المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: 466 ـ 480
(466)
السجاد ( عليه السلام ) وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى  ، متحيِّرين لا يدرون ما يصنعون  ، ولم يهتدوا إلى معرفتهم  ، وقد فرَّق القوم بين رؤوسهم وأبدانهم  ، وربما يُسْألون من أهلهم وعشيرتهم ؟
    فأخبرهم ( عليه السلام ) عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة  ، وأوقفهم على أسمائهم  ، كما عرَّفهم بالهاشميين من الأصحاب  ، فارتفع البكاء والعويل  ، وسالت الدموع منهم كلَّ مسيل  ، ونشرت الأسديات الشعور  ، ولطمن الخدود.
    ثمَّ مشى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) إلى جسد أبيه  ، واعتنقه وبكى بكاءاً عالياً  ، وأتى إلى موضع القبر  ، ورفع قليلا من التراب  ، فبان قبر محفور وضريح مشقوق  ، فبسط كفّيه تحت ظهره  ، وقال : بسم الله وفي سبيل الله  ، وعلى ملّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، صدق الله ورسوله  ، ما شاء الله  ، لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العظيم  ، وأنزله وحده ولم يشاركه بنو أسد فيه  ، وقال لهم : إن معي من يعينني  ، ولمَّا أقرَّه في لحده وضع خدَّه على منحره الشريف قائلا : طوبى لأرض تضمَّنت جسدك الطاهر  ، فإن الدنيا بعدك مظلمة  ، والآخرة بنورك مشرقة  ، أمَّا الليل فمسهَّد  ، والحزن سرمد  ، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم  ، وعليك منّي السلام ـ يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ ورحمة الله وبركاته  ، وكتب على القبر : هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً.
    ولله در الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
لَمْ أَنْسَ لمَّا عاد من أَسْرِ العِدَى ورآه مطروحاً وقد حفَّتْ به وَمُذِ استبانوا الحُزْنَ قالوا إنَّنا لكنْ لِرَفْعِ الجسمِ والتحريكِ لم فَدَعَا بِبَارِيَة هناك وَلَفَّهُ سرّاً لِيَدْفُنَ جِسْمَ خيرِ قتيلِ قومٌ تَنَحَّوا خِيْفَةَ التنكيلِ جِئْنا لِنَدْفُنَ سِبْطَ خَيرِ رَسُولِ نَرَ كُلُّنا من قُدْرَة وسبيلِ فيها بلا كَفَن وَلاَ تغسيلِ


(467)
رَفَعَ الجَنَازَةَ والملائكُ من أسىً وَلِحَمْلِهِ جاء النبيُّ وحيدرٌ أَمُّوه بالتكبير والتهليلِ والمجتبى في عَبْرَة وَعَوِيلِ
    وقال عليه الرحمة على لسان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لمَّا وضع أباه الحسين ( عليه السلام ) في قبره الشريف :
يَا رَاحِلا تَرَكَ الدُّنْيَا بِرِحْلَتِهِ فأنت كالشمسِ أُفْقٌ فيه قَدْ طَلَعَتْ مُسَهَّداً لَمْ أَزَلْ ليلي عليك وَلَنْ ظَلْمَاءَ كاللَّيلِ وَالأُخْرَى اغْتَدَتْ نورا يُضِي وَمَا عَنْهُ غَابَتْ عَادَ دَيْجورا أُرَى مِنَ الْحُزْنِ مهما عِشْتُ مسرورا (1)
    قال الراوي : ثمَّ مشى ( عليه السلام ) إلى عمِّه العباس ( عليه السلام ) فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء  ، وأبكت الحور في غرف الجنان  ، ووقع عليه يلثم نحره المقدَّس قائلا : على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم  ، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته  ، وشقَّ له ضريحاً  ، وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد  ، وقال لبني أسد : إن معي من يعينني  ، نعم ترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء  ، وعيَّن لهم موضعين  ، وأمرهم أن يحفروا حفرتين  ، ووضع في الأولى بني هاشم  ، وفي الثانية الأصحاب (2).
    وأما الحر الرياحي فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن  ، وقيل : إن أمه كانت حاضرة  ، فلمَّا رأت ما يُصنع بالأجساد حملت الحرّ إلى هذا المكان.
    وكان أقرب الشهداء إلى الحسين ( عليه السلام ) ولده علي الأكبر ( عليه السلام )   ، وفي ذلك يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) لعبد الله بن حماد البصري : فإنَّه غريب بأرض غربة  ، يبكيه من زاره  ، ويحزن له من لم يزره  ، ويحترق له من لم يشهده  ، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله  ، في أرض فلاة  ، لا حميم قربه ولا قريب  ، ثم منع الحقّ  ، وتوازر عليه
1 ـ الشواهد المنبرية  ، الشيخ علي الجشي : 50.
2 ـ مقتل الحسين ( عليه السلام )   ، المقرم : 320 ـ 321  ، عن الكبريت الأحمر وأسرار الشهادة والإيقاد.


(468)
أهل الردّة  ، حتى قتلوه وضيَّعوه  ، وعرَّضوه للسباع  ، ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب  ، وضيَّعوا حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيّته به وبأهل بيته  ، فأمسى مجفّواً في حفرته  ، صريعاً بين قرابته وشيعته  ، بين أطباق التراب  ، قد أوحش قربه في الوحدة  ، والبعد عن جدّه  ، والمنزل الذي لا يأتيه إلاَّ من امتحن الله قلبه للإيمان وعرَّفه حقّنا  ، إلى أن قال ( عليه السلام ) : ولقد حدَّثني أبي أنه لم يخل مكانه منذ قُتل من مصلٍّ يصلّي عليه من الملائكة  ، أو من الجنّ أو من الإنس أو من الوحش  ، وما من شيء إلاَّ وهو يغبط زائره  ، ويتمسَّح به  ، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره.
    ثمَّ قال ( عليه السلام ) : بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة  ، وناساً من غيرهم  ، ونساء يندبنه  ، وذلك في النصف من شعبان  ، فمن بين قارىء يقرأ  ، وقاصّ يقصّ  ، ونادب يندب  ، وقائل يقول المراثي  ، فقلت له : نعم جُعلت فداك  ، قد شهدت بعض ما تصف  ، فقال : الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا  ، ويمدحنا ويرثي لنا  ، وجعل عدوّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم  ، يهدرونهم ويُقبّحون ما يصنعون (1).
    ولله در الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( قدس سره ) إذ يقول :
رزاياكمُ يا آل بيت محمد عمىً لعيون لا تفيض دموعها وتعساً لقلب لا يمزِّقه الأسى أغصُّ لذكراهنَّ بالمنهل العذبِ عليكم وقد فاضت دماكم على التربِ لحرب بها قد مزَّقتكم بنو حربِ

1 ـ كامل الزيارات  ، ابن قولويه : 537 ـ 539 ح 1.

(469)
أأنس بأطراف الرماح رؤوسكم أأنسى طراد الخيل فوق جسومكم أأنسى دماءً قد سُفِكْنَ وأدمعاً أأنسى بيوتاً قد نُهبْنَ ونسوةً أأنسى اقتحام الظالمين بيوتكم أأنسى اضطرام النار فيها وما بها تطلع كالأقمار في الأنجم الشُهبِ وما وُطأت من موضع الطَّعن والضربِ سُكبْنَ وأحراراً هُتِكنَ من الحُجبِ سُلِبْنَ وأكباداً اُذِبنَ من الرُعبِ تُروِّع آلَ الله بالضَّرب والنهبِ سوى صبية فرت مذعَّرة السَّرب (1)

    روى ابن قولويه عليه الرحمة  ، عن قدامة بن زائدة  ، عن أبيه قال : قال علي ابن الحسين ( عليه السلام ) : بلغني ـ يا زائدة ـ أنك تزور قبر أبي عبدالله أحياناً  ، فقلت : إن ذلك لَكما بلغك  ، فقال ( عليه السلام ) لي : فلماذا تفعل ذلك ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأمّة من
1 ـ مقتل الحسين ( عليه السلام )   ، المقرم : 378.

(470)
حقّنا ؟
    فقلت : والله ما أريد بذلك إلاّ الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله )   ، ولا أحفل بسخط من سخط  ، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه.
    فقال : والله إن ذلك لكذلك ؟ فقلت : والله إن ذلك لكذلك ـ يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً ـ فقال : أبشر  ، ثم أبشر  ، ثم أبشر  ، فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب المخزون  ، إنه لمَّا أصابنا بالطفِّ ما أصابنا  ، وقُتل أبي ( عليه السلام ) وقُتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله  ، وحُملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة  ، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يُواروا  ، فعظم ذلك في صدري  ، واشتدّ لما أرى منهم قلقي  ، فكادت نفسي تخرج  ، وتبيَّنت ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت علي فقالت : مالي أراك تجود بنفسك يا بقيَّة جدّي وأبي وإخوتي ؟ فقلت : وكيف لا أجزع وأهلع ؟ وقد أرى سيِّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مضرَّجين بدمائهم  ، مرمَّلين بالعراء  ، مسلَّبين لا يكفَّنون ولا يوارون  ، لا يُعرِّج عليهم أحد  ، ولا يقربهم بشر  ، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر.
    فقالت : لا يجزعنَّك ما ترى  ، فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى جدّك وأبيك وعمِّك  ، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرِّقة فيوارونها  ، وهذه الجسوم المضرَّجة  ، وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء  ، لا يَدرس أثره  ، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام  ، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه  ، فلا يزداد أثره إلا ظهوراً  ، وأمره إلاَّ علواً.
    فقلت : وما هذا العهد ؟ وما هذا الخبر ؟ فقالت : حدَّثتني أم أيمن أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) زار منزل فاطمة ( عليها السلام ) في يوم من الأيام  ، فعملت له حريرة ( صلى الله


(471)
عليها ) وأتاه علي ( عليه السلام ) بطبق فيه تمر  ، ثمَّ قالت أم أيمن  ، فأتيتهم بعسّ فيه لبن وزبد  ، فأكل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) من تلك الحريرة  ، وشرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وشربوا من ذلك اللبن  ، ثمّ أكل وأكلوا من ذلك التمر بالزبد  ، ثمّ غسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يده وعليٌّ يصبّ عليه الماء  ، فلمَّا فرغ من غسل يده مسح وجهه  ، ثمَّ نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا فيه السرور في وجهه  ، ثمَّ رمق بطرفه نحو السماء مليّاً  ، ثمَّ وجَّه وجهه نحو القبلة  ، وبسط يديه يدعو  ، ثمَّ خرَّ ساجداً وهو ينشج  ، فأطال النشوج  ، وعلا نحيبه  ، وجرت دموعه  ، ثمَّ رفع رأسه  ، وأطرق إلى الأرض  ، ودموعه تقطر كأنها صوب المطر.
    فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين ( عليهم السلام ) ، وحزنت معهم لما رأينا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، وهبناه أن نسأله  ، حتى إذا طال ذلك قال له عليٌّ وقالت له فاطمة : ما يبكيك يا رسول الله ؟ لا أبكى الله عينيك  ، فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك  ، فقال : يا أخي  ، سُررت بكم.
    وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه هاهنا : فقال : يا حبيبي  ، إني سررت بكم سروراً ما سُررت مثله قط  ، وإني لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته عليَّ فيكم  ، إذ هبط عليَّ جبرئيل فقال : يا محمَّد  ، إن الله تبارك وتعالى اطَّلع على ما في نفسك  ، وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك  ، فأكمل لك النعمة  ، وهنَّأك العطيَّة  ، بأن جعلهم وذرّيّاتهم ومحبّيهم وشيعتهم معك في الجنّة  ، لا يفرِّق بينك وبينهم  ، ويُحبون كما تُحبى  ، ويُعطون كما تُعطى حتى ترضى  ، وفوق الرضا  ، على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا  ، ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملَّتك  ، ويزعمون أنهم من أمّتك  ، برءاً من الله ومنك  ، خبطاً خبطاً  ، وقتلا قتلا  ، شتَّى مصارعهم  ، نائية قبورهم  ، خيرة من الله لهم ولك فيهم  ، فاحمد الله عزَّ وجلَّ على خيرته  ، وارض بقضائه  ، فحمدت الله ورضيت بقضائه بما اختاره لكم.


(472)
    ثم قال لي جبرئيل : يا محمَّد  ، إن أخاك مُضطهدٌ بعدك  ، مغلوبٌ على أمّتك  ، متعوبٌ من أعدائك  ، ثمَّ مقتول بعدك  ، يقتله أشرّ الخلق والخليقة  ، وأشقى البريَّة نظير عاقر الناقة  ، ببلد تكون إليه هجرته  ، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده  ، وفيه على كل حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم.
    وإن سبطك هذا ـ وأومأ بيده إلى الحسين ( عليه السلام ) ـ مقتول في عصابة من ذرّيّتك وأهل بيتك وأخيار من أمّتك  ، بضفّة الفرات  ، بأرض تُدعى كربلاء  ، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذرّيّتك  ، في اليوم الذي لا ينقضي كربه  ، ولا تفنى حسرته  ، وهي أطهر بقاع الأرض وأعظمها حرمة  ، وإنها لمن بطحاء الجنَّة  ، فإذا كان ذلك اليوم الذي يُقتل فيه سبطك وأهله  ، وأحاطت بهم كتائب أهل الكفر واللعنة تزعزعت الأرض من أقطارها  ، ومادت الجبال  ، وكثر اضطرابها  ، واصطفقت البحار بأمواجها  ، وماجت السماوات بأهلها  ، غضباً لك ـ يا محمَّد ـ ولذرّيّتك  ، واستعظاماً لما يُنتهك من حرمتك  ، ولشرّ ما تُكافى به في ذرّيّتك وعترتك  ، ولا يبقى شيء من ذلك إلاَّ استأذن الله عزَّ وجلّ في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين  ، الذين هم حجّة الله على خلقه بعدك  ، فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار  ، ومن فيهن : أنّي أنا الله المَلِك القادر  ، والذي لا يفوته هارب  ، ولا يعجزه ممتنع  ، وأنا أقدر على الانتصار والانتقام  ، وعزّتي وجلالي لأُعذِّبنَّ من وتر رسولي وصفيّي  ، وانتهك حرمته  ، وقتل عترته  ، ونبذ عهده  ، وظلم أهله  ، عذاباً لا أعذِّبه أحداً من العالمين.
    فعند ذلك يضجّ كلُ شيء في السماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتك  ، واستحلَّ حرمتك  ، فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولَّى الله عزَّ وجلَّ قبض أرواحها بيده  ، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة معهم آنية من الياقوت والزمرّد  ، مملوءة من ماء الحياة  ، وحلل من حلل الجنّة  ، وطيب من طيب الجنة  ،


(473)
فغسلوا جثثهم بذلك الماء  ، وألبسوها الحلل  ، وحنَّطوها بذلك الطيب  ، وصلَّى الملائكة صفاً صفاً عليهم  ، ثمَّ يبعث الله قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار  ، لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نيَّة  ، فيوارون أجسامهم  ، ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء  ، يكون عَلماً لأهل الحق  ، وسبباً للمؤمنين إلى الفوز  ، وتحفّه ملائكة  ، من كلّ سماء مائة ألف ملك  ، في كل يوم وليلة  ، ويصلّون عليه  ، يسبّحون الله عنده  ، ويستغفرون الله لزوّاره  ، ويكتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمتك متقرِّباً إلى الله وإليك بذلك  ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم  ، ويوسمون في وجوههم بميسم نور عرش الله : هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء  ، فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نور تغشى منه الأبصار  ، يدلُّ عليهم ويُعرفون به.
    وكأني بك ـ يا محمد ـ بيني وبين ميكائيل  ، وعليُّ أمامنا  ، ومعنا من ملائكة الله ما لا يُحصى عدده  ، ونحن نلتقط من ذلك الميسم في وجهه من بين الخلائق حتى ينجيهم الله من هول ذلك اليوم وشدائده  ، وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمد  ، أو قبر أخيك  ، أو قبر سبطيك  ، لا يريد به غير الله عزَّ وجلَّ  ، وسيجتهد أناس ممن حقَّت عليهم من الله اللعنة والسخط أن يعفوا رسم ذلك القبر  ، ويمحوا أثره  ، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلا  ، ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فهذا أبكاني وأحزنني.
    قالت زينب ( عليها السلام ) : فلمَّا ضرب ابن ملجم لعنه الله أبي ( عليه السلام )   ، ورأيت أثر الموت منه قلت له : يا أبة  ، حدَّثتني أم أيمن بكذا وكذا  ، وقد أحببت أن أسمعه منك  ، فقال : يا بنيَّة  ، الحديث كما حدَّثتك أم أيمن  ، وكأني بك وببنات أهلك سبايا بهذا البلد  ، أذلاّء خاشعين  ، تخافون أن يتخطَّفكم الناس  ، فصبراً صبراً  ، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة  ، ما لله على ظهر الأرض يومئذ وليُّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم  ،


(474)
ولقد قال لنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين أخبرنا بهذا الخبر : إن إبليس في ذلك اليوم يطير فرحاً  ، فيجول الأرض كلَّها في شياطينه وعفاريته  ، فيقول : يا معشر الشياطين  ، قد أدركنا من ذرّيّة آدم الطلبة  ، وبلغنا في هلاكهم الغاية  ، وأورثناهم النار  ، إلاَّ من اعتصم بهذه العصابة  ، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم  ، وحملهم على عداوتهم  ، وإغرائهم بهم وأوليائهم  ، حتى تستحكم ضلالة الخلق وكفرهم  ، ولا ينجو منهم ناج  ، ولقد صدق عليهم إبليس وهو كذوب  ، إنه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح  ، ولا يضرُّ مع محبَّتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر.
    قال زائدة : ثمَّ قال علي بن الحسين ( عليه السلام ) بعد أن حدَّثني بهذا الحديث : خذه إليك  ، أما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولا لكان قليلا (1).
    ولله درّ السيد جعفر الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
يَا ميِّتاً تَرَكَ الألبابَ حائرةً تأتي الوُحُوشُ له ليلا مُسَلِّمةً وَيْلٌ لَهُمْ ما اهتدوا منه بمَوْعِظَة لم يَنْقَطِعْ قَطُّ مِنْ إِرْسَالِ خُطْبَتِهِ وَبالعَرَاءِ ثَلاَثاً جِسْمُهُ تُرِكا والقومُ تُجْرِي نَهَاراً فَوْقَهُ الرَّمَكَا كالدُّرِّ منتظماً والتِّبْرِ مُنْسَبِكَا حَتَّى بها رَأْسُهُ فَوْقَ السِّنَانِ حَكَى (2)

    روى ابن قولويه عليه الرحمة عن داود بن فرقد قال : كنت جالساً في بيت
1 ـ كامل الزيارات  ، ابن قولويه : 444 ـ 448 ح 1  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/179 ـ 184 ح 30 و28/55 ـ 58 ح 23.
2 ـ رياض المدح والرثاء  ، الشيخ حسين القديحي : 232.


(475)
أبي عبدالله ( عليه السلام )   ، فنظرت إلى الحمام الراعبي يقرقر طويلا  ، فنظر إليَّ أبو عبدالله ( عليه السلام ) طويلا  ، فقال : يا داود  ، تدري ما يقول هذا الطير ؟ قلت : لا والله جعلت فداك  ، قال : تدعو على قتلة الحسين صلوات الله عليه  ، فاتخذوه في منازلكم.
    وعن الحسين بن أبي غندر  ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : سمعته يقول في البومة فقال : هل أحد منكم رآها بالنهار ؟ قيل له : لاتكاد تظهر بالنهار  ، ولا تظهر إلاَّ ليلا  ، قال : أما إنها لم تزل تأوي العمران أبداً  ، فلمَّا أن قُتل الحسين ( عليه السلام ) آلت على نفسها أن لا تأوي العمران أبداً  ، ولا تأوي إلاَّ الخراب  ، فلا تزال نهارها صائمة حزينة حتى يُجنَّها الليل  ، فإذا جنَّها الليل فلا تزال ترنّ على الحسين صلوات الله عليه حتى تصبح.
    وعن الحسين بن علي بن صاعد البربري ـ قيّماً لقبر الرضا ( عليه السلام ) ـ قال : حدَّثني أبي قال : دخلت على الرضا ( عليه السلام ) فقال لي : ما يقول الناس ؟ قال : قلت : جعلت فداك جئنا نسألك  ، قال : فقال لي : ترى هذه البومة  ، كانت على عهد جدّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تأوي المنازل والقصور والدور  ، وكانت إذا أكل الناس الطعام تطير فتقع أمامهم  ، فُيرمى إليها بالطعام وتُسقى ثمَّ ترجع إلى مكانها  ، ولمَّا قُتل الحسين بن على خرجت من العمران إلى الخراب والجبال والبراري  ، وقالت : بئس الأمة أنتم  ، قتلتم ابن نبيِّكم  ، ولا آمنكم على نفسي.
    وعن الحسن بن علي الميثمي قال : قال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : يا يعقوب  ، رأيت بومة قطّ تنفس بالنهار ؟ فقال : لا  ، قال : وتدري لم ذلك ؟ قال : لا  ، قال : لأنها تظلُّ يومها صائمة  ، فإذا جنَّها الليل أفطرت على ما رُزقت  ، ثم لم تزل ترنّم على الحسين حتى تصبح (1).
    قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : روي في كتاب المناقب القديم  ، عن
1 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/213 عن كامل الزيارات.

(476)
المفضل بن عمر الجعفي  ، عن جعفر بن محمد الصادق  ، عن أبيه  ، عن علي بن الحسين ( عليهم السلام ) قال : لما قتل الحسين بن علي جاء غراب فوقع في دمه  ، ثمَّ تمرَّغ  ، ثمَّ طار فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ـ وهي الصغرى ـ فرفعت رأسها فنظرت إليه فبكت بكاء شديداً  ، وأنشأت تقول :
نَعَبَ الغُرَابُ فقلتُ مَنْ قال : الإمامُ فقلتُ : مَنْ ؟ إنَّ الحسينَ بكربلا فابكي الحسينَ بعَبْرَة قلتُ : الحسينُ فقال لي ثمَّ استقلَّ به الجَنَاحُ فبكيتُ ممَّا حَلَّ بي تَنْعاهُ ويلكَ يَا غُرَابْ قال : الموفَّقُ للصَّوَابْ بينَ الأسنَّة والضِّرَابْ ترجى الإلهَ مَعَ الثَّوَابْ حقّاً لَقَدْ سَكَنَ التُّرَابْ فَلَمْ يُطِقْ رَدَّ الْجَوَابْ بَعْدَ الدُّعَاءِ المُسْتَجَابْ
    قال محمد بن علي : فنعته لأهل المدينة  ، فقالوا : قد جاءتنا بسحر عبدالمطلب فما كان بأسرع أن جاءهم الخبر بقتل الحسين بن علي ( عليهما السلام ) (1).
    قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : وروي من طريق أهل البيت ( عليهم السلام ) أنه لمّا استشهد الحسين ( عليه السلام ) بقي في كربلاء صريعاً  ، ودمه على الأرض مسفوحاً  ، وإذا بطائر أبيض قد أتى وتمسَّح بدمه  ، وجاء والدم يقطر منه فرأى طيوراً تحت الظلال على الغصون والأشجار  ، وكلٌّ منهم يذكر الحبَّ والعلف والماء  ، فقال لهم ذلك الطير المتلطِّخ بالدم : يا ويلكم  ، أتشتغلون بالملاهي  ، وذكر الدنيا والمناهي  ، والحسين في أرض كربلاء  ، في هذا الحرّ  ، ملقىً على الرمضاء  ، ظامىء مذبوح  ، ودمه مسفوح ؟ فعادت الطيور كلٌّ منهم قاصداً كربلاء  ، فرأوا سيِّدنا الحسين ( عليه السلام ) ملقىً في الأرض جثَّته بلا رأس ولا غسل ولا كفن  ، قد سفت عليه السوافي  ، وبدنه مرضوض قد
1 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/171 ح 19  ، تاريخ دمشق  ، ابن عساكر : 70/24.

(477)
هشَّمته الخيل بحوافرها  ، زوَّاره وحوش القفار  ، وندبته جنّ السهول والأوعار  ، قد أضاء التراب من أنواره  ، وأزهر الجوّ من أزهاره.
    فلمَّا رأته الطيور تصايحن وأعلنَّ بالبكاء والثبور  ، وتواقعن على دمه يتمرَّغن فيه  ، وطار كلّ واحد منهم إلى ناحية يُعلمُ أهلهَا عن قتل أبي عبدالله الحسين ( عليه السلام )   ، فمن القضاء والقدر أن طيراً من هذه الطيور قصد مدينة الرسول ( صلى الله عليه وآله )   ، وجاء يرفرف  ، والدم يتقاطر من أجنحته  ، ودار حول قبر سيِّدنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يُعلن بالنداء : ألا قتل الحسين بكربلا  ، ألا ذبح الحسين بكربلا! فاجتمعت الطيور عليه وهم يبكون عليه وينوحون. فلمَّا نظر أهل المدينة من الطيور ذلك النوح  ، وشاهدوا الدم يتقاطر من الطير لم يعلموا ما الخبر  ، حتَّى انقضت مدّة من الزمان  ، وجاء خبر مقتل الحسين ( عليه السلام ) علموا أن ذلك الطير كان يُخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقتل ابن فاطمة البتول  ، وقرَّة عين الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (1).
    ومن كتاب العوالم للسيد البحراني عليه الرحمة عن بعض كتب الأصحاب رضي الله عنهم قال : حُكي عن رجل أسدي قال : كنت زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال العسكر  ، عسكر بني أمية  ، فرأيت عجائب لا أقدر أحكي إلاَّ بعضها  ، منها أنه إذا هبَّت الرياح تمرّ عليَّ نفحات كنفحات المسك والعنبر  ، وإذا سكنت أرى نجوماً تنزل من السماء إلى الأرض  ، ويرقى من الأرض إلى السماء مثلها  ، وأنا منفرد مع عيالي ولا أرى أحداً أسأله عن ذلك  ، وعند غروب الشمس يقبل أسد من القبلة فأولّي عنه إلى منزلي  ، فإذا أصبح وطلعت الشمس وذهبت من منزلي أراه مستقبل القبلة ذاهباً. فقلت في نفسي : إن هؤلاء خوارج قد خرجوا على عبيد الله بن زياد فأمر بقتلهم  ، وأرى منهم ما لم أره من سائر القتلى  ، فوالله هذه الليلة لابد من المساهرة لأبصر هذا الأسد يأكل من هذه الجثث أم لا ؟
1 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/191 ـ 192.

(478)
    فلمَّا صار عند غروب الشمس فإذا به أقبل  ، فحقَّقه فإذا هو هائل المنظر فارتعدتُ منه  ، وخطر ببالي : إن كان مراده لحوم بني آدم فهو يقصدني  ، وأنا أحاكي نفسي بهذا فمثَّلته وهو يتخطَّى القتلى حتى وقع على جسد كأنه الشمس إذا طلعت  ، فبرك عليه  ، فقلت : يأكل منه  ، وإذا به يمرِّغ وجهه عليه وهو يهمهم ويدمدم  ، فقلت : الله أكبر! ما هذه إلاَّ أعجوبة  ، فجعلت أحرسه حتى اعتكر الظلام  ، وإذا بشموع معلَّقة ملأت الأرض  ، وإذا ببكاء ونحيب ولطم مفجع  ، فقصدت تلك الأصوات فإذا هي تحت الأرض  ، ففهمت من ناع فيهم يقول : واحسيناه! وا إماماه! فاقشعرَّ جلدي  ، فقربت من الباكي وأقسمت عليه بالله وبرسوله مَن تكون ؟ فقال : إنّا نساء من الجنّ  ، فقلت : وما شأنكنَّ ؟ فقلن : في كل يوم وليلة هذا عزاؤنا على الحسين الذبيح العطشان.. (1).
    إذن ما حال العقيلة زينب ( عليها السلام ) لمَّا مروا بها مع النساء  ، ورأت حِماها مجدَّلا على الصعيد  ، فعزَّ عليها أن تتركه بلا مواراة  ، تسفي عليه ريح الصَّبا  ، ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول على لسانها تخاطب الحسين ( عليه السلام ) :
أَخِي سَائِقُ الأظعانِ عَجَّلَ بالسُّرَى أَخِي إِنَّ هذا آخِرُ الْعَهْدِ باللِّقَا وقد صِرْتُ في أمري بأَعْظَمِ حَيْرَة أَأَمْشي وَمَا وَارَيْتُ جَسْمَكَ أَمْ تَرَى ولو خَيَّروني في المُقَامِ أو السُّرَى فَأَوْدَعْتُكَ الرَّحْمَنُ يابنَ محمَّد تَرَحَّلْتُ فَاسْوَدَّ النَّهارُ بناظري فلم يَهْنَ لي عيشٌ وَلاَ لَذَّ مَطْعَمٌ ولم يَشْفَ بالتوديعِ منكَ فُؤَاديا ولستُ أرى بَعْدَ الفِرَاقِ تَلاَقيا وَمَنْ ذا ابتُلِي في الدَّهْرِ مِثْلَ بَلاَئيا أُقيمُ ومنك الرَّأْسُ سَارَ أَمَاميا أَقَمْتُ ولم أَخْشَ السِّبَاعَ الضَّوَاريا عليكَ سَلاَمُ اللهِ ثُمَّ سَلاَميا وَمِنْ بَعْدِكَ الأَيَّامُ صِرْنَ لياليا عليكَ حَنِيني مَشْرَبي وَطَعَاميا

1 ـ العوالم  ، الإمام الحسين ( عليه السلام )   ، البحراني : 512  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/193 ـ 194.

(479)
بقيتَ على وَجْهِ البسيطةِ ثاوياً ولو لم تُظَلِّلْكَ القَنَا كُنْتَ ضَاحيا (1)

    روي أنه لمَّا توفيت خديجة أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في تجهيزها وغسلها وحنطها  ، فلمَّا أراد أن يكفِّنها هبط الأمين جبرئيل وقال : يا رسول الله  ، إن الله يقرئُك السلام  ، ويخصُّك بالتحيَّة والإكرام  ، ويقول لك : يا محمَّد  ، إن كفن خديجة وهو من الجنة أهدى الله إليها  ، فكفَّنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بردائه الشريف أولا  ، وبما جاء به جبرئيل ثانياً  ، فكان لها كفنان : كفن من الله  ، وكفن من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ).
    أقول : ألم يبذل الحسين ( عليه السلام ) جميع ماله وعياله وأولاده في سبيل الله ؟ بقيت جنازته ثلاثة أيام بلا غسل ولا كفن.
مَا غَسَّلُوه ولا لَفُّوه في كَفَن عَار تَجُولُ عليه الخيلُ عَادِيةً يومَ الطفوفِ وَلاَ مَدُّوا عليه رِدَا حَاكَتْ له الرِّيْحُ ضَافِي مِئْزَر وَرِدَا
    قال الراوي : دفنت خديجة ( عليها السلام ) بالحجون  ، ونزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في قبرها  ، ولم تكن يومئذ سنّة الجنايز والصلاة عليها..
    ولمَّا توفيت خديجة ( عليها السلام ) جعلت فاطمة تلوذ بأبيها وتقول : أين أمّي ؟ فنزل جبرئيل وقال : إن الله يقرأ على فاطمة السلام  ، ويقول لها : أمّكِ في بيت من قصب  ، كعابه من ذهب  ، وعمده من ياقوت أحمر  ، بين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران  ،
1 ـ ديوان العلامة الجشي : 222.

(480)
فقالت فاطمة ( عليها السلام ) : إن الله هو السلام  ، ومنه السلام  ، وإليه السلام.
    وكان الله قد عزَّاها وعزَّاها جبرئيل بأمِّها  ، ولكن لما توفِّي أبوها هل عزَّاها أحد ؟ نعم  ، هجموا على باب دارها وأحرقوا الباب..
    ولمَّا توفيت خديجة ( عليها السلام ) اشتدَّ البلاء على رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، وتراكمت عليه الهموم والغموم بحيث احتجب عن الناس مدّة مديدة  ، وسمى ذلك العام عام الحزن; لأنه فقد في ذلك العام عمَّه أبا طالب وزوجته خديجة في سنة واحدة  ، بل في شهر واحد  ، ثمَّ هاجر إلى الطائف شهراً  ، ورجع إلى مكة ليقيم بها فلم يستطع; لأن مشركي قريش همُّوا بقتله  ، واجتمعوا في دار الندوة  ، واستشاروا فيما بينهم في دفعه وسفك دمه (1).
    وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حضر أيضاً جنازة فاطمة بنت أسد وشيَّعها ( عليها السلام )   ، وقيل : لمَّا ماتت فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أقبل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) باكياً  ، فقال له النبيُّ ( صلى الله عليه وآله ) : ما يبكيك ؟ لا أبكى الله عينك  ، قال : توفِّيت والدتي يا رسول الله  ، قال له النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) : بل ووالدتي يا علي  ، فلقد كانت تُجوِّع أولادها وتشبعني  ، وتشعث أولادها وتدهنني  ، والله لقد كان في دار أبي طالب نخلة  ، فكانت تسابق إليها من الغداة لتلتقط  ، ثم تجنيه ـ رضي الله عنها ـ فإذا خرجوا بنو عمّي تناولني ذلك  ، ثمَّ نهض ( صلى الله عليه وآله ) فأخذ في جهازها  ، وكفَّنها بقميصه ( صلى الله عليه وآله )   ، وكان في حال تشييع جنازتها يرفع قدماً ويتأنَّى في رفع الآخر  ، وهو حافي القدم  ، فلمَّا صلَّى عليها كبَّر سبعين تكبيرة  ، ثمَّ لحدَّها في قبرها بيده الكريمة بعد أن نام في قبرها  ، ولقَّنها الشهادة  ، فلمَّا أُهيل عليها التراب  ، وأراد الناس الانصراف جعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول لها : ابنك  ، ابنك  ، ابنك  ، لا جعفر  ، ولا عقيل  ، ابنك  ، ابنك : علي بن أبي طالب  ، قالوا : يا رسول الله  ، فعلت فعلا ما رأينا مثله قط :
1 ـ شجرة طوبى  ، الشيخ محمد مهدي الحائري : 2/236.
المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: فهرس