|
||||||||||||||||||||||||||||||
(466)
السجاد ( عليه السلام ) وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى ، متحيِّرين لا يدرون ما يصنعون ، ولم يهتدوا إلى معرفتهم ، وقد فرَّق القوم بين رؤوسهم وأبدانهم ، وربما يُسْألون من أهلهم وعشيرتهم ؟
فأخبرهم ( عليه السلام ) عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة ، وأوقفهم على أسمائهم ، كما عرَّفهم بالهاشميين من الأصحاب ، فارتفع البكاء والعويل ، وسالت الدموع منهم كلَّ مسيل ، ونشرت الأسديات الشعور ، ولطمن الخدود. ثمَّ مشى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) إلى جسد أبيه ، واعتنقه وبكى بكاءاً عالياً ، وأتى إلى موضع القبر ، ورفع قليلا من التراب ، فبان قبر محفور وضريح مشقوق ، فبسط كفّيه تحت ظهره ، وقال : بسم الله وفي سبيل الله ، وعلى ملّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، صدق الله ورسوله ، ما شاء الله ، لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العظيم ، وأنزله وحده ولم يشاركه بنو أسد فيه ، وقال لهم : إن معي من يعينني ، ولمَّا أقرَّه في لحده وضع خدَّه على منحره الشريف قائلا : طوبى لأرض تضمَّنت جسدك الطاهر ، فإن الدنيا بعدك مظلمة ، والآخرة بنورك مشرقة ، أمَّا الليل فمسهَّد ، والحزن سرمد ، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم ، وعليك منّي السلام ـ يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ ورحمة الله وبركاته ، وكتب على القبر : هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً. ولله در الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
(467)
وأما الحر الرياحي فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن ، وقيل : إن أمه كانت حاضرة ، فلمَّا رأت ما يُصنع بالأجساد حملت الحرّ إلى هذا المكان. وكان أقرب الشهداء إلى الحسين ( عليه السلام ) ولده علي الأكبر ( عليه السلام ) ، وفي ذلك يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) لعبد الله بن حماد البصري : فإنَّه غريب بأرض غربة ، يبكيه من زاره ، ويحزن له من لم يزره ، ويحترق له من لم يشهده ، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله ، في أرض فلاة ، لا حميم قربه ولا قريب ، ثم منع الحقّ ، وتوازر عليه 1 ـ الشواهد المنبرية ، الشيخ علي الجشي : 50. 2 ـ مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، المقرم : 320 ـ 321 ، عن الكبريت الأحمر وأسرار الشهادة والإيقاد. (468)
أهل الردّة ، حتى قتلوه وضيَّعوه ، وعرَّضوه للسباع ، ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب ، وضيَّعوا حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيّته به وبأهل بيته ، فأمسى مجفّواً في حفرته ، صريعاً بين قرابته وشيعته ، بين أطباق التراب ، قد أوحش قربه في الوحدة ، والبعد عن جدّه ، والمنزل الذي لا يأتيه إلاَّ من امتحن الله قلبه للإيمان وعرَّفه حقّنا ، إلى أن قال ( عليه السلام ) : ولقد حدَّثني أبي أنه لم يخل مكانه منذ قُتل من مصلٍّ يصلّي عليه من الملائكة ، أو من الجنّ أو من الإنس أو من الوحش ، وما من شيء إلاَّ وهو يغبط زائره ، ويتمسَّح به ، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره.
ثمَّ قال ( عليه السلام ) : بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة ، وناساً من غيرهم ، ونساء يندبنه ، وذلك في النصف من شعبان ، فمن بين قارىء يقرأ ، وقاصّ يقصّ ، ونادب يندب ، وقائل يقول المراثي ، فقلت له : نعم جُعلت فداك ، قد شهدت بعض ما تصف ، فقال : الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ، ويمدحنا ويرثي لنا ، وجعل عدوّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم ، يهدرونهم ويُقبّحون ما يصنعون (1). ولله در الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( قدس سره ) إذ يقول :
1 ـ كامل الزيارات ، ابن قولويه : 537 ـ 539 ح 1. (469)
المجلس الثاني ، من اليوم الثالث عشر
روى ابن قولويه عليه الرحمة ، عن قدامة بن زائدة ، عن أبيه قال : قال علي ابن الحسين ( عليه السلام ) : بلغني ـ يا زائدة ـ أنك تزور قبر أبي عبدالله أحياناً ، فقلت : إن ذلك لَكما بلغك ، فقال ( عليه السلام ) لي : فلماذا تفعل ذلك ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأمّة من
حديث الحوراء زينب ( عليها السلام ) للإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وكلامها في علوّ شأن قبر الحسين ( عليه السلام ) على مرّ الأيام 1 ـ مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، المقرم : 378. (470)
حقّنا ؟
فقلت : والله ما أريد بذلك إلاّ الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا أحفل بسخط من سخط ، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه. فقال : والله إن ذلك لكذلك ؟ فقلت : والله إن ذلك لكذلك ـ يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً ـ فقال : أبشر ، ثم أبشر ، ثم أبشر ، فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب المخزون ، إنه لمَّا أصابنا بالطفِّ ما أصابنا ، وقُتل أبي ( عليه السلام ) وقُتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله ، وحُملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة ، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يُواروا ، فعظم ذلك في صدري ، واشتدّ لما أرى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبيَّنت ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت علي فقالت : مالي أراك تجود بنفسك يا بقيَّة جدّي وأبي وإخوتي ؟ فقلت : وكيف لا أجزع وأهلع ؟ وقد أرى سيِّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مضرَّجين بدمائهم ، مرمَّلين بالعراء ، مسلَّبين لا يكفَّنون ولا يوارون ، لا يُعرِّج عليهم أحد ، ولا يقربهم بشر ، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر. فقالت : لا يجزعنَّك ما ترى ، فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى جدّك وأبيك وعمِّك ، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرِّقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرَّجة ، وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء ، لا يَدرس أثره ، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه ، فلا يزداد أثره إلا ظهوراً ، وأمره إلاَّ علواً. فقلت : وما هذا العهد ؟ وما هذا الخبر ؟ فقالت : حدَّثتني أم أيمن أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) زار منزل فاطمة ( عليها السلام ) في يوم من الأيام ، فعملت له حريرة ( صلى الله (471)
عليها ) وأتاه علي ( عليه السلام ) بطبق فيه تمر ، ثمَّ قالت أم أيمن ، فأتيتهم بعسّ فيه لبن وزبد ، فأكل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) من تلك الحريرة ، وشرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وشربوا من ذلك اللبن ، ثمّ أكل وأكلوا من ذلك التمر بالزبد ، ثمّ غسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يده وعليٌّ يصبّ عليه الماء ، فلمَّا فرغ من غسل يده مسح وجهه ، ثمَّ نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا فيه السرور في وجهه ، ثمَّ رمق بطرفه نحو السماء مليّاً ، ثمَّ وجَّه وجهه نحو القبلة ، وبسط يديه يدعو ، ثمَّ خرَّ ساجداً وهو ينشج ، فأطال النشوج ، وعلا نحيبه ، وجرت دموعه ، ثمَّ رفع رأسه ، وأطرق إلى الأرض ، ودموعه تقطر كأنها صوب المطر.
فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين ( عليهم السلام ) ، وحزنت معهم لما رأينا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهبناه أن نسأله ، حتى إذا طال ذلك قال له عليٌّ وقالت له فاطمة : ما يبكيك يا رسول الله ؟ لا أبكى الله عينيك ، فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك ، فقال : يا أخي ، سُررت بكم. وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه هاهنا : فقال : يا حبيبي ، إني سررت بكم سروراً ما سُررت مثله قط ، وإني لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته عليَّ فيكم ، إذ هبط عليَّ جبرئيل فقال : يا محمَّد ، إن الله تبارك وتعالى اطَّلع على ما في نفسك ، وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك ، فأكمل لك النعمة ، وهنَّأك العطيَّة ، بأن جعلهم وذرّيّاتهم ومحبّيهم وشيعتهم معك في الجنّة ، لا يفرِّق بينك وبينهم ، ويُحبون كما تُحبى ، ويُعطون كما تُعطى حتى ترضى ، وفوق الرضا ، على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ، ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملَّتك ، ويزعمون أنهم من أمّتك ، برءاً من الله ومنك ، خبطاً خبطاً ، وقتلا قتلا ، شتَّى مصارعهم ، نائية قبورهم ، خيرة من الله لهم ولك فيهم ، فاحمد الله عزَّ وجلَّ على خيرته ، وارض بقضائه ، فحمدت الله ورضيت بقضائه بما اختاره لكم. (472)
ثم قال لي جبرئيل : يا محمَّد ، إن أخاك مُضطهدٌ بعدك ، مغلوبٌ على أمّتك ، متعوبٌ من أعدائك ، ثمَّ مقتول بعدك ، يقتله أشرّ الخلق والخليقة ، وأشقى البريَّة نظير عاقر الناقة ، ببلد تكون إليه هجرته ، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده ، وفيه على كل حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم.
وإن سبطك هذا ـ وأومأ بيده إلى الحسين ( عليه السلام ) ـ مقتول في عصابة من ذرّيّتك وأهل بيتك وأخيار من أمّتك ، بضفّة الفرات ، بأرض تُدعى كربلاء ، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذرّيّتك ، في اليوم الذي لا ينقضي كربه ، ولا تفنى حسرته ، وهي أطهر بقاع الأرض وأعظمها حرمة ، وإنها لمن بطحاء الجنَّة ، فإذا كان ذلك اليوم الذي يُقتل فيه سبطك وأهله ، وأحاطت بهم كتائب أهل الكفر واللعنة تزعزعت الأرض من أقطارها ، ومادت الجبال ، وكثر اضطرابها ، واصطفقت البحار بأمواجها ، وماجت السماوات بأهلها ، غضباً لك ـ يا محمَّد ـ ولذرّيّتك ، واستعظاماً لما يُنتهك من حرمتك ، ولشرّ ما تُكافى به في ذرّيّتك وعترتك ، ولا يبقى شيء من ذلك إلاَّ استأذن الله عزَّ وجلّ في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين ، الذين هم حجّة الله على خلقه بعدك ، فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ، ومن فيهن : أنّي أنا الله المَلِك القادر ، والذي لا يفوته هارب ، ولا يعجزه ممتنع ، وأنا أقدر على الانتصار والانتقام ، وعزّتي وجلالي لأُعذِّبنَّ من وتر رسولي وصفيّي ، وانتهك حرمته ، وقتل عترته ، ونبذ عهده ، وظلم أهله ، عذاباً لا أعذِّبه أحداً من العالمين. فعند ذلك يضجّ كلُ شيء في السماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتك ، واستحلَّ حرمتك ، فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولَّى الله عزَّ وجلَّ قبض أرواحها بيده ، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة معهم آنية من الياقوت والزمرّد ، مملوءة من ماء الحياة ، وحلل من حلل الجنّة ، وطيب من طيب الجنة ، (473)
فغسلوا جثثهم بذلك الماء ، وألبسوها الحلل ، وحنَّطوها بذلك الطيب ، وصلَّى الملائكة صفاً صفاً عليهم ، ثمَّ يبعث الله قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار ، لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نيَّة ، فيوارون أجسامهم ، ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء ، يكون عَلماً لأهل الحق ، وسبباً للمؤمنين إلى الفوز ، وتحفّه ملائكة ، من كلّ سماء مائة ألف ملك ، في كل يوم وليلة ، ويصلّون عليه ، يسبّحون الله عنده ، ويستغفرون الله لزوّاره ، ويكتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمتك متقرِّباً إلى الله وإليك بذلك ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم ، ويوسمون في وجوههم بميسم نور عرش الله : هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء ، فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نور تغشى منه الأبصار ، يدلُّ عليهم ويُعرفون به.
وكأني بك ـ يا محمد ـ بيني وبين ميكائيل ، وعليُّ أمامنا ، ومعنا من ملائكة الله ما لا يُحصى عدده ، ونحن نلتقط من ذلك الميسم في وجهه من بين الخلائق حتى ينجيهم الله من هول ذلك اليوم وشدائده ، وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمد ، أو قبر أخيك ، أو قبر سبطيك ، لا يريد به غير الله عزَّ وجلَّ ، وسيجتهد أناس ممن حقَّت عليهم من الله اللعنة والسخط أن يعفوا رسم ذلك القبر ، ويمحوا أثره ، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلا ، ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فهذا أبكاني وأحزنني. قالت زينب ( عليها السلام ) : فلمَّا ضرب ابن ملجم لعنه الله أبي ( عليه السلام ) ، ورأيت أثر الموت منه قلت له : يا أبة ، حدَّثتني أم أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببت أن أسمعه منك ، فقال : يا بنيَّة ، الحديث كما حدَّثتك أم أيمن ، وكأني بك وببنات أهلك سبايا بهذا البلد ، أذلاّء خاشعين ، تخافون أن يتخطَّفكم الناس ، فصبراً صبراً ، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، ما لله على ظهر الأرض يومئذ وليُّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم ، (474)
ولقد قال لنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين أخبرنا بهذا الخبر : إن إبليس في ذلك اليوم يطير فرحاً ، فيجول الأرض كلَّها في شياطينه وعفاريته ، فيقول : يا معشر الشياطين ، قد أدركنا من ذرّيّة آدم الطلبة ، وبلغنا في هلاكهم الغاية ، وأورثناهم النار ، إلاَّ من اعتصم بهذه العصابة ، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم ، وحملهم على عداوتهم ، وإغرائهم بهم وأوليائهم ، حتى تستحكم ضلالة الخلق وكفرهم ، ولا ينجو منهم ناج ، ولقد صدق عليهم إبليس وهو كذوب ، إنه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح ، ولا يضرُّ مع محبَّتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر.
قال زائدة : ثمَّ قال علي بن الحسين ( عليه السلام ) بعد أن حدَّثني بهذا الحديث : خذه إليك ، أما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولا لكان قليلا (1). ولله درّ السيد جعفر الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
روى ابن قولويه عليه الرحمة عن داود بن فرقد قال : كنت جالساً في بيت 1 ـ كامل الزيارات ، ابن قولويه : 444 ـ 448 ح 1 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 45/179 ـ 184 ح 30 و28/55 ـ 58 ح 23. 2 ـ رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 232. (475)
أبي عبدالله ( عليه السلام ) ، فنظرت إلى الحمام الراعبي يقرقر طويلا ، فنظر إليَّ أبو عبدالله ( عليه السلام ) طويلا ، فقال : يا داود ، تدري ما يقول هذا الطير ؟ قلت : لا والله جعلت فداك ، قال : تدعو على قتلة الحسين صلوات الله عليه ، فاتخذوه في منازلكم.
وعن الحسين بن أبي غندر ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : سمعته يقول في البومة فقال : هل أحد منكم رآها بالنهار ؟ قيل له : لاتكاد تظهر بالنهار ، ولا تظهر إلاَّ ليلا ، قال : أما إنها لم تزل تأوي العمران أبداً ، فلمَّا أن قُتل الحسين ( عليه السلام ) آلت على نفسها أن لا تأوي العمران أبداً ، ولا تأوي إلاَّ الخراب ، فلا تزال نهارها صائمة حزينة حتى يُجنَّها الليل ، فإذا جنَّها الليل فلا تزال ترنّ على الحسين صلوات الله عليه حتى تصبح. وعن الحسين بن علي بن صاعد البربري ـ قيّماً لقبر الرضا ( عليه السلام ) ـ قال : حدَّثني أبي قال : دخلت على الرضا ( عليه السلام ) فقال لي : ما يقول الناس ؟ قال : قلت : جعلت فداك جئنا نسألك ، قال : فقال لي : ترى هذه البومة ، كانت على عهد جدّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تأوي المنازل والقصور والدور ، وكانت إذا أكل الناس الطعام تطير فتقع أمامهم ، فُيرمى إليها بالطعام وتُسقى ثمَّ ترجع إلى مكانها ، ولمَّا قُتل الحسين بن على خرجت من العمران إلى الخراب والجبال والبراري ، وقالت : بئس الأمة أنتم ، قتلتم ابن نبيِّكم ، ولا آمنكم على نفسي. وعن الحسن بن علي الميثمي قال : قال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : يا يعقوب ، رأيت بومة قطّ تنفس بالنهار ؟ فقال : لا ، قال : وتدري لم ذلك ؟ قال : لا ، قال : لأنها تظلُّ يومها صائمة ، فإذا جنَّها الليل أفطرت على ما رُزقت ، ثم لم تزل ترنّم على الحسين حتى تصبح (1). قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : روي في كتاب المناقب القديم ، عن 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/213 عن كامل الزيارات. (476)
المفضل بن عمر الجعفي ، عن جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين ( عليهم السلام ) قال : لما قتل الحسين بن علي جاء غراب فوقع في دمه ، ثمَّ تمرَّغ ، ثمَّ طار فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ـ وهي الصغرى ـ فرفعت رأسها فنظرت إليه فبكت بكاء شديداً ، وأنشأت تقول :
قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : وروي من طريق أهل البيت ( عليهم السلام ) أنه لمّا استشهد الحسين ( عليه السلام ) بقي في كربلاء صريعاً ، ودمه على الأرض مسفوحاً ، وإذا بطائر أبيض قد أتى وتمسَّح بدمه ، وجاء والدم يقطر منه فرأى طيوراً تحت الظلال على الغصون والأشجار ، وكلٌّ منهم يذكر الحبَّ والعلف والماء ، فقال لهم ذلك الطير المتلطِّخ بالدم : يا ويلكم ، أتشتغلون بالملاهي ، وذكر الدنيا والمناهي ، والحسين في أرض كربلاء ، في هذا الحرّ ، ملقىً على الرمضاء ، ظامىء مذبوح ، ودمه مسفوح ؟ فعادت الطيور كلٌّ منهم قاصداً كربلاء ، فرأوا سيِّدنا الحسين ( عليه السلام ) ملقىً في الأرض جثَّته بلا رأس ولا غسل ولا كفن ، قد سفت عليه السوافي ، وبدنه مرضوض قد 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/171 ح 19 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 70/24. (477)
هشَّمته الخيل بحوافرها ، زوَّاره وحوش القفار ، وندبته جنّ السهول والأوعار ، قد أضاء التراب من أنواره ، وأزهر الجوّ من أزهاره.
فلمَّا رأته الطيور تصايحن وأعلنَّ بالبكاء والثبور ، وتواقعن على دمه يتمرَّغن فيه ، وطار كلّ واحد منهم إلى ناحية يُعلمُ أهلهَا عن قتل أبي عبدالله الحسين ( عليه السلام ) ، فمن القضاء والقدر أن طيراً من هذه الطيور قصد مدينة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وجاء يرفرف ، والدم يتقاطر من أجنحته ، ودار حول قبر سيِّدنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يُعلن بالنداء : ألا قتل الحسين بكربلا ، ألا ذبح الحسين بكربلا! فاجتمعت الطيور عليه وهم يبكون عليه وينوحون. فلمَّا نظر أهل المدينة من الطيور ذلك النوح ، وشاهدوا الدم يتقاطر من الطير لم يعلموا ما الخبر ، حتَّى انقضت مدّة من الزمان ، وجاء خبر مقتل الحسين ( عليه السلام ) علموا أن ذلك الطير كان يُخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقتل ابن فاطمة البتول ، وقرَّة عين الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (1). ومن كتاب العوالم للسيد البحراني عليه الرحمة عن بعض كتب الأصحاب رضي الله عنهم قال : حُكي عن رجل أسدي قال : كنت زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال العسكر ، عسكر بني أمية ، فرأيت عجائب لا أقدر أحكي إلاَّ بعضها ، منها أنه إذا هبَّت الرياح تمرّ عليَّ نفحات كنفحات المسك والعنبر ، وإذا سكنت أرى نجوماً تنزل من السماء إلى الأرض ، ويرقى من الأرض إلى السماء مثلها ، وأنا منفرد مع عيالي ولا أرى أحداً أسأله عن ذلك ، وعند غروب الشمس يقبل أسد من القبلة فأولّي عنه إلى منزلي ، فإذا أصبح وطلعت الشمس وذهبت من منزلي أراه مستقبل القبلة ذاهباً. فقلت في نفسي : إن هؤلاء خوارج قد خرجوا على عبيد الله بن زياد فأمر بقتلهم ، وأرى منهم ما لم أره من سائر القتلى ، فوالله هذه الليلة لابد من المساهرة لأبصر هذا الأسد يأكل من هذه الجثث أم لا ؟ 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/191 ـ 192. (478)
فلمَّا صار عند غروب الشمس فإذا به أقبل ، فحقَّقه فإذا هو هائل المنظر فارتعدتُ منه ، وخطر ببالي : إن كان مراده لحوم بني آدم فهو يقصدني ، وأنا أحاكي نفسي بهذا فمثَّلته وهو يتخطَّى القتلى حتى وقع على جسد كأنه الشمس إذا طلعت ، فبرك عليه ، فقلت : يأكل منه ، وإذا به يمرِّغ وجهه عليه وهو يهمهم ويدمدم ، فقلت : الله أكبر! ما هذه إلاَّ أعجوبة ، فجعلت أحرسه حتى اعتكر الظلام ، وإذا بشموع معلَّقة ملأت الأرض ، وإذا ببكاء ونحيب ولطم مفجع ، فقصدت تلك الأصوات فإذا هي تحت الأرض ، ففهمت من ناع فيهم يقول : واحسيناه! وا إماماه! فاقشعرَّ جلدي ، فقربت من الباكي وأقسمت عليه بالله وبرسوله مَن تكون ؟ فقال : إنّا نساء من الجنّ ، فقلت : وما شأنكنَّ ؟ فقلن : في كل يوم وليلة هذا عزاؤنا على الحسين الذبيح العطشان.. (1).
إذن ما حال العقيلة زينب ( عليها السلام ) لمَّا مروا بها مع النساء ، ورأت حِماها مجدَّلا على الصعيد ، فعزَّ عليها أن تتركه بلا مواراة ، تسفي عليه ريح الصَّبا ، ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول على لسانها تخاطب الحسين ( عليه السلام ) :
1 ـ العوالم ، الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، البحراني : 512 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 45/193 ـ 194. (479)
المجلس الرابع ، من اليوم الثالث عشر
روي أنه لمَّا توفيت خديجة أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في تجهيزها وغسلها وحنطها ، فلمَّا أراد أن يكفِّنها هبط الأمين جبرئيل وقال : يا رسول الله ، إن الله يقرئُك السلام ، ويخصُّك بالتحيَّة والإكرام ، ويقول لك : يا محمَّد ، إن كفن خديجة وهو من الجنة أهدى الله إليها ، فكفَّنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بردائه الشريف أولا ، وبما جاء به جبرئيل ثانياً ، فكان لها كفنان : كفن من الله ، وكفن من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ).
حضور النبي ( صلى الله عليه وآله ) دفن خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت أسد ( عليهما السلام ) وحضور الأئمة ( عليهم السلام ) جنائز شيعتهم أقول : ألم يبذل الحسين ( عليه السلام ) جميع ماله وعياله وأولاده في سبيل الله ؟ بقيت جنازته ثلاثة أيام بلا غسل ولا كفن.
ولمَّا توفيت خديجة ( عليها السلام ) جعلت فاطمة تلوذ بأبيها وتقول : أين أمّي ؟ فنزل جبرئيل وقال : إن الله يقرأ على فاطمة السلام ، ويقول لها : أمّكِ في بيت من قصب ، كعابه من ذهب ، وعمده من ياقوت أحمر ، بين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ، 1 ـ ديوان العلامة الجشي : 222. (480)
فقالت فاطمة ( عليها السلام ) : إن الله هو السلام ، ومنه السلام ، وإليه السلام.
وكان الله قد عزَّاها وعزَّاها جبرئيل بأمِّها ، ولكن لما توفِّي أبوها هل عزَّاها أحد ؟ نعم ، هجموا على باب دارها وأحرقوا الباب.. ولمَّا توفيت خديجة ( عليها السلام ) اشتدَّ البلاء على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وتراكمت عليه الهموم والغموم بحيث احتجب عن الناس مدّة مديدة ، وسمى ذلك العام عام الحزن; لأنه فقد في ذلك العام عمَّه أبا طالب وزوجته خديجة في سنة واحدة ، بل في شهر واحد ، ثمَّ هاجر إلى الطائف شهراً ، ورجع إلى مكة ليقيم بها فلم يستطع; لأن مشركي قريش همُّوا بقتله ، واجتمعوا في دار الندوة ، واستشاروا فيما بينهم في دفعه وسفك دمه (1). وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حضر أيضاً جنازة فاطمة بنت أسد وشيَّعها ( عليها السلام ) ، وقيل : لمَّا ماتت فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أقبل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) باكياً ، فقال له النبيُّ ( صلى الله عليه وآله ) : ما يبكيك ؟ لا أبكى الله عينك ، قال : توفِّيت والدتي يا رسول الله ، قال له النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) : بل ووالدتي يا علي ، فلقد كانت تُجوِّع أولادها وتشبعني ، وتشعث أولادها وتدهنني ، والله لقد كان في دار أبي طالب نخلة ، فكانت تسابق إليها من الغداة لتلتقط ، ثم تجنيه ـ رضي الله عنها ـ فإذا خرجوا بنو عمّي تناولني ذلك ، ثمَّ نهض ( صلى الله عليه وآله ) فأخذ في جهازها ، وكفَّنها بقميصه ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان في حال تشييع جنازتها يرفع قدماً ويتأنَّى في رفع الآخر ، وهو حافي القدم ، فلمَّا صلَّى عليها كبَّر سبعين تكبيرة ، ثمَّ لحدَّها في قبرها بيده الكريمة بعد أن نام في قبرها ، ولقَّنها الشهادة ، فلمَّا أُهيل عليها التراب ، وأراد الناس الانصراف جعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول لها : ابنك ، ابنك ، ابنك ، لا جعفر ، ولا عقيل ، ابنك ، ابنك : علي بن أبي طالب ، قالوا : يا رسول الله ، فعلت فعلا ما رأينا مثله قط : 1 ـ شجرة طوبى ، الشيخ محمد مهدي الحائري : 2/236. |
||||||||||||||||||||||||||||||
|