|
||||||||||||||||||||||||
(211)
حبيب بن مظاهر رضي الله تعالى عنه كان ذات يوم واقفاً في سوق الكوفة عند عطار يشتري صبغاً لكريمته ، فمرَّ عليه مسلم بن عوسجة ، فالتفت إليه حبيب وقال : يا أخي يا مسلم ، إني أرى أهل الكوفة يجمعون الخيل والأسلحة ، فبكى مسلم وقال : يا أخي ، إن أهل الكوفة صمَّموا على قتال ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فبكى حبيب ورمى الصبغ من يده وقال : والله لا تصبغ هذه إلاَّ من دم منحري دون الحسين ( عليه السلام ).
فبينما الحسين ( عليه السلام ) يسير من مكة إلى الكوفة كتب كتاباً إلى حبيب ، نسخته هذه : من الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إلى الرجل الفقيه حبيب بن مظاهر ، أمّا بعد يا حبيب ، فأنت تعلم قرابتنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنت أعرف بنا من غيرك ، وأنت ذو شيمة وغيرة ، فلا تبخل علينا بنفسك ، يجازيك جدّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم القيامة. ثم أرسله إلى حبيب ، وكان حبيب جالساً مع زوجته ، وبين أيديهما طعام يأكلان ، إذ غصَّت زوجته فقالت : الله أكبر يا حبيب! الساعة يرد علينا كتاب كريم من رجل كريم ، فبينما هم في الكلام وإذا بطارق يطرق الباب ، فخرج إليه حبيب وقال : من الطارق ؟ قال : أنا رسول الحسين ( عليه السلام ) إليك ، فقال حبيب : الله أكبر! صدقت الحرَّة بما قالت ، ثم ناوله الكتاب ، ففضَّه وقرأه ، فسألته زوجته عن الخبر فأخبرها فبكت وقالت : بالله عليك يا حبيب لا تُقصّر عن نصرة ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : أجل ، حتى أُقتل بين يديه وتصبغ شيبتي من دم نحري ، وكان حبيب يريد أن يكتم أمره على عشيرته وبني عمه لئلا يعلم به أحد خوفاً من ابن زياد ، فبينما حبيب ينظر في أموره وحوائجه واللحوق بالحسين ( عليه السلام ) إذ أقبل بنو عمِّه إليه وقالوا : يا حبيب ، بلغنا أنّك تريد أن تخرج لنصرة الحسين ( عليه السلام ) ونحن لا نخلّيك ، فقال لهم : مالنا والدخول بين السلاطين ، فأخفى حبيب ذلك وأنكر (212)
عليهم ، فرجعوا عنه.
وسمعت زوجته فقالت : يا حبيب ، كأنك كاره للخروج لنصرة الحسين ( عليه السلام ) فأراد أن يختبر حالها فقال : نعم ، فبكت وقالت : يا حبيب ، أنسيت كلام جدّه ( صلى الله عليه وآله ) في حقّه ، وأخيه الحسن ( عليه السلام ) حيث يقول : ولداي هذان سيّدا شباب أهل الجنة ، وهما إمامان قاما أو قعدا ، وهذا رسوله وكتابه أتى إليك يستعين بك وأنت لم تجبه ؟ فقال حبيب : أخاف على أطفالي من اليتم ، وأخشى أن ترمَّلي بعدي ، فقالت : ولنا التأسّي بالهاشميّات والبنيّات والأيتام من آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والله تعالى كفيلنا ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فلمّا عرف حبيب منها حقيقة الأمر دعا لها وجزّاها خيراً ، وأخبرها بما هو في نفسه ، وأنه عازم على المسير والرواح ، فقالت : لي إليك حاجة ، فقال : وما هي ؟ قالت : بالله عليك يا حبيب إذا قدمت على الحسين ( عليه السلام ) قبِّل يديه ورجليه نيابة عني ، واقرأه عني السلام ، فقال : حباً وكرامة. ثمَّ أقبل حبيب على جواده وشدّه شداً وثيقاً ، وقال لعبده : خذ فرسي وامض به ، ولا يعلم بك أحد ، وانتظرني في المكان الفلاني ، فأخذه العبد ومضى به ، وبقي ينتظر قدوم سيّده. ثم إن حبيب ( عليه السلام ) ودَّع زوجته وأولاده ، وخرج مختفياً كأنه ماض إلى ضيعة له خوفاً من أهل الكوفة ، فاستبطأه الغلام وأقبل على الفرس ـ وكان قدّامه علف يأكل منه ـ فجعل الغلام يخاطبه ويقول له : يا جواد ، إن لم يأت صاحبك لأعلونّ ظهرك ، وأمضي بك إلى نصرة الحسين ( عليه السلام ) ، فلمَّا سمع الجواد خطاب الغلام له جعل يبكي ، ودموعه تجري على خديه ، وامتنع عن الأكل ، فبينما هو كذلك فإذا بحبيب قد أقبل ، فسمع خطاب الغلام ، فصفَّق بإحدى يديه على الأخرى وقال : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ، العبيد يتمنّون نصرتك فكيف بالأحرار ؟ ثم قال لعبده : (213)
يا غلام ، أنت حرٌّ لوجه الله.
فبكى الغلام وقال : سيِّدي ، والله لا تركتك حتى أمضي معك وأنصر الحسين ( عليه السلام ) ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأُقتل بين يديه ، فجزّاه خيراً فسار. وكان الحسين ( عليه السلام ) نزل في طريقه بأرض ، وقد عقد اثني عشر راية ، وقد قسم راياته بين أصحابه ، وبقيت راية ، فقال له بعض أصحابه : مُنَّ عليَّ بحملها ، فقال ( عليه السلام ) : يأتي إليها صاحبها ، وقالوا : يابن رسول الله ، دعنا نرتحل من هذه الأرض ، فقال لهم : صبراً حتى يأتي إلينا من يحمل هذه الراية الأخرى ، فبينما الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه في الكلام وإذا هم بغبرة ثائرة ، فالتفت الإمام ( عليه السلام ) وقال لهم : إن صاحب هذه الراية قد أقبل ، فلمَّا صار حبيب قريباً من الإمام المظلوم ترجَّل عن جواده ، وجعل يقبَّل الأرض بين يديه وهو يبكي ، فسلَّم على الإمام وأصحابه فردَّوا عليه السلامَ ، فسمعت زينب بنت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقالت : من هذا الرجل الذي قد أقبل ؟ فقال لها : حبيب بن مظاهر ، فقالت : اقرأوه عني السلام ، فلمَّا بلَّغوه سلامها لطم حبيب على وجهه وحثا التراب على رأسه ، وقال : من أنا ومن أكون حتى تسلِّم عليَّ بنت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) (1) ؟ ويقول الشاعر النبيل الحاج حسين الجامع جزاه الله تعالى خيراً في حبيب بن مظاهر شيخ الأنصار :
1 ـ معالي السبطين ، الحائري : 370 ـ 372. (214)
قال : فرفع الحسين ( عليه السلام ) رأسه ثم قال : ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلين الذاكرين ، نعم هذا أول وقتها ، ثم قال : سلوهم أن يكفّوا عنا حتى نصلّي ، فقال لهم الحصين بن تميم : إنها لا تُقبل ، فقال له حبيب بن مظاهر : لا تُقبل زعمت الصلاة من آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا تقبل وتقبل منك يا حمار. قال : فحمل عليهم حصين بن تميم وخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف ، فشبَّ ووقع عنه ، وحمله أصحابه فاستنقذوه ، وأخذ حبيب يقول :
يا شرَّ قوم حَسَباً وآدا
1 ـ مهراق الدموع : 146 ، وهذه القصيدة جاءت بطلب منّا من الشاعر المذكور جزاه الله خير الجزاء وذلك قبل عدّة سنوات. (215)
قال وجعل يقول يومئذ :
قال أبو مخنف : حدَّثني محمد بن قيس ، قال : لما قُتل حبيب بن مظاهر هدَّ ذلك حسيناً ( عليه السلام ) ، وقال : عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي. وفي رواية قال بعض الرواة : ولم يزل حبيب يقاتل حتى قتل منهم خلقاً كثيراً ، ثم قُتل ، وقال الحسين ( عليه السلام ) : يرحمك الله يا حبيب ، لقد كنت تختم القرآن في ليلة واحدة ، وأنت فاضل (2). وفي ذلك يقول الأديب الفاضل الشيخ محمّد السماوي عليه الرحمة :
1 ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/252. 2 ـ ينابيع المودة ، القندوزي : 3/71. (216)
قال : فأبى عليه ، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا ، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر ، فجال به في العسكر قد علَّقه في عنق فرسه ، ثمَّ دفعه بعد ذلك إليه ، فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب فعلّقه في لبان فرسه ، ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر ، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب وهو يومئذ قد راهق ، فأقبل مع الفارس لا يفارقه ، كلَّما دخل القصر دخل معه ، وإذا خرج خرج معه ، فارتاب به فقال : مالك يا بني تتبعُني ؟ قال : لا شيء ، قال : بلى يا بنيّ ، أخبرني. قال له : إن هذا الرأس الذي معك رأس أبي ، أفتعطينيه حتى أدفنه ؟ قال : يا بنيّ ، لا يرضى الأمير أن يدفن ، وأنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثواباً حسناً. قال له الغلام : لكنّ الله لا يثيبك على ذلك إلاّ أسوأ الثواب ، أما والله لقد قتلته خيراً منك ، وبكى. فمكث الغلام حتى إذا أدرك لم يكن له همّة إلاَّ اتباع أثر قاتل أبيه ، ليجد منه غرّة فيقتله بأبيه ، فلما كان زمان مصعب بن الزبير وغزا مصعب باجميرا دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه ، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غرّته ، فدخل عليه وهو قائل نصف النهار فضربه بسيفه حتى برد (2). 1 ـ معالي السبطين ، الحائري : 376. 2 ـ تاريخ الطبري : 4/334 ـ 336. (217)
المجلس الرابع ، من اليوم السادس
روي أن حبيب بن مظاهر الأسدي ( عليه السلام ) خاطب معسكر ابن سعد قائلا : أما والله لبئس القوم يقدمون غداً على الله عزّ وجلّ ، وعلى رسوله محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد قتلوا ذرّيّته ، وأهل بيته المتهجِّدين في الأسحار ، الذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار ، وشيعته الأتقياء الأبرار (1).
كلمات بعض أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) وبعض الصحابة وغيرهم في مقتل الحسين ( عليه السلام ) وفداحته ومن كلام برير بن خضير لهم أيضاً ، قال : والله لا ينال شفاعة محمد ( صلى الله عليه وآله ) قوم أراقوا دماء ذرّيّته وأهل بيته ، وقال لهم أيضاً : يا هؤلاء ، اتقوا الله فإن نسل محمد ( صلى الله عليه وآله ) قد أصبح بين أظهركم ، وهؤلاء ذرّيّته وعترته وبناته وحريمه ، فهاتوا ما الذي عندكم ؟ وما تريدون أن تصنعوا بهم (2) ؟ وذكر ابن أبي الدنيا أنه لما بلغ أم سلمة قتل الحسين ( عليه السلام ) قالت : أوفعلوا ؟ ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً ، ثمَّ وقعت مغشيّاً عليها (3). وعن شهر بن حوشب قال : سمعت أم سلمة حين جاء نعي الحسين بن علي ( عليه السلام ) لعنت أهل العراق ، وقالت : قتلوه قتلهم الله عزّ وجلّ ، غرَّوه وذلّوه لعنهم الله ، ثمَّ بكت حتى أغشي عليها (4) وذكر ابن سعد عن أم سلمة أنها لما سمعت قتل 1 ـ كتاب الفتوح ، ابن أعثم : 5/177. 2 ـ كتاب الفتوح ، ابن أعثم : 5/180 و182. 3 ـ الرد على المتعصب العنيد ، ابن الجوزي : 51 ـ 52 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 8 ح 111 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 13/264 ح 330 شواهد التنزيل ، الحسكاني : 2/73. 4 ـ مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/194 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 3/318. (218)
الحسين ( عليه السلام ) قالت : أو قد فعلوها ؟! ملأ الله بيوت القاتلين وقبورهم ناراً ، ثمَّ بكت حتى غشي عليها (1).
وعن منذر الثوري قال : كنا إذا ذكرنا حسيناً ومن قتل معه قال محمد بن الحنيفة : قتل معه سبعة عشر كلهم ارتكض في رحم فاطمة ( عليها السلام ) (2). وعن أبي مخنف ، عن عبدالرحمن بن عبيد أبي الكنود قال : لما بلغ عبدالله بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنيه مع الحسين ( عليه السلام ) دخل عليه بعض مواليه والناس يعزّونه ، قال : ولا أظنّ مولاه ذلك إلاَّ أبا اللسلاس فقال : هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين ، قال : فحذفه عبدالله بن جعفر بنعله ، ثم قال : يا بن اللخناء أللحسين تقول هذا ؟ والله لو شهدته لأحببت ألا أفارقه حتى أقتل معه ، والله إنه لمما يسخي بنفسي عنهما ويهوِّن عليَّ المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له ، صابرين معه ثم أقبل على جلسائه فقال : الحمد لله عزّ وجلّ على مصرع الحسين ، إلا تكن آست حسيناً يدي فقد آساه ولدي (3). وفي رواية قال عبدالله بن جعفر : لو شهدته لأحببت أن أقتل معه ، ثم قال : عزَّ عليَّ بمصرع الحسين ( عليه السلام ) (4). وروى الطبراني عن أبان بن الوليد قال : كتب عبدالله بن الزبير إلى ابن عباس في البيعة فأبى أن يبايعه ، فظنَّ يزيد بن معاوية أنَّه إنما امتنع عليه لمكانه ، فكتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس : أمَّا بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته ليدخلك في طاعته ، فتكون على الباطل ظهيراً ، وفي المأثم شريكاً ، 1 ـ ينابيع المودة ، القندوزي : 3/48. 2 ـ مجمع الزوائد : 9/198 وقال : ورواه الطبراني ( في المعجم : 3/119 ) بإسنادين ، ورجال أحدهما رجال الصحيح. 3 ـ تاريخ الطبري : 4/357. 4 ـ ترجمة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، ابن عساكر ( الهامش ) : 340. (219)
فامتنعت عليه وانقبضت لما عرَّفك الله في نفسك من حقّنا أهل البيت ، فجزاك الله أفضل ما يجزي الواصلين عن أرحامهم ، الموفين بعهودهم ، فمهما أنس من الأشياء فلست ( أنسى ) برَّك وصلتك ، وحسن جائزتك بالذي أنت أهله منّا في الطاعة والشرف والقرابة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فانظر مَنْ قبلك من قومك وَمَنْ يطرأ عليك من أهل الآفاق ممن يسحره ابن الزبير بلسانه وزخرف قوله ، فخذِّلهم عنه فإنهم لك أطوع ، ومنك أسمع منهم للملحد الخارب المارق ، والسلام.
فكتب ابن عباس إليه : أمّا بعد ، فقد جاءني كتابك تذكر دعاء ابن الزبير إياي الذي دعاني إليه ، وإني امتنعت معرفة لحقّك ، فإن يكن ذلك كذلك فلست برَّك أرجو بذلك ، ولكن الله بما أنوي به عليم. وكتبت إليَّ أن أحثَّ الناس عليك ، وأخذِّلهم عن ابن الزبير ، فلا سروراً ولا حبوراً ، بفيك الكثكث ، ولك الأثلب ، إنك لعازب إن منَّتك نفسك ، وإنك لأنت المنفرد المثبور. وكتبت إليَّ تذكر تعجيل برّي وصلتي فاحبس ـ أيُّها الإنسان ـ عنّي برَّك وصلتك ، فإني حابس عنك ودّي ونصرتي ، ولعمري ما تعطينا مما في يديك لنا إلاَّ القليل ، وتحبس منه العريض الطويل ، لا أباً لك. أتراني أنسى قتلك حسيناً وفتيان بني عبدالمطلب ، مصابيح الدجى ونجوم الأعلام ، غادرتهم جنودك بأمرك فأصبحوا مصرَّعين في صعيد واحد ، مزمَّلين في الدماء ، مسلوبين بالعراء ، لا مكفَّنين ولا موسَّدين ، تسفيهم الرياح ، وتغزوهم الذئاب ، وتنتابهم عرج الضباع ، حتى أتاح الله لهم قوماً لم يشركوا في دمائهم ، فكفَّنوهم وأجنوهم ، وبهم والله وبي منَّ الله عليك فجلست في مجلسك الذي أنت فيه. ومهما أنس من الأشياء فلست أنسى تسليطك عليهم الدعيَّ ابن الدعيِّ (220)
للعاهرة الفاجرة ، البعيد رحماً ، اللئيم أباً وأماً ، والذي اكتسب أبوك في ادّعائه لنفسه العار والمأثم والمذلّة والخزي في الدنيا والآخرة ، لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وإن أباك زعم أن الولد لغير الفراش ولا يضرّ العاهر ، ويلحق به ولده كما يلحق ولد البغي المرشد ، ولقد أمات أبوك السنة جهلا ، وأحيى الأحداث المضلة عمداً.
ومهما أنس من الأشياء فلست أنسى تسييرك حسيناً من حرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى حرم الله ، وتسييرك إليهم الرجال ، وإدساسك إليهم أن هو نذر بكم فعاجلوه ، فما زلت بذلك حتى أشخصته من مكة إلى أرض الكوفة ، تزأر إليه خيلك وجنودك زئير الأسد ، عداوة منك لله ولرسوله ( صلى الله عليه وآله ) ولأهل بيته ، ثمَّ كتبت إلى ابن مرجانة يستقبله بالخيل والرجال والأسنّة والسيوف ، ثمَّ كتبت إليه بمعاجلته وترك مطاولته حتى قتلته ومن معه من فتيان بني عبدالمطلب ، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، نحن أولئك لا كآبائك الأجلاف الجفاة أكباد الحمير. ولقد علمت أنه كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً ، وأعزَّه بها حديثاً لو ثوى بالحرمين مقاماً ، واستحلّ بها قتالا ، ولكنَّه كره أن يكون هو الذي يستحلّ به حرم الله وحرم رسوله ( صلى الله عليه وآله ) وحرمة البيت الحرام ، فطلب إليكم الحسين الموادعة ، وسألكم الرجعة ، فاغتنمتم قلّة أنصاره واستئصال أهل بيته ، كأنكم تقتلون أهل بيت من الترك أو كابل ، فكيف تحدوني على ودّك ، وتطلب نصرتي وقد قتلت بني أبي ، وسيفك يقطر من دمي وأنت آخذ ثأري ؟ فإن يشأ الله لا يطلّ لديك دمي ، ولا تسبقني بثأري ، وإن تسبقنا به فقبلنا ما قبلت النبيون وآل النبيين ، فطلَّت دماؤهم في الدنيا ، وكان الموعد الله ، فكفى بالله للمظلومين ناصراً ، ومن الظالمين منتقماً. والعجب كل العجب ـ وما عشت يريك الدهر العجب ـ حملك بنات (221)
عبدالمطلب ، وحملك أبناءهم أغيلمة صغاراً إليك بالشام ، تري الناس أنك قد قهرتنا ، وأنك تذلّنا ، وبهم والله وبي منَّ الله عليك وعلى أبيك وأمك من النساء ، وأيم الله إنك لتمسي وتصبح أمناً لجراح يدي ، وليعظمن جرحك بلساني ونقضي وإبرامي ، فلا يستفزّنك الجدل ، فلن يمهلك الله بعد قتلك عترة رسوله إلاّ قليلا حتى يأخذك أخذاً أليماً ، ويخرجك من الدنيا آثماً مذموماً ، فعش لا أباً لك ما شئت فقد أرداك عند الله ما اقترفت.
فلما قرأ يزيد الرسالة قال : لقد كان ابن عباس مضياً على الشر (1). وذكر ابن الأثير أنه لما رأى زيد بن أرقم رأس الحسين ( عليه السلام ) بين يدي ابن زياد ـ وهو يضرب الرأس الشريف بمخصرته ـ خرج وهو يقول : أنتم ـ يا معشر العرب ـ العبيد بعد اليوم ، قتلتم الحسين بن فاطمة ( عليها السلام ) ، وأمَّرتم ابن مرجانة ، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم (2). ولما رجع كعب بن جابر قالت له امرأته أو أخته النوار بنت جابر : أعنت على ابن فاطمة ، وقتلت سيِّد القرّاء ، لقد أتيت عظيماً من الأمر ، والله لا أكلِّمك من رأسي كلمة أبداً (3). وقال سليمان بن قتة يرثي الحسين ( عليه السلام ) :
1 ـ المعجم الكبير ، الطبراني : 10/241 ـ 242 ح 10590 ، ومجمع الزوائد ، الهيثمي : 7/251 ، تأريخ اليعقوبي : 2/248 ـ 250. 2 ـ أسد الغابة ، ابن الأثير : 2/21. 3 ـ تاريخ الطبري : 4/329. 4 ـ مقاتل الطالبيين ، الأصبهاني : 81 ، معجم البلدان ، الحموي : 4/36. (222)
قتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) ، وادّعاء زياد (1).
وعن أبي مخنف ، عن عبد الملك بن نوفل قال : حدَّثني أبي ، قال : لما قتل الحسين ( عليه السلام ) قام ابن الزبير في أهل مكة ، وعظَّم مقتله وعاب على أهل الكوفة خاصة ، ولام أهل العراق عامة ، فقال ـ بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمد ( صلى الله عليه وآله ) ـ : إن أهل العراق غدر فجر إلاّ قليلا ، وإن أهل الكوفة شرار أهل العراق ، وإنهم دعوا حسيناً لينصروه عليهم فلمّا قدم عليهم ثاروا إليه فقالوا له : إما أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية سلماً فيمضي فيك حكمه ، وإما أن تحارب ، فرأى والله أنه هو وأصحابه قليل في كثير أنه مقتول ، ولكنه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة ، فرحم الله حسيناً وأخزى قاتل حسين ( عليه السلام ). لعمري لقد كان من خلافهم إياه وعصيانهم ما كان في مثله واعظ وناه عنهم ، أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه ، كثيراً في النهار صيامه ، أحق بما هم فيه منهم ، وأولى به في الدين والفضل (2). وقال الوليد لمروان بن الحكم لمّا أشار عليه بقتل الحسين ( عليه السلام ) : وبِّخ غيرك يا مروان ، إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني ، والله ما أحبّ أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسيناً ، سبحان الله! أقتل حسيناً أن قال : لا أبايع ؟ والله إني لأظنّ امرأً يُحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة (3). وقال الطبري : دعا ابن زياد عمر بن سعد فقال : سر إلى الحسين ، فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إلى عملك ، فقال له عمر بن سعد : إن رأيت أن تعفيني فافعل ، 1 ـ المصنف ، ابن أبي شيبة : 7/258 ح 35860 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3/123 ح 2870 ، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد : 9/196 ، وقال : رواه الطبراني ورجاله ثقات. 2 ـ تاريخ الطبري : 4/364. 3 ـ تاريخ الطبري : 4/309. (223)
قال له عبيدالله : نعم على أن تردَّ لنا عهدنا ، قال : فلمَّا قال له ذلك قال عمر بن سعد : أمهلني اليوم حتى أنظر ، قال : فانصرف عمر يستشير فلم يكن يستشير أحداً إلاَّ نهاه.
قال : وجاء حمزة بن المغيرة بن شعبة ـ وهو ابن أخته ـ فقال : أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك وتقطع رحمك ، فوالله لأن تخرج من دنياك وما لك سلطان الأرض كلها لو كان لك خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين ( عليه السلام ) ، فقال له عمر بن سعد : فإني أفعل إن شاء الله (1). وعن الحسن ـ يعني البصري ـ قال : قتل مع الحسين بن علي ( عليه السلام ) ستة عشر رجلا من أهل بيته ، والله ما على ظهر الأرض يومئذ أهل بيت يشبهونهم ، قال : سفيان ومن يشك في هذا (2). وروى المسعودي في قتل الأمويين لآل البيت ( عليهم السلام ) أن بنات مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية دخلن على صالح بن علي العباسي فطلبن العفو منه ، فقالت له كبرى بنات مروان : فليسعنا من عفوكم ما وسعكم من جورنا ، فقال صالح : إنا لن نستبقي منكم أحداً رجلا ولا امراةً ، ألم يقتل أبوكن بالأمس ابن أخي إبراهيم بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس في محبسه في حران ؟ ألم يقتل هشام بن عبدالملك زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وصلبه في كناسة الكوفة ، وقتل امرأة زيد بالحيرة ، على يدي يوسف بن عمر الثقفي ؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد بن عبدالملك ، يحيى بن زيد ، وصلبه في خراسان ؟ ألم يقتل عبيدالله بن زياد الدعيّ ، مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة ؟ ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، على يدي عمر بن سعد مع 1 ـ تاريخ الطبري 3/310 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 45/50. 2 ـ المعجم الكبير ، الطبراني : 3/118 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/198. (224)
من قتل بين يديه من أهل بيته ( عليهم السلام ) ؟ ألم يخرج بحرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سبايا حتى ورد بهن على يزيد بن معاوية ، وقبل مقدمهن بعث إليه برأس الحسين بن علي ( عليهما السلام ) قد ثقب دماغه ، على رأس رمح يُطاف به كور الشام ومدائنها حتى قدموا به على يزيد بدمشق ، كأنما بعث إليه برأس رجل من أهل الشرك ؟ ثم أوقف حرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) موقف السبي يتصفَّحهن جنود أهل الشام الجفاة الطغام ، ويطلبون منه أن يهب لهم حرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) استخفافاً بحقه ( صلى الله عليه وآله ) ، وجرأة على الله عزَّ وجلَّ ، وكفراً لأنعمه ، فما الذي استبقيتم منّا أهل البيت ، لو عدلتم فيه علينا ؟ (1)
وجاء في رواية الآبي في نثر الدرّ أيضاً ، قال : ودخلت ابنة مروان على عبدالله بن علي فقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فقال : لست به ، فقالت : السلام عليك أيّها الأمير ، قال : وعليك السلام ، فقالت : ليسعنا عدلكم ، فقال : إذاً لا يبقى على الأرض منكم أحد; لأنكم حاربتم علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ودفعتم حقَّه ، وسممتم الحسن ( عليه السلام ) ونقضتم شرطه ، وقتلتم الحسين ( عليه السلام ) ، وسيَّرتم رأسه ، وقتلتم زيداً وصلبتم جسده ، وقتلتم يحيى بن زيد ومثَّلتم به ، ولعنتم علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) على منابركم ، وضربتم علي بن عبدالله ظلماً بسياطكم ، وحبستم الإمام في حبسكم ، فعدلنا ألا نبقي أحداً منكم ؟ قالت : فليسعنا عفوكم ، قال : أمّا هذه فنعم ، ثمَّ أمر بردّ أموالها عليها ، ثم قال :
1 ـ مروج الذهب ، المسعودي : 3/247 ، السيّدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، محمد بيومي : 91. 2 ـ نثر الدّر ، الآبي : 1/440. (225)
روي أن آدم لمّا هبط إلى الأرض لم ير حوَّاء ، فصار يطوف الأرض في طلبها فمرَّ بكربلاء فاغتمَّ ، وضاق صدره من غير سبب ، وعثر في الموضع الذي قتل فيه الحسين ( عليه السلام ) ، حتى سال الدم من رجله ، فرفع رأسه إلى السماء وقال : إلهي ، هل حدث مني ذنب آخر فعاقبتني به ؟ فإني طفت جميع الأرض ، وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض. فأوحى الله إليه : يا آدم ، ما حدث منك ذنب ، ولكن يُقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلماً ، فسال دمك موافقة لدمه ، فقال آدم : يا رب ، أيكون الحسين نبياً ؟ قال : لا ، ولكنّه سبط النبيِّ محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : ومن القاتل له ؟ قال : قاتله يزيد لعين أهل السماوات والأرض ، فقال آدم : فأيَّ شيء أصنع يا جبرئيل ؟ فقال : العنه يا آدم ، فلعنه أربع مرّات ، ومشى خطوات إلى جبل عرفات فوجد حوَّاء هناك.
وروي أن نوحاً لما ركب في السفينة طافت به جميع الدنيا ، فلمّا مرَّت بكربلا أخذته الأرض ، وخاف نوح الغرق ، فدعا ربَّه وقال : إلهي ، طفت جميع الدنيا وما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض ، فنزل جبرئيل وقال : يا نوح ، في هذا الموضع يقتل الحسين سبط محمد خاتم الأنبياء ، وابن خاتم الأوصياء ، فقال : ومن القاتل له يا جبرئيل ؟ قال : قاتله لعين أهل سبع سماوات وسبع أرضين ، فلعنه نوح أربع مرّات ، فسارت السفينة حتى بلغت الجوديّ واستقرّت عليه. وروي أن إبراهيم ( عليه السلام ) مرَّ في أرض كربلا وهو راكب فرساً ، فعثرت به وسقط إبراهيم ، وشُجَّ رأسه وسال دمه ، فأخذ في الاستغفار وقال : إلهي ، أيُّ شيء |
||||||||||||||||||||||||
|