المكاسب ـ جلد الأول ::: 91 ـ 100
(91)
من كلماتهم.
    [ إرجاع كلمات القدماء إلى ما ذكره المتأخّرون ]
    والذي أظن ـ وإن كان الظن لا يغني لغيري شيئا ـ أن كلمات القدماء ترجع إلى ما ذكره المتأخرون ، وأن المراد بالانتفاع في كلمات القدماء : الانتفاعات الراجعة إلى الأكل والشرب ، وإطعام الغير ، وبيعه على نحو بيع ما يحل أكله (1).
    ثم (2) لو فرضنا مخالفة القدماء كفى موافقة المتأخرين في دفع (3) الوهن عن الأصل والقاعدة السالمين عما يرد عليهما.

    [ جواز بيعه لغير الاستصباح من الانتفاعات بناءً على جوازها ]
    ثم على تقدير جواز غير الاستصباح من الانتفاعات ، فالظاهر جواز بيعه لهذه الانتفاعات ، وفاقا للشهيد والمحقق الثاني قدس سرهما.
    قال الثاني في حاشية الإرشاد ـ في ذيل قول العلامة رحمه الله : إلا الدهن للاستصباح ـ : إن في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا الشهيد أن الفائدة لا تنحصر في ذلك ، إذ معفرض فائدة اخرى للدهن لا تتوقف على طهارته يمكن بيعها لها ، كاتخاذ الصابون منه ، قال : وهو مروي ، ومثله طلي الدواب. أقول : لا بأس بالمصير إلى ما ذكره شيخنا ، وقد ذكرأن به رواية (4) ، انتهى.
1 ـ في هامش ف ـ هنا ـ زيادة ما يلي : كما يشهد لذلك أن المحقق قدس سره في ماتقدم من كلامه الأول لم يسند عموم المنع إلا إلى إطلاق الشيخ قدس سره ، لا إلى مذهبه ـ هنا كلمتان غير مقروءتين .. صح صح.
2 ـ شطب في ف على ثم وكتب بدلها : و.
3 ـ كذا في ع و ص ، وفي سائر النسخ : رفع.
4 ـ حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : 204.


(92)
    أقول : والرواية إشارة إلى ما عن الراوندي ـ في كتاب النوادر ـ بإسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام ، وفيه : سئل عليه السلام عن الشحم يقع فيه شيء لهدم فيموت ؟ قال عليه السلام : تبيعه لمن يعمله صابونا ... الخبر (1).

    [ حكم بيع غير الدهن من المتنجّسات ]
    ثم لو قلنا بجواز البيع في الدهن لغير المنصوص من الانتفاعات المباحة ، فهل يجوز بيع غيره من المتنجسات المنتفع بها في المنافع المقصودة المحللة ـ كالصبغ والطين ونحوهما ـ ، أم يقتصر على المتنجس المنصوص ـ وهو الدهن ـ غاية الأمر التعدي من حيث غاية البيع إلى غير الاستصباح ؟ إشكال :
    [ وجه المنع ]
    من ظهور استثناء الدهن في كلام المشهور في عدم جواز بيع ماعداه ، بل عرفت من المسالك (2) نسبة عدم الفرق بين ما له منفعة محللة وما ليست له إلى نص الأصحاب.
    [ وجه الجواز ]
    ومما تقدم في مسألة جلد الميتة : من أن الظاهر من كلمات جماعة من القدماء والمتأخرين ـ كالشيخ في الخلاف وابن زهرة والعلامة وولده والفاضل المقداد والمحقق الثاني (3) وغيرهم ـ دوران المنع عن بيع النجس
1 ـ مستدرك الوسائل 13 : 73 ، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 7 ، ولفظ الحديث : أن عليا عليه السلام سئل عن الزيت يقع فيه ... .
2 ـ تقدم في الصفحة : 90.
3 ـ الخلاف 3 : 187 ، كتاب البيوع ، المسألة 312 ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 524 ، التذكرة1 : 465 ، إيضاح الفوائد 1 : 401 ، التنقيح 2 : 5 ، جامع المقاصد 4 : 12.


(93)
مدار جواز الانتفاع به وعدمه ، إلا ما خرج بالنص ـ كأليات الميتة (1) مثلا ـ أو مطلق نجس العين ، على ما سيأتي من الكلام فيه ، وهذا هو الذي يقتضيه استصحاب الحكم قبل التنجس (2) وهي (3) القاعدة المستفادة من قوله عليه السلام ـ في رواية تحف العقول ـ : إن كل شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات ، فذلك كله حلال (4).
    وما تقدم من رواية دعائم الإسلام من حل بيع كل ما يباح الانتفاع به (5).
    [ توجيه ما يظهر منه المنع من النصوص ]
    وأما قوله تعالى : ( فاجتنبوه ) (6) وقوله تعالى : ( والرجز فاهجر ) (7) فقد عرفت أنهما لايدلان (8) على حرمة الانتفاع بالمتنجس ، فضلا عن حرمة البيع على تقدير جواز الانتفاع.
    ومن ذلك يظهر عدم صحة الاستدلال في ما نحن فيه بالنهي ـ في رواية تحف العقول ـ عن بيع شيء من وجوه النجس بعد ملاحظة (9)
1 ـ الوسائل 16 : 296 ، الباب 30 من أبواب الذبائح ، الحديث 4.
2 ـ كذا في ش ، وفي سائر النسخ : التنجيس.
3 ـ مشطوب عليها في ن.
4 ـ تحف العقول : 333.
5 ـ راجع الصفحة : 10.
6 ـ المائدة : 89.
7 ـ المدثر : 5.
8 ـ في أكثر النسخ : أنها لا تدل. وفي ش : أنهما لا تدلان ، وما أثبتناه مطابق لمصححة ن.
9 ـ وردت في ش فقط.


(94)
تعليل المنع فيها بحرمة الانتفاع.
    [ توجيه كلام مَن أطلق المنع ]
    ويمكن حمل كلام من أطلق المنع عن بيع النجس إلا الدهن لفائدة الاستصباح على إرادة المائعات النجسة التي لا ينتفع بها في غير الأكل والشرب منفعة محللة مقصودة من أمثالها.
    ويؤيده : تعليل استثناء الدهن بفائدة (1) الاستصباح ، نظير استثناء بول الإبل للاستشفاء ، وإن احتمل أن يكون ذكر الاستصباحل بيان ما يشترط أن يكون غاية للبيع.
    قال في جامع المقاصد ـ في شرح قول العلامة قدس سره : إلا الدهن المتنجس (2) لتحقق فائدة (3) الاستصباح به تحت السماء خاصة ـ قال : وليس المراد ب‍ خاصة بيان حصر الفائدة (4) ـ كما هو الظاهر ـ ، وقد ذكر شيخنا الشهيد في حواشيه : أن في رواية جواز اتخاذ الصابون من الدهن المتنجس ، وصرح معذلك بجواز الانتفاع به فيما يتصور من فوائده كطلي الدواب.
    إن قيل : إن العبارة تقتضي حصر الفائدة ، لأن الاستثناء في سياق النفي يفيد الحصر ، فإن المعنى في العبارة : إلا الدهن المتنجس لهذه الفائدة.
    قلنا : ليس المراد ذلك ، لأن الفائدة بيان لوجه الاستثناء ، أي :
1 ـ كذا في ن ، و ش ، وفي غيرهما : لفائدة.
2 ـ لم ترد كلمة المتنجس في غير ف.
3 ـ في المصدر : إلا الدهن النجس لفائدة.
4 ـ في ش زيادة : في الاستصباح.


(95)
إلا الدهن لتحقق فائدة الاستصباح ، وهذا لا يستلزم الحصر ، ويكفي في صحة ما قلنا تطرق الاحتمال في العبارة المقتضي لعدم الحصر (1) ، انتهى.
    وكيف كان ، فالحكم بعموم كلمات هؤلاء لكل مائع متنجس ـ مثل الطين والجص المائعين ، والصبغ ، وشبه ذلك ـ محل تأمل.
    وما نسبه في المسالك من عدم فرقهم في المنع عن بيع المتنجس بين ما يصلح للانتفاع به وما لا يصلح (2) فلم يثبت صحته ، مع ما عرفت من كثير من الأصحاب من إناطة الحكم في كلامهم مدار الانتفاع (3).
    [ استشكال المحقق الثاني في حاشية الإرشاد على عبارة العلاّمة ]
    ولأجل ذلك استشكل المحقق الثاني ـ في حاشية الإرشاد ـ في ما (4) ذكره العلامة بقوله : ولا بأس ببيع ما عرض له التنجيس مع قبول الطهارة (5) حيث قال : مقتضاه أنه لو لم يكن قابلا للطهارة لم يجز بيعه ، وهو مشكل ، إذ الأصباغ المتنجسة لا تقبل التطهير عند الأكثر ، والظاهر جواز بيعها ، لأن منافعها لا تتوقف على الطهارة ، اللهم إلا أن يقال : إنها تؤول إلى حالة يقبل معها التطهير ، لكن بعد جفافها ، بل ذلك هو
1 ـ جامع المقاصد 4 : 13.
2 ـ تقدم في الصفحة : 90.
3 ـ راجع الصفحة : 92 ـ 93.
4 ـ كذا في ش ، وفي ف ومصححة ن : ما ذكره ، وفي سائر النسخ : وما ذكره.
5 ـ الإرشاد 1 : 357.


(96)
المقصود منها ، فاندفع الإشكال (1).
    أقول : لو لم يعلم من مذهب العلامة دوران المنع عن بيع المتنجس مدار حرمة الانتفاع لم يرد على عبارته إشكال ، لأن المفروض حينئذ التزامه بجواز الانتفاع بالأصباغ مع عدم جواز بيعها ، إلا أن يرجع الإشكال إلى حكم العلامة وأنه مشكل على مختار المحقق الثاني ، لا إلى كلامه ، وأن الحكم مشكل على مذهب المتكلم ، فافهم.
    ثم إن ما دفع به الإشكال ـ من جعل الأصباغ قابلة للطهارة ـ إنما ينفع في خصوص الأصباغ ، وأما مثل بيع الصابون المتنجس ، فلا يندفع الإشكال عنه بما ذكره ، وقد تقدم منه (2) سابقا (3) جواز بيع الدهن المتنجس ليعمل صابونا ، بناء على أنه من فوائده المحللة.
    مع أن ما ذكره من قبول الصبغ التطهير بعد الجفاف محل نظر ، لأن المقصود من قبوله الطهارة قبولها قبل الانتفاع ، وهو مفقود في الأصباغ ، لأن الانتفاع بها ـ وهو الصبغ ـ قبل الطهارة ، وأما ما يبقى منها بعد الجفاف ـ وهو اللون ـ فهي نفس المنفعة ، لا الانتفاع ، مع أنه لا يقبل التطهير ، وإنما القابل هو الثوب.
1 ـ حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : 204 ، مع اختلاف.
2 ـ في ف ، خ : عنه.
3 ـ تقدم في الصفحة : 91.


(97)
    بقي الكلام في حكم نجس العين ، من حيث أصالة حل الانتفاع به في غير ما ثبتت حرمته ، أو أصالة العكس.

    [ ظاهر الأكثر أصالة حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة ]
    فاعلم أن ظاهر الأكثر أصالة حرمة الانتفاع بنجس العين ، بل ظاهر فخر الدين ـ في شرح الإرشاد ـ والفاضل المقداد : الإجماع على ذلك ، حيث استدلا على عدم جواز بيع الأعيان النجسة بأنها محرمة الانتفاع ، وكل ما هو كذلك لا يجوز بيعه ، قالا : أما الصغرى فإجماعية (1).
    ويظهر من الحدائق ـ في مسألة الانتفاع بالدهن المتنجس (2) في غير الاستصباح ـ نسبة ذلك إلى الأصحاب (3).
    ويدل عليه ظواهر الكتاب والسنة :

    [ دلالة ظواهر الكتاب والسنّة على حرمة الانتفاع بجنس العين مطلقاً ]
    مثل قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة والدم ) (4) ، بناء على ما ذكره الشيخ والعلامة من إرادة جميع الانتفاعات (5).
    وقوله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) (6) الدال على وجوب اجتناب كلرجس ، وهو
1 ـ التنقيح 2 : 5 ، ولا يوجد لدينا شرح الإرشاد.
2 ـ في ف : النجس.
3 ـ الحدائق 18 : 89.
4 ـ المائدة : 3.
5 ـ الخلاف 1 : 62 ، كتاب الطهارة ، المسألة 10 ، نهاية الإحكام 2 : 462.
6 ـ المائدة : 90.


(98)
نجس العين.
    وقوله تعالى : ( والرجز فاهجر ) (1) ، بناء على أن هجره لا يحصل إلا بالاجتناب عنه مطلقا.
    وتعليله عليه السلام ـ في رواية تحف العقول ـ حرمة بيع وجوه النجس بحرمة الأكل والشرب والإمساك وجميع التقلبات فيه.
    [ دلالة كلّ ما دلّ على حرمة البيع على حرمة الانتفاع بالملازمة ]
    ويدل عليه ـ أيضا ـ كل مادل من الأخبار والإجماع على عدم جواز بيع نجس العين (2) ، بناء على أن المنع من بيعه لا يكون إلا مع حرمة الانتفاع به.

    [ مقتضى التأمّل : رفع اليد عمّا ذكر من الأدلّة ]
    هذا ، ولكن التأمل يقضي بعدم جواز الاعتماد في مقابلة أصالة الإباحة ، على شيء مما ذكر.
    أما آيات التحريم والاجتناب والهجر ، فلظهورها في الانتفاعات المقصودة في كل نجس بحسبه ، وهي في مثل الميتة : الأكل ، وفي الخمر : الشرب ، وفي الميسر : اللعب به ، وفي الأنصاب والأزلام : ما يليق بحالهما.
    وأما رواية تحف العقول ، فالمراد بالإمساك والتقلب فيه (3) ما يرجع إلى الأكل والشرب ، وإلا فسيجيء الاتفاق على جواز إمساك نجس العين لبعض الفوائد.
1 ـ المدثر : 5.
2 ـ تقدم في مسائل الاكتساب بالأعيان النجسة ، فراجع.
3 ـ في مصححة ن : فيها. وتذكير الضمير صحيح أيضا باعتبار رجوعه إلى النجس في الرواية.


(99)
    وما دل من الإجماع والأخبار على حرمة بيع نجس العين قد يدعى اختصاصه بغير ما يحل الانتفاع (1) المعتد به ، أو يمنع (2) استلزامه لحرمة الانتفاع ، بناء على أن نجاسة العين مانع مستقل عن جواز البيع من غير حاجة إلى إرجاعها إلى عدم المنفعة المحللة.
    [ دفع توهّم الإجماع على الحرمة بظهور كلمات الفقهاء في الجواز ]
    وأما توهم الإجماع ، فمدفوع بظهور كلمات كثير منهم في جواز الانتفاع في الجملة.
    قال في المبسوط : إن سرجين ما لا يؤكل لحمه وعذرة الإنسان وخرؤ الكلاب لايجوز بيعها ، ويجوز الانتفاع بها في الزروع والكروم واصول الشجر بلا خلاف (3) ، انتهى.
    وقال العلامة في التذكرة : يجوز اقتناء الأعيان النجسة لفائدة (4) ونحوها في القواعد (5).
    وقرره على ذلك في جامع المقاصد ، وزاد عليه قوله : لكن هذه لا تصيرها مالا بحيث يقابل بالمال (6).
    وقال في باب الأطعمة والأشربة من المختلف : إن شعر الخنزير يجوز استعماله مطلقا ، مستدلا بأن نجاسته لا تمنع الانتفاع به ، لما فيه من
1 ـ في أكثر النسخ زيادة : المحلل.
2 ـ في ف و خ و م و ص : أو بمنع.
3 ـ المبسوط 2 : 167.
4 ـ التذكرة 1 : 582.
5 ـ القواعد 1 : 120.
6 ـ جامع المقاصد 4 : 15.


(100)
المنفعة الخالية عن ضرر عاجل وآجل (1).
    وقال الشهيد في قواعده : النجاسة ماحرم استعماله في الصلاة والأغذية ، للاستقذار ، أو للتوصل بها إلى الفرار ثم ذكر أنقيد الأغذية لبيان مورد الحكم ، وفيه تنبيه على الأشربة ، كما أن في الصلاة تنبيها على الطواف (2) ، انتهى.
    وهو كالنص في جواز الانتفاع بالنجس في غير هذه الامور.
    وقال الشهيد الثاني في الروضة عند قول المصنف ـ في عداد ما لا يجوز بيعه من النجاسات ـ : والدم ، قال : وإن فرض له نفع حكمي كالصبغ ، وأبوال وأرواث ما لايؤكل لحمه ، وإن فرض لهما نفع (3).
    فإن الظاهر أن المراد بالنفع المفروض للدم والأبوال والأرواث هو النفع المحلل ، وإلا لم يحسن ذكر هذا القيد في خصوص هذه الأشياء دون سائر النجاسات ، ولا ذكر خصوص الصبغ للدم ، مع أن الأكل هي المنفعة المتعارفة المنصرف إليها الإطلاق في قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة والدم ) (4) والمسوق لها الكلام في قوله تعالى : ( أو دما مسفوحا ) (5).
1 ـ المختلف 1 : 684.
2 ـ القواعد والفوائد 2 : 85.
3 ـ الروضة البهية 3 : 209.
4 ـ المائدة : 3.
5 ـ الأنعام : 145.
المكاسب ـ جلد الأول ::: فهرس