|
||||||||||||||||||||||||||||||
(226)
حدث مني ؟ فنزل إليه جبرئيل وقال : يا إبراهيم ، ما حدث منك ذنب ، ولكن هنا يقتل سبط خاتم الأنبياء ، وابن خاتم الأوصياء ، فسال دمك موافقة لدمه. قال : يا جبرئيل ، ومن يكون قاتله ؟ قال : لعين أهل السماوات والأرضين ، والقلم جرى على اللوح بلعنه بغير إذن ربِّه ، فأوحى الله تعالى إلى القلم : إنك استحققت الثناء بهذا اللعن.
فرفع إبراهيم ( عليه السلام ) يديه ولعن يزيد لعناً كثيراً ، وأمَّن فرسه بلسان فصيح ، فقال إبراهيم لفرسه : أيَّ شيء عرفت حتى تؤمِّن على دعائي ؟ فقال : يا إبراهيم ، أنا أفتخر بركوبك عليَّ ، فلما عثرت وسقطت عن ظهري عظمت خجلتي ، وكان سبب ذلك من يزيد لعنه الله تعالى. وروي أن إسماعيل كانت أغنامه ترعى بشط الفرات ، فأخبره الراعي أنها لا تشرب الماء من هذه المشرعة منذ كذا يوماً ، فسأل ربَّه عن سبب ذلك فنزل جبرئيل وقال : يا إسماعيل ، سل غنمك فإنها تجيبك عن سبب ذلك ، فقال لها : لم لا تشربين من هذا الماء ؟ فقالت بلسان فصيح : قد بلغنا أن ولدك الحسين ( عليه السلام ) سبط محمد يقتل هنا عطشاناً ، فنحن لا نشرب من هذه المشرعة حزناً عليه ، فسألها عن قاتله فقالت : يقتله لعين أهل السماوات والأرضين والخلائق أجمعين ، فقال إسماعيل : اللهم العن قاتل الحسين ( عليه السلام ).
(227)
قال الراوي : وحكي أن موسى بن عمران رآه إسرائيلي مستعجلا ، وقد كسته الصفرة ، واعترى بدنه الضعف ، وحكم بفرائصه الرجف ، وقد اقشعرَّ جسمه ، وغارت عيناه ونحف ، لأنه كان إذا دعاه ربُّه للمناجاة يصير عليه ذلك من خيفة الله تعالى ، فعرفه الإسرائيلي وهو ممن آمن به ، فقال له : يا نبيَّ الله ، أذنبتُ ذنباً عظيماً فاسأل ربَّك أن يعفو عني ، فأنعم وسار ، فلمَّا ناجى ربه قال له : يا ربَّ العالمين ، أسألك وأنت العالم قبل نطقي به ، فقال تعالى : يا موسى ، ما تسألني أعطيك ، وما تريد أبلّغك ، قال : ربّ ، إن فلاناً عبدك الإسرائيلي أذنب ذنباً ويسألك العفو ، قال : يا موسى ، أعفو عمَّن استغفرني إلاَّ قاتل الحسين ، قال موسى : يا ربّ ، ومن الحسين ؟ قال له : الذي مرَّ ذكره عليك بجانب الطور ، قال : يا رب ، ومن يقتله ؟ قال يقتله أمّة جدّه الباغية الطاغية في أرض كربلا ، وتنفر فرسه وتحمحم وتصهل ، وتقول في صهيلها : الظليمة الظليمة من أمّة قتلت ابن بنت نبيها ، فيبقى ملقىً على الرمال من غير غسل ولا كفن ، وينهب رحله ، وتسبي نساؤه 1 ـ الغدير ، الأميني : 7/15. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/242 ـ 244. (228)
في البلدان ، ويقتل ناصره ، وتشهَّر رؤوسهم مع رأسه على أطراف الرماح ، يا موسى! صغيرهم يميته العطش ، وكبيرهم جلده منكمش ، يستغيثون ولا ناصر ، ويستجيرون ولا خافر.
قال : فبكى موسى ( عليه السلام ) وقال : يا ربّ وما لقاتليه من العذاب ؟ قال : يا موسى ، عذاب يستغيث منه أهل النار بالنار ، لا تنالهم رحمتي ، ولا شفاعة جدّه ، ولو لم تكن كرامة له لخسفت بهم الأرض. قال موسى : برئت إليك اللهم منهم وممن رضي بفعالهم ، فقال سبحانه : يا موسى ، كتبت رحمة لتابعيه من عبادي ، واعلم أنه من بكى عليه أو أبكى أو تباكى حرَّمت جسده على النار (1). وروي أن سليمان كان يجلس على بساطه ويسير في الهواء ، فمرَّ ذات يوم وهو سائر في أرض كربلا ، فأدارت الريح بساطه ثلاث دورات حتى خاف السقوط ، فسكنت الريح ، ونزل البساط في أرض كربلا. فقال سليمان للريح : لم سكنت ؟ فقالت : إن هنا يقتل الحسين ( عليه السلام ) ، فقال : ومن يكون الحسين ؟ فقالت : هو سبط محمد المختار ( صلى الله عليه وآله ) ، وابن علي الكرار ، فقال : ومن قاتله ؟ قالت : لعين أهل السماوات والأرض يزيد ، فرفع سليمان يديه ولعنه ودعا عليه ، وأمَّن على دعائه الإنس والجن ، فهبّت الريح وسار البساط (2). وروي أن عيسى كان سائحاً في البراري ومعه الحواريون ، فمرّوا بكربلا فرأوا أسداً كاسراً قد أخذ الطريق ، فتقدَّم عيسى إلى الأسد ، فقال له : لم جلست في هذا الطريق ؟ وقال : لا تدعنا نمرّ فيه ؟ فقال الأسد بلسان فصيح : إني لم أدع لكم الطريق حتى تلعنوا يزيد قاتل الحسين ( عليه السلام ) ، فقال عيسى ( عليه السلام ) : ومن يكون الحسين ؟ قال : هو سبط محمد النبيّ الأمي ( صلى الله عليه وآله ) ، وابن علي الوليّ ، قال : ومن قاتله ؟ 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/308. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/308. (229)
قال : قاتله لعين الوحوش والذئاب والسباع أجمع خصوصاً أيام عاشورا ، فرفع عيسى يديه ولعن يزيد ودعا عليه ، وأمَّن الحواريون على دعائه ، فتنحَّى الأسد عن طريقهم ومضوا لشأنهم (1).
وروى صاحب الدرّ الثمين في تفسير قوله تعالى : « فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَات » أنه رأى ساق العرش وأسماء النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليهم السلام ) فلقّنه جبرئيل قل : يا حميد بحقّ محمّد ، يا عالي بحقّ علي ، يا فاطر بحقّ فاطمة ، يا محسن بحق الحسن والحسين ومنك الإحسان. فلمّا ذكر الحسين ( عليه السلام ) سالت دموعه وانخشع قلبه ، وقال : يا أخي جبرئيل ، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي ، قال جبرئيل : ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب ، فقال : يا أخي ، وما هي ؟ قال : يقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً ليس له ناصر ولا معين ، ولو تراه يا آدم وهو يقول : واعطشاه ، واقلّة ناصراه ، حتى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان ، فلم يجبه أحد إلاّ بالسيوف ، وشرب الحتوف ، فيذبح ذبح الشاة من قفاه ، وينهب رحله أعداؤه ، وتشهّر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان ، ومعهم النسوان ، كذلك سبق في علم الواحد المنّان ، فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى (2). وعن علي بن محمد رفعه ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) في قول الله عز وجل : « فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ » قال : حسب فرأى ما يحلّ بالحسين ( عليه السلام ) فقال : إني سقيم لما يحلّ بالحسين ( عليه السلام ) (3). وعن سعد بن عبدالله قال : سألت القائم ( عليه السلام ) عن تأويل « كهيعص » 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/244. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/245. 3 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/220. (230)
قال ( عليه السلام ) : هذه الحروف من أنباء الغيب ، أطلع الله عليها عبده زكريا ، ثمَّ قصَّها على محمد عليه وآله السلام ، وذلك أن زكريا سأل الله ربَّه أن يعلِّمه أسماء الخمسة ، فأهبط عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فعلَّمه إياها ، فكان زكريا إذا ذكر محمداً وعلياً وفاطمة والحسن ( عليهم السلام ) سرِّي عنه همُّه ، وانجلى كربه ، وإذا ذكر اسم الحسين خنقته العبرة ، ووقعت عليه البهرة ، فقال ( عليه السلام ) ذات يوم : إلهي ، ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم تسلَّيت بأسمائهم من همومي ، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي ؟ فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصّته فقال : كهيعص ، فالكاف اسم كربلا ، والهاء هلاك العترة الطاهرة ، والياء يزيد وهو ظالم الحسين ، والعين عطشه ، والصاد صبره.
فلما سمع ذلك زكريا لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ، ومنع فيهن الناس من الدخول عليه ، وأقبل على البكاء والنحيب ، وكان يرثيه : إلهي ، أتفجع خير جميع خلقك بولده ؟ إلهي ، أتنزل بلوى هذه الرزيّة بفنائه ؟ إلهي ، أتلبس علياً وفاطمة ثياب هذه المصيبة ؟ إلهي ، أتحلّ كربة هذه المصيبة بساحتهما ، ثمّ كان يقول : إلهي ، ارزقني ولداً تقرّ به عيني على الكبر ، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبِّه ، ثم أفجعني به كما تفجع محمداً حبيبك بولده ، فرزقه الله يحيى وفجعه به ، وكان حمل يحيى ستة أشهر ، وحمل الحسين ( عليه السلام ) كذلك (1). وعن الفضل قال : سمعت الرضا ( عليه السلام ) يقول : لما أمر الله عزّ وجلّ إبراهيم ( عليه السلام ) أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه تمنَّى إبراهيم أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده ، وأنه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه ، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده عليه بيده ، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب ، فأوحى الله عزّ وجلَّ إليه : يا إبراهيم من أحبُّ خلقي إليك ؟ فقال : يا ربّ ، ما خلقت خلقاً هو أحبُّ إليَّ من حبيبك محمد ، فأوحى الله إليه : 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/223. (231)
أفهو أحبُّ إليك أم نفسك ؟ قال : بل هو أحبُّ إليَّ من نفسي ، قال : فولده أحبُّ إليك أم ولدك ؟ قال : بل ولده ، قال : فذبح ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي ؟ قال : يا ربّ ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.
قال : يا إبراهيم ، فإن طائفة تزعم أنها من أمّة محمد ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يذبح الكبش ، ويستوجبون بذلك سخطي ، فجزع إبراهيم لذلك وتوجَّع قلبه وأقبل يبكي ، فأوحى الله عزّ وجلَّ : يا إبراهيم ، قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل ـ لو ذبحته بيدك ـ بجزعك على الحسين وقتله ، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب ، وذلك قول الله عزّ وجلَّ : « وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْح عَظِيم » (1) ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
ومن تاريخ محمد النجار شيخ المحدِّثين بالمدرسة المستنصرية بإسناد مرفوع إلى أنس بن مالك ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : لما أراد الله أن يهلك قوم نوح أوحى إليه أن شُقَّ ألواح الساج ، فلما شقَّها لم يدر ما يصنع بها ، فهبط جبرئيل فأراه هيئة 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/225. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/227. (232)
السفينة ، ومعه تابوت بها مائة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار ، فسمَّر بالمسامير كلّها السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير ، فضرب بيده إلى مسمار فأشرق بيده ، وأضاء كما يضيء الكوكب الدريّ في أفق السماء ، فتحيَّر نوح ، فأنطق الله المسمار بلسان طلق ذلق : أنا على اسم خير الأنبياء محمد بن عبدالله ( صلى الله عليه وآله ).
فهبط جبرئيل ، فقال له : يا جبرئيل ، ما هذا المسمار الذي ما رأيت مثله ؟ فقال : هذا باسم سيّد الأنبياء محمّد بن عبدالله ، أسمره على أوّلها على جانب السفينة الأيمن ، ثم ضرب بيده إلى مسمار ثان فأشرق وأنار ، فقال نوح : وما هذا المسمار ؟ فقال : هذا مسمار أخيه وابن عمه سيّد الأوصياء علي بن أبي طالب ، فأسمره على جانب السفينة الأيسر في أوّلها ، ثمَّ ضرب بيده إلى مسمار ثالث فزهر وأشرق وأنار ، فقال جبرئيل : هذا مسمار فاطمة ، فأسمره إلى جانب مسمار أبيها ، ثم ضرب بيده إلى مسمار رابع فزهر وأنار ، فقال جبرئيل : هذا مسمار الحسن ، فأسمره إلى جانب مسمار أبيه ، ثم ضرب بيده إلى مسمار خامس فزهر وأنار وأظهر النداوة ، فقال جبرئيل : هذا مسمار الحسين ، فأسمره إلى جانب مسمار أبيه ، فقال نوح : يا جبرئيل ما هذه النداوة ؟ فقال : هذا الدم ، فذكر قصّة الحسين ( عليه السلام ) وما تعمل الأمّة به ، فلعن الله قاتله وظالمه وخاذله (1). وعن بريد العجلي قال : قلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) : يا ابن رسول الله ، أخبرني عن إسماعيل الذي ذكره الله في كتابه حيث يقول : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيّاً » أكان إسماعيل بن إبراهيم ( عليهما السلام ) ؟ فإن الناس يزعمون أنه إسماعيل بن إبراهيم ، فقال ( عليه السلام ) : إن إسماعيل مات قبل إبراهيم ، وإن إبراهيم كان حجّة لله ، قائداً صاحب شريعة ، فإلى من أرسل إسماعيل إذن ؟ قلت : فمن كان جعلت فداك ؟ قال : ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيّ ، بعثه الله إلى قومه 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/230. (233)
فكذَّبوه وقتلوه وسلخوا وجهه ، فغضب الله عليهم له ، فوجَّه إليه اسطاطائيل ملك العذاب ، فقال له : يا إسماعيل ، أنا اسطاطائيل ملك العذاب ، وجَّهني ربُّ العزة إليك لأعذِّب قومك بأنواع العذاب إن شئت ، فقال له إسماعيل : لا حاجة لي في ذلك يا اسطاطائيل.
فأوحى الله إليه : فما حاجتك يا إسماعيل ؟ فقال إسماعيل : يا رب ، إنك أخذت الميثاق لنفسك بالربوبية ، ولمحمَّد بالنبوة ، ولأوصيائه بالولاية ، وأخبرت خير خلقك بما تفعل أمته بالحسين بن علي ( عليهما السلام ) من بعد نبيِّها ، وإنك وعدت الحسين أن تُكِرَّه إلى الدنيا حتى ينتقم بنفسه ممن فعل ذلك به ، فحاجتي إليك يا ربّ أن تكرَّني إلى الدنيا حتى أنتقم ممن فعل ذلك بي ما فعل كما تكرُّ الحسين ، فوعد الله إسماعيل بن حزقيل ذلك ، فهو يكرُّ مع الحسين بن علي ( عليهما السلام ) (1). وعن خالد الربعي قال : حدَّثني مع من سمع كعباً يقول : أول من لعن قاتل الحسين بن علي ( عليهما السلام ) إبراهيم خليل الرحمن ، وأمر ولده بذلك ، وأخذ عليهم العهد والميثاق ، ثمَّ لعنه موسى بن عمران وأمر أمته بذلك ، ثمّ لعنه داود وأمر بني إسرائيل بذلك ، ثم لعنه عيسى وأكثر أن قال : يا بني إسرائيل ، العنوا قاتله ، وإن أدركتم أيامه فلا تجلسوا عنه ، فإن الشهيد معه كالشهيد مع الأنبياء ، مقبل غير مدبر ، وكأني أنظر إلى بقعته ، وما من نبيٍّ إلاَّ وقد زار كربلاء ، ووقف عليها ، وقال : إنك لبقعة كثيرة الخير ، فيك يدفن القمر الأزهر (2). ولله درّ الشيخ صالح الكواز الحلّي عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/237. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/301. (234)
فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما ، فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، ولمثلهم فلتذرف الدموع ، وليصرخ الصارخون ، ويضجَّ الضاجّون ، ويعجَّ العاجّون ، أين الحسن وأين الحسين ، أين أبناء الحسين ، صالح بعد صالح ، وصادق بعد صادق ، أين السبيل بعد السبيل ، أين الخيرة بعد الخيرة ، أين الشموس الطالعة ، أين الأقمار المنيرة ، أين الأنجم الزاهرة ، أين أعلام الدين وقواعد العلم (2). قال الراوي في منع القوم الماء عن الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته وأصحابه : ورجعت خيل ابن سعد حتى نزلوا على شاطىء الفرات ، فحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، وأضرَّ العطش بالحسين وأصحابه ، فأخذ الحسين ( عليه السلام ) فأساً (3) وجاء إلى وراء خيمة النساء ، فخطا في الأرض تسع عشرة خطوة نحو القبلة ، ثمَّ حفر هناك فنبعت له عين من الماء العذب ، فشرب الحسين ( عليه السلام ) وشرب 1 ـ رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 152. 2 ـ المزار ، محمد بن المشهدي : 578. 3 ـ الفأس : آلة ذات هراوة قصيرة ، يقطع بها الخشب وغيره ، وقد يترك همزها. (235)
الناس بأجمعهم ، وملأوا أسقيتهم ، ثم غارت العين ، فلم ير لها أثر.
وبلغ ذلك ابن زياد فأرسل إلى عمر بن سعد : بلغني أن الحسين ( عليه السلام ) يحفر الآبار ، ويصيب الماء ، فيشرب هو وأصحابه ، فانظر إذا ورد عليك كتابي فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت ، وضيِّق عليهم ، ولا تدعهم يذوقوا الماء ، وافعل بهم كما فعلوا بالزكيِّ عثمان ، فعندها ضيَّق عمر بن سعد عليهم غاية التضييق. فلمّا اشتدَّ العطش بالحسين ( عليه السلام ) دعا بأخيه العباس ( عليه السلام ) فضمَّ إليه ثلاثين فارساً وعشرين راكباً ، وبعث معه عشرين قربة ، فأقبلوا في جوف الليل حتى دنوا من الفرات ، فقال عمرو بن الحجاج : من أنتم ؟ فقال رجل من أصحاب الحسين ( عليه السلام ) ، يقال له هلال بن نافع البجلي : ابن عم لك جئت أشرب من هذا الماء ، فقال عمرو : اشرب هنيئاً ، فقال هلال : ويحك ، تأمرني أن أشرب والحسين بن علي ومن معه يموتون عطشاً ؟ فقال عمرو : صدقت ، ولكن أُمرنا بأمر لابد أن ننتهي إليه ، فصاح هلال بأصحابه فدخلوا الفرات ، وصاح عمرو بالناس واقتتلوا قتالا شديداً ، فكان قوم يقاتلون ، وقوم يملأون حتى ملأوها ، ولم يقتل من أصحاب الحسين أحد ، ثمَّ رجع القوم إلى معسكرهم ، فشرب الحسين ومن كان معه ، ولذلك سمِّي العباس ( عليه السلام ) السقَّاء. ثمَّ أرسل الحسين ( عليه السلام ) إلى عمر بن سعد لعنه الله : أني أريد أن أكلِّمك فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك ، فخرج إليه ابن سعد في عشرين ، وخرج إليه الحسين في مثل ذلك ، فلمَّا التقيا أمر الحسين ( عليه السلام ) أصحابه فتنحّوا عنه ، وبقي معه أخوه العباس ، وابنه علي الأكبر ، وأمر عمر بن سعد أصحابه فتنحّوا عنه ، وبقي معه ابنه حفص وغلام له. فقال له الحسين ( عليه السلام ) : ويلك يا ابن سعد ، أما تتقي الله الذي إليه معادك ؟ أتقاتلني وأنا ابن من علمت ؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي ، فإنه أقرب لك إلى الله (236)
تعالى ، فقال عمر بن سعد : أخاف أن يُهدم داري ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : أنا أبنيها لك ، فقال : أخاف أن تؤخذ ضيعتي ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز ، فقال : لي عيال وأخاف عليهم ، ثم سكت ولم يجبه إلى شيء ، فانصرف عنه الحسين ( عليه السلام ) وهو يقول : مالك ؟ ذبحك الله على فراشك عاجلا ، ولا غفر لك يوم حشرك ، فوالله إني لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلاّ يسيراً ، فقال ابن سعد : في الشعير كفاية عن البرِّ ، مستهزئاً بذلك القول.
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة ، وورد كتاب ابن زياد في الأثر إلى عمر بن سعد أن : حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، ولا يذوقوا منه قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان ، فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجاج في خمسمائة فارس ، فنزلوا على الشريعة ، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، ومنعوهم أن يُسقوا منه قطرة ، وذلك قبل قتل الحسين ( عليه السلام ) بثلاثة أيام. ونادى عبدالله بن حصين الأزدي ـ وكان عداده في بجيلة ـ قال بأعلى صوته : يا حسين! ألا تنظرون إلى الماء كأنه كبد السماء ، والله لا تذوقون منه قطرة واحدة ، حتى تموتوا عطشاً ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : اللهم اقتله عطشا ، ولا تغفر له أبداً ، قال حميد بن مسلم : والله لعدته في مرضه بعد ذلك ، فو الله الذي لا إله غيره ، لقد رأيته يشرب الماء حتى يبغر (1) ثمَّ يقيئه ويصيح : العطش العطش ، ثمَّ يعود ويشرب حتى يبغر ، ثمَّ يقيئه ويتلظَّى عطشاً ، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ نفسه. ولما رأى الحسين ( عليه السلام ) نزول العساكر مع عمر بن سعد بنينوى ومددهم لقتاله ، أنفذ إلى عمر بن سعد : أنني أريد أن ألقاك ، فاجتمعا ليلا ، فتناجيا طويلا ، ثمَّ رجع عمر إلى مكانه ، وكتب إلى عبيدالله بن زياد : أمّا بعد ، فإن الله قد أطفأ النائرة ، وجمع الكلمة ، وأصلح أمر الأمة ، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى 1 ـ يقال : بغر البعير وكذا الرجل ـ كقطع وعلم ـ بغراً : شرب فلم يرو ، فهو بغير وبغر. (237)
المكان الذي منه أتى ، أو أن يسير إلى ثغر من الثغور ، فيكون رجلا من المسلمين ، له مالهم ، وعليه ما عليهم (1).
وروي أن عقبة بن السمعان قال : صحبت الحسين من المدينة إلى العراق ، ولم أزل معه إلى أن قتل ، والله ما سمعته قال ذلك (2). فلمّا قرأ عبيدالله الكتاب قال : هذا كتاب ناصح مشفق على قومه ، فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال : أتقبل هذا منه ، وقد نزل بأرضك وأتى جنبك ؟ والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ، ليكوننَّ أولى بالقوَّة ، ولتكوننَّ أولى بالضعف والعجز ، فلا تعطه هذه المنزلة ، فإنها من الوهن ، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه ، فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة ، وإن عفوت كان ذلك لك. فقال ابن زياد : نعم ما رأيت! الرأي رأيك ، اخرج بهذا الكتاب إلى عمر ابن سعد فليعرض على الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه النزول على حكمي ، فإن فعلوا فليبعث بهم إليَّ سلماً ، وإن هم أبوا فليقاتلهم ، فإن فعل فاسمع له وأطع ، وإن أبى أن يقاتلهم فأنت أمير الجيش ، فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه. وكتب إلى عمر بن سعد : لم أبعثك إلى الحسين لتكفَّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء ، ولا لتعتذر عنه ، ولا لتكون له عندي شفيعاً ، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إليَّ سلماً ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثِّل بهم ، فإنهم لذلك مستحقون ، فإن قتلت حسيناً فأوطىء الخيل صدره وظهره ، فإنه عات ظلوم ، ولست أرى أن هذا يضرُّ بعد الموت شيئاً ، ولكن عليَّ قول قد قلته لو قد قتلته لفعلت هذا به ، فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا ، وخلَّ بين شمر بن 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/387 ـ 390. 2 ـ تذكرة الخواص ، سبط ابن الجوزي : 224. (238)
ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنّا قد أمرناه بأمرنا والسلام.
فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيدالله بن زياد إلى عمر بن سعد ، فلمَّا قدم عليه وقرأه قال له عمر : مالك ويلك ؟ لاقرَّب الله دارك ، وقبَّح الله ما قدمت به عليَّ ، والله إني لأظنك نهيته عما كتبت به إليه ، وأفسدت علينا أمراً قد كنّا رجونا أن يصلح ، لا يستسلم والله حسين ، إن نفس أبيه لبين جنبيه ، فقال له شمر : أخبرني ما أنت صانع ، أتمضي لأمر أميرك وتقاتل عدوَّه ؟ وإلاّ فخلّ بيني وبين الجند والعسكر ، قال : لا ولا كرامة لك ، ولكن أنا أتولَّى ذلك ، فدونك فكن أنت على الرجَّالة. ونهض عمر بن سعد إلى الحسين ( عليه السلام ) عشية الخميس لتسع مضين من المحرم ، وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين ( عليه السلام ) وقال : أين بنو أختنا ؟ (1) فخرج إليه جعفر والعباس وعبدالله وعثمان بنو علي ( عليه السلام ) فقالوا : ما تريد ؟ فقال : أنتم يا بني أختي آمنون ، فقال له الفئة : لعنك الله ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا أمان له (2). قال الشيخ جعفر النقدي عليه الرحمة : وقد صحَّ أن العباس ( عليه السلام ) فعل الأفاعيل العجيبة ، وقتل الفرسان العظام ، وأتى بالماء مراراً متعدّدة لأهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وفي كتاب أسرار الشهادة للفاضل الدربندي عليه الرحمة ـ عند ذكر شهادة العباس ( عليه السلام ) ـ : قيل : أتى زهير إلى عبدالله بن جعفر بن عقيل قبل أن يُقتل فقال : يا أخي ، ناولني الراية ، فقال له عبدالله : أو فيَّ قصور عن حملها ؟ قال : لا ، ولكن لي بها حاجة ، قال : فدفعها إليه ، وأخذها زهير وأتى ، فجاء إلى العباس 1 ـ وذلك لأن أم البنين بنت حزام ـ أم العباس وعثمان وجعفر وعبدالله ـ كانت كلابية ، وشمر ابن ذي الجوشن كلابي ، ولذا أخذ من ابن زياد أماناً لبنيها ، وذكر ابن جرير أن جرير بن عبدالله بن مخلد الكلابي كانت أمُّ البنين عمّته ، فأخذ لأبنائها أماناً هو وشمر بن ذي الجوشن. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/387 ـ 391. (239)
بن علي ( عليه السلام ) وقال : يابن أمير المؤمنين ، أريد أن أحدِّثك بحديث وعيته ، فقال : حدِّث فقد حلا وقت الحديث :
ويعزّ على سيِّد الشهداء ( عليه السلام ) أن يرى أخاه العباس على بوغاء كربلاء ، مفضوخ الهامة ، مقطوع اليدين ، والسهم في عينه ، واللواء مطروح إلى جانبه. ولله درّ الشيخ محمد علي اليعقوبي عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ الأنوار العلوية ، الشيخ جعفر النقدي : 443 ـ 444 ، أسرار الشهادة ، الدربندي : 2/497. (240)
المجلس الثاني ، من اليوم السابع
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) فهل المحن يا ساداتي إلاَّ التي لزمتكم ، والمصائب إلاَّ التي عمَّتكم ، والفجائع إلاَّ التي خصَّتكم ، والقوارع إلاَّ التي طرقتكم ، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم ، ورحمة الله وبركاته ، بأبي أنتم وأمي يا آل المصطفى ، إنّا لا نملك إلاَّ أن نطوف حول مشاهدكم ، ونعزّي فيها أرواحكم ، على هذه المصائب العظيمة الحالّة بفنائكم ، والرزايا الجليلة النازلة بساحتكم ، التي أثبتت في قلوب شيعتكم القروح ، وأورثت أكبادهم الجروح ، وزرعت في صدرهم الغصص ، فنحن نشهد الله أنّا قد شاركنا أولياءكم وأنصاركم المتقدِّمين ، في إراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقتلة أبي عبدالله سيّد شباب أهل الجنة يوم كربلاء ، بالنيّات والقلوب ، والتأسَّف على فوت تلك
منزلة العباس ( عليه السلام ) عند أهل البيت ( عليهم السلام ) ومصرعه الشريف 1 ـ الشيخ اليعقوبي دراسة نقدية في شعره ، الدكتور عبد الصاحب الموسوي : 348. |
||||||||||||||||||||||||||||||
|