المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: 166 ـ 180
(166)
وانصرف إليهم بوجهه  ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : أمّا بعد أيها الناس  ، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم  ، ونحن أهل بيت محمد ( صلى الله عليه وآله ) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم  ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان  ، فإن أبيتم إلاَّ الكراهية لنا  ، والجهل بحقّنا  ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت عليَّ به رسلكم انصرفت عنكم.
    فقال له الحر : أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) لبعض أصحابه : يا عقبة بن سمعان  ، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليَّ  ، فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه  ، فقال له الحر : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك  ، وقد أُمرنا أنا إذا لقيناك لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيدالله بن زياد.
    فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الموت أدنى إليك من ذلك  ، ثمَّ قال لأصحابه : قوموا فاركبوا  ، فركبوا  ، وانتظر حتى ركبت نساؤه  ، فقال لأصحابه : انصرفوا  ، فلمَّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) للحر : ثكلتك أمّك  ، ما تريد ؟ فقال له الحر : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً من كان  ، ولكن والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه.
    فقال له الحسين ( عليه السلام ) : فما تريد ؟ قال : أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيدالله ابن زياد  ، فقال : إذاً والله لا أتّبعك  ، فقال : إذاً والله لا أدعك  ، فترادّا القول ثلاث مرّات  ، فلما كثر الكلام بينهما قال له الحر : إني لم أؤمر بقتالك  ، إنما أُمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة  ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة  ، يكون بيني وبينك نصفاً حتى أكتب إلى الأمير عبيدالله بن زياد  ، فلعلّ الله أن يرزقني العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك فخذ هاهنا.


(167)
    فتياسر عن طريق العذيب والقادسية  ، وسار الحسين ( عليه السلام ) وسار الحر في أصحابه يسايره  ، وهو يقول له : يا حسين  ، إني أذكّرك الله في نفسك  ، فإني أشهد لئن قاتلت لتُقتلنَ  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : أفبالموت تخوِّفني ؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخوَّفه ابن عمه وقال : أين تذهب فإنك مقتول ؟ فقال :
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى وآسى الرجالَ الصالحينَ بنفسِهِ فإنْ عشتُ لم أَنْدَمْ وإن متُّ لم أُلَمْ إذا مَا نَوَى حقّاً وجاهد مسلما وفارق مثبوراً وودّع مُجرما كفى بك ذلاًّ أن تعيشَ وتُرْغَما (1)
    قال : ثم أقبل الحسين ( عليه السلام ) على أصحابه وقال : هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادة ؟ فقال الطرماح : نعم يا ابن رسول الله  ، أنا أخبر الطريق  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : سر بين أيدينا  ، فسار الطرماح واتّبعه الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه  ، وجعل الطرماح يرتجز ويقول :
يَا نَاقتي لا تَذْعري من زجري بخيرِ فتيان وخيرِ سُفْرِ السادةِ البِيْضِ الوُجُوهِ الزُّهْرِ الضاربينَ بالسُّيُوفِ البُتْرِ وامضي بنا قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ آلِ رَسُولِ اللهِ آلِ الفَخْرِ الطَّاعنينَ بالرِّمَاحِ السُّمْرِ حتَّى تُحلِّي بكريمِ الفَخْرِ
عمَّره اللهُ بَقَاءِ الدَّهْرِ
يَا مَالِكَ النفعِ معاً والضرِ على الطُّغَاةِ من بقايا الكُفْرِ يزيدَ لا زالَ حَلِيفَ الخَمْرِ أَيِّد حسيناً سيّدي بالنصرِ على اللعينينِ سليلي صَخْرِ وابن زيادِ العهرِ وابن العهرِ
    قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فلمَّا سمع الحر ذلك تنحَّى عنه  ، فكان يسير
1 ـ الإرشاد  ، المفيد : 2/76 ـ 81  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/375 ـ 378.

(168)
بأصحابه ناحية والحسين ( عليه السلام ) في ناحية  ، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات  ، ثم مضى الحسين ( عليه السلام ) حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به  ، وإذا هو بفسطاط مضروب  ، فقال : لمن هذا ؟ فقيل : لعبيدالله بن الحر الجعفي  ، قال : ادعوه إليَّ  ، فلمَّا أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي ( عليهما السلام ) يدعوك  ، فقال عبيدالله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون  ، والله ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهية أن يدخلها الحسين وأنا فيها  ، والله ما أريد أن أراه و لا يراني.
    فأتاه الرسول فأخبره  ، فقام إليه الحسين ( عليه السلام ) فجاء حتى دخل عليه وسلَّم وجلس  ، ثم دعاه إلى الخروج معه  ، فأعاد عليه عبيدالله بن الحر تلك المقالة واستقاله مما دعاه إليه  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : فإن لم تكن تنصرنا فاتق الله أن لا تكون ممن يقاتلنا  ، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلاّ هلك  ، فقال له : أمّا هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله.
    ثم قام الحسين ( عليه السلام ) من عنده حتى دخل رحله  ، ولما كان في آخر الليل أمر فتيانه بالاستقاء من الماء  ، ثمَّ أمر بالرحيل فارتحل من قصر بني مقاتل (1).
    وفي رواية الشيخ الصدوق عليه الرحمة في الأمالي أنه التقى معه في القطقطانية  ، قال عليه الرحمة : إن الحسين ( عليه السلام ) لما نزل القطقطانية حين مسيره إلى الكوفة دعا عبيدالله بن الحر الجعفي إلى نصرته  ، فامتنع عبيدالله عن الإجابة  ، وقدَّم للحسين ( عليه السلام ) فرسه  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك  ، وما كنت متخذ المضلين عضداً (2).
    ويروى أن عبيدالله بن الحر ندم بعد مقتل الحسين ( عليه السلام ) وأخذته الحسرة والأسف على تركه نصرة الحسين ( عليه السلام )   ، فقال :
1 ـ الإرشاد  ، المفيد : 2/81 ـ 82  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/378 ـ 379.
2 ـ الأمالي  ، الصدوق : 219.


(169)
فيالكِ حسرةً مادمتُ حيّاً حسينٌ حين يطلُبُ بَذْلَ نصري غداةَ يقولُ لي بالقصرِ قولا ولو أنّي أُوَاسيه بنفسي مع ابن المصطفى روحي فِداه فلو فَلَقَ التلهُّفُ قَلْبَ حيٍّ فقد فاز الأولى نصروا حسيناً تَرَدَّدُ بين صدري والتراقي على أهلِ الضلالةِ والنفاقِ أتترُكُنا وتُزْمِعُ بالفراقِ لنلتُ كرامةً يومَ التَّلاَقِ تولَّى ثمَّ ودَّع بانطلاقِ لهمَّ اليومَ قلبي بانفلاقِ وخاب الآخرون ذوو النفاقِ (1)
    قال عقبة بن سمعان : فسرنا معه ساعة  ، فخفق ( عليه السلام ) وهو على ظهر فرسه خفقة  ، ثم انتبه وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون  ، والحمد لله رب العالمين  ، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً  ، فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين ( عليه السلام ) فقال : ممَ حمدت الله واسترجعت ؟ قال : يا بني  ، إني خفقت خفقة فعنَّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون  ، والمنايا تسير إليهم  ، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا  ، فقال له : يا أبتِ  ، لا أراك الله سوءاً  ، ألسنا على الحقّ ؟ قال : بلى  ، والله الذي مرجع العباد إليه  ، فقال : فإنّنا إذاً ما نبالي  ، أن نموت محقين  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده.
    فلمَّا أصبح نزل وصلَّى بهم الغداة  ، ثم عجَّل الركوب وأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرِّقهم فيأتيه الحر بن يزيد فيردّه وأصحابه  ، فجعل إذا ردَّهم نحو الكوفة ردّاً شديدا امتنعوا عليه فارتفعوا  ، فلم يزالوا يتسايرون كذلك حتى انتهوا إلى نينوى ـ المكان الذي نزل به الحسين ( عليه السلام ) ـ فإذا راكب على نجيب له  ، عليه السلاح  ، متنكِّب قوساً مقبل من الكوفة  ، فوقفوا جميعاً ينتظرونه  ، فلمّا انتهى إليهم سلَّم على الحرّ وأصحابه  ، ولم يسلِّم على الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه  ، ودفع إلى الحر كتاباً من
1 ـ ذوب النضار  ، ابن نما الحلي : 72.

(170)
عبيدالله بن زياد لعنه الله  ، فإذا فيه : أما بعد  ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا ويقدم عليك رسولي  ، ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء  ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري  ، والسلام.
    فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر : هذا كتاب الأمير عبيدالله  ، يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني كتابه  ، وهذا رسوله وقد أمره أن لا يفارقني حتى أنفذ أمره فيكم  ، فنظر يزيد بن المهاجر الكندي ـ وكان مع الحسين ( عليه السلام ) ـ إلى رسول ابن زياد فعرفه فقال له : ثكلتك أمك  ، ماذا جئت فيه ؟ قال : أطعت إمامي ووفيت ببيعتي  ، فقال له ابن المهاجر : بل عصيت ربَّك  ، وأطعت إمامك في هلاك نفسك  ، وكسبت العار والنار  ، وبئس الإمام إمامك  ، قال الله عزَّ وجلّ : « وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ » (1) فإمامك منهم  ، وأخذهم الحرّ بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : دعنا ـ ويحك ـ ننزل هذه القرية أو هذه ـ يعني نينوى والغاضرية ـ أو هذه ـ يعني شفية ـ قال : لا والله ما أستطيع ذلك  ، هذا رجل قد بعث إليَّ عيناً عليَّ  ، فقال له زهير بن القين : إني والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشد مما ترون  ، يا ابن رسول الله  ، إن قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم  ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : ما كنت لأبدأهم بالقتال  ، ثمَّ نزل  ، وذلك اليوم يوم الخميس  ، وهو اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين (2).
    وقال السيد ابن طاووس رحمه الله : فقام الحسين ( عليه السلام ) خطيباً في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه  ، ثمَّ قال : إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون  ، وإن الدنيا تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها  ، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء  ، وخسيس عيش
1 ـ سورة القصص  ، الآية : 41.
2 ـ الإرشاد  ، المفيد : 2/82 ـ 84  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/379 ـ 381.


(171)
كالمرعى الوبيل  ، ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به  ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه  ، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقاً حقاً  ، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة  ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً.
    فقام زهير بن القين فقال : قد سمعنا ـ هداك الله يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ مقالتك  ، ولو كانت الدنيا لنا باقية  ، وكنا فيها مخلدين  ، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها.
    قال : ووثب هلال بن نافع البجلي فقال : والله ما كرهنا لقاء ربنا  ، وإنا على نيّاتنا وبصائرنا  ، نوالي من والاك  ، ونعادي من عاداك.
    قال : وقام برير بن خضير فقال : والله يا ابن رسول الله  ، لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك  ، فتُقطَّع فيك أعضاؤنا  ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.
    قال : ثم إن الحسين ( عليه السلام ) قام وركب وسار  ، وكلما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى حتى بلغ كربلاء  ، وكان ذلك في اليوم الثاني من المحرم (1).
    وفي المناقب : فقال له زهير : فسر بنا حتى ننزل بكربلاء  ، فإنها على شاطىء الفرات  ، فنكون هنالك  ، فإن قاتلونا قاتلناهم  ، واستعنا الله عليهم  ، قال : فدمعت عينا الحسين ( عليه السلام ) ثم قال : اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء  ، ونزل الحسين ( عليه السلام ) في موضعه ذلك  ، ونزل الحر بن يزيد حذاءه في ألف فارس  ، ودعا الحسين ( عليه السلام ) بدواة وبيضاء  ، وكتب إلى أشراف الكوفة ممن كان يظنّ أنه على رأيه : بسم الله الرّحمن الرّحيم  ، من الحسين بن علي إلى سليمان بن صرد  ، والمسيب بن نجبة  ، ورفاعة بن شداد  ، وعبدالله بن وأل  ، وجماعة المؤمنين.
    أمّا بعد  ، فقد علمتم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد قال في حياته : من رأى سلطاناً جائراً مستحلا لحُرم الله  ، ناكثاً لعهد الله  ، مخالفاً لسنة رسول الله  ، يعمل في عباد الله
1 ـ اللهوف  ، السيد ابن طاووس : 48 ـ 49  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/381.

(172)
بالإثم والعدوان  ، ثمَّ لم يغيِّر بقول ولا فعل  ، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله  ، وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان  ، وتولّوا عن طاعة الرحمن  ، وأظهروا الفساد  ، وعطَّلوا الحدود  ، واستأثروا بالفيء  ، وأحلّوا حرام الله  ، وحرَّموا حلاله  ، وإني أحقّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، وقد أتتني كتبكم  ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم  ، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني  ، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظّكم ورشدكم  ، ونفسي مع أنفسكم  ، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم  ، فلكم بي أسوة  ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتكم  ، فلعمري ما هي منكم بنكر  ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي  ، والمغرور من اغترَّ بكم  ، فحظَّكم أخطأتم  ، ونصيبَكم ضيَّعتم  ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه  ، وسيغني الله عنكم  ، والسلام.
    ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مسهر الصيداوي ـ وساق الحديث كما مرَّ ـ ثم قال : ولما بلغ الحسين ( عليه السلام ) قتل قيس استعبر باكياً  ، ثمَّ قال : اللهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلا كريماً  ، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك  ، إنك على كل شيء قدير.
    قال : فوثب إلى الحسين ( عليه السلام ) رجل من شيعته ـ يقال له هلال بن نافع البجلي ـ فقال : يا ابن رسول الله  ، أنت تعلم أن جدَّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يقدر أن يُشرب الناس محبته  ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبَّ  ، وقد كان منهم منافقون يعدون بالنصر  ، ويضمرون له الغدر  ، يلقونه بأحلى من العسل  ، ويخلفونه بأمرَّ من الحنظل  ، حتى قبضه الله إليه  ، وإن أباك علياً رحمة الله عليه قد كان في مثل ذلك  ، فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين  ، حتى أتاه أجلُه  ، فمضى إلى رحمة الله ورضوانه  ، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة  ، فمن نكث عهده  ، وخلع بيعته  ، فلن يضرَّ إلاَّ نفسه  ، والله مغن عنه  ، فسر بنا راشداً


(173)
معافىً  ، مشرِّقاً إن شئت  ، وإن شئت مغرِّباً  ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله  ، ولا كرهنا لقاء ربِّنا  ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا  ، نوالي من والاك  ، ونعادي من عاداك.
    ثم وثب إليه برير بن خضير الهمداني فقال : والله يا بن رسول الله  ، لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك  ، تُقطَّع فيه أعضاؤنا  ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة بين أيدينا  ، لا أفلح قوم ضيَّعوا ابن بنت نبيِّهم  ، أفٍّ لهم غداً ماذا يلاقون ؟ ينادون بالويل والثبور في نار جهنم.
    قال : فجمع الحسين ( عليه السلام ) ولده وإخوته وأهل بيته  ، ثمَّ نظر إليهم فبكى ساعة  ، ثمَّ قال : اللهم إنا عترة نبيك محمد  ، وقد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدنا  ، وتعدَّت بنو أمية علينا  ، اللهم فخذ لنا بحقنا  ، وانصرنا على القوم الظالمين.
    قال : فرحل من موضعه حتى نزل في يوم الأربعاء أو يوم الخميس بكربلاء  ، وذلك في الثاني من المحرم سنة إحدى وستين.
    ثم أقبل على أصحابه فقال ( عليه السلام ) : الناس عبيد الدنيا  ، والدين لعق على ألسنتهم  ، يحوطونه مادرَّت معايشهم  ، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديانون  ، ثمَّ قال : أهذه كربلاء ؟ فقالوا : نعم يا ابن رسول الله  ، فقال : هذا موضع كرب وبلاء  ، ههنا مناخ ركابنا  ، ومحطّ رحالنا  ، ومقتل رجالنا  ، ومسفك دمائنا.
    قال : فنزل القوم وأقبل الحر حتى نزل حذاء الحسين ( عليه السلام ) في ألف فارس  ، ثم كتب إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين بكربلا (1).
    وفي رواية أخرى : قال الحسين ( عليه السلام ) : وما اسم هذا المكان ؟ قالوا له : كربلاء  ، قال : ذات كرب وبلاء  ، ولقد مرَّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه  ، فوقف فسأل عنه  ، فأخبر باسمه  ، فقال : هاهنا محطّ ركابهم  ، وهاهنا مهراق
1 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/381 ـ 383.

(174)
دمائهم  ، فسُئل عن ذلك فقال : ثقل لآل بيت محمد  ، ينزلون هاهنا (1).
    وقبض قبضة منها فشمَّها وقال : هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنني أقتل فيها  ، أخبرتني أم سلمة (2).
    وفي رواية عن أبي مخنف في مقتله بإسناده عن الكلبي أنه قال : وساروا جميعاً إلى أن أتوا إلى أرض كربلاء  ، وذلك في يوم الأربعاء  ، فوقف فرس الحسين ( عليه السلام ) من تحته  ، فنزل عنها وركب أخرى فلم ينبعث من تحته خطوة واحدة  ، ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتى ركب سبعة أفراس وهن على هذا الحال  ، فلما رأى الإمام ذلك الأمر الغريب قال ( عليه السلام ) : ما يقال لهذه الأرض ؟ قالوا : أرض الغاضرية  ، قال : فهل لها اسم غير هذا ؟ قالوا : تسمَّى نينوى  ، قال : هل لها اسم غير هذا ؟ قالوا : تسمَّى بشاطىء الفرات  ، قال : هل لها اسم غير هذا ؟ قالوا : تسمَّى كربلاء.
    فتنفّس الصعداء وقال : أرض كرب وبلاء  ، ثم قال : قفوا ولا ترحلوا منها  ، فهاهنا والله مناخ ركابنا  ، وهاهنا والله سفك دمائنا  ، وهاهنا والله هتك حريمنا  ، وهاهنا والله قتل رجالنا  ، وهاهنا والله ذبح أطفالنا  ، وهاهنا والله تزال قبورنا  ، وبهذه التربة وعدني جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا خُلف لقوله (3).
    ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
لم أنسَ إذْ وَقَفَ الجوادُ بكربلا يَا مُهْرُ لِمْ لا سِرْتَ عن وادي البلا أَوَهَلْ إليك اللهُ أَوْحَى أَنَّ في بابنِ البتولةِ والعدى حَفَّتْ بِهِ والكربِ خوفاً من بلاه وكربِهِ واديه مَصْرَعَهُ ومصرعَ صَحْبِهِ (4)

1 ـ الأخبار الطوال  ، الدينوري : 252 ـ 253.
2 ـ كلمات الإمام الحسين ( عليه السلام )   ، الشيخ الشريفي : 374.
3 ـ الدمعة الساكبة  ، البهبهاني : 4/256.
4 ـ الشواهد المنبرية  ، الشيخ علي الجشي : 45.


(175)
    ولله درّ المرحوم الشيخ الفرطوسي إذ يقول :
هذه كربلاءُ دارُ البلايا هاهنا هاهنا تحطُّ رحالٌ هاهنا تُذْبَحُ الذراري فَتَرْوَى هاهنا تُقْتَلُ الرِّجَالُ وَتُسْبَى هاهنا تُحْرَقُ الخيامُ فَتَأْوي هاهنا تُنْهَبُ الملاحفُ منها هاهنا يُلْهِبُ الظما كلَّ قلب فتموتُ الأطفالُ وهي عُطاشى ويُجَرُّ العليلُ من فوقِ نُطْع وتشالُ الرؤوسُ فوقَ عوال وصفايا الزهراءِ تُحْمَلُ أسرى يومَ عاشورَ أنت يومٌ أريعوا وهي كربٌ مشفوعةٌ ببلاءِ للمنايا على صعيدِ الفَنَاءِ تُرْبَةُ الأرضِ من سُيُولِ الدِّمَاءِ بَعْدَ قَتْلِ الرجالِ خيرُ نساءِ من خِبَاء مذعورةً لخباءِ وتُعَرَّى من الحلي في العَرَاءِ يتلظَّى وَقْداً لبردِ الرواءِ والأواني تَجُفُّ من كلِّ مَاءِ سحبوه بغلظة وجَفَاءِ وتُعَافُ الأجسامُ في الرمضاءِ فوق نُوْق عُجْف بغيرِ وِطَاءِ بك آلُ الرسولِ في كربلاءِ (1)

    جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : يا مواليَّ  ، فلو عاينكم المصطفى  ، وسهام الأمة معرقة في أكبادكم  ، ورماحهم مشرعة في نحوركم  ، وسيوفها مولغة في دمائكم  ، يشفي أبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم  ، وغيظ
1 ـ ملحمة أهل البيت ( عليهم السلام )   ، الفرطوسي : 3/274 ـ 275.

(176)
الكفر من إيمانكم  ، وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته  ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانه  ، وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه  ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه  ، ومسموم قد قطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه  ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون  ، ولا حوله ولا قوّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم  ، ولله درّ الشيخ عبدالحسين الحياوي إذ يقول :
يعزُّ على الطهرِ البتولِ بأن ترى يعزُّ عليها أَنْ تراه محرَّماً يعزُّ على المختارِ أن سليلَهُ فَلاَ صبرَ محمودٌ بقتلِ ابنِ فاطم عزيزاً لها ملقىً وأكفانُهُ العَفْرُ عليه فُرَاتُ الماءِ وهو لها مَهْرُ يُرَضُّ بعتب العادياتِ له صَدْرُ وليس لمن لم يجرِ مَدْمَعُهُ عُذْرُ (1)
    روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن ابن عباس قال : كنت مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خرجته إلى صفين  ، فلمَّا نزل بنينوى وهو بشط الفرات قال بأعلى صوته : يا ابن عباس  ، أتعرف هذا الموضع ؟ قلت له : ما أعرفه يا أمير المؤمنين  ، فقال ( عليه السلام ) : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي.
    قال : فبكى طويلا حتى اخضلّت لحيته  ، وسالت الدموع على صدره  ، وبكينا معاً وهو يقول : أوه أوه  ، مالي ولآل أبي سفيان ؟ مالي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر ؟ صبراً يا أبا عبدالله  ، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم.
    ثمَّ دعا بماء فتوضَّأ وضوء الصلاة  ، فصلَّى ما شاء الله أن يصلي  ، ثمَّ ذكر نحو كلامه الأول إلاَّ أنه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة  ، ثمَّ انتبه فقال : يا ابن عباس  ، فقلت : ها أنا ذا  ، فقال : ألا أحدِّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رقدتي ؟ فقلت : نامت عيناك ورأيت خيراً يا أمير المؤمنين.
    قال : رأيت كأني برجال قد نزلوا من السماء  ، معهم أعلام بيض  ، قد تقلَّدوا
1 ـ مثير الأحزان  ، الجواهري : 146.

(177)
سيوفهم وهي بيض تلمع  ، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة  ، ثم رأيت كأن هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدم عبيط  ، وكأني بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخي قد غرق فيه  ، يستغيث فيه فلا يغاث  ، وكأن الرجال البيض قد نزلوا من السماء  ، ينادونه ويقولون : صبراً آل الرسول  ، فإنكم تُقتلون على أيدي شرار الناس  ، وهذه الجنة ـ يا أبا عبدالله ـ إليك مشتاقة  ، ثم يُعزّونني ويقولون : يا أبا الحسن أبشر  ، فقد أقرَّ الله به عينك يوم يقوم الناس لربِّ العالمين.
    ثمَّ انتبهت هكذا  ، والذي نفس عليٍّ بيده  ، لقد حدَّثني الصادق المصدَّق أبو القاسم ( صلى الله عليه وآله ) أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا  ، وهذه أرض كرب وبلاء  ، يُدفن فيها الحسين ( عليه السلام ) وسبعة عشر رجلا من ولدي وولد فاطمة ( عليها السلام )   ، وإنها لفي السماوات معروفة  ، تذكر أرض كرب وبلاء  ، كما تذكر بقعة الحرمين  ، وبقعة بيت المقدس.
    ثمَّ قال لي : يا ابن عباس  ، اطلب في حولها بعر الظباء  ، فوالله ما كذبت ولا كُذبت  ، وهي مصفرَّة  ، لونها لون الزعفران  ، قال ابن عباس : فطلبتها فوجدتها مجتمعة  ، فناديته : يا أمير المؤمنين  ، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي  ، فقال علي ( عليه السلام ) : صدق الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ).
    ثم قام ( عليه السلام ) يهرول إليها فحملها وشمَّها  ، وقال : هي هي بعينها  ، أتعلم يا ابن عباس ما هذه الأبعار ؟ هذه قد شمَّها عيسى بن مريم  ، وذلك أنه مرَّ بها ومعه الحواريون  ، فرأى ههنا الظباء مجتمعة وهي تبكي  ، فجلس عيسى وجلس الحواريون معه  ، فبكى وبكى الحواريون  ، وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى. فقالوا : يا روح الله وكلمته  ، ما يبكيك ؟ قال : أتعلمون أيَّ أرض هذه ؟ قالوا : لا  ، قال : هذه أرض يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد ( صلى الله عليه وآله )   ، وفرخ الحرَّة الطاهرة البتول شبيهة أمي  ، ويُلحد فيها  ، طينة أطيب من المسك لأنها طينة الفرخ المستشهد  ،


(178)
وهكذا يكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء  ، فهذه الظباء تكلِّمني وتقول : إنها ترعى في هذه الأض شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك  ، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض  ، ثمَّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمَّها وقال : هذه بعر الظباء على هذه الطيب لمكان حشيشها  ، اللهم فأبقها أبداً حتى يشمَّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة.
    قال : فبيقت إلى يوم الناس هذا  ، وقد اصفرَّت لطول زمانها  ، وهذه أرض كرب وبلاء  ، ثم قال بأعلى صوته : يا ربّ عيسى بن مريم! لا تبارك في قتلته  ، والمعين عليه  ، والخاذل له.
    ثمَّ بكى بكاء طويلا وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلا  ، ثم أفاق فأخذ البعر فصَّره في ردائه  ، وأمرني أن أصرَّها كذلك  ، ثم قال : يا ابن عباس  ، إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً  ، ويسيل منها دم عبيط  ، فاعلم أن أبا عبدالله قد قتل بها  ، ودفن.
    قال ابن عباس : فوالله لقد كنت أحفظها أشدَّ من حفظي لبعض ما افترض الله عزَّ وجلَّ عليَّ  ، وأنا لا أحلّها من طرف كمّي  ، فبينما أنا نائم في البيت إذ انتبهت فإذا هي تسيل دماً عبيطاً  ، وكان كمي قد امتلأ دماً عبيطاً  ، فجلست وأنا باك وقلت : قد قتل والله الحسين  ، والله ما كذبني عليٌّ قط في حديث حدَّثني  ، ولا أخبرني بشيء قط أنه يكون إلاَّ كان كذلك; لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره  ، ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر  ، فرأيت والله المدينة كأنها ضباب لا يستبين منها أثر عين  ، ثمَّ طلعت الشمس ورأيت كأنها منكسفة  ، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط  ، فجلست وأنا باك فقلت : قد قُتل والله الحسين ( عليه السلام )   ، وسمعت صوتاً من ناحية البيت وهو يقول :
اصبروا آل الرسول نزل الروح الأمين قُتل الفرخ النحول ببكاء وعويل


(179)
    ثم بكى بأعلى صوته وبكيت  ، فأثبتُّ عندي تلك الساعة  ، وكان شهر المحرم يوم عاشورا لعشر مضين منه  ، فوجدته قتل يوم ورد علينا خبره وتاريخه كذلك  ، فحدَّثت هذا الحديث أولئك الذين كانوا معه  ، فقالوا : والله لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة ولا ندري ما هو  ، فكنا نرى أنه الخضر ( عليه السلام ) (1).
    وعن جرداء بنت سمين  ، عن زوجها هرثمة بن أبي مسلم  ، قال : غزونا مع علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) صفين  ، فلمَّا انصرفنا نزل بكربلا فصلَّى بها الغداة  ، ثم رفع إليه من تربتها فشمَّها  ، ثم قال : واهاً لك أيتها التربة  ، ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب.
    فرجع هرثمة إلى زوجته ـ وكانت شيعة لعلي ( عليه السلام ) ـ فقال : ألا أحدِّثك عن وليِّك أبي الحسن ؟ نزل بكربلا فصلَّى  ، ثم رفع إليه من تربتها فقال : واهاً لك أيتها التربة  ، ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب  ، قال : أيها الرجل  ، فإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يقل إلاّ حقاً.
    فلما قدم الحسين ( عليه السلام ) قال هرثمة : كنت في البعث الذين بعثهم عبيدالله بن زياد لعنهم الله  ، فلمَّا رأيت المنزل والشجر ذكرت الحديث  ، فجلست على بعيري  ، ثمَّ صرت إلى الحسين ( عليه السلام ) فسلَّمت عليه  ، وأخبرته بما سمعت من أبيه في ذلك المنزل الذي نزل به الحسين  ، فقال : معنا أنت أم علينا ؟ فقلت : لا معك ولا عليك  ، خلَّفت صبية أخاف عليهم عبيدالله بن زياد  ، قال : فامض حيث لا ترى لنا مقتلا  ، ولا تسمع لنا صوتاً  ، فوالذي نفس حسين بيده لا يسمع اليوم واعيتنا أحد فلا يعيننا إلاَّ كبَّه الله لوجهه في نار جهنم (2).
    وعن القداح  ، عن جعفر بن محمد  ، عن أبيه ( عليهما السلام ) قال : مرَّ علي بكربلاء  ، في
1 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/252 ح 2 عن الأمالي للصدوق : 694 ـ 696 ح 5.
2 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/255 ح 4 عن الأمالي للصدوق : 199 ح 7.


(180)
اثنين من أصحابه  ، قال : فلمّا مرَّ بها ترقرقت عيناه للبكاء  ، ثمَّ قال : هذا مناخ ركابهم  ، وهذا ملقى رحالهم  ، وههنا تهراق دماؤهم  ، طوبى لك من تربة عليك تهراق دماء الأحبة (1).
    ولله درّ ابن العرندس عليه الرحمة إذ يقول :
فَيَا ساكني أرضِ الطفوفِ عليكُمُ نشرْتُ دواوينَ الثَّنَا بَعْدَ طَيِّها فطابق شعري فيكُمُ دَمْعُ ناظري فَلاَ تتهموني بالسلوِّ فإنّما فذلّي بكم عزٌّ وفقري بكم غِنىً ترقُّ بروقُ السُّحْبِ لي من ديارِكم فعينايَ كالخنساءِ تجري دموعُها وَقَفْتُ على الدارِ التي كنتُمُ بها وقد دَرَسَتْ منها الدروسُ وطالما وسالت عليها من دموعي سَحَائِبٌ فَرَاقَ فِرَاقُ الروحِ لي بَعْدَ بُعْدِكم وقد أقلعت عنها السحابُ ولم تَجُدْ إمامُ الهدى سِبْطُ النبوَّةِ وَالِدُ الـ سَلاَمُ محبٍّ ماله عنكُمُ صَبْرُ وفي كلِّ طرس من مديحي لكم سَطْرُ فَمُبْيَضُّ ذا نَظْمٌ ومُحْمَرُّ ذا نَثْرُ مواعيدُ سلواني وحقِّكُمُ الحشرُ وعُسْري بكم يُسْرٌ وكسري بكم جَبْرُ فينهلُّ من دمعي لِبَارِقِها الْقَطْرُ وقلبي شديدٌ في محبَّتِكم صَخْرُ فَمَغْناكُمُ من بَعْدِ معناكُمُ قَفْرُ بها دُرِسَ العلمُ الإلهيُّ والذِّكْرُ إلى أن تروَّى البانُ بالدمعِ والسِّدْرُ وَدَارَ بِرَسْمِ الدارِ في خاطري الفكرُ ولا درَّ من بَعْدِ الحسينِ لها دَرُّ أئمةِ ربُّ النهيِ مولىً له الأمرُ (2)

1 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/258 ح 8.
2 ـ الغدير  ، الأميني : 7/14.
المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: فهرس