المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: 331 ـ 345
(331)
    جاء في الزيارة الناحية الشريفة مخاطبا لسيد الشهداء ( عليه السلام ) : كنت للرسول ( صلى الله عليه وآله ) ولدا  ، وللقرآن منقذا  ، وللأمة عضدا  ، وفي الطاعة مجتهدا  ، حافظا للعهد والميثاق  ، ناكبا عن سبل الفساق  ، باذلا للمجهود  ، طويل الركوع والسجود  ، زاهداً في الدنيا زهد الراحل عنها  ، ناظرا إليها بعين المستوحشين منها  ، آمالك عنها مكفوفة  ، وهمتك عن زينتها مصروفة  ، وألحاظك عن بهجتها مطروفة  ، ورغبتك في الآخرة معروفة  ، حتى إذا الجور مد باعه  ، وأسفر الظلم قناعه  ، ودعا الغي أتباعه  ، وأنت في حرم جدك قاطن  ، وللظالمين مباين  ، جليس البيت والمحراب  ، معتزل عن اللذات والشهوات  ، تنكر المنكر بقلبك ولسانك  ، على قدر طاقتك وإمكانك.
    ثم اقتضاك العلم للإنكار  ، ولزمك أن تجاهد الفجار  ، فسرت في أولادك وأهاليك  ، وشيعتك ومواليك  ، وصدعت بالحق والبينة  ، ودعوت إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وأمرت بإقامة الحدود  ، والطاعة للمعبود  ، ونهيت عن الخبائث والطغيان  ، وواجهوك بالظلم والعدوان (1).
    جاء في بحار الأنوار للعلامة المجلسي عليه الرحمة في حوادث يوم تاسوعاء قال : ثم نادى عمر : يا خيل الله اركبي  ، وبالجنة أبشري  ، فركب الناس ثم زحف نحوهم بعد العصر والحسين  ( عليه السلام ) جالس أمام بيته محتبىءٌ بسيفه إذ خَفقَ برأسه على ركبتيه  ، وسمعت
1 ـ المزار  ، المشهدي : 502.

(332)
أختُه الصيحةَ  ، فدنت من أخيها وقالت : يا أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت ؟ فرفع الحسين ( عليه السلام ) رأسه فقال : إني رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الساعةَ في المنام  ، وهو يقول لي : إنك تروح إلينا  ، فلطمت أختُه وجهَهَا  ، ونادت بالويل فقال لها الحسين ( عليه السلام ) : ليس لك الويل يا أخته اسكتي رحمك الله  ، وفي رواية السيد قال : يا أختاه إني رأيت الساعة جدي محمداً وأبي علياً وأمي فاطمة وأخي الحسن وهم يقولون : يا حسين إنك رائح إلينا عن قريب  ، وفي بعض الروايات : غداً  ، قال : فلطمت زينب ( عليها السلام ) على وجهها وصاحت  ، فقال لها الحسين ( عليه السلام ) : مهلا  ، لا تشمتي القوم بنا (1).
    قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فقال له العباس بن علي ( عليه السلام ) : يا أخي! أتاك القوم  ، فنهض ثم قال : اركب أنت ـ يا أخي! ـ حتى تلقاهم وتقول لهم : مالكم ؟ وما بدا لكم ؟ وتسألهم عمّا جاء بهم  ، فأتاهم العباس في نحو من عشرين فارساً  ، فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر  ، فقال لهم العباس ( عليه السلام ) : ما بدا لكم ؟ وما تريدون ؟ قالوا : قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم  ، قال : فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبدالله فأعرض عليه ما ذكرتم  ، فوقفوا فقالوا : القه وأعلمه ثمَّ القنا بما يقول لك  ، فانصرف العباس راجعاً يركض إلى الحسين ( عليه السلام ) يخبره الخبر  ، ووقف أصحابه يخاطبون القوم  ، ويعظونهم ويكفُّونهم عن قتال الحسين ( عليه السلام ).
    فجاء العباس إلى الحسين ( عليه السلام ) وأخبره بما قال القوم  ، فقال : ارجع إليهم  ، فإن استطعت أن تؤخِّرهم إلى غد  ، وتدفعهم عنا العشيّة لعلّنا نصلّي لربِّنا الليلة وندعوه ونستغفره  ، فهو يعلم أني قد كنت أحبّ الصلاة له  ، وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار.
1 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/391  ، اللهوف في قتلى الطفوف  ، السيد ابن طاووس : 55.

(333)
    فمضى العباس إلى القوم  ، ورجع من عندهم  ، ومعه رسول من قبل عمر ابن سعد يقول : إنّا قد أجَّلناكم إلى غد  ، فإن استسلمتم سرَّحنا بكم إلى عبيدالله بن زياد  ، وإن أبيتم فلسنا بتاركيكم  ، فانصرف.
    ولله درّ الشاعر إذ يقول :
فَاسْتَمْهَلَ السِّبْطُ الطُّغَاةَ لعلَّه فَأَقَامَ ليلتَهُ يُنَاجي رَبَّه يدعو إلى اللهِ العليِّ وَيَضْرَعُ طوراً وَيَسْجُدُ في الظلامِ وَيَرْكَعُ
    وجمع الحسين ( عليه السلام ) أصحابه عند قرب المساء  ، قال علي بن الحسين زين العابدين ( عليهما السلام ) : فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم وأنا إذ ذاك مريض  ، فسمعت أبي يقول لأصحابه : أثني على الله أحسن الثناء  ، وأحمده على السرّاء والضرّاء  ، اللهمَّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة  ، وعلَّمتنا القرآن  ، وفقَّهتنا في الدين  ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة  ، فاجعلنا من الشاكرين.
    أمّا بعد  ، فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي  ، ولا أهل بيت أبرَّ وأوصل من أهل بيتي  ، فجزاكم الله عنّي خيراً  ، ألا وإنّي لأظنُّ يوماً لنا من هؤلاء  ، ألا وإنّي قد أذنت لكم  ، فانطلقوا جميعاً في حلٍّ  ، ليس عليكم حرج منّي ولا ذمام  ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملا.
    فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبدالله بن جعفر : لِمَ نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ؟ لا أرانا الله ذلك أبداً  ، بدأهم بهذا القول العباس بن علي واتّبعته الجماعة عليه فتكَّلموا بمثله ونحوه.
    فقال الحسين ( عليه السلام ) : يا بني عقيل! حسبكم من القتل بمسلم بن عقيل  ، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم  ، فقالوا : سبحان الله! ما نقول للناس ؟ نقول : إنّا تركنا شيخنا وسيِّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام  ، ولم نرمِ معهم بسهم  ، ولم نطعن معهم برمح  ، ولم نضرب معهم بسيف  ، ولا ندري ما صنعوا  ، لا والله ما نفعل ذلك  ، ولكن نفديك


(334)
بأنفسنا وأموالنا وأهلنا  ، ونقاتل معك حتى نرد موردك  ، فقبَّح الله العيش بعدك.
    وقام إليه مسلم بن عوسجة  ، فقال : أنحن نخلِّي عنك  ، وبم نعتذر إلى الله في أداء حقِّك ؟ لا والله حتى أطعن في صدورهم برمحي  ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي  ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة  ، والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيك  ، أما والله! لو علمت أني أُقتل ثم أُحيى ثم أُحرق ثم أُحيى ثم أذرّى  ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة  ، ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك  ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة  ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً.
    وقام زهير بن القين فقال : والله! لوددت أنّي قُتلت ثمَّ نُشرت ثم قُتلت حتى أُقتل هكذا ألف مرّة  ، وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك  ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.
    وتكلَّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد  ، فجزَّاهم الحسين ( عليه السلام ) خيراً  ، وانصرف إلى مضربه.
    وقال السيد عليه الرحمة : وقيل لمحمد بن بشر الحضرمي في تلك الحال : قد أُسر ابنك بثغر الريّ  ، فقال : عند الله أحتسبه ونفسي  ، ما أحبُّ أن يؤسر وأنا أبقى بعده  ، فسمع الحسين ( عليه السلام ) قوله فقال : رحمك الله  ، أنت في حلٍّ من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك  ، فقال : أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك  ، قال : فأعط ابنك هذه الأثواب والبرود يستعين بها في فداء أخيه  ، فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار.
    قال : وبات الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه تلك الليلة  ، ولهم دويٌّ كدويِّ النحل  ، ما بين راكع وساجد  ، وقائم وقاعد  ، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلا (1) ولله درّ السيد محسن الأمين عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/391 ـ 394.

(335)
بات الحسينُ وصَحْبُهُ من حَوْلِهِ مِنْ رُكَّع وَسْطَ الظلامِ وسُجَّد وَتَرَاءَتِ الْحُورُ الحِسَانُ وَزُيِّنَتْ وَبَدَا الصَّبَاحُ وَلَمْ تَنَمْ عينٌ لهم ولهم دويُّ النَّحْلِ لَمَّا بَاتُوا للهِ منهم تَكْثُرُ الدَّعَوَاتُ لِقُدُومِهِمْ بنعيمِها الجَنَّاتُ كلاّ وَلاَ نَابَتْهُمُ غَفَوَاتُ (1)
    ويقول الشيخ عبد المنعم الفرطوسي عليه الرحمة :
هذه ليلةُ الوداعِ وهذا عَمَّرُوها مِنَ التُّقَى فأماتوا يومَ بَاتُوا على هُدَى صلوات كدويِّ النَّحْلِ ابتهالا وَنَجْوَىً وَهُمُ بينَ راكع بِخُضُوع يَتَهَادَوْنَ والهدايا تَحَايَا هذه الجَنَّةُ التي قد أُعِدَّتْ وبنو هَاشِم نِطَاقُ عُيُون وأبو الْفَضْلِ فَارِسُ الجمعِ ترنو آخِرُ الْعَهْدِ مِنْهُمُ باللِّقَاءِ شَهَوَاتِ النفوسِ بالإِحْيَاءِ بَيْنَ خوف من رَبِّهم وَرَجَاءِ لَهُمُ في غَيَاهِبِ الظَّلْمَاءِ وَخُشُوع وَضَارع في دُعَاءِ بُشْرَيَاتٌ بِغِبْطَة وَهَنَاءِ تَتَرَاءى لأَعْيُنِ الشهداءِ مُسْتَدِيرٌ عَلَى خِيَامِ النِّسَاءِ مُقْلَتَاهُ لِمُقْلَةِ الحوراءِ (2)

    قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : قال علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : إنّي جالس في
1 ـ الدر النضيد  ، السيد محسن الأمين : 71.
2 ـ ملحمة أهل البيت ( عليهم السلام )  ، الفرطوسي : 3/93.


(336)
تلك الليلة التي قُتل أبي في صبيحتها وعندي عمّتي زينب تمرِّضني  ، إذ اعتزل أبي في خباء له  ، وعنده جون مولى أبي ذر الغفاري  ، وهو يعالج سيفه ويصلحه  ، وأبي يقول :
يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خليلِ من صَاحِب وَطَالِب قتيلِ وَإنّما الأَمْرُ إلى الجليلِ كَمْ لَكَ بالإِشْرَاقِ والأصيلِ والدَّهْرُ لاَ يَقْنَعُ بالبديلِ وَكُلُّ حيٍّ سَالِكٌ سبيلي
    فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتى فهمتها  ، وعلمت ما أراد فخنقتني العبرة  ، فرددتها ولزمت السكوت  ، وعلمت أنّ البلاء قد نزل  ، وأمَّا عمّتي فلمّا سمعت ما سمعت ـ وهي امرأة ومن شأن النساء الرقّة والجزع ـ فلم تملك نفسها أن وثبت تجرُّ ثوبها وهي حاسرة حتى انتهت إليه  ، وقالت : واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة  ، اليوم ماتت أمّي فاطمة  ، وأبي عليٌّ  ، وأخي الحسن  ، يا خليفة الماضين  ، وثمال الباقين  ، فنظر إليها الحسين ( عليه السلام ) وقال لها : يا أخيَّة! لا يذهبنَّ حلمك الشيطان! وترقرقت عيناه بالدموع  ، وقال : لو ترك القطا ليلا لنام فقالت : يا ويلتاه! أفتغتصب نفسك اغتصاباً ؟ فذلك أقرح لقلبي  ، وأشدُّ على نفسي  ، ثمَّ لطمت وجهها  ، وهوت إلى جيبها وشقَّته  ، وخرَّت مغشيَّة عليها.
قالت أَتُقْتَلُ نَصْبَ عيني جَهْرَةً فأجابها قَلَّ الفِدَا كَثُرَ العِدَى ما الرأيُ فيَّ وَمَا لَديَّ خفيرُ قَصُرَ الْمَدَى وسبيلُنا محصورُ
    فقام إليها الحسين ( عليه السلام ) فصبَّ على وجهها الماء  ، وقال لها : يا أختاه! إتّقي الله  ، وتعزّي بعزاء الله  ، واعلمي أن أهل الأرض يموتون  ، وأهل السماء لايبقون  ، وأنّ كل شيء هالك إلاَّ وجه الله تعالى  ، الذي خلق الخلق بقدرته  ، ويبعث الخلق ويعودون إليه  ، وهو فرد وحده  ، وأبي خير منّي  ، وأمِّي خير منّي  ، وأخي خير منّي  ، ولي ولكلِّ مسلم برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أسوة  ، فعزَّاها بهذا ونحوه  ، وقال لها : يا أختاه! إنّي


(337)
أقسمت عليك فأبرّي قسَمي  ، لا تشقّي عليَّ جيباً  ، ولا تخمشي عليَّ وجهاً  ، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت  ، ثمَّ جاء بها حتى أجلسها عندي.
    ثمَّ خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرب بعضهم بيوتهم من بعض  ، وأن يدخلو الأطناب بعضها في بعض  ، وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلون القوم في وجه واحد والبيوت من ورائهم  ، وعن أيمانهم  ، وعن شمائلهم  ، قد حفَّت بهم  ، إلاَّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوُّهم.
    ورجع ( عليه السلام ) إلى مكانه  ، فقام ليلته كلَّها  ، يصلّي ويستغفر ويدعو ويتضرَّع  ، وقام أصحابه كذلك  ، يصلّون ويدعون ويستغفرون (1).
    ورحم الله بعض الشعراء إذ يقول فيهم ( عليهم السلام ) :
سِمَةُ العبيدِ من الخُشُوعِ عَلَيْهِمُ فإذا تَرَجَّلَتِ الضُّحَى شَهِدَتْ لَهُمْ للهِ إنْ ضَمَّتْهُمُ الأسحارُ بِيْضُ الْقَوَاضِبِ أنَّهُمْ أَحْرَارُ (2)
    ولله درّ الشاعر عبود الأحمد النجفي رحمه الله تعالى إذ يقول :
في غَد يُشْرِقُ الصَّبَاحُ مُدَمَّىً واشتعالُ الرِّمالِ يُلْهِبُ أُفْقاً وَالمَدَى الرَّحْبُ خَلْفَه يَتَوَارَى وَجُفُونُ السَّمَاءِ تَقْطُرُ دمعاً عَلَّها تُطْفِىءُ اللَّظَى بَزُلاَل أُغْلِقَتْ دونَها الينابيعُ عَذْباً أُيْبِسَ الطفُّ والقلوبُ جِفافٌ في غد تَمْلاَءُ الشِّعَابَ صَبَايَا وعلى التُّرْبِ أَنْجُمٌ مُطْفَآتُ أَجَّجَتْهُ ضَغَائِنٌ وَهَنَاتُ فيه غَابَتْ شُمُوسُهُ النيِّرَاتُ سَكَبَتْهُ عُيُونُها الباكياتُ وَعَلَى الأَرضِ أَكْبُدٌ ظَامِئَاتُ بَعْدَمَا شَحَّ بالرُّوَاءِ الْفُرَاتُ ونفوسٌ عن الرُّؤَى مُجْدِبَاتُ وَنِسَاءٌ فَوَاجِعٌ ثَاكِلاَتُ

1 ـ كتاب الإرشاد  ، المفيد : 2/93 ـ 95.
2 ـ لواعج الأشجان  ، السيد محسن الأمين : 120.


(338)
أثقلتها مَصَائِبٌ ورزايا غاب عنها أَعِزَّةٌ وَحُمَاةُ (1)
    قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : قال الضحاك بن عبدالله : ومرَّت بنا خيل لابن سعد تحرسنا  ، وإن حسيناً ( عليه السلام ) ليقرأ : « وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لاَِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ » (2) فسمعها من تلك الخيل رجل يقال له : عبدالله بن سمير  ، وكان مضحاكاً  ، وكان شجاعاً بطلا فارساً شريفاً فاتكاً  ، فقال : نحن ـ وربِّ الكعبة ـ الطيِّبون  ، ميزنا منكم  ، فقال له برير بن الخضير : يا فاسق! أنت يجعلك الله من الطيِّبين ؟! قال له : من أنت ويلك ؟ قال : أنا برير بن الخضير  ، فتسابّا (3).
    وقال في المناقب : فلمّا كان وقت السحر خفق الحسين برأسه خفقة  ، ثم استيقظ فقال : أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة ؟ فقالوا : وما الذي رأيت يا ابن رسول الله ؟ فقال : رأيت كأن كلاباً قد شدَّت عليَّ لتنهشني  ، وفيها كلب أبقع رأيته أشدَّها عليَّ  ، وأظنُّ أنَّ الذي يتولَّى قتلي رجل أبرص من بين هؤلاء القوم  ، ثمَّ إنّي رأيت بعد ذلك جدّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعه جماعة من أصحابه  ، وهو يقول لي : يا بنيّ! أنت شهيد آل محمَّد  ، وقد استبشر بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى  ، فليكن إفطارك عندي الليلة  ، عجِّل ولا تؤخِّر  ، فهذا ملك قد نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء  ، فهذا ما رأيت  ، وقد أزف الأمر  ، واقترب الرحيل من هذه الدنيا  ، لا شك في ذلك (4).
    ولله درّ الشيخ عبد المنعم الفرطوسي عليه الرحمة إذ يقول في ذلك :
1 ـ ليلة عاشوراء في الحديث والأدب  ، للمؤلف : 299 ـ 300.
2 ـ سورة آل عمران  ، الآية : 178 ـ 179.
3 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/3.
4 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي 45/3  ، مقتل الحسين ( عليه السلام )   ، الخورزمي : 1/251.


(339)
وَرَأَى جَدَّهُ فأوحى إليهِ سيكونُ الإفطارُ منك بحقٍّ بِكَ أَهْلُ الجِنانِ زَادُوا ابتشاراً وَلَقَدْ جَاءَ من إِلهِ البرايا لِيَصُونَ الدِّمَاءَ مِنْكَ احتفاظاً قَدْ تَدَانَى مِيْعادُ يومِ اللِّقَاءِ في غَد عندَنا بِوَقْتِ المساءِ والصفيحُ الأعْلَى بأصفى هَنَاءِ مَلَكٌ مِنْ أَكَارِمِ الأُمَنَاءِ بَيْنَ جَنْبَيْ قَارُورَة خَضْرَاءِ (1)

    جاء في الدمعة الساكبة : لما نزل الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء كان أخص أصحابه به وأكثرهم ملازمة له هلال بن نافع  ، سيّما في مظانِّ الاغتيال; لأنه كان حازماً بصيراً بالسياسة  ، فخرج الحسين ( عليه السلام ) ذات ليلة إلى خارج الخيم حتى أبعد  ، فتقلَّد هلال سيفه  ، وأسرع في مشيه حتى لحقه  ، فرآه يختبر الثنايا والعقبات والأكمات المشرفة على المنزل. ثم التفت إلى خلفه فرآني  ، فقال ( عليه السلام ) : من الرجل ؟ هلال ؟ قلت : نعم جعلني الله فداك  ، أزعجني خروجك ليلا إلى جهة معسكر هذا الطاغي  ، فقال : يا هلال! خرجت أتفقَّد هذه التلاع مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل على مخيَّمنا يوم تحملون ويحملون.
    ثم رجع وهو قابض على يساري ويقول : هي هي والله وعدٌ لا خلف فيه  ، ثم قال : يا هلال! ألا تسلك ما بين هذين الجبلين من وقتك هذا  ، وانجو بنفسك  ، فوقع على قدميه وقال : إذاً ثكلت هلالا أمُّه  ، سيِّدي إن سيفي بألف  ، وفرسي مثله  ، فوالله الذي منَّ عليَّ بك  ، لا أفارقك حتى يكلاّ عن فري وجري.
1 ـ ملحمة أهل البيت ( عليهم السلام )  ، الفرطوسي : 3/295.

(340)
    ثم فارقني ودخل خيمة أخته  ، فوقفت إلى جنبها رجاء أن يسرع في خروجه منها  ، فاستقبلته ووضعت له متّكئاً  ، وجلس يحدِّثها سرّاً  ، فما لبثت أن اختنقت بعبرتها وقالت : وا أخاه! أشاهد مصرعك وأُبتلى برعاية هذه المذاعير من النساء  ، والقوم كما تعلم ما هم عليه من الحقد القديم  ، ذلك خطب جسيم  ، يعزُّ عليَّ مصرع هؤلاء الفتية الصفوة وأقمار بني هاشم  ، ثم قالت : أخي! هل استعلمت من أصحابك نيَّاتهم; فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة.
    فبكى ( عليه السلام ) وقال : أما والله لقد نهرتهم وبلوتهم  ، وليس فيهم إلاَّ الأشوس الأقعس  ، يستأنسون بالمنيَّة دوني استئناس الطفل بلبن أمه.
    فلمّا سمع هلال ذلك بكى رقّة  ، ورجع وجعل طريقه على منزل حبيب بن مظاهر  ، فرآه جالساً وبيده سيف مصلت  ، فسلَّم عليه وجلس على باب الخيمة  ، ثم قال له : ما أخرجك يا هلال ؟ فحكيت له ما كان  ، فقال : إي والله  ، لولا انتظار أمره لعاجلتهم وعالجتهم هذه الليلة بسيفي.
    ثمَّ قال هلال : يا حبيب! فارقت الحسين ( عليه السلام ) عند أخته وهي في حال وجل ورعب  ، وأظنُّ أن النساء أفقن وشاركنها في الحسرة والزفرة  ، فهل لك أن تجمع أصحابك وتواجهن بكلام يسكِّن قلوبهن ويذهب رعبهن  ، فلقد شاهدت منها ما لا قرار لي مع بقائه  ، فقال له : طوع إرادتك.
    فبرز حبيب ناحية وهلال إلى جانبه  ، وانتدب أصحابه فتطالعوا من منازلهم  ، فلمّا اجتمعوا قال لبني هاشم : ارجعوا إلى منازلكم  ، لاسهرت عيونكم  ، ثمَّ خطب أصحابه وقال : يا أصحاب الحميَّة وليوث الكريهة! هذا هلال يخبرني الساعة بكيت وكيت  ، وقد خلَّف أخت سيِّدكم وبقايا عياله يتشاكين ويتباكين  ، أخبروني عمَّا أنتم عليه  ، فجرَّدوا صوارمهم  ، ورموا عمائمهم  ،   ، وقالوا : يا حبيب! أما والله الذي منَّ علينا بهذا الموقف  ، لئن زحف القوم لنحصدنَّ رؤوسهم  ، ولنلحقنَّهم


(341)
بأشياخهم أذلاّء صاغرين  ، ولنحفظنَّ وصيَّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أبنائه وبناته.
    فقال : هلمّوا معي  ، فقام يخبط الأرض وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب الخيم ونادى : يا أهلنا! ويا سادتنا! ويا معاشر حرائر رسول الله! هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلاَّ في رقاب من يبتغي السوء فيكم  ، وهذه أسنّة غلمانكم أقسموا أن لا يركزوها إلاَّ في صدور من يفرِّق ناديكم.
    فقال الحسين ( عليه السلام ) : اخرجن عليهم يا آل الله  ، فخرجن وهن ينتدبن وهن يقلن : حاموا ـ أيُّها الطيِّبون! ـ عن الفاطميّات  ، ما عذركم إذا لقينا جدَّنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وشكونا إليه ما نزل بنا وقال : أليس حبيب وأصحاب حبيب كانوا حاضرين يسمعون وينظرون ؟ فوالله الذي لا إله إلاّ هو  ، لقد ضجُّوا ضجَّة ماجت منها الأرض  ، واجتمعت لها خيولهم  ، وكان لها جولة واختلاف وصهيل حتّى كأنّ كلاًّ ينادي صاحبه وفارسه (1).
    وفي بعض الكتب عن فخر المخدّرات زينب ( عليها السلام )   ، قالت : لمّا كانت ليلة عاشوراء من المحرَّم خرجت من خيمتي لأتفقَّد أخي الحسين ( عليه السلام ) وأنصاره  ، وقد أفرد له خيمة  ، فوجدته جالساً وحده يناجي ربَّه ويتلو القرآن  ، فقلت في نفسي : أفي مثل هذه الليلة يُترك أخي وحده  ، والله لأمضينَّ إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك  ، فأتيت إلى خيمة العباس فسمعت منها همهمة ودمدمة  ، فوقفت على ظهرها فنظرت فيها  ، فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة وبينهم العباس بن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته  ، فخطب فيهم خطبة ما سمعتها إلاَّ من الحسين ( عليه السلام )   ، مشتملة بالحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبيِّ ( صلى الله عليه وآله )   ، ثم قال في آخر خطبته : يا إخوتي وبني إخوتي وبني عمومتي! إذا كان الصباح فما تقولون ؟ فقالوا : الأمر إليك يرجع  ، ونحن لا
1 ـ الدمعة الساكبة : 4/372  ، كلمات الإمام الحسين ( عليه السلام )   ، الشريفي : 406 ـ 408 ح 193.

(342)
نتعدَّى لك قولك. فقال العباس : إن هؤلاء ـ أعني الأصحاب ـ قومٌ غرباء  ، والحمل الثقيل لا يقوم إلاَّ بأهله  ، فإذا كان الصباح فأوَّل من يبرز إلى القتال أنتم  ، نحن نقدمهم للموت لئلا يقول الناس : قدَّموا أصحابهم  ، فلمَّا قُتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة.
    فقامت بنو هاشم  ، وسلّوا سيوفهم في وجه أخي العباس  ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه.
    قالت زينب ( عليها السلام ) : فلمَّا رأيت كثرة اجتماعهم  ، وشدّة عزمهم  ، وإظهار شيمتهم  ، سكن قلبي وفرحت  ، ولكن خنقتني العبرة  ، فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين ( عليه السلام ) وأخبره بذلك  ، فسمعت من خيمة حبيب بن ظاهر همهمة ودمدمة  ، فمضيت إليها ووقفت بظهرها  ، ونظرت فيها فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم مجتمعين كالحلقة وبينهم حبيب بن مظاهر وهو يقول : يا أصحابي! لِمَ جئتم إلى هذا المكان ؟ أوضحوا كلامكم رحمكم الله  ، فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة  ، فقال لهم : لِمَ طلَّقتم حلائلكم ؟ فقالوا : لذلك.
    قال حبيب : فإذا كان في الصباح فما أنتم قائلون ؟ فقالوا : الرأي رأيك ولا نتعدَّى قولا لك.
    قال : فإذا صار الصباح فأوَّل من يبرز إلى القتال أنتم  ، نحن نَقدِمهم إلى القتال ولا نرى هاشميّاً مضرَّجاً بدمه وفينا عرق يضرب لئلا يقول الناس : قدَّموا ساداتهم للقتال  ، وبخلوا عليهم بأنفسهم  ، فهزُّوا سيوفهم في وجهه  ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه.
    قالت زينب ( عليها السلام ) : ففرحت من ثباتهم  ، ولكن خنقتني العبرة  ، فانصرفت عنهم وأنا باكية  ، وإذا بأخي الحسين قد عارضني فسكنت نفسي وتبسَّمت في وجهه  ، فقال ( عليه السلام ) : أُخيَّة! فقلت : لبيك يا أخي! فقال ( عليه السلام ) : يا أختاه! منذ رحلنا من


(343)
المدينة ما رأيتك متبسِّمة  ، أخبريني ما سبب تبسُّمك  ، فقلت له : يا أخي! رأيت من فعل بني هاشم والأصحاب كذا وكذا  ، فقال لي : يا أختاه! اعلمي أن هؤلاء أصحابي من عالم الذرّ  ، وبهم وعدني جدّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، هل تحبّين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم ؟ فقلت : نعم  ، فقال ( عليه السلام ) : عليك بظهر الخيمة.
    قالت زينب ( عليها السلام ) : فوقفت على ظهر الخيمة فنادى أخي الحسين ( عليه السلام ) : أين إخواني وبنو أعمامي ؟ فقامت بنو هاشم  ، وتسابق منهم العباس وقال : لبيك لبيك  ، ما تقول ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : أريد أن أجدِّد بكم عهداً  ، فأتى أولاد الحسين  ، وأولاد الحسن  ، وأولاد علي  ، وأولاد جعفر  ، وأولاد عقيل  ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا.
    ثمَّ نادى : أين حبيب بن مظاهر ؟ أين زهير ؟ أين هلال ؟ أين الأصحاب ؟ فأقبلوا وتسابق منهم حبيب بن مظاهر وقال : لبيك يا أبا عبدالله  ، فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم  ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا  ، فخطب فيهم خطبة بليغة  ، ثمَّ قال : يا أصحابي! اعلموا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصدٌ سوى قتلي وقتل من هو معي  ، وأنا أخاف عليكم من القتل  ، فأنتم في حلٍّ من بيعتي  ، ومَنْ أحبَّ منكم الانصراف فلينصرف في سواد هذا الليل.
    فعند ذلك قامت بنو هاشم وتكلَّموا بما تكلَّموا  ، وقام الأصحاب وأخذوا يتكلَّمون بمثل كلامهم  ، فلمَّا رأى الحسين ( عليه السلام ) حسن إقدامهم وثبات أقدامهم قال ( عليه السلام ) : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى منازلكم في الجنة.
    فكشف لهم الغطاء  ، ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها  ، والحور العين ينادين : العجل العجل  ، فإنّا مشتاقات إليكم  ، فقاموا بأجمعهم وسلُّوا سيوفهم وقالوا : يا أبا عبدالله! ائذن لنا أن نغير على القوم ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء  ، فقال ( عليه السلام ) : اجلسوا رحمكم الله وجزاكم الله خيراً  ، ثمَّ قال : ألا ومن كان في


(344)
رحله امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد.
    فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا سيِّدي ؟ فقال ( عليه السلام ) : إن نسائي تُسبى بعد قتلي  ، وأخاف على نسائكم من السبي  ، فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته فقامت زوجته إجلالا له  ، فاستقبلته وتبسَّمت في وجهه  ، فقال لها : دعيني والتبسُّم  ، فقالت : يا ابن مظاهر! إني سمعت غريب فاطمة ( عليها السلام ) خطب فيكم  ، وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة فما علمت ما يقول  ، قال : يا هذه! إن الحسين ( عليه السلام ) قال لنا : ألا ومن كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني عمِّها لأني غداً أُقتل ونسائي تُسبى  ، فقالت : وما أنت صانع ؟ قال : قومي حتى ألحقك ببني عمِّك بني أسد  ، فقامت ونطحت رأسها في عمود الخيمة وقالت : والله ما أنصفتني يا ابن مظاهر  ، أيسرُّك أن تُسبى بنات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنا آمنة من السبي ؟! أيسرُّك أن تُسلب زينب إزارها من رأسها وأنا أستتر بإزاري ؟! أيسرُّك أن تذهب من بنات الزهراء أقراطها وأنا أتزيَّن بقرطي ؟! أيسرُّك أن يبيضَّ وجهك عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويسودَّ وجهي عند فاطمة الزهراء ؟! والله أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء.
    فرجع علي بن مظاهر إلى الحسين ( عليه السلام ) وهو يبكي  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : ما يبكيك ؟ فقال : سيِّدي! أبت الأسديَّة إلاَّ مواساتكم  ، فبكى الحسين ( عليه السلام ) وقال : جزيتم عنّا خيراً (1).
    قال السيِّد ابن طاووس عليه الرحمة في كتاب اللهوف : فلمَّا كان الغداة أمر الحسين ( عليه السلام ) بفسطاطه فضُرب  ، وأمر بجفنة فيها مسك كثير فجعل فيها نورة  ، ثمَّ دخل ليطلي  ، فروي أن برير بن خضير الهمداني وعبدالرحمن بن عبد ربِّه الأنصاري وقفا على باب الفسطاط ليطليا بعده  ، فجعل برير يضاحك عبد الرحمن  ،
1 ـ معالي السبطين  ، الحائري : 1/340  ، كلمات الإمام الحسين ( عليه السلام )   ، الشريفي : 408 ـ 412 ح 194.

(345)
فقال له عبد الرحمن : يا برير! أتضحك ؟ ما هذه ساعة باطل  ، فقال برير : لقد علم قومي أنني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابّاً  ، وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه  ، فوالله! ما هو إلاَّ أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم ساعة ثم نعانق الحور العين (1) ولله درّ السيد مدين الموسوي جزاه الله خيراً إذ يقول :
لا تتركي حَجَراً على حَجَرِ صُبِّي على الدنيا وما حَمَلَتْ يا ليلةً وَقَفَ الزمانُ بها وَقَفَ الحسينُ بها وَمَنْ مَعَهُ ما هزَّهم عصفٌ ولا رعشت يتمايلون وليس مِنْ طَرَب إلاَّ مع البِيْضِ التي رَقَصَتْ يتلون سِرَّ الموتِ في سُوَر خفُّوا لداعي الموتِ يسبقُهُمْ وبناتُ آلِ اللهِ تَرْقُبُهُمْ يَا نَجْمُ دُونَكَ عن مَنَازِلِهِمْ لا تَسْتَمِعْ لنداءِ والهة للهِ قد نَذَرُوا بَقِيَّتَهُمْ نَامَتْ عُيُونُ الكونِ أجمعُها يا ليلةَ الأرزاءِ والكَدَرِ من نارِ غَيْظِكِ مَارِقَ الشَّرَرِ وَجِلا يُدَوِّنُ أروعَ الصُّوَرِ جبلاً وهم كَجَنَادِلِ الحَجَرِ أعطافُهُمْ في دَاهِمِ الخَطَرِ وَيُسامرون وليس في سَمَرِ بأَكُفِّهِمْ كَمَطَالِعِ الزُّهرِ لَمْ يَتْلُها أحدٌ مع السُّوَرِ عزمٌ تحدَّى جَامِدَ الصّخرِ بِعُيُونِها المرقاةِ بالسَّهَرِ لا تَقْتَرِبْ منها وَلاَ تَدُرِ مكلومة من بَطْشَةِ الْقَدَرِ وَتَسَابَقُوا يُوفُون بالنُّذُرِ وَعُيُونُهُمْ مشبوحةُ النَّظَرِ (2)

1 ـ اللهوف في قتلى الطفوف  ، ابن طاووس : 57 ـ 58.
2 ـ ليلة عاشوراء في الحديث والأدب  ، المؤلف : 327 ـ 328.
المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: فهرس