رياض المسائل ـ الجزء الأول ::: 76 ـ 90
(76)
    6 ـ الشيخ بهاء الدين محمد بن علي بن الحسن العودي الجزيني ، الذي كان من خواص تلاميذ الشهيد ، وكتب كتابا قيما في ترجمة الشهيد أسماه « بغية المريد في الكشف عن أحوال الشهيد ».
    ومن أعلام جبع ، المحقق جمال الدين أبو منصور الشيخ حسن بن زين الدين الشهيد الثاني ( 959 ـ 1011 ه‍ ) ، من كبار فقهاء الشيعة. اشتهر بكتابه القيم« معالم الدين وملاذ المجتهدين ».
    كان عمره عند استشهاد والده الشهيد أربع سنين. حضر عند السيد علي الصائغ والسيد علي نور الدين الكبير ـ والد السيد محمد صاحب « المدارك » ـ والشيخ حسين بن عبد الصمد ـ والد الشيخ البهائي ـ. واختص بالسيد علي الصائغ وكان اكثر دراسته في العلوم العقلية والنقلية عليه.
    واستفاد من إقامة الشيخ عبد الله اليزدي رحمه الله صاحب « حاشية التهذيب » في هذه المنطقة فقرأ عليه هو والسيد محمد صاحب « المدارك ».
    ثم هاجر هو وصاحب « المدارك » إلى النجف وحضرا عند المولى المقدس الاردبيلي في الفقه والاصول ، ثم رجعا إلى جبع.
    واستقل صاحب « المعالم » الشيخ حسن بعد عودته إلى جبع في التدريس ، وألف مجموعة من الكتب.
    وتمتاز تأليفاته بالتحرير والتركيز ، ومن أهم ما كتب خلال هذه« منتقى الجمان في الاحاديث الصحاح والحسان » في مجلدين في الحديث و« معالم الدين وملاذ المجتهدين » في الاصول و « حاشية على مختلف الشيعة » للعلامة الحلي في الفقه ، و « مشكاة القول السديد في الاجتهاد والتقليد » ، وكتاب « الاجازات » و « التحرير الطاووسي » في الرجال ، و « رسالة الا ثنا عشرية » في الطهارة والصلاة ، وله ديوان شعر وله فيه شعر جيد.
    زامل السيد محمد صاحب « المدارك » ابن اخته منذ الصبا ودرسا معا على


(77)
والد السيد محمد ـ السيد علي نور الدين الكبير ـ والمولى الشيخ عبد الله اليزدي ، ثم رحلا معا إلى النجف ، ورجعا إلى جبع ، وكانت بينهما الفة ومودة ، وكان كل واحد منهما إذا كتب شيئا أرسل ما كتبه إلى الآخر لينظر فيه ، ويبدي ملاحظاته عليه ، وكانا يصليان معا في مسجد من مساجد جبع فأيهما بلغ المسجد بعد صاحبه كان يأتم به ...
    وتوفي صاحب. « المدارك » قبل صاحب « المعالم » بمدة قصيرة ( بقدر ما بينهما من تفاوت في العمر ) وكانا متقاربين في السن ، ففجع صاحب « المعالم » بوفاة ابن اخته رفيق العمر وزميل الدراسة والتحصيل ، وكتب على قبره « من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا « (1).
    وكتب على قبره أبياتا هي :
لهفي لرهن ضريح صار كالعلم قد كان للدين شمسا يستضاء به سقى ثراه وهناه الكرامة وال للجود والمجد والمعروف والكرم ( محمد ) ذو المزايا طاهر الشيم ريحان والروح طرا بارئ النسم

    كرك نوح مدينة صغيرة جنوب جبل لبنان وفيها قبر ينسب إلى نبي الله نوح عليه السلام ، وهذه المدينة ليست من جبل عامل إلا أنها قريبة منها ، وتغلب على علمائها النسبة إلى جبل عامل.
    وفي هذه القرية مدرسة فقهية من أكثر المدارس الفقهية خصوبة وعراقة في جبل عامل ولبنان. نشأ فيها وتخرج منها في القرن العاشر الهجري والقرن
1 ـ الاحزاب : 23.

(78)
الحادي عشر جمع غفير من الفقهاء والعلماء. ومن هذه القرية الصغيرة كان الفقهاء ينطلقون إلى ايران في العهد الصفوي ليشاكوا في نشر مذهب أهل البيت وترسيخه في ايران وتثقيف المسلمين فيها.

    معالم مدرسة جبل عامل وأهم انجازاتها الفقهية :
    فيما يلي نحاول أن نبرز أهم الانجازات والمكاسب الفقهية التي حققها فقهاء هذه المدرسة وهي على أربعة محاور : ( الحديث ) و ( الاصول ) و ( الفقه ) و ( القواعد الفقهية ) وبالصورة التالية :
    1 ـ تنقيح أحاديث الكتب ، الاربعة.
    2 ـ تنقيح وتنظيم المباحث الاصولية.
    3 ـ تدوين الفقه.
    4 ـ تدوين القواعد الفقهية.
    وسوف نرى أن هذه المدرسة حققت إنجازات كبيرة وعلى درجة عالية من التطور على هذه المحاور الاربعة.
    أما عل المحور الاول : فقد تم تنقيح كتب الحديث الاربعة الشهيرة ، وافرزت الصحاح والحسان منها عن الموثقات والضعاف ، وقد نهض بهذا المشروع أبو منصور جمال الدين الشيخ حسن ـ المعروف لدى الفقهاء ب‍ « صاحب المعالم » نجل الشهيد الثاني رحمهما الله ـ في كتابه الجليل القيم « منتقى الجمان في الاحاديث الصحاح والحسان ».
    وهذا الكتاب يعتبر التطبيق العملي للنظرية التي تم وضعها في مدرسة الحلة على يد السيد ابن طاووس والعلامة الحلي في التقسيم الرباعي للحديث إلى الصحيح والحسن والموثق والضعيف.
    وقد دخلت هذه النظرية مرحلة التنفيذ أولا على يد العلامة الحلي رحمه الله في كتابه « الدر والمرجان في الاحاديث الصحاح والحسان « الذي دونه العلامة


(79)
في عشرة أجزاء (1) ، إلا أننا لا نعرف لهذا الكتاب نسخة في المكتبات. كما أن للعلامة كتابا آخر في نفس الموضوع باسم « النهج الوضاح في الاحاديث الصحاح » (2).
    وأول كتاب نعرفه في انتقاء الاحاديث الصحيحة والحسان من الكتب الاربعة هو « منتقى الجمان » للشيخ حسن.
    وفي مقدمة هذا الكتاب يقرر المؤلف أن القدماء رحمهم الله كانوا قد تسامحوا كثيرا في قبول الروايات وتوسعوا فيها وأخذوها من غير الثقات اعتمادا على القرائن التي كانت تدل على صحة الحديث وصدوره عن المعصوم. أما في العصور المتأخرة فقد ضاع أكثر هذه القرائن ولا يمكن اعتمادها في قبول الروايات.
    يقول رحمه الله في مقدمة « منتقى الجمان » : وقال المرتضى رضي الله عنه في جواب المسائل التبانيات المتعلقة بأخبار الآحاد : « إن أكثر الاخبار المروية في كتبنا معلومة مقطوع على صحتها ، إما بالتواتر من طريق الاشاعة والاذاعة أو بأمارة وعلامة دلت على صحتها وصدق رواتها ، فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص معين من طريق الآحاد ».
    وغير خاف أنه لم يبق لنا سبيل إلى الاطلاع على الجهات التي عرفوا منها ما ذكروا حيث حظوا بالعين ، وأصبح حظنا الاثر ، وفازوا بالعيان وعوضنا عنه بالخبر ، فلا جرم إنسد عنا باب الاعتماد على ما كانت لهم أبوابه مشرعة ، وضاقت علينا مذاهب كانت المسالك لهم فيها متسعة ، ولو لم يكن إلا انقطاع طريق الرواية عنا من غير جهة الاجازة التي هي أدنى مراتبها لكفى به سببا لاباء
1 ـ الذريعة : ج 8 ص 87 تحت رقم 312 الطبعة الثانية.
2 ـ الذريعة : ج 24 ص 427 تحت رقم 2229.


(80)
الدراية عل طالبها (1).
    وأما عل المحور الثاني في ( اصول الفقه ) : فقد ألف أيضا الشيخ حسن نجل الشهيد الثاني ، كتاب« معالم الدين وملاذ المجتهدين » وهو من أفضل ما كتب في الاصول. ويمتاز هذا الكتاب بتحرير المسائل الاصولية وتنظيمها وتبويبها ضمن مقدمات ومطالب.
    وفي هذا الكتاب يبحث المؤلف عن دلالة الالفاظ ثم عن الاوامر والنواهي ( الاحكام ) بصورة مستوفاة ، ويبحث فيه عن حجية الخبر والاجماع ، كما يبحث عن الاستصحاب.
    ولو لا أن المنهج الذي يلتزمه مؤلف « المعالم » في تنظيم المباحث الاصولية لا يفرق بين الاصول من جانب والطرق من جانب آخر أو ما يسميه علماء الاصول المتأخرون عادة ب‍ ( الادلة الفقاهتية والادلة الاجتهادية ) لكان هذا الكتاب يوازي في منهجيته المناهج الاصولية الحديثة.
    وقد حظي هذا الكتاب نظرا لاختصاره وتركيزه واحتوائه على امهات المسائل الاصولية بشروح وتعليقات كثيرة من أهمها الشرح القيم للعالم المحقق الشيخ محمد تقي الاصفهاني المعروف ب‍ « هداية المسترشدين ».
    ويروى عن الشيخ الانصاري أنه اكتفى بهذا الشرح من كتابه مباحث الالفاظ في الاصول ، واقتصر في كتابه « الفرائد » على المباحث العقلية فقط مباحث القطع والظن والشك.
    وقد حظي هذا الكتاب ـ المعالم ـ في الحوزات العلمية باهتمام الاساتذة والطلبة ، ويعتبر الكتاب ـ الذي يبدأ به الطالب دراسته في الاصول ولازال ـ موضع إهتمام وعناية كبيرة في الحوزات العلمية.
    وعلى المحور الثالث ( البحث الفقهي ) : لدينا عملان فقهيان جليلان لهذه
1 ـ منتقى الجمان : ص 2 و 3 طبع مؤسسة النشر الاسلامي.

(81)
المدرسة : أحدهما ( الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ). والمتن للشهيد الاول محمد بن جمال الدين مكي العاملي ( 734 ـ 786 ه‍ ) والشرح للشهيد الثاني زين الدين الجبعي العاملي ( 911 ـ 965 ه‍ ).
    وهذا الكتاب مختصر جليل في الفقه يتميز بمتانة الاستدلال وتركيز الدليل وتجنب الخوض في المناقشات المطولة للآراء وروعة البيان وجمال التعبير. وكل ذلك كان سببا ليدخل هذا الكتاب في المنهاج الدراسي للحوزات العلمية في الفقه إلى اليوم الحاضر ، وهو أول كتاب دراسي استدلالي يقرأه الطالب في الفقه ، ويتذوق من خلاله الاستدلال الفقهي بصورة متيسرة ومبسطة.
    ونلاحظ في هذا الكتاب وسيما في المجلد الثاني منه في أبحاث المعاملات استخداما واسعا للقواعد الفقهية ، ما لا نجد نظيرا له في الاعمال الفقهية السابقة عليه من نحو كتب العلامة والمحقق الحلي والشيخ الطوسي رحمهم الله تعالى.
    والعمل الفقهي الآخر الذي أنجز في هذه المرحلة هو كتاب « مدارك الاحكام في شرح شرائع الاسلام » للفقيه المحقق السيد محمد بن علي الموسوي العاملي ( 1009 ه‍ ) وهو شرح تعليقي على شرائع الاسلام ، في مقابل الشرح المزجي للشهيد الثاني لكتاب الشرائع « المسالك ».
    وهذا الكتاب يبتني على تدقيق الروايات من حيث السند ورفض الضعاف والموثقات منها والعمل بالصحاح والحسان على مذهبه في قبول الحديث ورفضه.
    فيرد الخبر إذا كان ضعيفا عندما يكون هو المستند الوحيد للحكم الالزامي ويقبله إذا كان مدعوما بشهرة فتوائية من قبل الفقهاء وهذا المسلك يتبناه السيد محمد العاملي في « المدارك » وخاله الشيخ حسن صاحب « المعالم » في كتاب « منتقى الجمان » وهو موضع نقد المحدثين رحمهم الله.
    يقول المحقق الفقيه الشيخ يوسف البحراني رحمه الله عنهما وعن هذا المنهج في رواية الحديث في لؤلوة البحرين : إلا أنه ( أي الشيخ حسن ) مع السيد محمد قد


(82)
سلكا في الاخبار مسلكا وعرا ونهجا عسرا.
    اما السيد محمد فانه رد اكثر الاحاديث من الموثقات والضعاف باصطلاحه ، وله فيه اضطراب كما لا يخفى على من راجع كتابه فيما بين أن يردها تارة وما بين أن يستدل بها اخرى ...
    وأما خاله الشيخ حسن فإن تصانيفه على غاية من التحقيق والتدقيق ، إلا أنه بما اصطلح عليه في كتاب المنتقى ـ من عدم صحة الحديث عنده ، إلا ما يرويه العدل الامامي المنصوص عليه بالتوثيق بشهادة ثقتين عدلين فرمز له ب‍ « صحي » وللصحيح عند الاصحاب ب‍ « صحر » ـ قد بلغ في الضيق إلى مبلغ سحيق ، وأنت خبير بأنا في عويل من أصل هذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد أقرب من الصلاح ، حيث ان اللازم منه ـ لو وقف عليه أصحابه ـ فساد الشريعة ، وربما انجر إلى البدع الفظيعة ، فإنه متى كان الضعيف باصطلاحهم مع إضافة الموثق إليه ـ كما جرى عليه في المدارك ـ ليس بدليل شرعي بل هو كذب وبهتان ، مع أن ما عداهما من الصحيح والحسن لا يفيان لهما إلا بالقليل من الاحكام فإلى م يرجعون في باقي الاحكام الشرعية ولا سيما اصولها وفضائل الائمة وعصمتهم وبيان فضائلهم وكراماتهم ونحو ذلك ، وإذا نظرت إلى اصول الكافي وأمثاله وجدت جله وأكثره إنما هو من هذا القسم الذي أطرحوه ، ولهذا ترى جملة منهم لضيق الخناق خرجوا من اصطلاحهم في مواضع عديدة ، وتستروا بأعذار غير سديدة ، وإذا كان الحال هذه في أصل الاصطلاح فكيف الحال في اصطلاح صاحب المنتقى وتخصيصه الصحيح بما ذكره ، ما هذه إلا غفلة ظاهرة.
    والواجب إما الاخذ بهذه الاخبار ـ كما هو عليه متقدمو علمائنا الابرار ـ أو تحصيل دين غير هذا الدين وشريعة اخرى غير هذه الشريعة لنقصانها وعدم تمامها لعدم الدليل على جملة من أحكامها. ولا أراهم يلتزمون شيئا من الامرين مع أنه لا ثالث لهما في البين ، وهذا بحمد الله ظاهر لكل ناظر غير


(83)
متعسف ولا مكابر (1).
    المحور الرابع ـ للانجازات الفقهية في هذه المدرسة ـ ( تدوين القواعد الفقهية ) وهو أمر جديد في تاريخ الفقه الامامي.
    والقواعد الفقهية أحكام كلية تندرج تحت كل منها تطبيقات جزئية من أبواب مختلفة من الفقه أو من باب واحد من أبوابه ، وهي كثيرة في أبواب المعاملات والعقود والنكاح والمواريث والعبادات والجنايات وغيرها.
    وتعتبر هذه القواعد من أهم مصادر الاجتهاد ومساحة خصبة من مساحات الفقه ، يستطيع الفقيه أن يفيد من تطبيقاتها فائدة واسعة في مختلف أبواب الفقه ، ويستخرج منها أحكاما لفروع فقهية جديدة.
    ولا بد للفقيه من استخدام الاصول والقواعد معا إلا أن ولادة الاصول ونشوءه في الفقه الامامي كان قبل ولادة القواعد.
    وفي مدرسة جبل عامل تم تدوين القواعد الفقهية لاول مرة في تاريخ أهل البيت ، وكان الشهيد الاول محمد بن مكي العاملي رحمه الله ( المتوفى في 786 ه‍ ) هو أول فقيه إمامي ينهض بهذا المشروع الفقهي بصورة منهجية وذلك في كتابه القيم الجليل « القواعد والفوائد ».
    يقول الشهيد عن كتابه هذا في إجازته لابن الخازن أنه لم يعمل الاصحاب مثله.
    وهذا الكتاب يحتوي على ما يقرب من ثلاثمائة وثلاثين قاعدة ، وما يقرب من مائة فائدة ، ويبحث الشهيد هذه القواعد في كثير من الاحيان بصورة مقارنة بين المذاهب المختلفة ، يستعرض فيها الآراء ويخضعها لمناقشة علمية دقيقة. ونظرا لتداخل القواعد والفوائد في هذا الكتاب وعدم انتظامها بنظام معين قام تلميذه المقداد السيوري الحلي بنظم وتهذيب هذا الكتاب وأسماه ب‍ « نضد القواعد
1 ـ لؤلوة البحرين : ص 45 ـ 47.

(84)
الفقهية ».
    هذه هي ـ على نحو الاجمال والتركيز ـ أهم المكاسب الفقهية في هذه المدرسة ، وهي مكاسب جليلة وذات قيمة علمية كبيرة ، وهي تستحق دراسة تفصيلية أكثر من هذا الاجمال.


(85)
    نبذة عن التاريخ السياسي والعلمي لمدرسة اصفهان :
    ذكرنا من قبل أن مدرسة جبل عامل انتقلت إلى اصفهان في أيام الصفويين وكان السبب في ذلك هو اضطهاد العثمانيين لفقهاء الشيعة في الشام ، وحاجة الصفويين إلى وجود الفقهاء لتولي شؤون القضاء والفتيا. والتوجيه ، وتكريس علاقة الدولة بفقه أهل البيت عليهم السلام من الناحية الفقهية والثقافية وتغطية. الجانب الشرعي للدولة في صراعها مع العثمانيين الدولة السنية المعروفة.
    والصفويون اسرة شيعية علوية عريقة تنتسب إلى صفي الدين الاردبيلي العارف والصوفي المعروف المدفون بأردبيل في آذربايجان ، وكان رجال هذه الاسرة يتوارثون زعامة الطريقة الصوفية. فلما تولى ( إسماعيل ) أحد أحفاد صفي الدين زعامة الطريقة بعد مقتل والده جمع جيشا من أتباعه وقاده إلى قتال اسرة آقاقوينلو الحاكمة في آذربايجان والعراق ، وقضى على نفوذ هذه الاسرة التركمانية في آذربايجان واتخذ من تبريز مقرا لحكمه وسلطانه عام 905 ه‍ ، ثم توجه بجيشه إلى العراق وفتحه وقضى على نفوذ اسرة آقاقوينلو في العراق بشكل كامل ، وأصبح الشاه إسماعيل حاكما على ايران والعراق بشكل كامل.
    وامتدت فتوحات الشاه اسماعيل إلى خراسان ، وتم له فتحها ، كما تم له فتح


(86)
( هرات ) وإسقاط حكومة ( ازبك ) بعد حرب طويلة اخذت فيها الصبغة المذهبية ، وحاول كل من الطرفين المتقاتلين أن يستفيد من انتمائه المذهبي في كسب المعركة لصالحه.
    وهكذا تكونت دولة شيعية قوية وواسعة في ايران والعراق وخراسان وهرات إلى جنب دولة سنية قوية وواسعة كذلك ، وهي الدولة العثمانية التي كانت تتخذ من الخلافة الاسلامية غطاء شرعيا لوجودها السياسي في العالم الاسلامي ، واستمر القتال سجالا بين هاتين القوتين على مناطق النفوذ ، فبادرت الدولة الصفوية إلى فتح العراق وإسقاط حكومة ازبك السنية عام 914 ه‍.
    ثم تقابلت الدولتان في معركة كبيرة في حياة الشاه إسماعيل وانتهت المعركة بانتصار آل عثمان على الصفويين في موقعة ( چالدران ) الشهيرة وانفصل العراق عن محور النفوذ الصفوي ، وأعلن والي العراق عن انضام العراق إلى الدولة العثمانية.
    ثم استعاد الصفويون سيطرتهم على العراق من جديد عام 937 ه‍ بعد وفاة الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية. ثم استرجع آل عثمان سيطرتهم على العراق من جديد عام 941 ه‍.
    وخلال هذا الصراع كان كل من الطرفين المتنافسين والمتقاتلين يحاول أن يكسب لموقفه في هذه المعركة الضارية غطاء شرعيا يمكنه من تحشيد المقاتلين إلى جانبه.
    أما آل عثمان فكان عنوان الخلافة الاسلامية يدعمهم في هذه المعركة إلى حد بعيد ، بالاضافة إلى الارتباط التاريخي للمؤسسة الفقهية السنية بالمؤسسة السياسية.
    أما الدولة الصفوية فكانوا يواجهون مشاكل حقيقية في هذا الجانب وكان عليهم أن يعملوا لكسب موقف فقهاء الشيعة إلى جانبهم وتأييدهم لهم.


(87)
    على أن هذه الدولة الفتية كانت بحاجة إلى حضور فاعل لفقهاء الشيعة معها لتستطيع أن تؤدي رسالتها في تكريس مذهب أهل البيت عليهم السلام وفقهم وإدارة شؤون الدولة على منهاج أهل البيت الفقهي ، وقد كان بعض ملوك الصفويين كالشاه إسماعيل وابنه طهماسب صادقين في محاولة تكريس المذهب الفقهي لاهل البيت في الدولة الصفوية وتمشية نظام الحكم الصفوي على منهاج فقه أهل البيت ، وكانوا يحاولون الافادة من فقهاء الشيعة في هذا المجال وتمكينهم من الدولة بالمقدار الذي لا يزاحمهم في حق اتخاذ القرار السياسي بشؤون الدولة.
    وكان هذا هو أحد العاملين الرئيسيين لقدوم فقهاء الشيعة من جبل عامل من بلاد الشام إلى ايران ، وقد اشرنا إلى ذلك من قبل ، فقد كانت الدولة الشيعية الفتية بحاجة حقيقية وماسة إلى استقدام الفقهاء من جبل عامل لما تتمتع به هذه المنطقة الجبلية من الشام من مدارس علمية وتراث فقهي وثروة علمية كبيرة.
    والعامل الثاني لهجرة فقهاء جبل عامل إلى ايران هو الاضطهاد الطائفي الذي كان يمارسه حكام آل عثمان ضد الشيعة عموما وضد فقهاء الشيعة على الخصوص. فقد سقطت الشام بيد آل عثمان عام 923 ه‍ ، وقضى العثمانيون على نفوذ المماليك قضاء تاما ، واستمرت بلاد الشام تحت النفوذ العثماني حتى سقوط الدولة العثمانية.
    ورغم الاضطهاد الطائفي الذي كان يمارسه المماليك ضد فقهاء الشيعة في الشام ، فقد كان فقهاء الشيعة يتمتعون بحرية نسبية في منطقة جبل عامل في ممارسة نشاطهم الثقافي والديني عندما كان هذا النشاط لا يضر بمصالح الدولة.
    فلما حل آل عثمان محل المماليك سلبوا من فقهاء الشيعة حتى هذه المساحة المحدودة من حق النشاط العلمي ، وضيقوا عليهم سبل العمل والحركة من كل جانب.


(88)
    فقد قام السلطان سليم الاول بأوسع مذبحة للشيعة في بلاد الاناضول والشريط الساحلي للبحر الابيض المتوسط ، ويقدر المؤرخون قتلى الشيعة في هذه المذبحة سبعين ألفا.
    وقتل عمال آل عثمان الفقيه زين الدين. العاملي ( الشهيد الثاني ) رحمه الله رغم المرونة المذهبية التي كان يمارسها هذا الفقيه الجليل ، فقد كان على صلة وثيقة بالمراكز العلمية السنية ، وكسب تأييد الاستانة في أن يتولي المدرسة العلمية النورية في بعلبك ، ولم يستجب لدعوة الصفويين في الهجرة إلى ايران ، رغم ذلك كله لم يسلم هذا الفقيه الجليل من سيف الاضطهاد الطائفي ، وقتل على ساحل البحر بطريقة مشجية.
    وبسبب هذين العاملين استجاب فقهاء جبل عامل إلى دعوة الصفويين للقدوم إلى ايران ، فقدم من جبل عامل إلى اصفهان جمع كبير من خيار وكبار فقهاء جبل عامل.
    المحقق الكركي :
    وكان المحقق الكركي الشيخ نور الدين علي بن الحسين بن عبد العالي الشهير ب‍ « المحقق الثاني » هو أول فقيه من جبل عامل يستجيب لدعوة الصفويين.
    التقى المحقق الكركي بالشاه إسماعيل الصفوي في ( هرات ) عندما فتح الملك الصفوي هرات في قمه مجده العسكري وانتصاراته وبارك له هذا النصر واستقبل الملك المنتصر المحقق الثاني في نشوة فتوحاته العسكرية باحترام وتقدير كبيرين ، وطلب منه أن ينتقل معه إلى ايران ويتولى شؤون الدولة الشرعية والفقهية بموجب مذهب أهل البيت.
    وفى بداية هذا اللقاء لم يخف المحقق الكركي استياءه من بطش الصفويين بالسنة في مدينة هرات بعد فتحها والقضاء على دولة الازبك ، وقد بلغه أن الجيش الصفوي قد قتل شيخ الاسلام في هرات سعد الدين التفتازاني صاحب


(89)
كتاب « المطول في البلاغة » فقال للملك ـ وهو يريد أن ينبهه إلى خطئه في الاضطهاد الطائفي والفتك بمن يخالفهم في المذهب ـ لو لم يقتل لامكن أن يتم عليه بالحجج والبراهين حقيقة مذهب الامامية ويذعن بإلزامه جميع بلاد ما وراء النهر وخراسان (1).
    انتقل المحقق الكركي إلى ايران بصحبة الشاه واستغل هذه الفرصة أفضل استغلال ، ونشط في تكريس ونشر فقه أهل البيت عليهم السلام في ايران ، وتولى تعيين العلماء وأئمة الجماعة والقضاة في أطراف البلاد بصورة منظمة.
    وإذا صح أن الشهيد الاول محمد بن مكي رحمه الله كان أول من مارس تنظيم ارتباط العلماء بالمرجعية وجباية الحوق الشرعية بصورة منظمة ، فقد كان المحقق الكركي أول من مارس هذه النظرية في النظم بصورة ميدانية وواسعة في الدولة الصفوية ، مستفيدا من إمكانات النظام والدعم السياسي والمالي الذي كان يتلقاه من قبل الدولة.
    وقد استطاع المحقق الكركي أن يقنع جمعا من زملائه وأصدقائه وتلاميذه في جبل عامل للهجرة إلى ايران والافادة من هذه الفرصة السانحة لنشر وتكريس فقه أهل البيت عليهم السلام وبسط نفوذ الفقهاء في هذه الدولة الفتية.
    ويبدو أن المحقق الكركي استطاع أن يحقق خلال هذه الفترة أهدافه بصورة جيدة ، ونجح في بسط نفوذ المؤسسة الفقهية إلى حد بعيد ، مما جعل البلاط الملكي يتضايق منه بصورة أو باخرى ، وقد أدى ذلك فعلا إلى برود ملحوظ في علاقة المحقق الكركي ببعض أجنحة البلاط ، فآثر المحقق أن يغادر ايران إلى العراق ، ويعود إلى النجف مرة اخرى ليعاود نشاطه الفقهي في هذه المدينة المقدسة بجوار مرقد أمير المؤمنين عليه السلام.
    وقد مكث المحقق لقرابة ست سنوات في النجف توفي خلالها الشاه
1 ـ مستدرك وسائل الشيعة : ج 3 ص 432.

(90)
إسماعيل وخلف على الملك ابنه طهماسب.
    ويبدو أن الفراغ الذي خلفه المحقق الكركي من بعده أضر بالدولة ، وأن الجمهور كان يطالب بإلحاح بعودة المحقق الكركي إلى ايران ، ولم يجد الشاه بديلا عن المحقق مما جعل طهماسب ابن الشاه إسماعيل يطلب من المحقق العودة إلى ايران لتسلم منصب شيخ الاسلام في عاصمة ملكه ( اصفهان ). فاستجاب المحقق الكركي لدعوة الملك ورجع إلى اصفهان عاصمة الصفويين بصفة ( نائب الامام ). وهذه الصفة تمنحه بطبيعة الحال الولاية المطلقة في شؤون النظام والامة وتجعل مشروعية النظام تابعة لاذن الفقيه. وأقر النظام الصفوي للمحقق بهذه الولاية المطلقة النائبة عن ولاية الامام ، وصرح له الملك ( بأن معزول الشيخ لا يستخدم ومنصوبه لا يعزل ) (1).
    وكان طهماسب يقول للمحقق الكركي : أنت أولى بهذا الامر مني. أنت نائب الامام وأنا احد عمالك الذين يمثلون أوامرك ونواهيك (2).
    ومارس المحقق عمله من هذا الموقع الشرعي في فترة من حكومة الشاه طهماسب وكان ينصب الولاة ويعزلهم ويأمرهم بالعدل والاحسان.
    يقول السيد نعمة الله الجزائري : رأيت مجموعة من أحكام المحقق إلى الحكام والولاة ، وكانت جميعا تتضمن الامر بالعدل إلى الرعايا والاحسان إليهم ، وكان للمحقق الكركي دور كبير في مكافحة الفحشاء والمنكرات وإقامة الفرائض في مواقيتها والامر بإعلان الاذان في مواقيت الصلاة ، وملاحقة المجرمين والمفسدين في ايران (3).
    ولا شك أن هذا حدث جديد في تاريخ فقه أهل البيت ، ولاول مرة في
1 ـ لؤلؤ البحرين : ص 272.
2 ـ مفاخر الاسلام للشيخ علي دواني : ج 4 ص 441.
3 ـ أحسن التواريخ : حوادث سنة 931. نقلا عن السيد الجزائري رحمه الله.
رياض المسائل ـ الجزء الأول ::: فهرس