|
||||||||||||||||||||||||||||||
(586)
1 ـ مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الاصفهاني : 306 ـ 307. 2 ـ أدب الشيعة ، الدكتور عبد الحسيب حميدة : 259. 3 ـ النزاع والتخاصم ، المقريزي : 51. (587)
ويقول أبو حنيفة أو الطغرائي في جملة أبيات له :
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانُه ، وقتيل بالعراء 1 ـ حياة الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، السيد جعفر مرتضى العاملي : 97 ـ 98. 2 ـ الغدير ، الشيخ الأميني : 4/162. (588)
قد رُفع فوق القناة رأسه ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه ، ومسموم قد قُطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه (1) ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم.
روى ابن شهر آشوب عليه الرحمة في المناقب ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال لأهل الكوفة : أما إنه سيظهر عليكم رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ، ولن تقتلوه ، ألا وإنّه سيأمركم بسبيّ والبراءة مني ، فأمَّا السبُّ فسبّوني ، وأمَّا البراءة منّي فلا تتبرَّؤوا منّي ، فإنّي ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإسلام والهجرة (2). وروي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر ( عليه السلام ) قال لبعض أصحابه : يا فلان! ما لقينا من ظلم قريش إيانا ، وتظاهرهم علينا ، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قُبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس ، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه ، واحتجَّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا ، ثمَّ تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا ، فنُكثت بيعتُنا ، ونُصبت الحرب لنا. ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قُتل ، فبويع الحسن ابنه وعُوهد ، ثمَّ غُدر به ، وأُسلم ، ووثب عليه أهل العراق حتى طُعن بخنجر في جنبه ، ونُهبت عسكره ، وعُولجت خلاخيل أمهات أولاده ، فوادع معاوية ، وحقن دمه ودماء أهل بيته ، وهم قليل حق قليل ، ثمَّ بايع الحسين ( عليه السلام ) من أهل العراق عشرون ألفاً ، ثمَّ غدروا به ، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم ، وقتلوه. ثمَّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذلّ ونُستضام ، ونُقصى ونُمتهن ، ونُحرم ونُقتل ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم 1 ـ المزار ، المشهدي : 298. 2 ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/107. (589)
وجحودهم موضعاً يتقرَّبون به إلى أوليائهم ، وقضاة السوء ، وعمال السوء في كل بلدة ، فحدَّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنَّا ما لم نقله وما لم نفعله ، ليُبغَّضونا إلى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن ( عليه السلام ) ، فقُتلت شيعتُنا بكل بلدة ، وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يُذكر بحبِّنا والانقطاع إلينا سُجن ، أو نُهب ماله ، أو هُدمت داره.
ثمَّ لم يزل البلاء يشتدُّ ويزداد إلى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين ( عليه السلام ) ، ثمَّ جاء الحجاج فقتلهم كلَّ قتلة ، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة ، حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبُّ إليه من أن يقال شيعة علي ( عليه السلام ) ، وحتى صار الرجل الذي يُذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدِّث بأحاديث عظيمة عجيبة ، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ، ولا كانت ولا وقعت ، وهو يحسب أنها حقٌّ لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ، ولا بقلّة ورع (1). وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب ( الأحداث ) ، قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمّاله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ، ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة; لكثرة من بها من شيعة علي ( عليه السلام ) ، فاستعمل عليهم زياد ابن سمية ، وضمَّ إليه البصرة ، فكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عارف; لأنه كان منهم أيام علي ( عليه السلام ) ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرَّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم. 1 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 11/43 ، كتاب سليم بن قيس : 186 ـ 189. (590)
وكتب معاوية إلى عمَّاله في جميع الآفاق : ألا يجيزوا لأحد من شعية علي وأهل بيته ( عليهم السلام ) شهادة ، وكتب إليهم : أن انظروا مَنْ قبلَكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم ، وقرِّبوهم ، وأكرموهم ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم ، واسمه واسم ابيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه; لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلاة والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثُر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملا من عمَّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاَّ كتب اسمه ، وقرَّبه وشفَّعه ، فلبثوا بذلك حيناً. ثمَّ كتب إلى عماله إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر ، وفي كل وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاَّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحبُّ إليَّ ، وأقرُّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدُّ عليهم من مناقب عثمان وفضله. فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وأُلقي إلى معلِّمي الكتاتيب فعلَّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه وتعلَّموه كما يتعلَّمون القرآن ، وحتى علَّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله. ثم كتب إلى عُمَّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيِّنة أنه يحبُّ علياً وأهل بيته ( عليهم السلام ) فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفَّع ذلك بنسخة أخرى : من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكِّلوا به ، واهدموا (591)
داره ، فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيِّما بالكوفة ، حتى إن الرجل من شيعة علي ( عليه السلام ) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته ، فيُلقي إليه سرَّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدِّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنَّ عليه ، فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بليَّة القرَّاء المراؤون ، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقرِّبوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديَّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها وهم يظنون أنَّها حقّ ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينَّوا بها.
فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ( عليه السلام ) ، فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاَّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض. ثمَّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) ، وولي عبدالملك بن مروان ، فاشتدَّ على الشيعة ، وولَّى عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدعي قوم من الناس أنهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من الغضّ من علي ( عليه السلام ) وعيبه والطعن فيه والشنآن له ، حتى إن إنساناً وقف للحجاج ـ ويقال إنه جدُّ الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به : أيُّها الأمير! إن أهلي عقّوني فسمَّوني علياً ، وإني فقير بائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج ، فتضاحك له الحجاج وقال : للطف ما توسَّلت به ، وقد ولَّيتك موضع كذا. وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدِّثين وأعلامهم ـ في تأريخه ما يناسب هذا الخبر ، وقال : إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيام بني أميّة ، تقرباً إليهم بما يظنّون أنهم يُرغمون به أنوف بني (592)
هاشم (1).
وعن كتاب المنتظم : إن زياداً لمَّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم ، وهمَّ أن يخرب دورهم ، ويجمِّر نخلهم ، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة ليعرضهم على البراءة من علي ( عليه السلام ) ، وعلم أنهم سيمتنعون ، فيحتجّ بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم. وفي رواية عن عبدالله بن السائب وكثير بن الصلت قالا : جمع زياد بن أبيه أشراف الكوفة في مسجد الرحبة ليحملهم على سبِّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والبراءة منه ، فمن أبى ذلك عرضه على السيف (2) والناس من ذلك في كرب عظيم ، فأغفيت فإذا أنا بشخص طويل العنق ، أهدل أهدب ، قد سدَّ ما بين السماء والأرض ، فقلت له : من أنت ؟ قال : أنا النقاد ذو الرقبة ، طاعون ، بُعثت إلى زياد ، فانتبهت فزعاً ، فسمعنا الواعية عليه ، وإذا غلام لزياد قد خرج إلى الناس فقال : انصرفوا ، فإن الأمير عنكم مشغول ، وسمعنا الصياح من داخل القصر ، فما برحنا أن خرج الإذن فقال : انصرفوا فإن الأمير قد شُغل ، وإذا الفالج قد ضربه ، فقلت في ذلك وأنشأت :
1 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 11/44 ـ 46. 2 ـ مروج الذهب ، المسعودي : 2/69. 3 ـ في كنز الفوائد : فأسقط الشق منه حربة ثبتت. 4 ـ راجع : مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/169 ، الأمالي ، الشيخ الطوسي : 233 ح 5 ، المحاسن والمساوي ، البيهقي : 1/39 ، الفائق في غريب الحديث ، جار الله الزمخشري : 3/414 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3/199 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/68. (593)
مما روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من كلام له ( عليه السلام ) لأصحابه ـ كما في نهج البلاغة ـ قال ( عليه السلام ) : أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ، ولن تقتلوه ، ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي ، فأمّا السبُّ فسبّوني ، فإنه لي زكاة ولكم نجاة ، وأمَّا البراءة فلا تتبرَّأوا منّي ، فإنّي ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة (1).
فممن قُتل في محبّة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وفي سبيله ميثم التمَّار عليه الرحمة ، روي أنَّه قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لميثم التمّار ( رضي الله عنه ) ذات يوم : إنَّك تؤخذ بعدي فتُصلب ، وتُطعن بحربة ، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً ، فتُخضب لحيتُك ، فانتظر ذلك الخضاب ، وتُصلب على باب عمرو بن حريث عاشر عشرة ، أنت أقصرهم خشبة ، وأقربهم من المطهرة ، وامضِ حتى أريك النخلة التي تُصلب على جذعها ، فأراه إيّاها ، وكان ميثم يأتيها فيصلّي عندها ويقول : بوركتِ من نخلة ، لكِ خلقتُ ولي غُذِّيتِ ، ولم يزل يتعاهدها حتى قطعت ، وحتى عرف الموضع الذي يُصلب عليه بالكوفة. قال : وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول : إني مجاورك فأحسن جواري ، فيقول له عمرو : أتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم ؟ وهو لا يعلم ما يريد. وروي عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) ، عن أبيه ، عن آبائه صلوات الله عليهم ، 1 ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( عليه السلام ) : 1/105 ح 57. (594)
قال : أتى ميثم التمّار دار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقيل له : إنه نائم ، فنادى بأعلى صوته : انتبه أيُّها النائم! فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك ، فانتبه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : أدخلوا ميثماً ، فقال له : أيُّها النائم! والله لتخضبن لحيتك من رأسك ، فقال : صدقت ، وأنت والله لتقطعن يداك ورجلاك ولسانك ، ولتقطعن النخلة التي بالكناسة فتُشقّ أربع قطع ، فتُصلب أنت على ربعها ، وحجر بن عدي على ربعها ، ومحمد بن أكثم على ربعها ، وخالد بن مسعود على ربعها.
قال ميثم : فشككت في نفسي وقلت : إن علياً ليخبرنا بالغيب ، فقلت له : أو كائن ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إي وربِّ الكعبة ، كذا عهده إليَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ). قال : فقلت : لم يُفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ليأخذنك العتلُّ الزنيم ، ابن الأمة الفاجرة ، عبيدالله بن زياد. قال : وكان ( عليه السلام ) يخرج إلى الجبّانة وأنا معه ، فيمرّ بالنخلة فيقول لي : يا ميثم! إن لك ولها شأناً من الشأن. قال : فلمَّا ولي عبيدالله بن زياد الكوفة ودخلها تعلَّق عَلَمُه بالنخلة التي بالكناسة فتخرَّق ، فتطيَّر من ذلك ، فأمر بقطعها ، فاشتراها رجل من النَّجارين فشقَّها أربع قطع. قال ميثم : فقلت لصالح ابني : فخذ مسماراً من حديد فانقش عليه اسمي واسم أبي ، ودقَّه في بعض تلك الأجذاع ، قال : فلمَّا مضى بعد ذلك أيام أتاني قوم من أهل السوق فقالوا : يا ميثم! انهض معنا إلى الأمير نشكو إليه عامل السوق ، ونسأله أن يعزله عنّا ويولي علينا غيره. قال : وكنت خطيب القوم ، فنصت لي وأعجبه منطقي ، فقال له عمرو بن حريث : أصلح الله الأمير! تعرف هذا المتكلِّم ؟ قال : من هو ؟ قال : ميثم التمار ، الكذَّاب.. قال : فاستوى جالساً ، فقال لي : ما تقول ؟ فقلت : كذب أصلح الله (595)
الأمير ، بل أنا الصادق ، مولى الصادق علي بن أبي طالب أمير المؤمنين حقاً ، فقال لي : لتبرأنَّ من عليٍّ ، ولتذكرنَّ مساويه ، وتتولّى عثمان ، وتذكر محاسنه ، أو لأقطعنَّ يديك ورجليك ولأصلبنَّك ، فبكيت ، فقال لي : بكيت من القول دون الفعل ، فقلت : والله ما بكيت من القول ولا من الفعل ، ولكن بكيت من شكٍّ كان دخلني يوم خبَّرني سيدي ومولاي ، فقال لي : وما قال لك ؟ قال : فقلت : أتيت الباب فقيل لي : إنه نائم ، فناديت : انتبه أيها النائم ، فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك ، فقال : صدقت ، وأنت والله لتقطعن يداك ورجلاك ولسانك ولتصلبن ، فقلت : ومن يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين ؟ فقال : يأخذك العتلّ الزنيم ، ابن الأمة الفاجرة ، عبيدالله بن زياد.
قال : فامتلأ غيظاً ، ثمَّ قال لي : والله لأُقطعنَّ يديك ورجليك ، ولأدعنَّ لسانك حتى أكذبك وأكذب مولاك ، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه ، ثمَّ أُخرج فأمر به أن يُصلب ، فنادى بأعلى صوته : أيُّها الناس! من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).. قال : فاجتمع الناس وأقبل يحدِّثهم بالعجائب. قال : وخرج عمرو بن حريث وهو يريد منزله فقال : ما هذه الجماعة ؟ قالوا : ميثم التمّار يحدِّث الناس عن علي بن أي طالب ، قال : فانصرف مسرعاً فقال : أصلح الله الأمير! بادر فابعث إلى هذا من يقطع لسانه ، فإني لست آمن أن يغير قلوب أهل الكوفة فيخرجوا عليك ، قال : فالتفت إلى حرسيٍّ فوق رأسه فقال : اذهب فاقطع لسانه ، قال ، فأتاه الحرسي فقال له : يا ميثم! قال : ما تشاء ؟ قال : أخرج لسانك فقد أمرني الأمير بقطعه ، قال ميثم : ألا زعم ابن الأمة الفاجرة أنه يكذبني ويكذب مولاي ، هاك لساني ، قال : فقطع لسانه ، وتشحَّط ساعة في دمه ثمَّ مات ، وأمر به فصُلب ، قال صالح : فمضيت بعد ذلك بأيام ، فإذا هو قد صُلب (596)
على الربع الذي كنت دققت فيه المسمار (1).
ومنهم رشيد الهجري رضوان الله تعالى عليه ، روي بالإسناد عن فضيل بن الزبير ، قال : خرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى بستان البرني ومعه أصحابه ، فجلس تحت نخلة ، ثمَّ أمر بنخلة فلقطت فأنزل منها رطب ، فوضع بين أيديهم ، قالوا : فقال رشيد الهجري : يا أمير المؤمنين ، ما أطيب هذا الرطب! فقال : يا رشيد ، أما إنك ستُصلب على جذعها ، قال رشيد : فكنت اختلف إليها طرفي النهار أسقيها ، ومضى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، قال : فجئتها يوماً وقد قُطع سعفُها ، قلت : اقترب أجلي ، ثمَّ جئت يوماً فجاء العريف فقال : أجب الأمير ، فأتيته ، فلمَّا دخلت القصر إذا الخشب ملقى ، فإذا فيه الزرنوق ، فجئت حتى ضربت الزرنوق برجلي ، ثمَّ قلت : لك غذِّيتُ ولي أنبتَّ ، ثمَّ أُدخلت على عبيد الله بن زياد فقال : هات من كذب صاحبك ، فقلت : والله ما أنا بكذَّاب ولا هو ، ولقد أخبرني أنك تقطع يدي ورجلي ولساني.. وعن قنوا بنت رشيد الهجري ، قالت : سمعت من أبي يقول : حدَّثني أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا رشيد! كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيُّ بني أمية فقطع يديك ورجليك ولسانك ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين! آخر ذلك الجنة ؟ قال : بلى يا رشيد ، أنت معي في الدنيا والآخرة ، قالت : فوالله ما ذهبت الأيام حتى أرسل إليه الدعيُّ عبيدالله بن زياد ، فدعاه إلى البراءة من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأبى أن يتبرَّأ منه ، فقال له الدعيُّ : فبأيِّ ميتة قال لك تموت ؟ قال : أخبرني خليلي أنك تدعوني إلى البراءة منه فلا أتبرَّأ منه ، فتقدِّمني فتقطع يدي ورجلي ولساني ، فقال : والله لأُكذبن قوله فيك ، قدِّموه فاقطعوا يديه ورجليه ، واتركوا لسانه ، فحملت طوائفه لمَّا قطعت يداه ورجلاه ، فقلت له : يا أبه! كيف تجد ألماً لما أصابك ؟ فقال : لا يا بنية ، 1 ـ اختيار معرفة الرجال ، الشيخ الطوسي : 1/296 ـ 299 ح 140. (597)
إلاَّ كالزحام بين الناس ، فلمَّا حملناه وأخرجناه من القصر اجتمع الناس حوله ، فقال : ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، فإن للقوم بقيَّة لم يأخذوها منّي بعد ، فأتوه بصحيفة فكتب الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم ، وذهب لعين فأخبره أنه يكتب للناس ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، فأرسل إليه الحجَّام حتى قطع لسانه ، فمات في ليلته تلك.
وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يسمّيه رشيد البلايا ، وكان قد ألقى إليه علم البلايا والمنايا ، فكان في حياته إذا لقي الرجل قال له : يا فلان! تموت بميتة كذا وكذا ، وتقتل أنت ـ يا فلان ـ بقتلة كذا وكذا ، فيكون كما يقول الرشيد ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول له : أنت رشيد البلايا ، إنك تُقتل بهذه القتلة ، فكان كما قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه (1). ومنهم عمرو بن الحمق الخزاعي رضوان الله تعالى عليه ، جاء في البحار أن عمرو بن الحمق كان صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثمَّ صاحب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وفي كلمات الأئمة أنه كان عبداً صالحاً ، أبلته العبادة فأنحلت جسمه وصفَّرت لونه ، ولمَّا قُتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) طلبه معاوية ليقتله ، فكان لا يأوي الكوفة ، فبعث له معاوية الأمان والمواثيق والعهود أن لا يتعرَّض له بسوء ، فدخلها فقبض عليه وقتله. وعن شمير بن سدير الأزدي قال : قال علي ( عليه السلام ) لعمرو بن الحمق الخزاعي : يا عمرو! إنك لمقتول بعدي ، وإن رأسك لمنقول ، وهو أول رأس يُنقل في الإسلام ، وويل لقاتلك ، أما إنك لا تنزل بقوم إلاَّ أسلموك برمَّتك إلاَّ هذا الحيّ من بني عمرو بن عامر من الأزد ، فإنهم لن يسلموك ، ولن يخذلوك ، قال : فوالله ما مضت الأيام حتى تنقَّل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في الأحياء خائفاً مذعوراً ، حتى نزل 1 ـ الاختصاص ، الشيخ المفيد : 77 ـ 78. (598)
في قومه من بني خزاعة فأسلموه ، فقُتل وحُمل رأسه من العراق إلى معاوية (1).
وقال ابن كثير : وورد في حديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعا له أن يمتِّعه الله بشبابه ، فبقي ثمانين سنة لا يُرى في لحيته شعرة بيضاء ، وهو أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان ، ثمَّ صار بعد ذلك من شيعة علي ( عليه السلام ) ، فشهد معه الجمل وصفين ، وكان من جملة من أعان حجر بن عدي ، فتطلَّبه زياد فهرب إلى الموصل (2). وروى اليعقوبي في تأريخه أن الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي كان من أصحاب حجر بن عدي الذين لا يسكتون على سبِّ الإمام علي ( عليه السلام ) على منبر الكوفة ، فأمر معاوية عامله زياد بن أبيه أن يقبض عليهم ، ويشخصهم إليه في دمشق ، فهرب عمرو بن الحمق وعدّةٌ معه إلى الموصل ، وبلغ عبد الرحمن بن أم الحكم ـ وكان عامل معاوية على الموصل ـ مكان عمرو بن الحمق الخزاعي ، ورفاعة بن شدّاد ، فوجَّه في طلبهما ، فخرجا هاربين ، وعمرو بن الحمق شديد العلّة ، فلمَّا كان في بعض الطريق لدغت عمراً حيَّةٌ ، فقال : الله أكبر! قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عمرو! ليشترك في قتلك الجنّ والإنس ، ثمَّ قال لرفاعة : امض لشأنك ، فإني مأخوذ ومقتول ، ولحقته رسل عبد الرحمن بن أم الحكم فأخذوه ، وضُربت عنقه ، ونُصب رأسه على رمح ، وطيف به ، فكان أول رأس طيف به الإسلام ، وقد كان معاوية حبس امرأته بدمشق ، فلمَّا أتى رأسه بعث به ، فوضع في حجرها ، فقالت للرسول : أبلغ معاوية ما أقول : طالبه الله بدمه ، وعجَّل له الويل من نقمه ، فقد أتى أمراً فريّاً ، وقتل برّاً نقياً ، وكان أول من حبس النساء بجرائر الرجال (3). وقال ابن عساكر : كان تحت عمرو بن الحمق آمنة بنت الشريد ، فحبسها 1 ـ الأنوار العلوية ، الشيخ جعفر النقدي : 467. 2 ـ البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/52. 3 ـ تأريخ اليعقوبي : 2/230 ـ 232. (599)
معاوية في سجن دمشق زماناً ، حتى وجّه إليها برأس عمرو بن الحمق ، فألقي في حجرها ، فارتاعت لذلك ، ثمَّ وضعته في حجرها ووضعت كفّها على جبينه ، ثمَّ لثمت فاه ، ثمّ قالت : غيَّبتموه عني طويلا ، ثمَّ أهديتموه إليَّ قتيلا ، فأهلا بها من هدية ، غير قالية ومقليَّة.
وذكر أبو الحسن علي بن محمد الكاتب المعروف بالشابشتي أن عمرو بن الحمق لمَّا قُتل حُمل رأسه إلى معاوية ، وهو أول رأس حُمل في الإسلام من بلد إلى بلد ، وكانت آمنة بنت الشريد زوجته بدمشق ، فلمَّا حُمل رأس عمرو إليه أمر أن يُلقى في حجرها ، وأن يُسمع منها ما تقول ، فلمَّا رأته ارتاعت له ، وأكبَّت عليه تقبِّله ، وقالت : واضعيتاه في دار هوان ، بَقّيتموه طويلا ، وأهديتموه إليَّ قتيلا ، فأهلا وسهلا ، كنت له غير قالية ، وأنا له غير ناسية ، قل لمعاوية : أيتم الله ولدك ، وأوحش منك أهلك ، ولا غفر لك ذنبك (1). وقال النسَّابة أبو جعفر محمد بن حبيب في كتاب المحبر : ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي ـ وكان شيعياً ـ ودير به في السوق (2). وقال ابن كثير : فطيف به في الشام وغيرها ، فكان أول رأس طيف به (3) ولكن ـ أيها المؤمنون ـ لا مصيبةَ كمصيبةِ ريحانةِ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) الحسين ( عليه السلام ) الذي طيف برأسه البلدان ، على رمح طويل ، ينظر إليه نساؤه وبناته ، وشيبته مخضَّبة بدمه ، وبقي جسمه على بوغاء كربلاء بلا دفن ثلاثة أيام ، ولله درّ ابن حماد عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 69/40 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4/101. 2 ـ الغدير ، الشيخ الأميني : 11/44. 3 ـ البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/52. (600)
يا سادتي يا آل رسول الله ، إني بكم أتقرَّب إلى الله جلَّ وعلا ، بالخلاف على الذين غدروا بكم ، ونكثوا بيعتَكم ، وجحدوا ولايتَكم ، وأنكروا منزلتَكم ، وخلعوا ربقةَ طاعتِكم ، وهجروا أسبابَ مودّتِكم ، وتقرَّبوا إلى فراعنتِهم بالبراءة منكم ، والإعراض عنكم ، ومنعوكم من إقامةِ الحدود ، واستئصالِ الجحود ، وشعبِ الصدع ، ولمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وتثقيفِ الأود ، وإمضاءِ الأحكام ، وتهذيبِ الإسلام ، وقمع الآثام ، وأرهجوا عليكم نقعَ الحروبِ والفتن ، وأنحوا عليكم سيوفَ الأحقاد ، هتكوا منكم الستورَ ، وابتاعوا بخمسكم الخمورَ ، وصرفوا صدقاتِ المساكين إلى المضحكين والساخرين (2). وممن قُتل في محبَّة أهل البيت ( عليهم السلام ) حجر بن عدي ، الذي هو أحد أعلام 1 ـ المنتخب الطريحي : 192. 2 ـ المزار ، محمد بن المشهدي : 295 ـ 296. |
||||||||||||||||||||||||||||||
|