النظام الصحي ::: 11 ـ 20
(11)
سميت ايضا بمدرسة ( جامعة شيكاغو ) وروادها علماءاجتماع امريكان امثال ( جورج ميد ) ، و ( روبرت بارك ) و ( ارنست بيرجيس ) الذين كانوا جميعا اما ابناء قساوسة بروتستانت او انفسهم قساوسة بروتستانت ، فتكون النظرة الاجتماعية الامريكية اقرب الي النظرة النصرانية البروتستانتية. وتطرقنا في القسم الثاني من الكتاب الي عرض مجمل للاراء الفقهية الاسلامية الخاصة بالصحة والمرض والموت. وخرجنا بنتيجة مهمة وهي ان النظام الصحي السياسة الطبية الاسلامية ينبغي ان تطرح كنموذج عملي يستحق ـ علي اقل تقدير ـ انزاله الي الساحة الاجتماعية الاسلامية ، ضرورة تبنيه بكل قوة حتي يتحقق تكامل نظام الدولة والحكم في الاسلام.
     ان التفصيلات المذكورة في طياب الكتاب ، والخاصة بتطبيق افكار المدرسة التوفيقية والافكار الراسمالية في النظام الصحي الغربي عموما والامريكي بالخصوص ، تنتهي الي نتيجة علي درجة كبيرة من الخطورة وهي ان الموسسة الصيحة الغربية اصبحت السياسة الطبية الغربية دون ادني شك مرتبطة بالسياسة الاستعمارية لدول الاستكبار.
     ان اطباء العالم الاسلامي اليوم يتحملون اكبر المسؤوليات الاجتماعية فيما يتعلق بتطوير النظام الطبي في المجتمع الاسلامي. ويتحمل فقهاء الامة ايضا مسؤولية رسم السياسة الطبية الاسلامية واكتشاف كل ما من شأنه الوقاية من الامراض والعناية بصحة الفرد من خلال الكتاب المجيد الروايات الواردة عن رسول الله (ص) وائمة اهل البيت (ع). وينبغي ان يكون حمل هّم هذه القضية من اولويات السياسة الاسلامية. لان


(12)
الاستعمار الطبي يخدم السياسة الاستكبارية علي مستويين ، الاول : الاستنزاف طاقات موارد العالم الاسلامي والدولة الاسلامية بالخصوص من خلال تصدير الادوية والمعاجين الكيميائية اوموادها الساسية. الثاني : حرمان الاسلام من فرص عرض نظامه الصحي المتميز و المستند علي الانظمة الوقائية والغذائية والعلاجية ، التي هي ارخص الطرق واسلمها الي السعادة الصحية ، وبالتالي الابقاء علي حالة التخلف الحضاري التي يشهدها المسلمون اليوم. ولا شك ان صياغة سياسة طبية مستنده تماما علي اطار الافكار الاسلامية يتطلب فهما استثنائيا لدور الطلب في الحياة الاجتماعية ودور الفقه الاجتماعي في معالجة المشاكل الاجتماعية التي تواجهها الدولة الاسلامية. وقد حاولنا بكل جهدان نضع قدمنا علي الخطوة الاولي لهذا الطريق الطويل.
     وهو المستعمان ، وله الحمد في الاولي والاخرة ، وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب.
زهير الاعرجي
مدينة قم المشرفة \ ذوالحجة 1413 هـ.


(13)
( اطروحة الكتاب)
تربط النظريات الاجتماعية الغربية الصحة والمرض بصميم فعاليات النظام الاجتماعي. ففي الوقت الذي تعتقد فيه النظرية التوفيقية علي لسان ( تالكوت بارسن ) و ( جورج ميد ) بضرورة ربط المرض بالدور الاجتماعي الذي يشغله الفرد ترتيب علي ذلك استنتاجا مهمّا يصرّح بان للنظام الاجتماعي مصلحة حقيقية في انشاء الموّسسة الطبية للحفاظ علي سلامة الافراد وصيانة انتاجهم الاجتماعي ، فانها لا تمانع من ربط النظام الصحي بالفلسفة الراسمالية التي تؤمن بتقييم العمل من زاوية الربح و الخسارة لا الخدمات الانسانية. بينما تقوم نظرية الصراع الاجتماعي علي لسان ( كارل ماركس ) والمتاخرين من انصارها باتهام النظام الراًسمالي بضلوعه في انشاء المؤسسة الطبية التي لا تعدو كونها مجرد صنيعة من صنائع الطبقة الرأسمالية ، لان صياغة شكل سياسة تلك المؤسسة الطبية يمثل الطرف المنتصر في عملية الصرع الاجتماعي.
     ويتلخص نقدنا لكلا المدرستين ، بان للطب وظيفة خطيرة في المحافظة علي صحة الافراد و زيادة انتاجهم الاجتماعي وليس بالضرورة ان يكون النظام الصحي وليد الطبقة الرأسمالية ، لان المجتمع الانساني يحتاج الي تلك المؤسسة بل لا يشك عاقل انها من اولويات مسؤولية الدولة الحديثة. الا ان الخبرة الطبية والتقدم التقني وحدهما لا يستطيعان تطوير انسانية النظام الصحي ما لم تستند فلسفة ذلك النظام علي رسالة الدين الاخلاقية في التعامل مع الصحة والمرض والموت.
     فرسالة الدين تولي اهتماما خاصا بالفرد و مصلحة الشخصية والاجتماعية.


(14)
فتبني اولا في شخصيات الافراد حب التعفف عن المال ، وهو ما يساهم في تربية الطبيب علي الخدمة الانسانية في عمله المهني ويجنبه حب تكديس المال علي حساب دخل المريض ومعاناته الانسانية. وتحاول الرسالة الدينية ايضا تثقيف المريض من خلال حثه علي معرفة اساليب الوقاية وتناول الغذاء الصحيح. وتقوم تلك الرسالة ايضا في تحميل النظام الاجتماعي الاسلامي المسووليته الشرعية في علاج المريض وتعويضه ما ليا بشكل يحفظ كرامته ويسد حاجته وحاجة عائلته الاساسية.
     ويتخلص جوهر النظرية الاسلامية في الطب والصحة العامة في نظامين هما : النظام الوقائي ، والنظام الغذائي. فالنظام الوقائي يعالج الحالة المرضية قبل وقوعها. وقدتعاملت الشرعية مع هذا النظام باسلوب التحريم ، فمنعت العديد من المأكولات التي اثبت العلم التجربي الحديث ضررها القطعي على الجسد الانساني كالميتة والدم لحم الخنزير الخمر نحوها استنادا على قاعدة ( لاضرر ولاضرار في الاسلام ) ، بينما أحلّت الكثير من اللحوم والثمار. وقد جاء الاسلام بنظام وقائي فريد فيه الكثير من التفصيلات فيما يتعلق بطهارة الجسد الانساني ، خصوصا تنظيف الاسنان عن طريق السواك ، وتنظيف الجسد بالطهارة المائية ، وطهارة الشمس الخاصة بالارض وهي بيئة الفرد ، الطهارة الطبية الباطنية عن طريق الصيام. والنظام الغذائي هوالاخر بمثل قسما واسعا من الدائرة الفقهية الخاصة بصحة الفرد. واعمدته وجوب التذكية الشرعية ، واداب المائدة ، الاعتدال في تناول اللحوم ، والنظام الشفائي في العسل ونحوها.
     وفي الحالات الاستثنائية يتعين الطب العلاجي الذي يؤيده الاسلام ويضع له الضوابط الاخلاقية ومنها ضمان الطبيب بشروطه الشرعية ، الارتكاز العقلائي ، ومسؤولية الدولة في تطبيب الافراد ومعالجتهم وقت الطوارى.
     ومن هذا البحث نستنتج ان للنظام الطبي الاسلامي اخلاقية دينية وادبية عظيمة تميزه عن بقية الانظمة الصحية في العالم وخصوصا النظام الطبي الرأسمالي الغربي. وهذا الكتاب مقدمة على طريق اكتشاف النظام الصحي للدولة الاسلامية من مصادره منابعه الاصيلة.


(15)
القسم الاول
النظام الصحي في النظرية الرأسمالية
     الطب في النظرية التوفيقية * نقدالنظريةالتوفيقية * وظيفة الطب * الطب في نظرية الصراع الاجتماعي * الطب في النظام الرأسمالي البريطاني * الطب في النظام الرأسمالي الامريكي * اسباب انعدام عدالة النظام الصحي الامريكي * المرض والنظام الحياتي للفرد * العلاقة بين الطبيب والمريض * الخبزة الطبية وروادها في النظام الرأسمالي.


(16)

(17)
    الطب في النظرية التوفيقية
     يقول ( تالكوت بارسن ) ، احد رواد النظرية التوفيقية في الطب بان ( المرض ليس ظاهرة بيولوجية فحسب ، بل انه ظاهرة اجتماعية ايضا ) (1) ، لان المجتمع الا الانساني يتطور تطوراً طبيعياً ما لم يقم الافراد جميعاً باداء ادوارهم الاجتماعية في كل الاوقات. فاذا تعرض فرد ما لمرض من الامراض اصبح دوره الاجتماعي شاغراً لانه لا يستطيع القيام بتأدية ذلك الدور المناط به اجتماعيا. وكنتيجة لهذا الخلل ، اصبح ذلك الدور معرضاً الى احتمالين ، الاول : ان يحال الى فرد اخر سليم من الناحية الصحية ، والثاني : ان يبقى ذلك الدور معطلاً دون شاغل يشغله. وهذا التبدل في الادوار الاجتماعية يسلط ضغطاً ويولد ارباكا ضد الحركة الطبيعية للنظام الاجتماعي.
     ولا شك ان للنظام الاجتماعي ـ مهما كان لونه شكله ـ مصلحة حقيقية في انشاء نظام صحي متكامل لعلاج الامراض وللحفاظ على نظافة المجتمع من الاوبئة والامراض المعدية حتى يتم استثمار طاقات العمال الاصحاء بطريقة يكون مردودها الانتاجي متناسباً مع حجم ذلك النظام وقابلياته. وعلى هذا الاساس فان من مصلحة النظام الاجتماعي مثلاً ، تحديد ( من هو المريض ؟ ) ، ومن مصلحة النظام الاجتماعي ايضاً معرفة من
1 ـ ( تالكوت بارسن ) : بحوث في النظرية الاجتماعية. نيويورك : المطبعة الحرة ، 1954 م.

(18)
يصطنع المرض كي يجد مخرجاً يتهرب فيه من اداء الواجبات الاجتماعية المناطة به. فلو نظرنا الى قائمة الامراض التي تصيب الافراد في اي مجتمع انساني ، وابتدأنا من الصداع و انتهينا بامراض القلب مروراً بامراض الكبد و الجهاز الهضمي والدماغ والاعصاب ، لتبين لنا ان المؤسسات الصحية التي اسسها النظام الاجتماعي هي التي تحدد طبيعة المرض خطورته. فالمجتمع مثلاً لا يعتبر الصداع مرضاً لان المؤسسة الصحية لم تعتبره حالة مرضية تستوجب دخول المستشفى او عيادة الطبيب الا في حالات استثنائية نادرة ، ولكنه يعتبر قرحة الامعاء ، مرضاً يتوجب معالجته عن طريق الطبيب او المستشفى ، مع ان الصداع والقرحة معا قد يعطلان الفرد عن الانتاج. وعلى هذه القاعدة يمكن تطبيق كل الحالات المرضية التي يتم تحديدها عن طريق مؤسسات النظام الصحية.
     ولا يتوقف النظام الاجتماعي عند تحديد المرض وتشخيصه ، بل يتوقع من الفرد سلوكاً معينا يتناسب مع ذلك المرض. فسلوك المريض مثلاً ، يعتبر من الناحية الاجتماعية مناقضاً للسلوك الطبيعي للافراد الاصحاء. فما ان يعلن المريض اعراضه المرضية حتى يخلد الى الفراش ، باحثاً عن المساعدة الطبية ، باذلاً ماله لتحصيل الدواء الموصوف. وبما ان المرض عامل اجتماعي سلبي على الانسان ، فان نزوله بعضو من اعضاء النظام الاجتماعي يضع ذلك المجتمع وجهاً لوجه امام مسؤولياته في التعامل مع ذلك المريض. ولذلك فان الجهة التي تحدد المرض يجب ان تتمتع بشرعية قانونية يقرها النظام الاجتماعي ، حتى تستطيع تعويض الخسارة الاجتماعية التي يجلبها المرض على الفرد والعائلة والنظام الاقتصادي والاجتماعي


(19)
بشكل عام.
     وتعتبر هذه النظرية ، المرض لونا من الوان الانحراف الاجتماعي ، لان المريض يسلك خلال مرضه سلوكاً مناقضاً للسلوك الطبيعي الذي يقره الاصحاء. فالخلود الى الفراش ، وتناول الدواء ، وتسخير الاخرين لخدمة المريض ، كلها تصرفات لا يقوم بها الاصحاء غالباً. ولكن هذا الانحراف الصحي يعتبر انحرافاً استثنائيا ، لاسباب عدة منها ، اولاد : ان هذا السلوك يستغرق فترة قصيرة محدودة ، وثانياً : انه يعبّر عن قوة لا ارادية داخل جسم الانسان. فالمريض مجبر على قبول حالته الاستثنائية ، وملزم بالاستسلام لواقعه الانحرافي الجديد. ولذلك فهو غير ملام على تركه العمل الانتاجي ، و غير مسؤول عن التقصير في اداء دوره الاجتماعي الذي اصبح شاغراً بسبب مرضه. وما على المجتمع ونظامه الاجتماعي الا الاذعان والتسليم لحق المريض ومعاملته معاملة خاصة ، عن طريق منحه اجازة التخلي عن دوره و مسؤولياته الاجتماعية الى موعد الشفاء التام. فالعامل المريض مثلا يستطيع ترك العمل والتوقف عن الانتاج والخلود للراحة فور ظهور اعراضه المرضية. والطالب المريض يستطيع تأجيل موعد امتحانه النهائي لاسباب مرضية. والتاجر المريض يعطل تجارته بسبب عجزه عن ممارسة العمل الطبيعي الذي تعارف افراد المجتمع عليه.
     ولاشك ان المريض الصادق ينبغي ان يطلب علاجاً سريعاً لحالته المرضية الاستثنائية. لان تباطؤه في العلاج يعني ان ذلك الفرد يهوى البقاء عالة على الاخرين ، ويود التخلي عن عمله الانتاجي في الحقل الاجتماعي ، وهو بذلك لا يعطل دوره الاجتماعي فحسب ، بل يستهك


(20)
موارد الاخرين الاقتصادية ايضاً. وهذا التمارض يعطل الطاقات الانتاجية للافراد ويسبب خللا في الميزان الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي للمجتمع.
     وعلى الاغلب ، فان النظام الاجتماعي يتوقع من المريض قبول المساعدة الطبية الممنوحة له من قبل الموسسة الصحية المعترف بها اجتماعياً. فالفرد المصاب بمرض حقيقي لا يستطيع رفض استشارة الطبيب ، او تعليماته الخاصة بالفحص الشاعي اوالكيميائي ، او اخذ الدواء ، لان ذلك كله يعرضه الى الشكوك والشبهات التي تتهمه بالتمارض تهربا من المسؤوليات الاجتماعية المناطة به.
النظام الصحي ::: فهرس