النظام الصحي ::: 71 ـ 80
(71)
شرعي ، كل ذلك سيساهم في رفع مستوى العلاج الطبي العام ، وتوطيد الثقة بين افرد المجتمع وافراد المؤسسة الطبية.
     ولاشك ان مناداة الاسلام ايضاً بالعدالة الاجتماعية وتضييق الفوارق الطبقية بين الافراد ـ سيساعد على ازالة الامراض العقلية وغير العقلية بين الفقراء ، فيشترك الفقراء حينئذ مع اقرانهم في ادارة النظام الاجتماعي ، وكذلك فان مشاركة الطبقة الفقيرة في رفد المؤسسة الصحية بالاطباء في النظام الاسلامي سيخفف من حدة الفوارق الطبقية بين الافراد. ويمكن
     تخفيف الضغط على المستشفيات بتصميم نظام صحي يقوم على اساس فصل المستشفى عن عيادة الطبيب. وكمثال على ذلك ، فلنفترض ان المستشفيات مصمًمة بالاصل للحالات المرضية الطارئة كالكسور والجوروح الشديدة والعمليات الجراحية وسحب الدم ، والفحوصات المختبرية. اما العيادات الطبية فانها تستقبل المرضى الاقل خطورة كامراض الجهاز الهضمي والعصبي والعظمي التي لاتستدعي اجراء عمليات جراحية فورية ، وتستقبل ايضا حالات الفحص الطبي السنوي. بمعني ان العيادة الطبية ينبغي ان تستخدم العلاج الوقائي ، وهو فحص الافراد بشكل دوري سنوي منتظم حتى يتم معالجة المرض منذ بداية نشوئه وقبل استفحاله وتعذر معالجته. وينبغي ان تتوزع العيادات الطبية على مختلف انحاء المدينة الواحدة ، بحيث يكون مسؤولية كل طبيب معالجة عدد محدد من الافراد في محلة واحدة ، ولنفترض ان عددهم الف فرد على الاكثر ، حيث يحتفظ بملفاتهم للاستفادة منها وقت الحاجة. فاذا كان المرض يصيب عشرة بالمائة من الافراد على سبيل المثال ، فان الطبيب سيعاين مائة فرد شهرياً. ولو


(72)
افترضنا ان الدولة تزود كل عائلة ، حسب دخلها ، ببطاقة شهرية للعلاج الطبي ، فان الطبيب الماهر المجتهد في عمله سيستقبل عدداً اكبر من المرضى ، ويترتب على ذلك ان دخله السنوي سيزداد. ولو علمنا ان الحاكم الشرعي او الدولة تفرض على الاغنياء دفع الحقوق الشرعية وهي عشرين بالمائة من فائض المؤونة السنوية وحقوقاً اخرى تتجمع في بيت المال ، تبين لنا ان الدولة الاسلامية قادرة على توفير العلاج الصحي لجميع الافراد ، علاوة على توفير الغذاء والسكن الكريم للجميع. وهذا النظام الاسلامي العادل يتفوق على النظام الرأسمالي الامريكي الذي يضطر سدس افراده سنوياً الى بيع ممتلكاتهم لدفع اجور العلاج الصحي.


(73)
    العلاقة بين الطبيب والمريض
     وتستند العلاقة بين الطبيب وكل ما يمثله من منتجات دوائية واجهزة طبية ورأي شخصي من جهة ، وبين المريض وما يمثله من قوة شرائية من جهة اخرى ، الى روح النظام الاخلاقي الاسلامي. فهذا النظام الاخلاقي يرتكز على ثلاثة عناصر مهمة : هي الخبرة والثقة والاستعفاف عن المال. فالخبرة الطبية علامة حاسمة في تعريف الطبيب وتشخيصه عن غيره من الخبراء كالصيادلة والممرضين والكيميائيين. والثقة عنصر مهم في التعامل الطبي وتعني هنا صدق الطبيب في تشخيصه المرض. اما الاستعفاف فهو الاطار العام الذي يبلور شخصية الطبيب الاخلاقية ويمنحها فهماً وشفافية في التعامل مع المرض والموت ، بمعني ان دور الطبيب يبنغي ان يفهم على انه يمثل رسالة رحمة لعلاج امراض الناس ، وليس تاجراً يتصيًد الحالات الاستثيائية لتجميع الثروة على حساب الاخرين. والفارق بين الطبيب والمريض في المجتميع الاسلامي هو الفارق بين امتلاك الخبرة وعدمها. فالطبيب خبير ، والمريض فرد يبحث عن استثمار تلك الخبرة لتصحيح وضعة الصحي. هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فان المريض ينبغي ان يتمتع بصفة الثقة ايضاً ، فيفترض ان يكون صادقاً في عرضه لاعراض المرض على الطبيب ، فالتحايل واخفاء الحقيقة ليست علامة من علامات الثقة ، ونتيجها ارباك المؤسسة الطبية اولاً ، والنظام الاجتماعي ثانياً. وايمان المريض بالدين عامل اخر مهم ، لان المريض الملحد مثلاً لا يؤمن بالغيب


(74)
ولا بالقدرة الالهية على شفاء بعض الامراض التي يعجز عن شفائها الطب الحديث ، فيعرض مرضه على الطبيب بصورة تختلف عن عرض المريض المؤمن الواثق بقدرة اللّه عزوجل على شفاء المرض. فتصبح صورة التعامل الاجتماعي والعلاقة الاستشارية بين الخبير والمريض مشوشة باطار القلق والاضطراب النفسي.
     ولما كان الطبيب مسؤولاً عن ربط الاعراض المرضية التي يظهرها المريض باسم طبي معروف ، فان دوره كخبير يتجاوز مجرد وضع العلاج الطبي ، ويذهب الى حد التدخل بشؤونه العبادية الشخصية كمقدمات العبادة وهي الطهارة كالوضوء والغسل ، وقضايا العبادات مثل اقامة الصلاة وتأدية الصيام ، والتدخل بشوون الافراد مثل تصرفات المريض الذي يؤدي به مرضه الى الوفاة ، وما يترتب عليها من احكام تجاه الهبة والشركة والوصية. فالطبيب هو الذي يحدد المرض المتصل بالموت فيترتب على حكمه احكام تصرفات المريض. وقد يمنع الطبيب مريضه من الصوم ، ولكن يجيظه على الصيام. وقد يحكم على ان مرضه ليس متصلاً بالوفاة. وفي هذه الحالات يتصرف الطبيب من وحي واجبه الشرعي كخبير ، فيتجاوز بذلك الدور الذي وضعة له المؤسسة الصحية الى الدور الذي وضعه له الدين. فخبير له هذا الدور يجب ان يكون ثقة حتى يطمئن الناس الى ممارسة اعمالهم العبادية ، حينما يتعلق الامر وينحصر بخبرته الطبية.
     ويتدخل الطبيب في شؤون المريض الخاصة ، فله الحق في سؤال المريض حول ادق شؤونه الحياتية. وواجب الطبيب هنا ان يحفظ للمريض


(75)
ثقته به ، فلا يتعدى في السؤال الى ما يضر بمصلحة المريض او ما يشبع شهوة الطبيب من معلومات. والمدار في كل ذلك هو الاطار الاخلاقي الاسلامي الذي يدعو الى الاعتدال وحصر الاستفسار بما يتعلق بالحالة المرضية.
     وينبغي على النظام الاجتماعي ايضا تقسيم الطب ومؤسسته الى قسمين ، قسم يتعلق بالنساء وامراضهن ، من ولادة وحمل ، وأمومة وطفولة. وقسم يتعلق بالرجال وامراضهم. فالقسم النسائي يتحمل مسؤولية الاشراف عليه والعمل فيه النساء من طبيبات وممرضات ومديرات ، وينبغي تخصيص اجنحة او مستشفيات خاصة بالامراض النسائية ، محددة بدخول النساء الخبيرات في الطب والتمريض. وفي هذا تشجيع للمرأة على تأدية دورها الاجتماعي في التطبيب والعلاج ، وتخفيف عن عبء الرجل في علاج النساء ، خصوصاً في الامراض النسائية ، وهو ادعي للعفة في تجنب بعض المشاكل الاخلاقية التي تحصل في المستشفيات المعمول بها اليوم.
     واذا ارادت المؤسسة الطبية تقليص الفجوة الواسعة بين الطبيب كخبير وبين المريض كفرد من عامة الناس ، فما عليها الاّ ان ترفع مستوى الافراد علمياً في القراءة والكتابة وفهم اسباب نشوء الامراض ، عن طريق نشر الموسوعات الطبية الميسرة بين الناس ، واذاعة المعلومات الطبية المبسطة التي لا تضر بعمل الطبيب او اختصاصه. ولابد ان يدرك الطبيب ، ان تبسيطه المعلومات الطبية للمرضى لايقلل من قيمته العلمية او المهنية ، بل ان ذلك يضفي احتراماً وتقديراً لعمله. فالطبيب المتواضع الذي يحاول بذل جهده في تبسيط المعلومات الطبية لمرضاه يساهم بشكل من الاشكال


(76)
في تقليل اثار الألم والمعاناة التي يمر بها المريض ، ويساهم ايضاً في رفع المستوى العلمي والثقافي على صعيد افراد الامة الاسلامية جميعاً.


(77)
    اهل الخبرة الطبية
     ودفعاً للاشكلات التي يواجهها المجتمع في تمييز الطبيب القادر على العلاج من بين المشعوذين والمنتحلين للصفات الطبية ، فان المؤسسة الطبية مكلفة بحصر تعليم الطب في الكليات والجامعات الطبية التي يحدد مستواها وكمية المعلومات الواجب تدريسها ، اكثر الخبراء علماً وتجربة في العلوم الطبية. ولاشك ان هذه العلوم متغيرة بتغير البحوث التجريبية والواقع الاجتماعي المتبدل يوما بيوم ، ولذلك فان اي تطور في هذه العلوم يجب أن ينعكس على المواد المنهجية التي تدرس في هذه الكليات. ولابد من التأكيد على الجانب الفقهي الطبي في المنهج الدراسي بقسميه الغذائي والوقائي ، ودراسة اثار المحرمات كالخمرة والدم والميتة والخنزير والمسوخ ، واثار التدخيل والمخدرات وتلويث البيئة ، واثار كثرة تناول اللحوم الحمراء وشحومها ، واحكام الصيد والتذكية الشرعية ، واستحباب السواك والتخليل. وهذه الموارد كلها تساهم بشكل فعال في تحليل اسباب نشوء امراض الحضارة الحديثة. ولاشك ان فكرة الوقاية تجنب المجتمع الاسلامي العديد من الامراض التي ابتلي بها صانعو تلك الحضارة ومناصروها.
     ولابد في تقييم العمل الطبي قضائياً من اشتراك الحاكم الشرعي ، والبينة ، والقرائن الموضوعية. فاذا اخطأ شرعاً الزمه القاضي الشرعي العادل بالضمان. ولابد في نفس الوقت من تصميم نظام خاص ، ضمن اطار النظام القضائي ، يحفظ فيه حق المريض


(78)
اذا اصابه الخطأ ، ويحفظ سمعة المهنة الطبية ويقيم العدل بين افراد النظام الاجتماعي في هذا الحقل بالخصوص.
     وقد تتولى الدولة تحديد اجور الطبيب ، حتى لا يتجاوز الحد الشرعي فيكون مدعاة لانشاء طبقة رأسمالية جديدة في مجتمع يرفض الظلم الاجتماعي. واذا كان الطبيب يتعامل مع المرض والموت ، فان هناك ، من غير الاطباء ، ممن يتعاملون مع المرض والموت ايضاً. فالمرض والمرضة يتعاملان مع نفس الحالة المرضية ، وهناك من يقوم بتغسيل الميت وتكفينة ، وعالم الدين يقوم بالصلاة عليه ، ويقوم اخر بدفنه. نعم ان الطبيب له الكلمة الفص في تحديد العلاج وعليه يتم الأجر ، ولكن يجب ان يكون الأجر عادلاً للجميع ، عدا عالم الدين الذي ينبغي ان لا يأخذ اجراً على الاعمال الكفائية التي يقوم بها. ومع ان تحديد الاجر يتم من خلال نوعية العمل المنجر الاّ ان رفع اجور العمل الطبي بشكل يؤدي الى تكديس المال في طرف وحرمان طرف اخر منه لايمثل اي شكل من اشكال العدالة الاجتماعية. وامام هذه المشكلة يقل الاسلام موقف الحكم. فالهدف من المهنة الطبية ـ كما يؤكد الاسلام ـ ليس جمع المال وكسب القوة السياسية والاجتماعية بل الخدمة الانسانية ، وعليه فان أجر الطبيب في النظام الاسلامي يتناسب مع نوعية العمل وكمية الجهد المبذول ولكن بشكل لا يسبب حرماناً للفقراء ولمعدمين. وعلى ضوء ذلك تحدد الدولة اجور الطبيب في المعاينة والعمليات الجراحية ، وتحدد اجور بقية العاملين في الحقل الطبي. ولا ريب ان رأي اهل الخبرة الطبية حاسم في فصل القضايا القانونية


(79)
امثال تشخيص الاضطراب العقلي بنوعيه الادواري والمطبق ، وتقرير عجز الفرد عن القيام بالعمل الانتاجي ، وتحديد مقدار الجروح او الكسور في الديات. ولا يستطيع احد انكار اهمية دور الطب الجنائي في الكشف عن اسباب الجريمة ومنشأها. ومع ان هذه العوامل تشكل مادة الحسم في الحكم الصادر ضد المتخاصمين في الامور القضائية ، الا أن وظيفة الطبيب تبقى مقيدة بحدود تقديم الخبرة الطبية ، ويبقى للقاضي الصدار الحكم الشرعي على طرفي النزاع بالاستناد على المصادر الشرعية والقضائية.


(80)
    ضمان الطبيب
     ولما كان الطب يتعامل مع الانسان تعاملاً مباشراً ، فان الخطأ الذي يقع سيسبب للمريض اضراراً بالغة. ولذلك ، فان الطبيب لابد وان يتحمل جزءاً من المسؤولية في ضمان ما يتلفة بالعلاج. فقد ذكر الفقهاء ان الطبيب يضمن لومات المريض بسبب العلاج. وينطبق نظام الديات في تلف النفس والاطراف على ذلك. ولما كان الضامن في الخطأ المحض عاقلة الطبيب ، فان الضامن في الشبيه في العمد ، الفاعل وهو الطبيب نفسه ، ( لحصول التلف المستند الى فعله ، ولا يطل دم امرى مسلم ، ولأنه قاصد الى الفعل مخطى في القصد. فكان فعله شبيه عمد ، وان احتاط واجتهد واذن المريض ، لان ذلك لادخل له في عدم الضمان هنا ، لتحقق الضمان مع الخطأ المحض. فهنا اولى وان اختلف الضامن ) (1).
     وذهب ابن ادريس في كتاب السرائر الى عدم ضمان الطبيب اذا كان عالماً مجتهدا في تشخيص المرض ، واستدل على ذلك بثلاثة امور ، اولها : اصالة البراءة من الضمان. وثانيها : اذن المريض للطبيب في العلاج وهو مسقط للضمان فيما لو حصل التلف في الأثناء. وثالثها : ان العلاج فعل سائغ شرعاً ، فلا يستعقب ضماناً.
     ورده الشهيد الثاني بقوله : ( ان اصالة البراءة تنقطع بدليل الشغل. والأذن في العلاج لافي الأتلاف. ولا منافاة بين الجواز والضمان ، كالضارب
1 ـ شرح اللمعة الدمشقية : ج 10 ص 108.
النظام الصحي ::: فهرس