|
||||||||||||||||||||||||
(346)
روى الشيخ المفيد عليه الرحمة عن عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) أنه قال في مصرع سيد الشهداء ( عليه السلام ) وأهل بيته : يعزّ على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مصرعهم ، ولو كان في الدنيا يومئذ حيّاً لكان ( صلى الله عليه وآله ) هو المعزَّى بهم (1).
ورحم الله منصور النمري إذ يقول في حزن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على سبطه وريحانته الحسين ( عليه السلام ) :
1 ـ المزار ، محمد بن المشهدي : 473 ـ 434 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 45/63 ح 3. 2 ـ أسد الغابة ، ابن الأثير : 2/21 ـ 22. 3 ـ رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 268. (347)
روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن ابن عباس ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حديث له قال : وأمّا الحسين فإنّه منّي ، وهو ابني وولدي ، وخير الخلق بعد أخيه ، وهو إمام المسلمين ، ومولى المؤمنين ، وخليفة رب العالمين ، وغياث المستغيثين ، وكهف المستجيرين ، وحجّة الله على خلقه أجمعين ، وهو سيّد شباب أهل الجنّة ، وباب نجاة الأمة ، أمره أمري ، وطاعته طاعتي ، من تبعه فإنه منّي ، ومن عصاه فليس منّي ، وإنّي لما رأيته تذكَّرت ما يُصنع به بعدي ، كأني به وقد استجار بحرمي وقبري فلا يُجار ، فأضمّه في منامه إلى صدري ، وآمره بالرحلة عن دار هجرتي ، وأبشِّره بالشهادة ، فيرتحل عنها إلى أرض مقتله وموضع مصرعه ، أرض كرب وبلاء وقتل وفناء ، تنصره عصابة من المسلمين ، أولئك من سادة شهداء أمتي يوم القيامة ، كأني أنظر إليه وقد رُمي بسهم فخرَّ عن فرسه صريعاً ، ثمَّ يُذبح كما يُذبح الكبش مظلوماً ، ثم بكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبكى من حوله ، وارتفعت أصواتهم بالضجيج ، ثم قام ( صلى الله عليه وآله ) وهو يقول : اللهم إني أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي ، ثم دخل منزله (1).
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : بيني وبين قاتل الحسين خصومة يوم القيامة ، آخذ ساق العرش بيدي ، ويأخذ عليٌّ بحجزتي ، وتأخذ فاطمة بحجزة عليّ ومعها قميص ، فأقول : يا ربّ أنصفني في قتلة الحسين (2). وروي أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) قال ليزيد بن معاوية : ويلك يا يزيد ، إنك لو تدري ماذا صنعت ، وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي ، إذاً لهربت في الجبال ، وفرشت الرماد ، ودعوت بالويل والثبور ، أن يكون رأس أبي الحسين بن فاطمة وعلي ( عليهم السلام ) منصوباً على باب مدينتكم ، وهو 1 ـ الأمالي ، الشيخ الصدوق : 174 ـ 177 ح 2. 2 ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/238. (348)
وديعة رسول الله فيكم ، فأبشر بالخزي والندامة غداً إذا جمع الناس ليوم لا ريب فيه (1).
وروي أنه حينما أدخل الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) مع النساء والأطفال على يزيد ، وهم مغلَّلون مربوطون بالحبال ، قال ( عليه السلام ) : أما والله لو رآنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مغلولين لأحبَّ أن يخلّينا من الغلّ ، قال : صدقت فخلّوهم من الغلّ (2). ومن كلام السيّدة زينب ( عليها السلام ) في خطبتها في مجلس يزيد بن معاوية ، قالت مخاطبة يزيد لعنه الله : فو الله ما فريت إلاّ جلدك ، ولا حززت إلاّ لحمك ، ولتردن على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بما تحمَّلت من سفك دماء ذرّيّته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، ويلمُّ شعثهم ، ويأخذ بحقهم ، « وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمد ( صلى الله عليه وآله ) خصيماً ، وبجبريل ظهيراً (3). وروي عن يزيد بن أبي زياد ، قال : خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) من بيت عائشة فمرَّ على فاطمة ( عليها السلام ) فسمع حسيناً ( عليه السلام ) يبكي ، فقال : ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني ؟ (4). أقول : فإذا كان بكاء الحسين ( عليه السلام ) وهو صغير يؤذيه فكيف به لو يسمع أنينه يوم كربلاء ، ويراه وقد أثخنوه بالجراحات ؟ وهو عطشان فلا يُسقى ، وجريح فلا يُداوى ، قال ابن الجوزي : وأنين عباس وهو مأسور ببدر منع النبي ( صلى الله عليه وآله ) النوم فكيف بأنين الحسين ( عليه السلام ) ؟ ولمَّا أسلم وحشي قاتل حمزة قال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : غيِّب وجهك عنّي ، فإني لا أحبُّ أن أرى قاتل الأحبة ، قال : هذا والإسلام يجبّ ما قبله ، فكيف بقلبه ( صلى الله عليه وآله ) أن يرى من ذبح الحسين ( عليه السلام ) ، وأمر بقتله ، وحمل أهله على 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/136 ، كتاب الفتوح ، ابن أعثم : 5/132. 2 ـ المعجم الكبير ، الطبراني : 3/104 ح 2806 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 3/319 ـ 320. 3 ـ اللهوف ، ابن طاووس : 107. 4 ـ المعجم الكبير ، الطبراني : 3/116 ح 2847 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 3/284. (349)
أقتاب الجمال ؟ (1).
وقد روي عن عبدالله بن مسعود قال : ما رأينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) باكياً قط أشدّ من بكائه على حمزة بن عبد المطلب لما قتل (2) فكيف به إذن لو نظر إلى سبطه الحسين ( عليه السلام ) شلواً مبضّعاً ، وقد وزّعته الأسنّة ؟ لو رآه لكان ( صلى الله عليه وآله ) بلا شك أشدّ عليه من يوم حمزة بن عبد المطلب ( عليه السلام ) ، وكما قال الشاعر :
1 ـ الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 295. 2 ـ ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 181. 3 ـ الغدير ، الشيخ الأميني : 6/381 ـ 382. (350)
فعلى الأطائب من أهل بيت محمّد وعلي صلى الله عليهما وآلهما ، فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، ولمثلهم فلتذرف الدموع ، وليصرخ الصارخون ، ويضجَّ الضاجون ، ويعجَّ العاجون ، أين الحسن وأين الحسين ، أين أبناء الحسين ، صالح بعد صالح ، وصادق بعد صادق ، أين السبيل بعد السبيل ، أين الخيرة بعد الخيرة ، أين الشموس الطالعة ، أين الأقمار المنيرة ، أين الأنجم الزاهرة ، أين أعلام الدين وقواعد العلم (1).
قال السيد ابن طاووس عليه الرحمة في يوم عاشوراء : وإذا عزمت على ما لابدّ منه من الطعام والشراب ، بعد انقضاء وقت المصاب ، فقل ما معناه : اللهم إنك قلت : « وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » (2) فالحسين صلوات الله عليه وعلى أصحابه عندك الآن يأكلون ويشربون ، فنحن في هذا الطعام والشراب بهم مقتدون (3). وقال السيّد عليه الرحمة في الإقبال : فإذا كان أواخر نهار يوم عاشورا ، فقم قائماً وسلِّم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وعلى مولانا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعلى مولانا الحسن بن علي ، وعلى سيّدتنا فاطمة الزهراء وعترتهم الطاهرين ( عليهم السلام ) ، وعزِّهم على هذه المصائب بقلب محزون ، وعين باكية ، ولسان ذليل بالنوائب ، ثمَّ اعتذر إلى 1 ـ المزار ، محمد بن المشهدي : 578. 2 ـ سورة آل عمران ، الآية : 169. 3 ـ إقبال الأعمال ، ابن طاووس : 3/82. (351)
الله جلَّ جلاله وإليهم من التقصير فيما يجب لهم عليك ، وأن يعفو عمّا لم تعمله مما كنت تعلمه مع من يعزّ عليك ، فإنه من المستبعد أن تقوم في هذا المصاب الهائل بقدر خطبه النازل ، واجعل كلَّ ما يكون من الحركات والسكنات في الجزع عليه خدمة لله جلَّ جلاله ، ومتقرِّباً بذلك إليه ، واسأل من الله جلّ جلاله ومنهم ما يريدون أن يسئله منهم ، وما أنت محتاج إليه ، وإن لم تعرفه ولم تبلغ أملك إليه ، فإنهم أحق أن يعطوك على قدر إمكانهم ، ويعاملوك بما يقصر عنه سؤالك من إحسانهم.
ولعلَّ قائلا يقول : هلاّ كان الحزن الذي يعملونه من أول عشر المحرم قبل وقع القتل يعملونه بعد يوم عاشوراء لأجل تجدّد القتل. فأقول : إن أول العشر كان الحزن خوفاً مما جرت الحال عليه ، فلما قُتل صلوات الله عليه وآله دخل تحت قول الله تعالى : « وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ » (1) فلمّا صاروا فرحين بسعادة الشهادة وجب المشاركة لهم في السرور بعد القتل لنظفر معهم بالسعادة. فإن قيل : فعلام تجدّدون قراءة المقتل والحزن كل عام ؟ فأقول : لأن قراءته هو عرض قصة القتل على عدل الله جلّ جلاله ليأخذ بثاره كما وعد من العدل ، وأما تجدّد الحزن كل عشر والشهداء صاروا مسرورين فلأنه مواساة لهم في أيام العشر ، حيث كانوا فيها ممتحنين ، ففي كل سنة ينبغي لأهل الوفاء أن يكونوا وقت الحزن محزونين ، ووقت السرور مسرورين (2). روي عن عبدالله بن الفضل قال : قلت للصادق ( عليه السلام ) : يا ابن رسول الله ، كيف 1 ـ سورة آل عمران ، الآية : 169 ـ 170. 2 ـ إقبال الأعمال ، ابن طاووس : 3/90 ـ 91. (352)
سمَّت العامة يوم عاشوراء يوم بركة ؟ فبكى ( عليه السلام ) ثمَّ قال : لما قُتل الحسين ( عليه السلام ) تقرَّب الناس بالشام إلى يزيد ، فوضعوا له الأخبار وأخذوا عليها الجوائز من الأموال ، فكان مما وضعوا له أمر هذا اليوم وأنه يوم بركة ، ليعدل الناس فيه من الجزع والبكاء والمصيبة والحزن إلى الفرح والسرور والتبرّك والاستعداد فيه ، حكم الله بيننا وبينهم.
وروي عن علي بن الحسن بن فضال ، عن أبيه ، عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال : من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة ، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره ، وقرَّت بنا في الجنان عينُه ، ومن سمَّى يوم عاشوراء ، يوم بركة وادّخر فيه لمنزله شيئاً لم يبارك له فيما ادّخر ، وحشر يوم القيامة مع يزيد وعبيدالله بن زياد وعمر بن سعد ـ لعنهم الله ـ إلى أسفل درك من النار (1). وروى جابر الجعفي عليه الرحمة قال : دخلت على جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) في يوم عاشوراء فقال لي : هؤلاء زوَّار الله ، وحقٌّ على المزور أن يكرم الزائر ، من بات عند قبر الحسين ( عليه السلام ) ليلة عاشوراء لقي الله يوم القيامة ملطَّخاً بدمه كأنما قتل معه في عرصته ، وقال : من زار قبر الحسين ( عليه السلام ) ليوم عاشوراء وبات عنده كان كمن اُستشهد بين يديه (2). وروي عن حريز ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : من زار الحسين ( عليه السلام ) يوم عاشوراء وجبت له الجنة. وعن زيد الشحام ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : من زار قبر الحسين بن علي ( عليهما السلام ) يوم عاشورا عارفاً بحقّه كان كمن زار الله في عرشه. وعن محمد بن جمهور العمي ، عمن ذكره ، عنهم ( عليهم السلام ) قال : من زار قبر الحسين ( عليه السلام ) 1 ـ علل الشرائع ، الصدوق : 1/226 ـ 227 ح 1 ـ 2. 2 ـ كامل الزيارات ، ابن قولويه : 323 ح 1 ـ 2. (353)
يوم عاشوراء كان كمن تشحَّط بدمه بين يديه. وروى محمد بن أبي سيار المدايني بإسناده قال : من سقى يوم عاشوراء عند قبر الحسين ( عليهم السلام ) كان كمن سقى عسكر الحسين ( عليه السلام ) وشهد معه.
وروي عن زيد الشحام ، عن جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) قال : من زار الحسين ( عليه السلام ) ليلة النصف من شعبان غفر الله له ما تقدَّم من ذنوبه وما تأخَّر ، ومن زاره يوم عرفة كتب الله له ثواب ألف حجّة متقبَّلة ، وألف عمرة مبرورة ، ومن زاره يوم عاشوراء فكأنّما زار الله فوق عرشه (1). وروى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن المفضل بن عمر ، عن الصادق جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جده ( عليهم السلام ) : أن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) دخل يوما إلى الحسن ( عليه السلام ) ، فلما نظر إليه بكى ، فقال له : ما يبكيك يا أبا عبدالله ؟ قال : أبكى لما يصنع بك ، فقال له الحسن ( عليه السلام ) : إن الذي يؤتى إليَّ سم يُدس إليَّ فأُقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبدالله ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل ، يدَّعون أنهم من أمة جدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وينتحلون دين الإسلام ، فيجتمعون على قتلك ، وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك ، فعندها تحل ببني أمية اللعنة ، وتمطر السماء رماداً ودماً ، ويبكي عليك كلُ شيء حتّى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار (2). وروي عن زين العابدين علي بن الحسين ( عليهما السلام ) قال : ولا يوم كيوم الحسين ( عليه السلام ) ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل ، يزعمون أنهم من هذه الأمة كل يتقرب إلى الله عزّوجل بدمه ، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون ، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً.. (3). 1 ـ كامل الزيارات ، ابن قولويه : 324 ـ 325. 2 ـ الأمالي ، الشيخ الصدوق : 177 ـ 178 ح3 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/238. 3 ـ الأمالي ، الشيخ الصدوق : 547 ح10. (354)
وروى عبدالله بن سنان قال : دخلت على سيدي أبي عبدالله جعفر بن محمّد ( عليهما السلام ) في يوم عاشوراء فألفيته كاسف اللون ظاهر الحزن ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط. فقلت : يا ابن رسول الله !
مِمَ بُكاؤك ؟ لا أبكى الله عينيك ، فقال لي : أو في غفلة أنت ؟ أما علمت أن الحسين بن علي أُصيب في مثل هذا اليوم ؟ (1). وروي أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال لعبد الله بن حماد البصري في مصيبة الحسين ( عليه السلام ) : فإنه غريب بأرض غربة ، يبكيه من زاره ، ويحزن له من لم يزره ، ويحترق له من لم يشهده ، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله ، في أرض فلاة لا حميم قربه ولا قريب ، ثم منع الحق وتوازر عليه أهل الردة ، حتى قتلوه وضيعوه وعرَّضوه للسباع ، ومنعوه شرب ماء الفُرات الذي يشربه الكلاب ، وضيعوا حق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصيته به وبأهل بيته ، فأمسى مجفواً في حفرته ، صريعاً بين قرابته ، وشيعته بين أطباق التراب ، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جده ، والمنزل الذي لا يأتيه إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان وعرفه حقنا ، إلى أن قال ( عليه السلام ) : ولقد حدثني أبي إنه لم يخل مكانه منذ قُتل من مصلي يصلي عليه من الملائكة ، أو من الجن أو من الإنس أو من الوحش ، وما من شيء إلاّ وهو يغبط زائره ويتمسح به ، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره. ثم قال : بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ، ونساء يندبنه ، وذلك في النصف من شعبان ، فمن بين قارئ يقرأ ، وقاص يقص ، ونادب يندب ، وقائل يقول المراثي ، فقلت له : نعم جعلت فداك قد شهدت بعض ما تصف ، فقال : الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد الينا ويمدحُنا ويرثي لنا ، وجعل عدونا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهدرونهم ويقبّحون ما 1 ـ مصباح المتهجد ، الطوسي : 782. (355)
يصنعون (1).
وعن الريان بن شبيب قال : دخلت على الرضا ( عليه السلام ) في أول يوم من المحرم وساق الحديث عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) إلى أن قال : يا ابن شبيب إن المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرمون فيه الظلم والقتال لحرمته ، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها ولا حرمة نبيها ، لقد قتلوا في هذا الشهر ذريته ، وسبوا نساءه ، وانتهبوا ثقله ، فلا غفر الله لهم ذلك أبداً ، يا ابن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ) فإنه ذبح كما يُذبح الكبش ، وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا ، مالهم في الأرض شبيهون ، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله ، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره ، فوجدوه قد قُتل ، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم ، فيكونون من أنصاره ، وشعارهم يا لثارات الحسين. يا ابن شبيب لقد حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده أنه لما قُتل جدي الحسين أمطرت السماء دماً وتراباً أحمر إلى أن قال ( عليه السلام ) : يا ابن شبيب إن سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فالعن قتلة الحسين. يا ابن شبيب إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين فقل متى ما ذكرته : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيماً ، يا ابن شبيب إن سرك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان ، فاحزن لحزننا ، وافرح لفرحنا ، وعليك بولايتنا ، فلو أن رجلا تولى حجرا لحشره الله معه يوم القيامة (2). وفي زيارة الناحية يقول الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف : فلئن أخرتني الدهور ، وعاقني عن نصرك المقدور ، ولم أكن لمن حاربك محاربا ، ولمن 1 ـ كامل الزيارات ، ابن قولويه : 537 ـ 539 ح1. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/285 ح23 عن عيون أخبار الإمام الرضا ( عليه السلام ). (356)
نصب لك العداوة مناصبا ، فلأندبنك صباحا ومساء ، ولأبكين عليك بدل الدموع دماً ، حسرة عليك ، وتأسفا على ما دهاك ، وتلهفا حتى أموت بلوعة المصاب وغصة الاكتئاب.. (1).
وروى الشيخ الصدوق عليه الرحمة ، عن إبراهيم بن أبي محمود قال : قال الرضا ( عليه السلام ) : إن المحرَّم شهر كان أهل الجاهليّة يُحرِّمون فيه القتال ، فاستُحلّت فيه دماؤنا ، وهُتكت فيه حرمتنا ، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأُضرمت النيران في مضاربنا ، واُنتهب ما فيها من ثقلنا ، ولم ترع لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حرمة في أمرنا ، إن يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلَّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام. ثمَّ قال ( عليه السلام ) : كان أبي إذا دخل شهر المحرَّم لا يُرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ، ويقول : هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين صلَّى الله عليه (2). ومن كتاب النوادر لعلي بن أسباط عليه الرحمة ، عن بعض أصحاب الأئمة ( عليهم السلام ) رواه ، قال : إن أبا جعفر ( عليه السلام ) قال : كان أبي مبطوناً يوم قُتل أبوه ( عليه السلام ) ، وكان في الخيمة ، وكنت أرى موالينا كيف يختلفون معه ، يتبعونه بالماء ، يشدّ على الميمنة مرَّة ، وعلى الميسرة مرَّة ، وعلى القلب مرّة ، ولقد قتلوه قتلة نهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يُقتل بها الكلاب ، ولقد قُتل بالسيف والسنان ، وبالحجارة ، وبالخشب ، وبالعصا ، ولقد أوطؤوه الخيل بعد ذلك (3). 1 ـ المزار ، المشهدي : 501. 2 ـ الأمالي ، الصدوق : 190 ـ 191 ح 2. 3 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/91 ح 30. (357)
وقال البيروني : لقد فعلوا بالحسين ( عليه السلام ) ما لم يُفعل في جميع الأمم بأشرار الخلق من القتل بالسيف والرمح والحجارة وإجراء الخيول (1).
ولله درّ الشيخ عبد الحسين شكر عليه الرحمة إذ يقول :
جاء في بعض زيارات الإمام الحسين ( عليه السلام ) الشريفة : أشهد أن دمك سكن في الخلد ، واقشعرّت له أظلّة العرش ، وبكى له جميع الخلائق ، وبكت له السماوات السبع ، والأرضون السبع ، وما فيهن وما بينهن ، ومن يتقلَّب في الجنّة والنار من خلق ربِّنا ، وما يُرى وما لا يُرى ، أشهد أنّك حجَّة الله وابن حجّته ، وأشهد أنك قتيل الله وابن قتيله ، وأشهد أنك ثائر الله وابن ثائره ، وأشهد أنك وتر الله الموتور في السماوات والأرض ، وأشهد أنك قد بلَّغت ونصحت ، ووفيت وأوفيت ، 1 ـ مقتل الحسين ، المقرم : 303. 2 ـ رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 316. (358)
وجاهدت في سبيل الله ، ومضيت للذي كنت عليه شهيداً ومستشهِداً ، وشاهداً ومشهوداً.. (1).
قال بعض الرواة : وأصبح الحسين ( عليه السلام ) فعبَّأ أصحابه بعد صلاة الغداة ، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلا ، وقال السيِّد ابن طاووس عليه الرحمة : روي عن الباقر ( عليه السلام ) أنهم كانوا خمسة وأربعين فرساً ومائة راجل ، وكذا قال ابن نما. قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه ، وأعطى رايته العباس أخاه ، وجعلوا البيوت في ظهورهم ، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت أن يُترك في خندق كان قد حفر هناك ، وأن يُحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم. وأصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم وهو يوم الجمعة ، وقيل يوم السبت ، فعبَّأ أصحابه ، وخرج فيمن معه من الناس نحو الحسين ( عليه السلام ) ، وكان على ميمنته عمرو بن الحجاج ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن ، وعلى الخيل عروة بن قيس ، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي ، وأعطى الراية دريداً مولاه ، وقال محمد بن أبي طالب : وكان نيفا على اثنين وعشرين ألفا ، وفي رواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ثلاثين ألفاً. وفي ذلك يقول السيد رضا الهندي عليه الرحمة :
1 ـ الكافي ، الكليني : 4/576. (359)
قال : فأقبل القوم يجولون حول بيت الحسين ( عليه السلام ) ، فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان اُلقي فيه ، فنادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته : يا حسين! أتعجَّلت بالنار قبل يوم القيامة ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : من هذا ؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن ؟ فقالوا : نعم ، فقال له : يا بن راعية المعزى! أنت أولى بها صليّا. ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين ( عليه السلام ) من ذلك ، فقال له : دعني حتى أرميه ، فإن الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبّارين ، وقد أمكن الله منه ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : لا ترمه; فإني أكره أن أبدأهم بقتال (1). وقال محمد بن أبي طالب : وركب أصحاب عمر بن سعد ، فقرِّب إلى الحسين ( عليه السلام ) فرسه فاستوى عليه ، وتقدَّم نحو القوم في نفر من أصحابه ، وبين يديه برير بن خضير ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : كلِّم القوم ، فتقدَّم برير فقال : يا قوم! اتقوا الله ، فإن ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم ، هؤلاء ذرّيّته وعترته وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم ، وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم ؟ فقالوا : نريد أن نمكِّن منهم 1 ـ الإرشاد ، المفيد : 2/96 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 45/4 ـ 5. (360)
الأمير ابن زياد فيرى رأيه فيهم ، فقال لهم برير : أفلا تَقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤوا منه ؟ ويلكم يا أهل الكوفة ، أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها ، يا ويلكم ، أدعوتم أهل بيت نبيِّكم ، وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم ، حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد ، وحلأتموهم عن ماء الفرات ؟! بئس ما خلفتم نبيَّكم في ذرّيّته ، ما لكم ؟ لا سقاكم الله يوم القيامة ، فبئس القوم أنتم.
فقال له نفر منهم : يا هذا! ما ندري ما تقول ، فقال برير : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة ، اللهم إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم ، اللهم ألق بأسهم بينهم ، حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان ، فجعل القوم يرمونه بالسهام فرجع برير إلى ورائه. وتقدَّم الحسين ( عليه السلام ) حتى وقف بإزاء القوم ، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنهم السيل ، ونظر إلى ابن سعد واقفاً في صناديد الكوفة ، فقال : الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرِّفة بأهلها حالا بعد حال ، فالمغرور من غرَّته ، والشقيُّ من فتنته ، فلا تغرَّنَّكم هذه الدنيا ، فإنها تقطع رجاء مَنْ ركن إليها ، وتُخيِّب طمع مَنْ طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلَّ بكم نقمته ، وجنَّبكم رحمته ، فنعم الربُّ ربُّنا ، وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة ، وآمنتم بالرسول محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، ثمَّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان ، فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتّباً لكم ولما تريدون ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين. فقال عمر : ويلكم ، كلِّموه فإنّه ابن أبيه ، والله لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولما حَصُر ، فكلِّموه ، فتقدَّم شمر لعنه الله فقال : يا حسين! ما هذا |
||||||||||||||||||||||||
|