة لعلي ( عليه السلام ) ـ فقال : ألا أحدِّثك عن وليِّك أبي الحسن ؟ نزل بكربلا فصلَّى ، ثم رفع إليه من تربتها فقال : واهاً لك أيتها التربة ، ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب ، قال : أيها الرجل ، فإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يقل إلاّ حقاً. فلما قدم الحسين ( عليه السلام ) قال هرثمة : كنت في البعث الذين بعثهم عبيدالله بن زياد لعنهم الله ، فلمَّا رأيت المنزل والشجر ذكرت الحديث ، فجلست على بعيري ، ثمَّ صرت إلى الحسين ( عليه السلام ) فسلَّمت عليه ، وأخبرته بما سمعت من أبيه في ذلك المنزل الذي نزل به الحسين ، فقال : معنا أنت أم علينا ؟ فقلت : لا معك ولا عليك ، خلَّفت صبية أخاف عليهم عبيدالله بن زياد ، قال : فامض حيث لا ترى لنا مقتلا ، ولا تسمع لنا صوتاً ، فوالذي نفس حسين بيده لا يسمع اليوم واعيتنا أحد فلا يعيننا إلاَّ كبَّه الله لوجهه في نار جهنم (2). وعن القداح ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ( عليهما السلام ) قال : مرَّ علي بكربلاء ، في 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/252 ح 2 عن الأمالي للصدوق : 694 ـ 696 ح 5. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/255 ح 4 عن الأمالي للصدوق : 199 ح 7. (180)
اثنين من أصحابه ، قال : فلمّا مرَّ بها ترقرقت عيناه للبكاء ، ثمَّ قال : هذا مناخ ركابهم ، وهذا ملقى رحالهم ، وههنا تهراق دماؤهم ، طوبى لك من تربة عليك تهراق دماء الأحبة (1).
ولله درّ ابن العرندس عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/258 ح 8. 2 ـ الغدير ، الأميني : 7/14. |
|||||||||||||||||||||||||||
|