|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||
(361)
الذي تقول ؟ أفهمنا حتى نفهم.
فقال : أقول : اتقوا الله ربَّكم ولا تقتلوني ، فإنه لا يحلُّ لكم قتلي ، ولا انتهاك حرمتي ، فإنّي ابن بنت نبيِّكم ، وجدّتي خديجة زوجة نبيِّكم ، ولعلّه قد بلغكم قول نبيِّكم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة.. وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : ودعا الحسين ( عليه السلام ) براحلته فركبها ، ونادى بأعلى صوته : يا أهل العراق ـ وجلُّهم يسمعون ـ فقال : أيُّها الناس! اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحقُّ لكم عليَّ ، وحتى أعذر عليكم ، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمَّة ، ثم اقضوا إليَّ ولا تنظرون ، إن وليّي الله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولَّى الصالحين. ثمَّ حمد الله وأثنى عليه ، وذكر الله بما هو أهله ، وصلَّى على النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلى ملائكته وعلى أنبيائه ، فلم يسمع متكلِّم قط قبله ولا بعده أبلغ منه في منطق. ثمَّ قال : أمَّا بعد ، فانسبوني فانظروا من أنا ، ثم راجعوا أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيِّكم ، وابن وصيِّه وابن عمِّه وأول مؤمن مصدِّق لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بما جاء به من عند ربِّه ؟ أو ليس حمزة سيِّد الشهداء عمّي ؟ أو ليس جعفر الطيار في الجنّة بجناحين عمّي ؟ أو لم يبلغكم ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لي ولأخي : هذان سيِّدا شباب أهل الجنّة ؟ فإن صدَّقتموني بما أقول وهو الحق ، والله ما تعمَّدت كذباً مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ، وإن كذَّبتموني فإنّ فيكم مَنْ إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم ، اسألوا جابر بن عبدالله الأنصاري ، وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سعد الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لي ولأخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟ (362)
فقال له شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول ، فقال له حبيب بن مظاهر : والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك.
ثمَّ قال لهم الحسين ( عليه السلام ) : فإن كنتم في شك من هذا أفتشكُّون أني ابن بنت نبيِّكم ؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم ، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ؟ أو مال لكم استهلكته ؟ أو بقصاص من جراحة ؟ فأخذوا لا يكلِّمونه ، فنادى : يا شبث بن ربعي! يا حجّار بن أبجر! يا قيس بن الأشعث! يا يزيد بن الحارث! ألم تكتبوا إليَّ أن قد أينعت الثمار ، واخضرَّ الجناب ، وإنّما تقدم على جند لك مجنَّد ؟ فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمِّك ، فإنّهم لن يروك إلاَّ ما تحب ، فقال لهم الحسين ( عليه السلام ) : لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد. ثمَّ نادى : يا عباد الله! إنّي عذت بربّي وربِّكم أن تُرجمون ، وأعوذ بربّي وربِّكم من كل متكبِّر لا يؤمن بيوم الحساب. ثم إنَّه أناخ راحلته ، وأمر عقبة بن سمعان بعقلها ، وأقبلوا يزحفون نحوه (1). وفي المناقب روى بإسناده عن عبدالله قال : لما عبَّأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، ورتَّبهم مراتبهم ، وأقام الرايات في مواضعها ، وعبَّأ أصحاب الميمنة والميسرة ، فقال لأصحاب القلب : اثبتوا ، وأحاطوا بالحسين من كل جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة ، فخرج ( عليه السلام ) حتى أتى الناس ، فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا ، حتى قال لهم : ويلكم ، ما عليكم أن تنصتوا إليَّ فتسمعوا قولي ؟ وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من المرشدين ، ومن عصاني كان 1 ـ الإرشاد ، المفيد : 2/97 ـ 99. (363)
من المهلكين ، وكلّكم عاص لأمري ، غير مستمع قولي ، فقد مُلئت بطونكم من الحرام ، وطُبع على قلوبكم ، ويلكم ، ألا تنصتون ؟ ألا تسمعون ؟ فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم وقالوا : أنصتوا له.
فقام الحسين ( عليه السلام ) ثمَّ قال : تبّاً لكم أيَّتُها الجماعة وترحاً ، أفحين استصرختمونا ولهين متحيِّرين فأصرختكم مؤدين مستعدين ، سللتم علينا سيفاً في رقابنا ، وحششتم علينا نار الفتن خباها عدوُّكم وعدوُّنا ، فأصبحتم إلباً على أوليائكم ، ويداً عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، إلاَّ الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه ، من غير حدث كان منّا ، ولا رأي تفيل لنا ، فهلاّ ـ لكم الويلات ـ إذ كرهتمونا وتركتمونا تجهَّزتموها والسيف لم يشهر ، والجاش طامن ، والرأي لم يستحصف ، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الذباب ، وتداعيتم كتداعي الفراش ، فقبحاً لكم ، فإنّما أنتم من طواغيت الأمّة ، وشذّاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرِّفي الكتاب ، ومطفيء السنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيري عترة الأوصياء ، وملحقي العهار بالنسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصراخ أئمّة المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين. وأنتم ابن حرب وأشياعه تعتمدون ، وإيّانا تخاذلون ، أجل والله ، الخذل فيكم معروف ، وشجت عليه عروقكم ، وتوارثته أصولكم وفروعكم ، وثبتت عليه قلوبكم ، وغشيت صدوركم ، فكنتم أخبث شيء سنخاً للناصب ، وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، فأنتم والله هُم. ألا إنّ الدعيَّ ابن الدعيِّ قد ركز بين اثنتين ، بين القتلة والذلّة ، وهيهات ما آخذ الدنيّة ، أبى الله ذلك ورسوله ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف (364)
حميّة ، ونفوس أبيّة لا تؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام ، ألا قد أعذرت وأنذرت ، ألا إنّي زاحف بهذه الأسرة ، على قلّة العتاد ، وخذلة الأصحاب.
ثم أنشأ يقول :
ثمَّ قال : أين عمر بن سعد ؟ ادعوا لي عمر! فدعي له ، وكان كارهاً لا يحبُّ أن يأتيه ، فقال : يا عمر! أنت تقتلني ؟ تزعم أن يولِّيك الدعيُّ ابن الدعيِّ بلاد الريِّ وجرجان ، والله لا تتهنَّأ بذلك أبداً ، عهداً ومعهوداً ، فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، ولكأنّي برأسك على قصبة قد نُصب بالكوفة ، يتراماه (365)
الصبيان ويتخذونه غرضاً بينهم.
فاغتاظ عمر من كلامه ، ثمَّ صرف بوجهه عنه ، ونادى بأصحابه : ما تنتظرون به ؟ احملوا بأجمعكم ، إنّما هي أكلة واحدة. ثم إن الحسين ( عليه السلام ) دعا بفرس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المرتجز فركبه ، وعبَّأ أصحابه (1).
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فلمَّا رأى الحرُّ بن يزيد أن القوم قد صمَّموا على قتال الحسين ( عليه السلام ) قال لعمر بن سعد : أي عمر! أمقاتل أنت هذا الرجل ؟ قال : إي والله ، قتالا شديداً أيسره أن تسقط الرؤوس ، وتطيح الأيدي ، قال : أفما لكم فيما عرضه علكيم رضى ؟ قال عمر : أما لو كان الأمر إليَّ لفعلت ، ولكنَّ أميرك قد أبى ، فأقبل الحرُّ حتى وقف من الناس موقفاً ، ومعه رجل من قومه يقال له قرّة بن قيس ، فقال له : يا قرّة! هل سقيت فرسك اليوم ؟ قال : لا ، قال : فما تريد أن تسقيه ؟ قال قرَّة : فظننت ـ والله ـ أنّه يريد أن يتنحَّى ولا يشهد القتال ، فكره أن أراه حين يصنع ذلك ، فقلت له : لم أسقه وأنا منطلق فأسقيه ، فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه ، فوالله لو أنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين. 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/8 ـ 10 (366)
فأخذ يدنو من الحسين قليلا قليلا ، فقال له مهاجر بن أوس : ما تريد يا ابن يزيد ؟ أتريد أن تحمل ؟ فلم يجبه ، فأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة ، فقال له المهاجر : إن أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا ، ولو قيل لي ، من أشجع أهل الكوفة ؟ لما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك ؟ فقال له الحر : إني والله اُخيِّر نفسي بين الجنّة والنار ، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعت وأُحرقت.
ثمَّ ضرب فرسه فلحق الحسين ( عليه السلام ) فقال له : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان ، وما ظننت أن القوم يردُّون عليك ما عرضته عليهم ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة ، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت ، وأنا تائب إلى الله مما صنعت ، فترى لي من ذلك توبة ؟ فقال له الحسين ( عليه السلام ) : نعم ، يتوب الله عليك فانزل ، فقال : أنا لك فارساً خير منّي راجلا ، أقاتلهم على فرسي ساعة ، وإلى النزول ما يصير آخر أمري ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) فاصنع ـ يرحمك الله ـ ما بدا لك. فاستقدم أمام الحسين ( عليه السلام ) فقال : يا أهل الكوفة لامِّكم الهبل والعبر ، أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه ؟ وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه ؟ أمسكتم بنفسه ، وأخذتم بكلكله ، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجُّه إلى بلاد الله العريضة ، فصار كالأسير في أيديكم ، لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا يدفع عنها ضرّاً ، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري ، تشربه اليهود والنصارى والمجوس ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم ، وهاهم قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمداً في ذرّيّته ، لاسقاكم الله يوم الظمأ. فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل ، فأقبل حتى وقف أمام الحسين ( عليه السلام ) (367)
ونادى عمر بن سعد : يا دريد! أدنِ رايتك ، فأدناها ، ثم وضع سهماً في كبد قوسه ثم رمى وقال : اشهدوا أني أول من رمى ، ثم رمى الناس (1).
وقال محمد بن أبي طالب : فرمى أصحابه كلُّهم ، فما بقي من أصحاب الحسين ( عليه السلام ) أحد إلاَّ أصابه من سهامهم. قيل : فلمَّا رموهم هذه الرمية قلَّ أصحاب الحسين ( عليه السلام ) وقُتل في هذه الحملة خمسون رجلا ، وقال السيد ابن طاووس عليه الرحمة : فقال ( عليه السلام ) لأصحابه : قوموا ـ رحمكم الله ـ إلى الموت الذي لابدَّ منه ، فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم ، فاقتتلوا ساعة من النهار حملة وحملة ، حتى قتل من أصحاب الحسين ( عليه السلام ) جماعة ، قال : فعندها ضرب الحسين ( عليه السلام ) يده على لحيته ، وجعل يقول : اشتدَّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً ، واشتدَّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتدَّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ، واشتدَّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيِّهم ، أما والله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله تعالى وأنا مخضَّب بدمي. وروي عن مولانا الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : سمعت أبي ( عليه السلام ) يقول : لمَّا التقى الحسين ( عليه السلام ) وعمر بن سعد لعنه الله وقامت الحرب ، أُنزل النصر حتى رفرف على رأس الحسين ( عليه السلام ) ، ثم خُيِّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله تعالى ، فاختار لقاء الله تعالى ، قال الراوي : ثمَّ صاح ( عليه السلام ) : أما من مغيث يغيثنا لوجه الله ، أما من ذابٍّ يذبُّ عن حُرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (2). قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وحمل عمرو بن الحجاج على ميمنة أصحاب الحسين ( عليه السلام ) فيمن كان معه من أهل الكوفة ، فلمَّا دنا من الحسين ( عليه السلام ) جثوا له على 1 ـ كتاب الإرشاد ، المفيد : 2/99 ـ 101 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 45/10. 2 ـ الملهوف ، ابن طاووس : 60 ـ 61. (368)
الركب ، وأشرعوا الرماح نحوهم ، فلم تقدم خيلهم على الرماح ، فذهبت الخيل لترجع ، فرشقهم أصحاب الحسين ( عليه السلام ) بالنبل ، فصرعوا منهم رجالا ، وجرحوا منهم آخرين.
وجاء رجل من بني تميم يقال له عبدالله بن حوزة ، فأقدم على عسكر الحسين ( عليه السلام ) ، فناداه القوم : إلى أين ثكلتك أمُّك ؟ فقال : إنّي أقدم على ربٍّ رحيم وشفيع مطاع ، فقال الحسين ( عليه السلام ) لأصحابه : من هذا ؟ فقيل له : هذا ابن حوزة التميمي ، فقال : اللهم حُزْه إلى النار ، فاضطرب به فرسه في جدول فوقع ، وتعلَّقت رجله اليسرى في الركاب ، وارتفعت اليمنى ، وشدَّ عليه مسلم بن عوسجة فضرب رجله اليمنى فأطارها وعدا به فرسه فضرب برأسه كل حجر وكل شجر حتى مات ، وعجَّل الله بروحه إلى النار ، ونشب القتال فقتل من الجميع جماعة (1). وقال محمد بن أبي طالب وصاحب المناقب وابن الأثير في الكامل ـ ورواياتهم متقاربة ـ إن الحرّ أتى الحسين ( عليه السلام ) فقال : يا ابن رسول الله! كنت أول خارج عليك فائذن لي لأكون أول قتيل بين يديك ، وأول من يصافح جدَّك غداً ، وإنّما قال الحر : لأكون أول قتيل بين يديك ، والمعنى : يكون أول قتيل من المبارزين ، وإلاَّ فإنَّ جماعة كانوا قد قتلوا في الحملة الأولى كما ذكر ، فكان أول من تقدَّم إلى براز القوم ، وجعل ينشد ويقول :
1 ـ كتاب الإرشاد ، المفيد : 2/102. (369)
الدنيا ، وأنت الحرُّ في الآخرة ، ورثاه رجل من أصحاب الحسين ( عليه السلام ) ، وقيل : بل رثاه علي بن الحسين ( عليهما السلام )
ثمَّ قالوا : وكان كل من أراد الخروج ودَّع الحسين ( عليه السلام ) وقال : السلام عليك يا ابن رسول الله! فيجيبه : وعليك السلام ، ونحن خلفك ، ويقرأ ( عليه السلام ) : « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ». ثم برز برير بن خضير الهمداني بعد الحُر ، وكان من عباد الله الصالحين ، فبرز وهو يقول :
كذاك فِعْلُ الخيرِ من بُرَيْرِ
وجعل يحمل على القوم وهو يقول : اقتربوا منّي يا قتلة المؤمنين! اقتربوا منّي يا قتلة أولاد البدريّين! اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول ربِّ العالمين وذرّيّته الباقين! وكان برير أقرأ أهل زمانه ، فلم يزل يقاتل حتى قتل ثلاثين رجلا.
1 ـ مثير الأحزان ، ابن نما الحلي : 44. (370)
قال : فحمل رجل من أصحاب ابن زياد فقتل بريراً رحمه الله ، وكان يقال لقاتله : بحير بن أوس الضّبي. قال : ثمَّ ذكر له بعد ذلك أن بريراً كان من عباد الله الصالحين ، وجاءه ابن عمٍّ له وقال : ويحك يا بحير! قتلت برير بن خضير ، فبأيِّ وجه تلقى ربَّك غداً ؟ قال : فندم الشقيُّ لعنه الله.
ثمَّ برز من بعده وهب بن عبدالله بن حباب الكلبي ، وقد كانت معه أمُّه يومئذ ، فقالت : قم يا بنيَّ فانصر ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال : أفعل يا أمّاه ولا أقصِّر ، فبرز وهو يقول :
قال : فذهبت امرأته تمسح الدم عن وجهه ، فبصر بها شمر ، فأمر غلاماً له فضربها بعمود كان معه فشدخها وقتلها ، وهي أول امرأة قتلت في عسكر الحسين ( عليه السلام ). (371)
ورأيت حديثاً أن وهب هذا كان نصرانياً فأسلم هو وأمُّه على يدي الحسين ( عليه السلام ) ، فقتل في المبارزة أربعة وعشرين راجلا واثني عشر فارساً ، ثم أُخذ أسيراً ، فأُتي به عمر بن سعد فقال : ما أشدَّ صولتك! ثمَّ أمر فضُربت عنُقه ، ورمي برأسه إلى عسكر الحسين ( عليه السلام ) ، فأخذت أمُّه الرأس فقبَّلته ، ثم رمت بالرأس إلى عسكر ابن سعد فأصابت به رجلا فقتلته ، ثم شدَّت بعمود الفسطاط ، فقتلت رجلين ، فقال لها الحسين ( عليه السلام ) : ارجعي يا أمَّ وهب ، أنت وابنك مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإن الجهاد مرفوع عن النساء ، فرجعت وهي تقول : إلهي لا تقطع رجائي ، فقال لها الحسين ( عليه السلام ) : لا يقطع الله رجاك يا أمَّ وهب.
ثمَّ برز من بعده عمرو بن خالد الأزدي وقاتل حتى قُتل ـ رحمه الله ـ قال الراوي : وصاح عمرو بن الحجاج بالناس : يا حمقى! أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان أهل المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين ، لا يبرز منكم إليهم أحد إلاَّ قتلوه على قلّتهم ، والله لو لم ترموهم إلاَّ بالحجارة لقتلتموهم ، فقال له عمر بن سعد ـ لعنه الله ـ : الرأي ما رأيت ، فأرسل في الناس من يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منهم ، وقال : لو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم مبارزة. ودنا عمرو بن الحجاج من أصحاب الحسين ( عليه السلام ) فقال : يا أهل الكوفة! الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : يا ابن الحجاج! أعليَّ تُحرِّض الناس ؟ أنحن مرقنا من الدين وأنتم ثبتّم عليه ؟ والله لتعلمنَّ أيّنا المارق من الدين ، ومن هو أولى بصلي النار. ثمَّ حمل عمرو بن الحجاج لعنه الله في ميمنته من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصُرع مسلم بن عوسجة ، وانصرف عمرو وأصحابه ، وانقطعت الغبرة فإذا مسلم صريع ، وقال محمد بن أبي طالب : فسقط إلى الأرض وبه رمق ، فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : رحمك الله يا مسلم فـ (372)
« مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا » ثمَّ دنا منه حبيب فقال : يعزُّ عليَّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنّة ، فقال له قولا ضعيفاً : بشَّرك الله بخير ، فقال له حبيب : لولا أعلم أنّي في الأثر لأحببت أن توصي إليَّ بكل ما أهمَّك ، فقال مسلم : فإني أوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين ( عليه السلام ) ـ فقاتل دونه حتى تموت ، فقال حبيب : لأنعمنَّك عيناً ، ثمَّ مات رضوان الله عليه.
قال : وصاحت جارية له : يا سيّداه! يا ابن عوسجتاه! فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة ، فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم أمّهاتكم ، أما إنّكم تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلّون عزَّكم ، أتفرحون بقتل مسلم بن عوسجة ، أما والذي أسلمت له ، لرُبَّ موقف له في المسلمين كريم ، لقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتام خيول المسلمين (1) ، ولله درّ الشاعر إذ يقول :
1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/10 ـ 20. 2 ـ نفثة المصدور ، الشيخ عباس القمي : 629. (373)
قال الراوي : ثمَّ حمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة ، فثبتوا له ، وقاتلهم أصحاب الحسين ( عليه السلام ) قتالا شديداً ، وإنما هم اثنان وثلاثون فارساً ، فلا يحملون على جانب من أهل الكوفة إلاَّ كشفوهم ، فدعا عمر بن سعد بالحصين بن نمير في خمسمائة من الرماة ، فأقبلوا حتى دنوا من الحسين ( عليهم السلام ) وأصحابه ، فرشقوهم بالنبل ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم ، وقاتلوهم حتى انتصف النهار ، واشتدَّ القتال ، ولم يقدروا أن يأتوهم إلاَّ من جانب واحد; لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض ، فأرسل عمر بن سعد الرجال ليقوِّضوها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم ، وأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخلَّلون فيشدُّون على الرجل يعرض وينهب ، فيرمونه عن قريب فيصرعونه فيقتلونه.
فقال ابن سعد : أحرقوها بالنار ، فأضرموا فيها ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : دعوهم يحرقوها ، فإنهم إذا فعلوا ذلك لم يجوزوا إليكم ، فكان كما قال ( عليه السلام ). وقيل : أتاه شبث بن ربعي وقال : أفزعنا النساء ثكلتك أمُّك ، فاستحيى وأخذوا لا يقاتلونهم إلاَّ من وجه واحد. وشدّ أصحاب زهير بن القين فقتلوا أبا عذرة الضبابي من أصحاب شمر. فلم يزل يُقتل من أصحاب الحسين ( عليه السلام ) الواحد والاثنان فيبين ذلك فيهم لقلَّتهم ، ويُقتل من أصحاب عمر العشرة فلا يبين فيهم ذلك لكثرتهم. فلمَّا رأى ذلك أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين ( عليه السلام ) : يا أبا عبدالله! نفسي لنفسك الفداء ، هؤلاء اقتربوا منك ، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك ، وأحبُّ أن (374)
ألقى الله ربّي وقد صلَّيت هذه الصلاة ، فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال : ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين ، نعم هذا أول وقتها ، ثمَّ قال : سلوهم أن يكفُّوا عنّا حتى نصلي ، فقال الحصين بن نمير : إنّها لا تقبل ، فقال حبيب بن مظاهر : لا تقبل الصلاة ـ زعمت ـ من ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتقبل منك ياختار ، فحمل عليه حصين بن نمير ، وحمل عليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف ، فشبَّ به الفرس ووقع عنه الحصين ، فاحتوشته أصحابه فاستنقذوه ، فقال الحسين ( عليه السلام ) لزهير بن القين وسعيد بن عبدالله : تقدَّما أمامي حتى أصلّي الظهر ، فتقدَّما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتى صلَّى بهم صلاة الخوف.
وروي أن سعيد بن عبدالله الحنفي تقدَّم أمام الحسين ( عليه السلام ) ، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل ، كلّما أخذ الحسين ( عليه السلام ) يميناً وشمالا قام بين يديه ، فما زال يُرمى به حتى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهم العنهم لعن عاد وثمود ، اللهم أبلغ نبيَّك السلام عنّي ، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت بذلك نصرة ذرّيّة نبيِّك ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثمَّ مات رضوان الله عليه ، فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح. وقال ابن نما : وقيل : صلَّى الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه فرادى بالإيماء ، ثم قالوا : ثمَّ خرج عبد الرحمان بن عبدالله اليزني وهو يقول :
وقال السيِّد : فخرج عمرو بن قرظة الأنصاري فاستأذن الحسين ( عليه السلام ) فأذن له : فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السماء ، حتى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد ، وجمع بين سداد وجهاد ، وكان لا يأتي إلى الحسين سهم (375)
إلاَّ اتّقاه بيده ، ولا سيف إلاَّ تلقَّاه بمهجته ، فلم يكن يصل إلى الحسين سوء حتى أُثخن بالجراح ، فالتفت إلى الحسين وقال : يا ابن رسول الله! أوفيت ؟ قال : نعم ، أنت أمامي في الجنّة ، فاقرأ رسول الله منّي السلام ، وأعلمه أنّي في الأثر ، فقاتل حتى قُتل رضوان الله عليه.
وفي المناقب أنه كان يقول :
ثمَّ قاتل حتى قُتل ، فوقف عليه الحسين ( عليه السلام ) وقال : اللهم بيِّض وجهه ، وطيِّب ريحه ، واحشره مع الأبرار ، وعرِّف بينه وبين محمد وآل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ). وروي عن الباقر ( عليه السلام ) ، عن علي بن الحسين ( عليهما السلام ) أن الناس كانوا يحضرون المعركة ، ويدفنون القتلى ، فوجدوا جوناً بعد عشرة أيام يفوح منه رائحة المسك رضوان الله عليه. قال الراوي : ثمَّ خرج الحجاج بن مسروق ـ وهو مؤذِّن الحسين ( عليه السلام ) ـ ويقول :
1 ـ اللهوف ابن طاووس : 64 ـ 65. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|