رياض المسائل ـ الجزء الأول ::: 91 ـ 105
(91)
التاريخ يتصدى فقيه إمامي لشوون الولاية العامة من موقع السيادة والولاية الشرعية نيابة عن الامام. وهذا الامر إن كان معروفا من الناحية النظرية في الفقه الشيعي فهو على الصعيد التنفيذي والتطبيقي حدث جديد بالمعنى الدقيق للكلمة.
     التراث الفقهي للمحقق الثاني :
    أول ما تلقى المحقق الكركي العلم في جبل عامل ، ثم هاجر إلى دمشق والقدس ومصر وتلقى فيها العلم من فقهاء المذاهب الاربعة ومن أشهر أساتذته الذين تلقى العلم منهم في جبل عامل : الشيخ شمس محمد بن خاتون العاملي ، وأحمد بن الحاج علي العاملي العينائي ، وزين الدين جعفر العاملي ، والشيخ شمس الدين محمد بن داود ابن المؤذن الجزني ، والشيخ علي بن هلال الجزائري ، والسيد حيدر العاملي.
    وكان هذا الاخير من أكثر من أخذ عنه المحقق في جبل عامل. يقول عنه في بعض إجازاته : لازمته دهرا طويلا وأزمنة كثيرة وأنه أجل أشياخي وأشهرهم (1).
    أتحف المحقق الكركي المكتبة الفقهية الامامية بمجموعة قيمة من الكتب الفقهية من أهمها موسوعة « جامع المقاصد » وهو فقه استدلالي في شرح قواعد العلامة الحلي ، كتبه المحقق إلى كتاب النكاح ، وهو من أهم ما خلفه المحقق الكركي من الكتب الفقهية. ويمتاز « جامع المقاصد » بالتركيز والايجاز ومتانة الاستدلال وسلامة وجمال البيان وتجنب الدخول في التفاصيل والاقتصار على مقدار الضرورة من النقض والاستدلال.
    وهذا الكتاب منذ أن ألفه المحقق الكركي إلى اليوم كان موضع اهتمام
1 ـ مستدرك وسائل الشيعة : ج 3 ص 434.

(92)
الفقهاء يستندون إليه ويأخذون عنه ويكثر ذكره في الكتب الفقهية.
    ويحكى عن الشيخ محمد حسن النجفي صاحب « جواهر الكلام » أن الفقيه إذا كان بين يديه « جامع المقاصد » و « وسائل الشيعة » و « الجواهر » استغنى عن أي مصدر آخر ، وكان بإمكانه ـ استنباط الحكم الفقهي اعتمادا على هذه المصادر الثلاثة.
    وله أيضا شرح الارشاد للعلامة ، وشرح اللمعة الدمشقية للشهيد الاول ، وصيغ العقود ، ورسالة في الوجوب التخييري أو التعييني لصلاة الجمعة ، ورسالة في أقسام الارضين ، ورسالة في السجود على التربة الحسينية ، ورسالة في أحكام السلام والتحية ، وشرح الفية الشهيد الاول ، ورسالة في العدالة ، ورسالة في الماء الكر ، ورسالة في الحج ، ورسالة في الغيبة ، ورسالة في عدم جواز تقليد الميت ، ورسالة في الرضاع ، ومجموعة قيمة من الحواشي على الكتب الفقهية (1).
    تخرج على المحقق الكركي جمع من كبار العلماء منهم : الشيخ علي بن عبد العالي الميسي العاملي ، والشيخ عبد النبي الجزائري صاحب كتاب « حاوي الاقوال في معرفة الرجال » ، والشيخ علي المنشار العاملي ، والشيخ زين الدين الفقحاني ، والشيخ محمد بن أبي جامع المعروف ب‍ « ابن أبي الجامع » ، والشيخ نعمة الله بن أحمد بن خاتون العاملي ، ونور الدين علي بن عبد الصمد ـ عم الشيخ البهائي ـ والسيد محمد بن أبي طالب الاسترآبادي ـ والد السيد محمد باقر ميرداماد ـ ، والسيد جمال الدين بن عبد الله الحسيني الجرجاني ، وغير هؤلاء من علام الفقهاء والعلماء.
    كان وفود المحقق الكركي على عاصمة الصفويين بداية لهجرة واسعة من قبل فقهاء جبل عامل والمراكز الفقهية العامرة الاخرى في ذلك التاريخ مثل البحرين. وقد قدم إلى ايران بعد المحقق الكركي جمع من كبار الفقهاء منهم :
1 ـ مفاخر الاسلام : ج 4 ص 439.

(93)
الشيخ حسين بن عبد الصمد ـ والد الشيخ البهائي ـ ، والشيخ علي المنشار ، وكمال الدين درويش محمد العاملي ، والشيخ لطف الله الميسي العاملي ، والشيخ الحر العاملي صاحب موسوعة « وسائل الشيعة » ، وغيرهم ممن ذكرهم الحر العاملي رحمه الله في كتابه « أمل الآمل » وهؤلاء الفقهاء وضعوا أساسا متينا لمدرسة إصفهان الفقهية.
    ومن هذه المدرسة نبغ فقهاء ومحدثون وفلاسفة كبار من أمثال : الشيخ البهائي ، والعلامة المجلسي ( الوالد ) ، والعلامة المجلسي ( الابن ) ، والسيد محمد باقر الداماد ، وصدر المتألهين ، والفيض الكاشاني ، والملا عبد الله الشوشتري.

    معالم مدرسة اصفهان وأهم إنجازاتها الفقهية :
    في هذه المدرسة دخل الفقه ساحة المجتمع والعمل السياسي ، وبرز الفقه السياسي والاجتماعي بصورة ملحوظة ، وأصبح من مسؤولية الفقهاء في هذا العصر الاجابة الفقهية على كثير من الاسئلة التي كان يطرحها الولاة. والحكام والقضاة في مسائل الولاية والحكم والقضاء. وتناول الفقهاء هذه المسائل بالدراسة المستقلة ضمن رسائل فقهية مستقلة ، وكثرت هذه الرسائل في هذا العصر ، ومع أن أكثر هذه الرسائل فقدت خلال النكبة التي حلت بمدينة اصفهان في هجوم جيش محمود الافغان ، إلا أن الذي تبقى منها يعتبر ثروة فقهية مباركة لو جمعت ونظمت واخرجت بشكل مناسب.
    وفي هذا العصر أنجز المحدثون المجاميع والموسوعات الحديثية ، ومن أهم هذه المجاميع : « بحار الانوار » للعلامة المجلسي ، و « وسائل الشيعة » للحر العاملي و « الوافي » للفيض الكاشاني ، وهذه المجاميع حفظت لنا ما تبقى من الكتب والاصول الحديثية. ولو لا هذه المجاميع لا ندثر الكثير من تراث أهل البيت في الاصول والفروع والتفسير والاخلاق والمعارف الاسلامية الاخرى.


(94)
     كانت في كربلاء مدرسة فقهية محدودة قبل القرن الثالث عشر بموازاة مدرسة الحلة ومدرسة جبل عامل ومدرسة اصفهان ، وكان في هذه المدرسة فقهاء وعلماء كبار من أمثال : السيد فخار بن معد الحائري من أعلام الفقه والادب والانساب في القرن السابع الهجري ، والسيد جلال عبد الحميد بن فخار بن معد الموسوي من شيوخ الرواية ، والشيخ معد بن الخازن الحائري من أعلام تلاميذ الشهيد الاول ومن رجال الفقه والادب ، والشيخ علي بن عبد الجليل الحائري من تلاميذ الشيخ علي بن الحسن الحائري في القرن الثامن الهجري ، والشيخ أحمد بن فهد الحلي من أقطاب الفقه والحديث ومن زعماء الحركة العلمية في مدرسة كربلاء ، والشيخ إبراهيم الكفعمي من أعلام الققه والحديث وصاحب التآليف القيمة ، والسيد حسين بن مساعد الحائري في القرن التاسع الهجري ، والسيد ولي الحسين الحائري صاحب كتاب « كنز الطالب » و « مجمع البحرين » و « منهاج الحق » وغيرها ، والمولى القاضي محمد شريف الكاشف في القرن الحادي عشر الهجري ، والسيد نصر الله الحائري الفقيه الاديب الشاعر المعروف في القرن الثالث عشر وغيرهم من أعلام الفقه والادب والحديث والتفسير في هذه المدرسة العلمية.
    الا أن هذه المدينة شهدت في القرن الثاني عشر والثالث عشر نشاطا فقهيا


(95)
واسعا وزخرت بفقهاء كبار من أمثال : الشيخ يوسف صاحب « الحدائق » ، والوحيد البهبهاني ، والسيد مهدي بحر العلوم ، والمولى محمد مهدي النراقي صاحب « مستند الشيعة » ، والسيد مهدي الشهرستاني ، والسيد علي الطباطبائي صاحب « الرياض » ، والسيد محمد المجاهد الطباطبائي ، والشيخ شريف العلماء ، والشيخ محمد حسين الاصفهاني صاحب « الفصول » ، والسيد إبراهيم القزويني صاحب « الضوابط « ، والمولى محمد صالح البرغاني ، وغيرهم.
    ويبدو أن مدرسة كربلاء بدأت تتسع في النكبة التي أصابت اصفهان في فتنة محمود الافغان ، وأخذت تستقطب طلبة العلم والفقهاء والعلماء والمدرسين.
    الشيخ يوسف مؤلف « الحدائق » :
    ومن أبرز الاسماء التي تلمع في تاريخ هذه المدرسة في هذه الفترة بالذات وفي بدئيات نشاطها الفكري والفقهي اسم الشيخ يوسف البحراني مؤلف الموسوعة الفقهية القيمة والجليلة « الحدائق الناضرة ». حل بكربلاء بحدود عام 1169 ه‍ فحف به طلاب العلم وارتشفوا من نمير علمه العذب وتسلم في كربلاء زعامة التدريس والزعامة الدينية. ولبث في هذه المدينة قرابة عشرين عاما حتى وافاه الاجل فيها.
    وكان الشيخ يوسف يحمل الاتجاه الاخباري في طريقة استنباط الحكم الشرعي ، وكانت هذه الطريقة يومئذ هي الطريقة المعروفة في أوساط المدارس الفقهية للشيعة الامامية ، وكان الشيخ يوسف البحراني من أقطاب وزعماء هذه المدرسة.
    وكانت البحرين قاعدة ومنطلقا للاتجاه الاخباري في الفقه ، فلما تعرضت للغزو وتشرد أهلها انتشر فقهاؤها في الارض ، واحتضنت كربلاء بعضهم ، وكان الشيخ يوسف من هؤلاء الذين لجأوا إلى هذه المدينة المقدسة ليواصلوا عملهم العلمي هناك ، ونشط الشيخ يوسف في كربلاء وواصل عمله العلمي


(96)
على صعيدي التأليف والتدريس بالاضافة إلى الزعامة الدينية التي انفرد بها في هذه المدينة المقدسة ، وتخرج على يده خلال هذه المدة عدد من كبار الفقهاء أمثال : أبي علي الحائري مؤلف « منتهى المقال » ، والمحقق الميرزا القمي مؤلف « القوانين » ، والشيخ حسين بن محمد بن حسين مؤلف « عيون الحقائق الناظرة في تتمة الحدائق الناضرة » ، والسيد علي الطباطبائي الحائري مؤلف « الرياض » ، والسيد مهدي بحر العلرم الفقيه الشهير مؤلف « الفوائد الرجالية » والمولى أحمد النراقي مؤلف « مستند الشيعة » ، والسيد ميرزا الشهرستاني ، والسيد ميرزا مهدي بن هداية الله الاصفهاني الخراساني الشهيد. وأكمل خلال هذه الفتره تأليف « الحدائق الناضرة » إلى كتاب الظهار وأئمة من بعد ابن أخيه الشيخ حسين.
    ومن أهم ما كتبه خلال هذه الفترة « الدرة النجفية » ويبدو أنه كتبه في مدينة النجف خلال زياراته لها ، و « سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد » ، و « الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب » ، و « الكشكول » ، و « لؤلؤة البحرين » ، ومجموعة اخرى من الكتب في الفقه واصول العقائد والحديث.
    وكان اتجاه الشيخ يوسف بدء الامر هو الاتجاه الاخباري المعروف الذي انتشر أكثر ما انتشر في البحرين ، وكان الشيخ يوسف رحمه الله يحمل هذا الاتجاه ، فلما أن استقر به المقام في كربلاء أخذ يؤلف ويدرس بنفس الاتجاه حتى نزل بكربلاء الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني وكان نزول الوحيد البهبهاني بهذه المدينة إيذانا بمرحلة جديدة في الاتجاه الفقهي في مدرسة كربلاء. فقد بدأ الوحيد عمله الفقهي بالدعوة إلى الاتجاه الاصولي والاجتهاد ومواجهة المدرسة الاخبارية ، ونجح الوحيد في رسالته العلمية وأبرز الاتجاه الاصولي واستقطب خيرة تلامذة الشيخ يوسف البحراني وجمعهم حوله ، وانحسرت الحركة الاخبارية وانزوت ولم تستعد نشاطها بعد ذلك التاريخ.
    وكانت مدرسة كربلاء في هذا العصر ( القرن الحادي عشر والثاني عشر )


(97)
ساحة هذا الصراع الفقهي بين المدرستين الذي انتهى إلى بروز المدرسة الاصولية وانحسار المدرسة الاخبارية.
    ولا بد أن نذكر في تاريخ هذا الصراع أن الشيخ يوسف مؤلف « الحدائق » بدأ يحس بأن تعمق هذه الفجوة بين المدرستين داخل المدرسة الفقهية الامامية وتوسيع رقعة الخلاف لا يعود على التشيع بغير الخلاف والاضعاف ، والمسألة من حيث الاساس لا تستحق كل هذا الاهتمام ، ولا يجوز شق فقه أهل البيت إلى مدرستين متصارعتين حول هذه المسألة ، وان الامين الاسترآبادي قد غالى كثيرا وأفرط في تعميق الخلاف والتهجم على فقهاء الشيعة الذين لم يكونوا على رأيه ومذهبه من أمثال العلامة الحلي رحمه الله ، وليس كل ما قاله الاخباريون حق ، وليس كل ما قاله الاصوليون في محاور الخلاف باطل.
    وأحس الشيخ يوسف من هذا المنطلق بمسؤولية شرعية من تضييق رقعة الخلاف وإزالة الحواجز التي اقيمت داخل هذه المدرسة بين هاتين الفئتين ، فبدأ يعمل بموجب هذا الوعي وهذه المسؤولية التي أحس بثقلها على كا هله لتضييق شقة الخلاف وازالة الحواجز ونقد التطرف الاخباري في الموقف تجاه المدرسة الاصولية والمجتهدين. وبدأ رحمه الله يميل إلى مدرسة الاصوليين بشكل أو بآخر. فاستمع إليه رحمه الله في المقدمة الثانية عشر من مقدمات « الحدائق » يقول :
    وقد كنت في أول الامر أنتصر لمذهب الاخباريين وقد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين ، إلا أن الذي ظهر لي بعد إعطاء التأمل حقه في المقام وإمعان النظر في كلام علمائنا الاعلام هو اغماض النظر عن هذا الباب وارخاء الستر دونه والحجاب ، وان كان قد فتحه أقوام وأوسعوا فيه دائرة النقض والابرام.
    أما ( أولا ) فلا ستلزامه القدح في علماء الطرفين ...
    وأما ( ثانيا ) فلان ما ذكروه في وجوه الفرق بينهما جله بل كله عند التأمل


(98)
لا يثمر فرقا ...
    وأما ( ثالثا ) فلان العصر الاول كان مملوء من المحدثين والمجتهدين ، مع أنه لم يرتفع بينهم صيت هذا الخلاف ، ولم يطعن أحد منهم على الآخر بالاتصاف بهذه الاوصاف ...
    ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا وقوع هذا الاعتساف إلا من زمن صاحب « الفوائد المدنية » سامحه الله تعالى برحمته المرضية ، فإنه قد جرد لسان التشنيع على الاصحاب ، وأسهب في ذلك أي إسهاب وأكثر من التعصبات التي لا تليق بمثله من العلماء الاطياب (1).
    والحقيقة إن هذا الموقف الذي وقفه الشيخ يوسف من هذا الصراع كان له تأثير بالغ الاهمية في إعادة الانسجام إلى مدرسة أهل البيت ، وازالة التطرف الذي أصاب هذه المدرسة في فترة الصراع وعودة الاعتدال والعقلانية إلى هذه المدرسة.
    وفي نفس الوقت فإن هذا الموقف يدل على غاية في الورع والتقوى والاحساس بالمسؤولية عند هذا الفقيه الجليل ، ولا شك أنه واجه كثيرا من الضغوط في موقفه هذا ، ولكنه آثر أن يتحمل هذه الضغوط على أن يجري مع فضلاء عصره فيما كانوا يجرون فيه من تعميق وتوسيع شقة الخلاف بين المدرستين.
    والى جانب الاعتدال الذي أخذ به الشيخ يوسف رحمه الله كان الوحيد البهبهاني رحمه الله هو الآخر يرى أن رسالته في تكريس الخط الاصولي والاجتهاد والدفاع عنه وإزالة الشبهات التي جاء بها الاخباريون في التشكيك في الاجتهاد. وبسبب هذا الاعتدال الذي أخذ به الشيخ يوسف ، والموقف الحاسم الذي أخذ به الوحيد البهبهاني رحمهما الله استعادت مدرسة أهل البيت الفقهية
1 ـ الحدائق الناضرة : ج 1 ص 167 ـ 170 وقد اخترنا مقتطفات من كلامه رحمه الله بقدر الحاجة.

(99)
مدة اخرى انسجامها ، ونشظ الاجتهاد عل الطريقة الاصولية بعد ضمور واختفاء.
    ومما يروى من سيرة هذا الفقيه الجليل الشيخ يوسف أنه رغم الصراع الطويل الذي خاضه مع الوحيد البهبهاني في أمر الاصول والاجتهاد أوصى أن يصلي عليه بعد وفاته الوحيد البهبهاني دون غيره من معاصريه ، وهذه درجة عاليه من التجرد عن الانانية لا يناله إلا ذو حظ عظيم من الاخلاص لله تعالى.
    الوحيد البهبهاني :
    حمل الوحيد البهبهاني لواء اللدعوة إلى الخط الاصولي ، وواجه الاخباريين في النجف وبهبهان وكربلاء ، وفي تأليفاته ودروسه ومحاوراته التي كان يجريها مع علماء المدرسة الاخبارية.
    حل في بهبهان ثلاثين سنة ، وكانت هذه المدينة تضم جمعا من فقهاء البحرين الاخباريين فتحولت المدرسة العلمية في عهده في هذه المدينة إلى الاتجاه الاصولي.
    وانتقل إلى كربلاء وبقي إلى آخر عمره في كربلاء وتوفي فيها. ولما حل الشيخ الوحيد في كربلاء كان الاتجاه الاخباري ـ كما ذكرنا ـ هو الاتجاه السائد ، وكان الشيخ يوسف البحراني زعيم هذا الاتجاه العلمي ، فبدأ الوحيد يعمل ضذ هذا الاتجاه في دررسه وتأليفه ومحاوراته ، فلم يمض مدة حتى استقطب فضلاء طلاب الشيخ يوسف البحراني ، كالسيد مهدي بحر العلوم والسيد مهدي الشهرستاني ، وتحول جمع من تلاميذ الشيخ يوسف من درسه إلى درس الوحيد البهبهاني. وكان همه الاول خلال هذه الفترة هو تكريس الاتجاه الاصولي ونقض ونقد الاتجاه الاخباري وإعادة الانسجام والاعتدال إلى مدرسة أهل البيت في الفقه.
    وكان الشيخ الوحيد محاورا قويا وقادرا على إدارة الحوار بصورة ممتازة


(100)
وجيدة. وكان يستخدم الحوار في نقد المدرسة الاخبارية وتكريس الاتجاه الاصولي بشكل واسع.
    حدث الشيخ عباس القمي في « الفوائد الرضوية » عن صاحب « التكملة » عن الحاج كريم فراش الحرم الحسيني الشريف أنه كان يقوم بخدمة الحرم في شبابه ، وذات ليلة التقى بالشيخ يوسف البحراني والوحيد البهبهاني داخل الحرم الحسيني الشريف وهما واقفان يتحاوران ، وطال حوارهما حتى حان وقت اغلاق أبواب الحرم فانتقلا إلى الرواق المحيط بالحرم واستمرا في حوارهما وهما واقفان ، فلما أراد السدنة إغلاق أبواب الرواق انتقلا إلى الصحن وهما يتحاوران ، فلما حان وقت إغلاق أبواب الصحن انتقلا خارج الصحن من الباب الذي ينفتح على القبلة ، واستمرا في حوارهما وهما واقفان فتركهما وذهب إلى بيته ونام ، فلما حل الفجر ورجع إلى الحرم صباح اليوم الثاني سمع صوت حوار الشيخين من بعيد ، فلما اقترب منها وجدهما على نفس الهيئة التي تركهما عليها في الليلة الماضية مستمران في الحوار والنقاش ، فلما أذن المؤذن لصلاة الصبح رجع الشيخ يوسف إلى الحرم ليقيم الصلاة جماعة ورجع الوحيد البهبهاني إلى الصحن وافترش عباءته على طرف مدخل باب القبلة ، وأذن وأقام وصلى صلاة الصبح.
    وفي أمثال هذه المحاورات كان الوحيد يتمكن من خصومه الفكريين ويدحض شبهاتهم ويكرس الاتجاه الاصولي ويعمقه.
    ولا بد أن نقول مرة اخرى اعترافا بالفضل للشيخ يوسف مؤلف « الحدائق » : إن تقوى الشيخ وخلوصه وصدقه وابتغاءه للحق كان من أهم عوامل هذا الانقلاب الفكري الذي جرى على يد الوحيد في كربلاء ، ولو كان الشيخ يوسف من موقعه العلمي والاجتماعي يريد أن يجادل الوحيد ويظهر عليه لطالت محنة هذه المدرسة الفقهية واتسعت مساحة الخلاف فيها وتعمق فيها الخلاف ، ولكن الشيخ يوسف كان يؤثر رضا الله والحق على أي شيء آخر ،


(101)
ومكن الوحيد البهبهاني في حركته الاصلاحية العلمية.
    ومن غرائب ما يروى عن هذا العبد الصالح أن الوحيد كان يحظر على تلاميذه حضور دروس الشيخ يوسف ، ولكن الشيخ في المقابل كان يسمح لتلاميذه بحضور دروس الوحيد ، وكإن يقول كل يعمل بموجب تكليفه ، ويعذر الوحيد في ذلك ، وهو نموذج رائع من نماذج سعة الصدر والتقوى في فقهائنا الاعلام.
    واستطاع الوحيد خلال فترة إقامته في كربلاء أن يربي عددا كبيرا من الفقهاء والمجتهدين. ولو تحرينا نحن فروع شجرة فقهاء أهل البيت في القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر وجدنا أنهم جميعا يرجعون بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى الوحيد البهبهاني ، ولذلك يطلق على الوحيد البهبهاني ( استاذ الكل ) أو ( الاستاذ الاكبر ) وهو لقب يختص به الوحيد البهبهاني. فتخرج من دروسه العلامة السيد مهدي بحر العلوم الفقيه الشهير مؤلف « الفوائد الرجالية » والذي سبق أن ذكرنا أنه من تلامذة الشيخ يوسف البحراني ، والسيد محمد مهدي الشهرستاني ، والسيد علي الطباطبائي مؤلف « رياض المسائل » ، والشيخ جعفر الكبير مؤلف « كشف الغطاء » ، والمحقق القمي صاحب كتاب « قوانين الاصول » ، والسيد محسن الاعرجي مؤلف كتاب ( المحصول ) في الاصول ، والمحقق ملا أحمد النراقي مؤلف « المستند » ، والسيد ميرزا مهدي الخراساني الشهيد ، والشيخ أسد الله الكاظمي مؤلف « مقابيس الانوار » ، والسيد جواد العاملي مؤلف الموسوعة الفقهية الشهيرة ب‍ « مفتاح الكرامة » ، والشيخ محمد تقي الاصفهاني مؤلف حاشية المعالم المعروف ب‍ « هداية المسترشدين في شرح اصول معالم الدين » ، والسيد محمد باقر حجة الاسلام الشفتي الاصفهاني مؤلف كتاب « مطالع الانوار في شرح شرائع الاسلام » ، والمحقق الكلباسي مؤلف كتاب « إشارات الاصول » ، والسيد محمد حسن زنوزي مؤلف كتاب « رياض الجنة » و « دوائر العلوم » ، والسيد دلدار علي


(102)
الهندي من أعلام الفقهاء في الهند صاحب « مسكن الفؤاد » و « دعائم الاسلام » و « الشهاب الثاقب »، والشيخ أبو علي الحائري مؤلف « منتهى المقال ».
    وخلف الوحيد البهبهاني. من بعده كتبا قيمة من آثأره وأفكاره ، يقول تلميذه الشيخ أبو علي في « منتهى المقال » : أن تأليف الاستاذ يقرب من ستين كتابا ، وقد خصص الوحيد البهبهاني جملة من كتبه في رد الشبهات عن المدرسة الاصولية ودحض شبهات الاخباريين ونظرياتهم من قبيل رسالة « الاجتهاد والاخبار » ورسالة « حجية الاجماع » ورسالة « الفوائد الحائرية » ورسالة « الفوائد الجديدة » وغير ذلك من التآليف. وكتب الوحيد متينة ومشحونة بالافكار الفقهية والاصولية ، وتعتبر جملة من أفكاره التي دونها والتي درسها لتلاميذه اسسا لعلم الاصول الحديث.


(103)
    نبذة عن التاريخ السياسي للحركة :
    يعتقد أحد الكتاب المعاصرين (1) ان الجذور السياسية لنشأة الحركة الاخبارية في مدرسة فقه أهل البيت يعود إلى الصراع الشديد الذي كان يجري في العصر الصفوي بصورة مكتومة يين المؤسسة السياسية والمؤسسة الفقهية ، فقد أخذ الصفويون يتضايقون من سعة دائرة نفوذ المؤسسة الفقهية والتحول التدريجي الذي جرى داخل المؤسسة الفقهية من سلطة روحية إلى سلطة زمنية تتدخل في شؤون الناس وتزاحم السلطة الرسمية في شؤونها واهتماماتها.
    ورغم حاجة المؤسسة السياسية الصفوية إلى دعم وإسناد المؤسسة الفقهية وإلى وقوفها إلى جانبها في صراعها مع العثمانيين إلا أنه كانوا يتضايقون من توسع دائرة نفوذ الفقهاء وفي هذه الفترة بالذات ظهرت الحركة الاخبارية ابتداء من سنة 985 ه‍ ثم اتسعت هذه الحركة وتمكنت من شق المدرسة الفقهية عند الشيعة الامامية إلى شطرين متصارعين ، وإضعاف مؤسسة الاجتهاد إلى حد بعيد.
    فالحركة الاخبارية كانت هي البديلة لمؤسسة الاجتهاد ، وبطبيعة الحال
1 ـ وهو السيد جودت القزويني في دراسته القيمة عن التاريخ السياسي للفقه الامامي.

(104)
فإن تكريس الحركة الاخبارية يكون عل حساب مؤسسة الاجتهاد ، والجهة المستفيدة من ذلك هو الجهة الرسمية في الدولة الصفوية التي بدأت تتضايق من سعة دائرة نفوذ الفقهاء في الدولة الصفوية ، ومع احترامنا لرجال هذه الحركة وفقهائها وهم نخبة من خيرة فقهائنا ورجالنا لا نستبعد هذا التحليل ، فاننا عندما نستعرض تاريخ الصفويين نلمس هذا التناقض الغريب في تكوين النظام الصفوي.
    فقد قام النظام الصفوي باسم اللدعوة إلى التشيع ، وأستفاد من هذه الدعوة واكتسب قوته من ذلك. وانتشر التشيع في ايران بهذا النظام ، واستقدم النظام فقهاء الشيعة من جبل عامل لنشر التشيع وتفقيه أجهزة الدولة وحركة المجتمع العامة ، ولكن هذا النظام في نفس الوقت لم يكن يحب لم أن يسمح بظهور قوة جديدة في الساحة تزاحمه. ولما تحولت المؤسسة الفقهية إلى قوة وسلطة زمنية تتحكم في شؤون الدولة والمجتمع بدا النظام الصفوي يتضايق من هذه الظاهرة.
    ومن هذا المنطلق لا نستبعد أن يكون الحكم الصفوي فكر في دعم وتكريس الحركة الاخبارية والاستفادة منها دون ان يعني ذلك مصادرة البواعث والمنطلقات الفقهية لهذه الحركة والتي لا يمكن التشكيك فيها أو ربطها بالعجلة السياسية.
    إلا ان هذه الحركة رغم هذا التحليل لم تمتد في ايران كثيرا ، وإنما تكرست وتوضمعت في البحرين ، ثم انطلقت منها إلى كربلاء ، وازدهرت هذه الحركة وانتعشت في كربلاء ، ثم اخذت تنحسر بالتدريج بفعل المواجهة التي قام بها وصعدها الوحيد البهبهاني في كربلاء.

    الاصول الفكرية للحركة الاخبارية :
    كما ذكرنا من قبل يدعي الاخباريون أن خطهم الفكري في استنباط


(105)
الحكم الشرعي يعود إلى عصر الفقهاء الاوائل ، ويقولون بأن رأيهم في طريقة فهم الحكم الشرعي مثل ما رآه الشيخ الصدوق وكبار المحدثين. ولكننا نشك نحن في صحة هذا الرأي. فإن هؤلاء الاعلام محدثون ، والمحدثون غير الاخباريين. وفي رأينا أن هذه المدرسة تحددت معالمها بصورة علمية على يد الشيخ أمين الاسترآبادي ( المتوفي 1033 ه‍ ) وبشكل خاص في كتابه « الفوائد المدنية » الذي وضع اصول ما فيه من الافكار في المدينة المنورة ، ثم دونها في مكة المكرمة وسماه ب‍ « الفوائد المدنية » في الرد على من قال بالاجتهاد والتقليد أي أتباع الظن في نفس الاحكام. وهذا الكتاب يحوي اصول الفكر الاخباري بصورة منظمة وعلمية.
    ويعد الامين الاسترآبادي أبرز علماء هذه المدرسة ورائدها. وهناك علماء آخرون بنفس الاتجاه كالشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي ( 1076 ه‍ ) ، والحر العاملي مؤلف الموسوعة الحديثية الجليلة « وسائل الشيعة » والفيض الكاشاني مؤلف « الوافي » ، والشيخ يوسف مؤلف « الحدائق الناضرة » ، وغيرهم والشيخ ميرزا محمد الاخباري ( 1233 ه‍ ) وكان هذا الاخير شديدا في آرائه قاسيأ في نقده للاصوليين.

    محاور الخلاف بين المدرستين :
    يقول مؤلف الروضات : إن الشيخ عبد الله بن الحاج صالح البحراني ذكر في كتاب « منية الممارسين في جوابات مولانا الشيخ ياسين » في الفرق بين العالم الاخباري والمجتهدين أربعين وجها (1).
    وذكر الميرزا محمد الاخباري في كتاب « الطهر الفاصل » تسع وخمسين فرقا بين الاصوليين والاخباريين ، لكن في هذا التفريق مبالغة واضحة ،
1 ـ روضات الجنات : ج 4 ص 250.
رياض المسائل ـ الجزء الأول ::: فهرس