(121)
العادات الجاهلية والتقاليد الوثنية .
    لقد هبت المرأة من رقادها ، وأجابت دعوة الإسلام بقلب ملؤه التقوى ، ونفس فياضة بالإيمان .
    إن المرأة ما زالت في كل عصر ومصر تبزّ الرجال بالإخلاص لعقيدتها ومبادئها ، والاندفاع في سبيل إيمانها ، لذلك نرى أن النساء العربيات ، في عهد الرسول الأعظم ( ص ) والخلفاء الراشدين وما بعدهم بقليل ، كن شريكات الرجال في وثبتهم الاجتماعية الدينية ، وجهادهم ضد المشركين .
    ولا غرابة في هذا ، فإن اختلاف الغايات والحوافز التي تدعو إلى القتال لها الاثر الفعّال في تطوير المسائل .
    فبينما كان الحافز في الجاهلية حب النصر والفخر أمام الملأ ، أصبح القتال في الإسلام ، هو المساهمة في نشر الدين ، وإدراك الأجر والثواب ، مما يضمن خير الدنيا والآخرة .
    فأما النصر والفخر ... وأما الجنة والنعيم الدائم ... قال تعالى : « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم » (1) .
    وما أن سطعت شمس الهداية ، وصدع محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة المقدسة داعياً ومبشراً ونذيراً ، حتى سارعت المرأة لتساهم بدورها في اعتناق الإسلام ونشره والتصديق برسوله والإيمان بمبادئه .
(1) سورة التوبة ـ آية 111 .


(122)
    لقد تجلّت في بدء الدعوة الإسلامية ، البداوة في طلاقتها وما نحوية من ثقافة أدبية وعزة وإباء وأنفة وعفاف وكرم ومروءة وشجاعة ونجدة ووفاء للذمم . كل هذه المزايا الحميدة احتوتها أحضان شرع عظيم ، وقيادة رسول كريم ، يقيم الحدود ويعيِّن الواجبات والحقوق ويقوِّم العقائد والمبادئ بالعدل والإنصاف والحرية والمساواة .
    وبما أن المرأة العربية كانت على جانب من المذلة والاحتقار كما أسلفنا ، فإنها كانت تحتفظ بمزايا فطرية بدوية محمودة ، على رغم تسلط الرجل عليها ، واستئثاره بكل النواحي الاجتماعية . فقد خلق الإسلام في أوساط النساء التقى والورع وحب الجهاد في سبيل الله ، والتفاني في نصرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم .
    وكان من دواعي نشاط المرأة المساهمة في أعباء الانقلاب الكبير الذي قام به الرسول العربي الكريم في الجزيرة العربية والعالم أجمع . قال الشاعر :
بدى من القفر نور للورى وهدى يا للتمدن عم الكون من بدوي
    التفَّت النساء حول النبي ( ص ) وعطفن عليه ، فوجد منهنَّ المؤمنات الصادقات الشجاعات اللواتي استعذبن العذاب في سبيله وسبيل دعوة الإسلام .
    ولا بأس من إيراد بعض مناقب المرأة الصالحة ومواقفها في بدء الدعوة الإسلامية ليكون خير دليل ... وأحسن سبيل للإحاطة بما كان للإسلام من أثر فعّال عليها ، وعلى سير حياتها إذ نحن نتحدث عن المرأة في ظل الإسلام .
    وأول امرأة أسلمت وأخلصت لعقيدتها ، وجاهدت وضحت بكل شجاعة وإخلاص هي أم المؤمنين السيدة خديجة رضوان الله عليها .


(123)
    أم المؤمنين خديجة رضوان الله عليها :
    خديجة ام المؤمنين زوجة الرسول الكريم ، تزوجها صلى الله عليه وآله وسلم وكان سنه خمسة وعشرين سنة ـ وخديجة يومئذٍ ابنة أربعين سنة ، وهي أول امرأة دخلت حياته ، ولم يتزوج عليها حتى ماتت .
    لقد أجمع أهل السير والتاريخ أن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي (1) كانت امرأة تاجرة ، ذات شرف ومال ، تستأجر الرجال في مالها ، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه ، وكانت قريش تجاراً . فلما بلغها عن رسول الله ( ص ) صدق الحديث وعظم الأمانة ، وكرم الأخلاق ، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً ، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مع غلامها ميسرة ، فأجابها .
    خرج معه ميسرة حتى قدم الشام ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب ، فاطلع الراهب رأسه إلى ميسرة ، فقال : من هذا ؟؟ فقال ميسرة : هذا رجل من قريش ، فقال الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي .
    ثم باع رسول الله ( ص ) واشترى وعاد فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة ، يرى
(1) وعلى هذا فهي من أقرب النساء الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنه لم يتزوج من ذرية قصي غيرها سوى ام حبيبة وذلك بعد موت خديجة رضوان الله عليها ـ الكامل في التاريخ لابن الاثير .


(124)
ملكين يظللانه من الشمس وهو على بعير ، فلما قدم مكة ربحت خديجة ربحاً كثيراً ، وحدثها ميسرة عن قول الراهب وما رأى من اظلال الملكين إياه .
    كانت خديجة امرأة حازمة عاقلة شريفة مع ما أراد الله من كرامتها ، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرضت عليه نفسها ، وكانت من أوسط نساء قريش نسباً (1) وأكثرهن مالاً وشرفاً . وكل رجل من قومها كان حريصاً على الزواج منها لو يقدر عليه .
    فلما أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبر أعمامه . وخرج ومعه حمزة بن عبد المطلب وأبو طالب وغيرهما من عمومته ، حتى دخل على خويلد بن أسد ، فخطبها إليه .
    فتزوجها فولدت له أولاده كلهم ما عدا ابراهيم .

قصة زواج الرسول ( ص ) من خديجة :
    ذكر جميع أهل السير عن نفيسة بنت منية قالت : كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة ضابطة جلدة ، قوية ، شريفة مع ما أراد الله تعالى لها من الكرامة والخير ، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً ، وأعظمهم شرفاً ، وأكثرهم مالاً ، واحسنهم جمالاً وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة قد طلبها جل رجال قومها ، وذكروا لها الأموال ، فلم تقبل فأرسلتني دسيساً (2) إلى محمد صلى الله
(1) كان يقال لها : سيدة قريش ـ لأن الوسط في ذكر النسب ـ من أوصاف المدح والتفضيل : يقال : فلان أوسط القبيلة ـ أي أعرقها في نسبها .
(2) دسيساً أي خفية .



(125)
عليه وآله وسلم . بعد أن رجع في عيرها من الشام فقلت : يا محمد ما يمنعك أن تتزوج ؟ ..
    فقال : ما بيدي ما أتزوج به ..
    قلت : فإن كفيت ذلك ... ودعيت إلى المال ... والجمال ... والشرف ... والكفاية ... ألا تجيب ؟
    قال : فمن هي ؟ .. قلت : خديجة بنت خويلد ...
    قال : وكيف لي بذلك يا نفيسة ؟؟ وأنا يتيم قريش ، وهي أيم قريش ذات الجاه العظيم والثروة الواسعة .
    فقالت نفيسة : قلت بلى وأنا أفعل ، فذهبت فأخبرتها فأرسلت إليه أن يحضر إليها . وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها فحضر .
    ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمومته ـ وقد خطب عمه أبو طالب يومئذٍ خطبته المشهورة التي ذكرها أهل التاريخ وأصحاب السير .

خطبة أبو طالب يوم زواج الرسول ( ص ) :
    قال أبو طالب :
    الحمد لله الذي جعلنا من ذرية ابراهيم ، وزرع اسماعيل ، وضئضئ معد (1)
(1) الضئضئ ـ الأصل والمعدن .


(126)
وعنصر مضر (1) وجعلنا حضنة بيته المتكفلين بشأنه ، وسوَّاس حرمه ، القائمين بخدمته . وجعله لنا بيتاً محجوباً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا أحكام أحكام الناس .
    ثم ابن أخي هذا محمد بن عبد الله ، لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً ، وإن كان في المال قلّ فإن المال ظل زائل وأمر حائل وعارية مسترجعة .
    وهو والله بعد هذا ، له نبأ عظيم ، وخطر جليل ، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة ، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله اثني عشر اوقية ونشاً (2) .
    وعند ذلك قال عمها عمرو بن أسد : ( هو الفحل لا يقدع أنفه ) .
    وبعد أن انتهى أبوطالب من خطبته (3) تكلم ورقة بن نوفل . فقال :
    « الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت ، وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب
(1) العنصر ـ الاصل ـ يقال : إنه لكريم العنصر ـ أي ـ الحسب ـ والهمة ـ المنجد في اللغة .
(2) قال المحب الطبري : النش عشرون درهماً ـ والاوقية أربعون درهماً ـ وكانت الاواني والنش من الذهب ، فيكون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي ـ وقيل أصدقها عشرين بكرة .
(3) إن البلاغة التي تجلت في خطبة أبي طالب وما ظهر فيها من عطف وحنان أبوي ، لهي أصدق برهان ودليل قاطع على تفانيه في حب الرسول ( ص ) ورعايته ونصرته في دعوته .
    على أن أبا طالب لم يزل حتى توفي يدافع عن الرسول (ص) الدفاع المستميت ولم يدع أحداً يصل إليه بسوء طيلة حياته . وكما قيل في حقه وحق علي (ع) :
فهذا بمكة آوى وحامى وذاك بيثرب خاض الحماما
    وحينما أرادت قريش قتله (ص) جاءت الى أبي طالب وقالت له : أنت سيدنا ورأيت من أمر



(127)
وقادتها ، وأنتم أهل ذلك كله ، لا ينكر العرب فضلكم . ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم فاشهدوا عليَّ معاشر قريش ، إني قد زوجت خديجة بنت خويلد ، من محمد بن عبد الله ، وذكر المهر . »
    وأولم عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونحر جزوراً ، وقيل نحر جزورين ، وأطعم الناس وفرح أبو طالب فرحاً شديداً . وقال : « الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب ، ودفع الغموم . » وهي أول وليمة يولمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الشاعر في ذلك :
ورأته خديجة والتقى والزهـــد فيه سجية والحياء
وأتاها أن الغمامة والسر ح أظلته منهما أفياء
وأحـاديث أن وعد رسول الله بالبعث حان منه الوفاء

ابن أخيك ما كان ، وهذا عمارة بن المغيرة أحسن فتى في قريش جمالاً ونسباً ونهادة وشعراً ، ندفعه اليك فيكون لك نصره وميراثه ، وتدفع الينا ابن اخيك نقتله ، فإن ذلك أجمع للعشيرة وأفضل في عواقب الامور . قال أبوطالب : والله ما انصفتموني ، تعطوني إبنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن أخي تقتلونه ؟! ما هذا بالنصف ! لا كان ذلك أبداً .
   وحينما فقده مرة ولم يجده (ص) أمر فتيان بني هاشم وقال لهم : ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ، حتى اذا ما وجدنا محمداً فليقتل كل واحد منكم واحداً من زعماء قريش ، وكانت قريش مجتمعة في الكعبة . ولما وجد محمد ( ص) أخبر زعماء قريش عما كان أراد من قتلهم اذا لم يجد محمداً (ص) وحينما طلبت قريش أن يترك محمد (ص) الدعوة الى الاسلام ويسوِّ دونه عليهم أجاب عليه الصلاة والسلام : « يا عم والله لو وضعوا الشمس بيمني والقمر بيساري على أن أترك هذا الأمر لما تركته . » فأجابه عمه بقوله :
والله لن يصلوا اليك بجمعهم ولقد علمت بأن دين محمد حتى اوسد في التراب دفينا من خير أديان البرية دينا
    وكل من يقول بعدم اسلام أبي طالب يكون قد افترى وأخطأ لأن دفاعه أكبر شاهد على اسلامه ...



(128)
فدعته إلى الزواج وما أحسن ما يبلغ المنى الأذكياء
    إن خديجة رضي الله عنها عندما رأت محمداً وما يتحلى به من الأمانة والتقى والورع والحياء والزهد والوفاء ، لم تتأخر بانتهاز الفرصة ، ودعوة محمد الى الزواج فعرضت نفسها عليه ، وهي ذات الشرف الظاهر ، والمال الوافر ، والخلق الكريم ، والحسب ، والنسب .
    وذكر ابن هشام : « أن خديجة ام المؤمنين كانت قد تزوجت من أبي هالة بن زرارة التميمي . ومات أبو هالة في الجاهلية ، وقد ولدت له خديجة هندا الصحابي ، راوي حديث صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد شهد بدراً وقيل أحداً . وقد روى عنه الحسن بن علي فقال : حدثني خالي لأنه اخو فاطمة لامها . وكان هند هذا فصيحاً ، بليغاً ، وصّافاً . وكان يقول : أنا أكرم الناس أبّاً ـ وأماً وأخاً واختاً ـ أبي رسول الله صلى الله عليه و سلم (1) .
    وأخي القاسم ، وأختي فاطمة ، وأمي خديجة . رضي الله عنهم جميعاً .
    وقتل هنداً هذا مع علي رضي الله عنه يوم الجمل (2) .
(1) إشارة إلى أن الرسول الكريم بمثابة أبيه ، فهو عمه زوج امه خديجة رضي الله عنها ...
(2) السيرة النبوية لابن هشام ـ ج ـ 1 ص ـ 198 .



(129)
نبذة من حياة السيدة خديجة مع الرسول الأعظم (ص)
    لنلقي نظرة سريعة على حياة السيدة خديجة رضي الله عنها ، بعد زواجها من الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم نرى ما لاقته من ظلم قريش وقطعيتها ، لأنها وقفت من محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلك الوقفة الجبارة التي سجلها التاريخ على صفحاته .
    لقد كانت رضوان الله عليها أكبر مساعد للرسول (ص) وأعظم عون على نشر دعوته ، حتى قال عليه وآله الصلاة والسلام : « قام الدين بسيف علي ومال خديجة » لأنها صرفت مالها الكثير في سبيل نصرة الإسلام .
    لقد كانت خديجة رضي الله عنها ، في العز والجاه والثروة ، وهي سيدة قريش ـ كما أسلفنا ـ ولكن بعد زواجها من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، انفضوا من حولها ، ورجعوا باللائمة عليها وأخيراً تنكر لها الجميع كأنها أتت شيئاً نكراً .
    ولما بُعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقه فيما جاء به عن ربه ، وآزره على أمره ، فكان عليه وآله الصلاة والسلام ، لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه ـ من ردٍ عليه أو تكذيب له أو استهزاء به ـ إلا فرج الله عنه بخديجة ، التي كانت تثبته على دعوته ، وتخفف عنه وتهون عليه ما يلقى من قومه من المعارضة والأذى (1) .
(1) طبقات إبن سعد الكبرى .
المرأة في ظل الإسلام (9)


(130)
نزول الوحي ـ ومبعث الرسول :
    استقرت الحياة هادئة ناعمة ، فقد لاقى محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيت الزوجية العطف والحنان ، الذي افتقده منذ طفولته ، وهذه خديجة الزوجة الوفية ، قد أضفت على البيت الراحة والاستقرار والأمان ، وولدت البنات والصبيان .
    نعمت أسرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، سنوات بحياة هادئة ، وادعة ، بالألفة والمودة ، يرشف الزوجان على مهل ، رحيق ودٍ عميق ، وحلاوة سعادة صافية .
    لقد كان في الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ميل إلى التفكير والاستغراق ، ونزوع إلى الخلاء والتأمل منذ صباه ، فكان يذهب إلى غار حراء ، (1) يقضي فيه الساعات ، بل يتعداها إلى الليالي يمارس هناك ، بعيداً عن الناس ما طاب له من التعبد والتهجد وما يسمونه الآن في العصر الحاضر : ( الرياضة الروحية ) .
    وهنا تتجلى شخصية السيدة خديجة ، وما كان لها من تأثير بالغ على حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فنراها في وقارها ، وجلال سنها ونضوجها ، لا تتأفف أو تضيق بهذه الخلوات ، التي كانت تبعد عنها زوجها الحبيب ، وعن
(1) غار حراء ، هو كهف في جبل حراء بجوار مكة المكرمة ـ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعبد فيه .