|
|||||||||||||||||||||||||||||||||
(616)
بالله ، هل فيكم أحد له أخ مثل أخي جعفر ، المزيَّن بالجناحين في الجنة ، يحلّ فيها حيث يشاء ، غيري ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : نشدتكم هل فيكم أحد له عمٌّ مثل عمّي حمزة ، أسد الله وأسد رسوله ، وسيِّدالشهداء ، غيري ؟ قالوا : اللهم لا.
وعن عبد الرحمن بن بكير ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : على قائمة العرش مكتوب : حمزة أسد الله وأسد رسوله وسيِّد الشهداء... وعن سلمان قال : قال النبيُّ ( صلى الله عليه وآله ) لفاطمة ( عليها السلام ) : شهيدنا سيِّد الشهداء ، وهو حمزة بن عبد المطلب ، وهو عمُّ أبيك ، قالت : يا رسول الله! وهو سيِّد الشهداء الذين قُتلوا معك ؟ قال : لا ، بل سيِّد شهداء الأولين والآخرين ، ما خلا الأنبياء والأوصياء ، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين الطيَّار في الجنة مع الملائكة. وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إنه ليرى يوم القيامة إلى جانب الصراط عالم كثير من الناس ، لا يعرف عددهم إلاَّ الله تعالى ، هم كانوا محبّي حمزة ، وكثير منهم أصحاب الذنوب والآثام ، فتحول حيطان بينهم وبين سلوك الصراط والعبور إلى الجنة ، فيقولون : يا حمزة! قد ترى ما نحن فيه ، فيقول حمزة لرسول الله ولعلي بن أبي طالب : قد تريان أوليائي يستغيثون بي ، فيقول محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعليٍّ وليِّ الله ( عليه السلام ) : يا علي! أعن عمَّك على إغاثة أوليائه ، واستنقاذهم من النار ، فيأتي علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) إلى الرمح الذي كان يقاتل به حمزة أعداء الله في الدنيا ، فيناوله إيَّاه ويقول : يا عمَّ رسول الله ، ويا عمَّ أخي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذُدِ الجحيم بالرمي عن أوليائك برمحك هذا ، كما كنت تذود به عن أولياء الله في الدنيا أعداء الله ، فيتناول حمزة الرمح بيده فيضع زجَّه في حيطان النار الحائلة بين أوليائه وبين العبور إلى الجنة على الصراط ، ويدفعها دفعة فينحّيها مسيرة خمسمائة عام ، ثمَّ يقول لأوليائه والمحبّين الذين كانوا له في الدنيا : اعبروا ، فيعبرون على الصراط آمنين سالمين قد انزاحت عنهم النيران ، وبَعُدت عنهم الأهوال ، ويَرِدون الجنّة غانمين ظافرين. (617)
وعن إسماعيل بن جابر وزرارة ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : دفن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عمَّه حمزة في ثيابه بدمائه التي أصيب فيها ، وردَّاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) بردائه ، فقصُر عن رجليه ، فدعا له بأذخر فطرحه عليه ، فصلَّى عليه سبعين صلاة ، وكبَّر عليه سبعين تكبيرة (1).
وعن الصادق ، عن أبيه ، عن جدّه ( عليهم السلام ) قال : قال الحسن بن علي ( عليهما السلام ) فيما احتجَّ على معاوية : وكان ممن استجاب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عمُّه حمزة وابن عمّه جعفر ، فقُتلا شهيدين ـ رضي الله عنهما ـ في قتلى كثيرة معهما من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فجعل الله تعالى حمزة سيِّد الشهداء من بينهم ، وجعل لجعفر جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء من بينهم ، وذلك لمكانهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ومنزلتهما وقرابتهما منه ( صلى الله عليه وآله ) ، وصلَّى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على حمزة سبعين صلاة من بين الشهداء الذين استشهدوا معه.. وعن حبيب بن أبي ثابت ، عن علي بن الحسين ( عليهما السلام ) قال : لم يدخل الجنة حميّة غير حميّة حمزة بن عبدالمطلب ، وذلك حين أسلم غضباً للنبيِّ ( صلى الله عليه وآله ) في حديث السلا الذي أُلقي على النبي ( صلى الله عليه وآله ). وعن ابن عباس قال : قال لي النبي ( صلى الله عليه وآله ) : رأيت فيما يرى النائم عمّي حمزة بن عبد المطلب ، وأخي جعفر بن أبي طالب ، وبين أيديهما طبق من نبق ، فأكلا ساعةً فتحوَّل العنب لهما رطباً ، فأكلا ساعة ، فدنوت منهما وقلت : بأبي أنتما ، أيّ الأعمال وجدتما أفضل ؟ قالا : فديناك بالآباء والأمهات ، وجدنا أفضل الأعمال الصلاة عليك ، وسقي الماء ، وحبّ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) (2). وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مرَّ على دور من دور الأنصار من بني عبد 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 22/280. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 22/282 ـ 283. (618)
الأشهل ، فسمع البكاء والنوائح على قتالهم ، فذرفت عيناه وبكى ، ثمَّ قال : لكنَّ حمزة لا بواكي له ، فلمَّا رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دور بني عبد الأشهل أمرا نساءهم أن يذهبن فيبكين على عمِّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلمَّا سمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكاءهن على حمزة خرج إليهن وهن على باب مسجده يبكين ، فقال لهن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ارجعن يرحمكن الله ، فقد واسيتن بأنفسكن (1) وفي رواية : ولمَّا انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من وقعة أحد إلى المدينة سمع من كل دار قُتل من أهلها قتيل نوحاً وبكاء ، ولم يسمع من دار حمزة عمِّه ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : لكنَّ حمزة لابواكي له ، فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميِّت ولا يبكوه حتى يبدؤوا بحمزة فينوحوا عليه ويبكوه ، فهم إلى اليوم على ذلك (2).
ولله درّ الشيخ محمد سعيد المنصوري إذ يقول :
1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 79/92. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 79/105. (619)
وقد روي عن عبدالله بن مسعود ، قال : ما رأينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) باكياً قط أشدَّ من بكائه على حمزة بن عبد المطلب لما قتل (3). فكيف به إذن لو نظر إلى سبطه الحسين ( عليه السلام ) شلواً مبضَّعاً ، وقد وزَّعته الأسنَّة ، لكان حاله بلا شك أشد من حاله يوم مقتل حمزة بن عبد المطلب ، وكما قال الشاعر :
قالت أسماء بنت عميس رضي الله عنها محتجَّةً على هذه الأمة التي سفكت 1 ـ نظم هذه القصيدة جاء بطلب منا أيضاً من الخطيب الشيخ المنصوري فجزاه الله خير الجزاء على مساعيه النبيلة. 2 ـ الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 295. 3 ـ ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 181 ، شرح مسند أبي حنيفة ، القاري : 526. (620)
دم ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
1 ـ شرح ميمية أبي فراس : 119. 2 ـ المحاسن والمساوىء ، البيهقي : 246. (621)
وقال أبو فراس الحمداني :
وقد كان عهد المنصور عهداً حافلا بالظلم ، متّسماً بالرعب والاستبداد ، فما كان ليجرأ أحد آنذاك على مخالطة أحد من العلويين ، ومن يفعل ذلك يعرِّض نفسه لخطر السجن إن لم يكن القتل ، وقد كان ذلك سببا كافياً للعقوبة عند المنصور في حكمه الظالم ، ولمَّا دخل إبراهيم بن هرثمة ، المعاصر للمنصور المدينة ، أتاه رجل من العلويين فسلَّم عليه ، فقال له إبراهيم : تنحَّ عني ، لا تشط بدمي (3). 1 ـ الغدير ، الشيخ الأميني : 2/375 ـ 376. 2 ـ مروج الذهب ، المسعودي : 3/298 ، تاريخ بغداد ، البغدادي : 6/129. 3 ـ تأريخ بغداد ، البغدادي : 6/127 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 72. (622)
وجاء في كتاب المأمون العباسي الذي أرسله إلى العباسيين ـ بعد ما ذكر حسن سياسة أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) مع ولد العباس ـ قال : حتى قضى الله بالأمر إلينا ، فأخفناهم ، وضيَّقنا عليهم ، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم ، وَيْحَكُمْ ، إن بني أميَّة قتلوا من سلَّ سيفاً ، وإنّا معشر بني العباس قتلناهم جُملا...
وقال الجلودي الذي أمره الرشيد بالإغارة على دور آل أبي طالب عندما جعل المأمون ولاية العهد للرضا صلوات الله عليه : أُعيذك بالله ـ يا أمير المؤمنين ـ أن تُخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم ، وخصَّكم به ، وتجعله في أيدي أعدائكم ، ومن كان آباؤك يقتلونهم ، ويشرِّدونهم في البلاد (1) ، وأمر الرشيد عامله على المدينة بأن يضمن العلويين بعضهم بعضاً (2). وروى الشيخ الصدوق عليه الرحمة ، قال : قال أبو منصور المطرز : سمعت الحاكم أبا أحمد محمد بن محمد بن إسحاق الأنماطي النيسابوري يقول بإسناد متّصل ذكره محمد ، إنه لمَّا بنى المنصور الأبنية ببغداد جعل يطلب العلويّة طلباً شديداً ، ويجعل من ظفر به منهم في الإسطوانات المجوَّفة المبنيَّة من الجصّ والآجر ، فظفر ذات يوم بغلام منهم حسن الوجه ، عليه شعر أسود ، من ولد الحسن بن علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فسلَّمه إلى البنَّاء الذي كان يبني له ، وأمره أن يجعله في جوف إسطوانة ويبني عليه ، ووكلَّ به من ثقاته من يُراعي ذلك ، حتى يجعله في جوف إسطوانة بمشهده ، فجعله البنَّاء في جوف إسطوانة ، فدخلته رقّة عليه ورحمة له ، فترك في الإسطوانة فرجة يدخل منها الروح (3) ، وقال للغلام : لا بأس عليك ، فاصبر ، فإني سأخرجك من جوف هذه الإسطوانة إذا جنَّ الليل. 1 ـ عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ، الصدوق : 1/171. 2 ـ حياة الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، السيد جعفر مرتضى العاملي : 100 ، تاريخ ابن خلدون : 3/215. 3 ـ الروح : نسيم الريح. (623)
ولمَّا جنَّ الليل جاء البنَّاء في ظلمته ، وأخرج ذلك العلويَّ من جوف تلك الإسطوانة ، وقال له : اتقِ الله في دمي ودم الفعلة الذين معي ، وغيِّب شخصك ، فإني إنما أخرجتك في ظلمة هذه الليلة من جوف هذه الإسطوانة لأني خفت إن تركتك في جوفها أن يكون جدّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم القيامة خصمي بين يدي الله عزَّ وجلَّ ، ثمَّ أخذ شعره بآلات الجصَّاصين كما أمكن ، وقال له : غيِّب شخصك بنفسك ، ولا ترجع إلى أمك ، قال الغلام : فإن كان هذا هكذا فعرِّف أمي أنّي قد نجوت وهربت ، لتطيب نفسها ، ويقلَّ جزعها وبكاؤها ، إن لم يكن لعودي إليها وجه ، فهرب الغلام ، ولا يُدرى أين قصد من أرض الله ، ولا إلى أيِّ بلد وقع ؟ قال ذلك البنَّاء : وقد كان الغلام عرَّفني مكان أمه ، وأعطاني العلامة شعره ، فانتهيت إليها في الموضع الذي كان دلَّني عليه ، فسمعت دويّاً كدويِّ النحل من البكاء ، فعلمت أنها أمه ، فدنوت منها وعرَّفتُها خبرَ ابنها ، وأعطيتُها شَعرَه ، وانصرفت (1).
ويروى فيما جرى على العلويين من آل الحسن ( عليه السلام ) أيَّام المنصور أنهم أُخذوا فصفِّدوا في الحديد ، ثمَّ حُملوا في محامل أعراء لا وطاء فيها ، ووقفوا بالمصلى لكي يشتمهم الناس ، فكفَّ الناس عنهم ، ورقّوا لهم للحال التي هم فيها ، ثمَّ انطلقوا بهم حتى وقفوا عند باب مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو الباب الذي يقال له باب جبرئيل ( عليه السلام ) ، فاطّلع عليهم أبو عبدالله ( عليه السلام ) ، وعامّة ردائه مطروح بالأرض ، ثمَّ اطّلع من باب المسجد ، فقال : لعنكم الله يا معشر الأنصار ـ ثلاثاً ـ ما على هذا عاهدتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا بايعتموه ، ثمَّ قام وأخذ إحدى نعليه فأدخلها رجله ، والأخرى في يده ، وعامة ردائه يجرُّه في الأرض ، ثمَّ دخل في بيته فحمَّ عشرين ليلة ، لم يزل يبكي فيها الليل والنهار حتى خيف عليه. وروي أنه لمَّا طلع بالقوم في المحامل قام أبو عبدالله ( عليه السلام ) من المسجد ، ثمَّ 1 ـ عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ، الصدوق : 2/102 ح 2 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 47/306. (624)
أهوى إلى المحمل الذي فيه عبد الله بن الحسن يريد كلامه ، فمنع أشدَّ المنع وأهوى إليه الحرسيُّ فدفعه ، وقال : تنحَّ عن هذا ، فإن الله سيكفيك ويكفي غيرك ، ثمَّ دخل بهم الزقاق ، ورجع أبو عبدالله إلى منزله ، فلم يبلغ بهم البقيع حتى ابتُلي الحرسي بلاء شديداً ، رمحت ناقته فدقَّت وركه فمات (1).
وروى الطبري في تأريخه ، قال : وذكر أبو يعقوب بن سليمان ، قال : حدَّثتني جمرة العطارة عطارة أبي جعفر ، قالت : لما عزم المنصور على الحجّ دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي ، وكان المهدي بالريّ قبل شخوص أبي جعفر ، فأوصاها بما أراد ، وعهد إليها ، ودفع إليها مفاتيح الخزائن ، وتقدَّم إليها ، وأحلفها ووكَّد الأيمان ، لا تفتح بعض تلك الخزائن وتُطْلِع عليها أحداً إلاَّ المهدي ، ولا هي إلاَّ أن يصحَّ عندها موته ، فإذا صحَّ ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث ، حتى يفتحا الخزانة ، فلمَّا قدم المهدي من الريِّ إلى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح ، وأخبرته عن المنصور أنه تقدَّم إليها فيه ألا يفتحه ، ولا يطلع عليه أحداً حتى يصحَّ عندها موته ، فلمَّا انتهى إلى المهدي موت المنصور وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة ، فإذا أزجّ كبير فيه جماعة من قتلاء الطالبيين ، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم ، وإذا فيهم أطفال ، ورجال شباب ، ومشايخ عدّة كثيرة ، فلمَّا رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى ، وأمر فحُفرت لهم حفيرة ، فدفنوا فيها ، وعُمل عليهم دكّان (2). وروى الشيخ الصدوق عليه الرحمة ، عن عبيد الله البزاز النيسابوري ـ وكان مُسناً ـ قال : كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة ، فرحلت إليه في بعض الأيام ، فبلغه خبر قدومي ، فاستحضرني للوقت وعليَّ ثياب السفر لم 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 96/239. 2 ـ تاريخ الطبري : 6/343. (625)
أغيِّرها ، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر ، فلمَّا دخلت إليه رأيته في بيت يجري فيه الماء ، فسلَّمت عليه وجلست ، فأُتي بطست وإبريق فغسل يديه ، ثمَّ أمرني فغسلت يدي ، وأُحضرت المائدة ، وذهب عنّي أني صائم ، وأني في شهر رمضان ، ثمَّ ذكرت فأمسكت يدي ، فقال لي حميد : مالك لا تأكل ؟ فقلت : أيُّها الأمير! هذا شهر رمضان ، ولست بمريض ، ولا بي علّة توجب الإفطار ، ولعل الأمير له عذر في ذلك ، أو علّة توجب الإفطار ، فقال : ما بي علّة توجب الإفطار ، وإني لصحيح البدن.
ثمَّ دمعت عيناه وبكى ، فقلت له بعد ما فرغ من طعامه : ما يُبكيك أيها الأمير ؟ فقال : أنفذ إليَّ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب ، فلمَّا دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتّقد ، وسيفاً أخضر مسلولا ، وبين يديه خادم واقف ، فلمَّا قمت بين يديه رفع رأسه إليَّ فقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ فقلت : بالنفس والمال ، فأطرق ، ثمَّ أذن لي في الانصراف ، فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إليَّ وقال : أجب أمير المؤمنين ، فقلت في نفسي : إنّا لله ، أخاف أن يكون قد عزم على قتلي ، وأنه لمَّا رآني استحيى مني ، فعدت إلى بين يديه ، فرفع رأسه إليَّ فقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ فقلت : بالنفس والمال والأهل والولد ، فتبسَّم ضاحكاً ، ثمَّ أذن لي في الانصراف ، فلمَّا دخلت منزلي لم ألبث أن عاد الرسول إليَّ فقال : أجب أمير المؤمنين ، فحضرت بين يديه وهو على حاله ، فرفع رأسه إليَّ فقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ فقلت : بالنفس والمال والأهل والولد والدين ، فضحك ، ثمَّ قال لي : خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به هذا الخادم. قال : فتناول الخادم السيف وناولنيه ، وجاء بي إلى بيت بابه مغلق ، ففتحه فإذا فيه بئر في وسطه ، وثلاث بيوت أبوابها مغلقة ، ففتح باب بيت منها فإذا فيه (626)
عشرون نفساً ، عليهم الشعور والذوائب ، شيوخ وكهول وشبّان مُقيَّدون ، فقال لي : إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ، وكانوا كلّهم علويّة من ولد علي وفاطمة ( عليهما السلام ) فجعل يُخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه حتى أتيت على آخرهم ، ثمَّ رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر.
ثمَّ فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضاً عشرون نفساً من العلويّة ، من ولد علي وفاطمة ( عليهما السلام ) ، مُقيَّدون ، فقال لي : إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ، فجعل يُخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه ويرمي به في تلك البئر ، حتى أتيت على آخرهم ، ثمَّ فتح باب البيت الثالث فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً ، من ولد علي وفاطمة ( عليهما السلام ) ، مُقيَّدون ، عليهم الشعور والذوائب ، فقال لي : إن أمير المؤمنين يأمرك أن تقتل هؤلاء أيضاً ، فجعل يُخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه فيرمي به في تلك البئر ، حتى أتيت على تسعة عشر نفساً منهم ، وبقي شيخ منهم عليه شعر ، فقال لي : تبّاً لك يا مشوم ، أيُّ عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدّنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد قتلت من أولاده ستين نفساً ، قد ولدهم علي وفاطمة ( عليهما السلام ) ؟ فارتعشت يدي ، وارتعدت فرائصي ، فنظر إليَّ الخادم مغضباً وزبرني ، فأتيت على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته ، ورمى به في تلك البئر ، فإذا كان فعلي هذا ، وقد قتلت ستين نفساً من ولد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فما ينفعني صومي وصلاتي ؟ وأنا لا أشكّ أنّي مخلَّد في النار (1). وهكذا كان أيضاً حال العلويين في زمن المتوكل العباسي ، فقد عُرف هو الآخر بنصبه وعداوته لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، قال أبو الفرج : واستعمل ( المتوكل ) على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي ، فمنع الناس من البرِّ بآل أبي طالب ، وكان لا يبلغه أن أحداً أبرَّ أحداً منهم بشيء وإن قلَّ إلاَّ أنهكه عقوبة ، وأثقله غرماً ، حتى 1 ـ عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ، الصدوق : 2/100 ـ 102 ح 2 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 48/176 ح 20. (627)
كان القميص يكون بين جماعة من العلويَّات يُصلّين فيه واحدة بعد واحدة ، ثمَّ يرقّعنه ، ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر ، إلى أن قُتل المتوكل ، فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم ، ووجَّه بمال فرَّقه فيهم ، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ، ومضادّة مذهبه ، طعناً عليه ونصرة لفعله (1).
ولله درّ السيد حيدر الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الإصفهاني : 395 ـ 396. (628)
المجلس الرابع والعشرون
روى الشيخ الكليني عليه الرحمة ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : لمَّا أراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يتزوَّج خديجة بنت خويلد أقبل أبو طالب في أهل بيته ، ومعه نفر من قريش حتى دخل على ورقة بن نوفل عمِّ خديجة ، فابتدأ أبو طالب بالكلام ، فقال : الحمد لربِّ هذا البيت ، الذي جعلنا من زرع إبراهيم ، وذرية إسماعيل ، وأنزلنا حرماً آمناً ، وجعلنا الحكَّام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه ، ثمَّ إن ابن أخي هذا ـ يعني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ ممن لا يوزن برجل من قريش إلاَّ رجح به ، ولا يقاس به رجل إلاَّ عظم عنه ، ولا عدل له في الخلق وإن كان مقلاًّ في المال ، فإن المال رفدٌ جار وظلٌّ زائل ، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة ، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها ، والمهر عليَّ في مالي الذي سألتموه ، عاجله وآجله ، وله ـ وربِّ هذا البيت ـ حظٌّ عظيم ، ودين شائع ، ورأي كامل.
زواج خديجة ( عليها السلام ) من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونبذة من فضلها وحياتها الشريفة ثمَّ سكت أبو طالب ، وتكلَّم عمُّها ، وتلجلج وقصر عن جواب أبي طالب ( عليه السلام ) ، وأدركه القطع والبهر ، وكان رجلا من القسيسين ، فقالت خديجة مبتدئة : يا عمَّاه! إنك وإن كنت أولى بنفسي منّي في الشهود ، فلست أولى بي من نفسي ، قد زوَّجتك ـ يا محمد ـ نفسي ، والمهر عليَّ في مالي ، فأمر عمَّك فلينحر ناقة فليولم بها ، وادخل على أهلك ، قال أبو طالب : اشهدوا عليها بقبولها محمداً ، وضمانها المهر في مالها ، فقال بعض قريش : يا عجباه! المهر على النساء للرجال ، فغضب أبو طالب غضباً شديداً ، وقام على قدميه ـ وكان ممن يهابه الرجال ويُكره (629)
غضبُه ـ فقال : إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طُلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر ، وإذا كانوا أمثالكم لم يُزوَّجوا إلاَّ بالمهر الغالي ، ونحر أبو طالب ناقة ، ودخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأهله ، وقال رجل من قريش يقال له : عبدالله بن غنم :
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ). وخديجة هي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب فصلوات الله وسلامه على هذه المرأة الجليلة ، النبيلة الأصيلة ، العقيلة الكاملة ، العاقلة الباذلة ، العالمة الفاضلة ، العابدة الزاهدة ، المجاهدة الحازمة ، والحبيبة لله ولرسوله ولوليِّه ، المختارة من النساء ، والصفيَّة البيضاء ، حليلة الرسول ، وأمّ البتول ، صفوة النسوة الطاهرات ، وسيِّدة العفائف المطهَّرات ، أفضل أمَّهات المؤمنين ، وأشرف زوجات رسول الله الأمين ، وأول من آمنت من النساء ، 1 ـ الكافي ، الشيخ الكليني : 5/374 ح 9. (630)
وأسبقهنَّ بعبادة ربِّ الأرض والسماء ، سيِّدة النسوان ، وخاصَّة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وخلاصة الإيمان ، أصل العزَّ والمجد ، وشجرة الفخر والنجد ، السابقة إلى الإسلام والدين في العاجلة والأخرى ، مولاتنا وسيِّدتنا أم المؤمنين ، خديجة الكبرى ، وهي أميرة عشيرتها ، وسيِّدة قومها ، ووزيرة صدق لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ).
ولدت ( عليها السلام ) قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة ، وتوفِّيت في شهر رمضان سنة عشر من البعثة ، في اليوم العاشر ، بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام. ومن جملة شؤونها أنها ( عليها السلام ) كانت أوَّل امرأة آمنت برسول الله ، وقد شيَّد الله دينه بمال خديجة كما قال ( صلى الله عليه وآله ) ، فيما روي عنه : ما قام ولا استقام ديني إلاَّ بشيئين : مال خديجة وسيف علي بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : « وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى » (1) يعني وجدك فقيراً فأغناك بمال خديجة. وكان لخديجة ( عليها السلام ) مال كثير ، وحسنٌ وجمال ، ومن جملة مالها : من أواني الذهب مئة طشت ، ومن الفضة مثلها ، ومئة إبريق من ذهب ، ومن العبيد والجواري مئة وستون ، ومن البقر والغنم والإبل والحلي والحلل وغيرها ما شاء الله ، قيل : كان لها ثمانون ألف من الإبل ، بل كانت تؤجر وتكري من بلد إلى بلد ، فبذلت تلك الأموال والجواري والعبيد لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى بقيت تنام هي ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في كساء واحد لم يكن لها غيره. ومن جملة شؤونها أن الله وجبرئيل بلَّغاها السلام ، كما قال ( صلى الله عليه وآله ) فيما روي عنه : لمَّا رجعت من السماء قلت : يا جبرئيل ، هل لك من حاجة ؟ قال : حاجتي أن تقرأ من الله ومنّي على خديجة السلام ، وبلَّغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالت : إن الله هو السلام ، ومنه السلام ، وإليه يعود السلام ، وعلى جبرئيل السلام. 1 ـ سورة الضحى ، الآية : 8. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||
|