(131)
أولادها ، وبيتها ، وما خطر لها أن تعاتبه ، أو تتذمر من هجره لها الليالي الطوال ، و ما حاولت رضي الله عنها ، أن تعكر عليه صفاءه كما نعهد ، من فضول النساء ، التي تستأثر بالرجل وتغار عليه .
    ولكن السيدة خديجة رضوان الله عليها ، كانت على عكس ذلك ، فقد حاولت ما وسعها الجهد ، أن توفر له الهدوء والاستقرار ، وأحاطته بالرعاية التامة ، مدة إقامته في البيت ، وعندما يذهب إلى غار حراء ، كانت ترسل من يحرسه ويرعاه ولا يعكر عليه صفو خلوته .
    وهناك في غار حراء ، « بعث الله رسوله وأكرمه بما اختصه به من نبوته ، بعد أن استكمل أربعين سنة وذلك بعد بنيان الكعبة بخمس سنين » . (1)
    وكان مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم ، في شهر ربيع الأول ـ وقيل في السابع والعشرين من شهر رجب ، وقيل في رمضان ـ وأشار لذلك قول الشاعر :
وأتت عليه أربعون فأشرقت شمس النبوة منه في رمضان
« وكان جبريل يظهر له ، فيكلمه ، وربما ناداه من السماء ، ومن الشجرة ، ومن الجبل ، فيذعر من ذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم » (2) .
    عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل (3) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لخديجة : إني إذا خلوت وحدي ، سمعت نداءً ، فقالت : ما يفعل بك الله إلا خيراً ، فوالله
(1) مروج الذهب ـ للمسعودي .
(2) تاريخ اليعقوبي .
(3) مجمع البيان في تفسير القرآن ـ للطبرسي .



(132)
إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم ، وتصدق الحديث . قالت خديجة : فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، وهو ابن عم خديجة فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما رأى فقال له ورقة أذا أتاك فاثبت له حتى تسمع ما يقول ، ثم ائتني فأخبرني ، فلما خلا ناداه يا محمد ، قل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حتى بلغ ولا الضالين قل لا إله إلا الله ، فأتى ورقة فذكر له ذلك ، فقال له : أبشر ثم أبشر ، فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل ، وأنك سوف تؤمر بالجهاد ، بعد يومك هذا ، ولئن أدركني ذلك لأجاهدَّن معك ، فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقد رأيت القس في الجنة ، عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني ـ يعني ورقة ـ وروي أن ورقة قال في ذلك :
فإن يك حقاً يا خديجة فاعلمي وجبريل يأتيه وميكال معهما يفوز به من فاز عزاً لدينه فريقان منه فرقة في جنانه حديثك إيانا فأحمد مرسل من الله وحي يشرح الصدر منزل ويشقى به الغاوي الشقي المضلل واخرى بأغلال الجحيم تغلغل
عن عائشة أم المؤمنين انها قالت : (1) أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي ، الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح .
    ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه ، وهو التعبد ، الليالي ذوات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى
(1) الميزان في تفسير القرآن ـ للطباطبائي .


(133)
خديجة ، فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق ، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ ، قال ما أنا بقارئ . قال فأخذني فغطني (1) حتي بلغ مني الجهد.
ثم أرسلني.
    فقال : اقرأ، فقلت ما أنا بقاريء، قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : « اقرأ بسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم » . (2) .
    فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني ـ زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الرعب فقال لخديجة : وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة : كلا ما يخزيك الله ابداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق !
    وفي سيرة ابن هشام عن النبي (ص) قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فوقفت أنظر اليه . ما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء ، قال فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك ، فما زلت واقفاً ما أتقدم
(1) وفي سيرة ابن هشام (فغتني) والفت ـ حبس النفس ـ وفي السيرة الحلبية يقول : فغتني حتى حسبت أنه الموت ، إشارة أن (ص) يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له الفرح بعد ذلك . فكانت الاولى ادخال قريش له (ص) في الشعب مع أهله ـ والتضييق عليه ـ والثانية اتفاقهم على قتله صلى الله عليه وآله وسلم والثالثة ـ خروجه من أحب البلاد اليه ، مسقط رأسه مكة ـ المكرمة ـ وبعده عن الكعبة المقدسة .
(2) سورة العلق ـ آية ـ 1 ـ 2 ـ 3 ـ 4 ـ .



(134)
أمامي ، ولا أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا أعلى مكة ، ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني .
    وانصرفت راجعاً إلى أهلي ، حتى أتيت خديجة ، فجلست إليها مضيفاً . (1) . فقالت يا أبا القاسم : أين كنت ! فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ، ورجعوا إلي فحدثتها بالذي رأيت ، فقالت أبشر ، واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة . (2)
    وآمنت خديجة ، وصدقت بما جاءه من الله عز وجل ، وآزرته على أمره فكانت أول من آمن بالله ورسوله .
    أجل لقد كانت ساعده الأقوى ، مشجعة إياه على القيام بأعباء النبوة العظيمة ، فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان لا يسمع شيئاً يكرهه من المشركين ، من ردٍ عليه وتكذيب له ، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها ، إذا رجع إليها وجدها العطوف الحنون .
(1) مضيفاً معناه ملتصقاً : يقال اضفت الى الرجل ، اذا ملت نحوه ولصقت به ـ ومنه سمي الضيف ضيفاً .
(2) طبقات ابن سعد الكبرى ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير والسيرة النبوية لابن هشام ـ أعلام النساء ـ عمر رضا كحالة .



(135)
    صلاة النبي (ص) وخديجة وعلي (ع)
    إن الصلاة حين افترضت على الرسول (ص) أتاه جبريل وهو بأعلى مكة ، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي ، فانفجرت منه عين ، فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر اليه ليريه كيف الطهور للصلاة ، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما رأى جبريل توضأ ، ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله بصلاته . ثم انصرف جبريل عليه السلام فجاء رسول الله خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور ، كما أراه جبريل . فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ثم صلى بها الرسول كما صلى به جبريل فصلت بصلاته .
    ومكث رسول الله (ص) وخديجة ، وعلي بن ابي طالب (ع) يقيمون الصلاة سراً ما شاء الله . ثم أخذوا بالذهاب الى الكعبة غير مبالين باستهزاء قريش وسخريتهم ، والأذى الذي كانوا يلاقونه .
وأقام الرسول أول فرض وهي كانت لكل ما يتجلى فترى بالعيان ما لا تراه فاقتدت فيه أحسن الاقتداء من رسول الهدى من الرقباء من عظيم الآيات مقلة راء (1)
    وفي رواية عن عفيف الكندي ، قال (2) :
1 ـ ملحمة أهل البيت للشيخ عبد المنعم الفرطوسي .
2 ـ السيرة الحلبية ج ـ 1 ـ ص ـ 296 واعلام النساء عمر رضا كحاله .



(136)
    « جئت في الجاهلية الى مكة ، وأنا أريد ان ابتاع لأهلي من ثيابها وعطرها ، فنزلت على العباس بن عبد المطلب .
    قال : فأنا عنده ، وأنا أنظر الى الكعبة وقد حلّقت الشمس فارتفعت إذ أقبل شاب حتى دنا من الكعبة ، فرفع رأسه الى السماء ، فنظر ملياً ، ثم استقبل الكعبة قائماً مستقبلها وما هي إلا ان جاء غلام حتى قام عن يمينه ثم لم يلبث إلا يسيراً ، حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما . ثم ركع الشاب فركع الغلام ، وركعت المرأة ، ثم رفع الشاب رأسه ، ورفع الغلام رأسه ، ورفعت المرأة رأسها ثم خرَّ الشاب ساجداً ، وخر الغلام ساجداً ، وخرت المرأة ساجدة .
    قال : فقلت : يا عباس اني أرى امرأ عظيماً فقال العباس أمر عظيم !! هل تدري من هذا الشاب ؟ قلت : لا ما أدري قال : هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن اخي ... هل تدري من هذه ؟ قلت : لا أدري . قال : هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن اخي هذا . ان ابن أخي هذا الذي ترى حدثنا أن ربه رب السموات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه والله ما علمت على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة » انتهى .
وإذا حلَّت الهداية قلباً نشطت في العبادة الأعضاء
    لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم . جعل يدعو الناس سراً ، واتبعه ناس جلهم من الضعفاء ، من الرجال والنساء والى هذا المعنى يشير الحديث الشريف بقوله : ( ان هذا الدين بدأ غريباً ـ وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) .
    ولا يخفى ان أهل التاريخ وعلماء السير قد اجمعوا على أن أول الناس إيماناً


(137)
بالنبي عليه الصلاة والسلام خديجة رضي الله عنها ـ ثم علي بن ابي طالب (ع) .
    ففي المرفوع عن سلمان ان النبي قال : أول هذه الأمة وروداً على الحوض أولها إسلاماً علي بن ابي طالب . ولما زوجه فاطمة قال لها : زوجتك سيداً في الدنيا والآخرة . وانه لاول اصحابي إسلاماً ... وأكثرهم علماً ... وأعظمهم حلماً (1) .
    لقد كانت خديجة (رض) مثال الإخلاص والوفاء ، فلم تبال عندما تنكرت لها قريش ، ولم تكترث لجفاء نساء مكة لها ، وهي السيدة الجليلة ذات المقام الرفيع كما قيل :
وجفتها نساء مكة لما وهي لا تنثني عن الحق صبرا زوجت فيه في أشد الجفاء ودفاعاً عن خاتم الأنبياء
    وقفت خديجة بجانب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، تؤازره وتواسيه ، تتحمل المشاق ، وتستسيغ الهوان في سبيل الإسلام ، صابرة على شظف العيش وعلى الحصار والحرمان .
1 ـ ينابيع المودة ـ القندوزي الحنفي .


(138)
حصار قريش للمسلمين
    لما رأت قريش الاسلام يتسع ويزيد ، واموال خديجة بين يدي محمد (ص) يتصرف بها كيف يشاء في سبيل الاسلام ويشتري الارقاء من الذين اسلموا ، ووقعوا تحت التعذيب في ايدي قريش ويحررهم ، وهم المستضعفون .
    اجتمع كفار قريش على قتل محمد وقالوا : قد أفسد علينا ابناءنا ونساءنا الذين اتبعوه ، وقالوا لقومه خذوا منّا دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش وتريحون انفسكم . فأبى قومه ، فعند ذلك اجتمع رأيهم على منابذة بني هاشم والتضييق عليهم بمنعهم حضور الاسواق فلا يبيعوهم ـ ولا يبتاعوا منهم شيئاً . ولا يقبلوا لهم صلحاً ، ولا تأخذهم بهم رأفة ، حتى يسلموا محمداً (ص) ـ للقتل ـ وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها بالكعبة .
    فدخل بنو هاشم وبنو المطلب في الشعب إلا ابو لهب فانه ضاهر عليهم قريشاً (1) .
1 ـ ان ابا لهب ضاهر قريشاً على المسلمين ، روى انه لقى هنداً بنت عتبة بن ربيعة فقال لها : يا بنت عتبة هل نصرت اللات العزى ؟ وفارقت من فارقها ، وضاهر عليهما ؟ قالت نعم : فجزاك الله خيراً يا ابا عتبة .
    وفي رواية ،.. كان يقول : يعدني محمد اشياء لا اراها ، يزعم انها كائنة بعد الموت . فما وضع في يدي بعد ذلك ، ثم ينفخ في يديه ويقول : تبا لكما ـ ما ارى فيكما شيئاً مما يقول محمد . فانزل الله تعالى فيه ( تبت يدا ابي لهب وتب ... ) الآية . ودخل بنو هاشم وبنو المطلب ليلة هلال المحرم سنة سبع من حين بعثة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكانت مدة اقامته بالشعب ثلاث سنوات . والله العالم .



(139)
    وكان كاتب الصحيفة ، منصور بن عكرمة ، فدعى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشلت أصابعه . وكانت الصحيفة عند أم الجلاس الحنظلية خالة أبي جهل .
    وروي ان بني هاشم ـ وبني المطلب لاقوا شتى المصاعب وهم محاصرون في الشعب ، فقد جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط ( ورق الشجر ) وكانوا إذا قدمت العير مكة ، يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام يقتاته ، فيقوم أبو لهب فيقول :
   يا معشر التجار غالوا محمداً ... وأصحاب محمد ... حتى لا يدركوا شيئاً معكم ، فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي . فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً حتى يرجع المسلم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع ، وليس في يده شيء يعللهم به .
    وبقي المسلمون في شعب أبي طالب ثلاث سنوات متتالية حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً .
    وان ثباتهم على هذه الشدة جعل لهم المقام الرفيع في الآخرة وملكهم الأرض في الدنيا ، فكانوا ساداتها . وكما قيل :
وجزاهم في جنة الخلد فيما صبروا وهي منه خير جزاء


(140)
قصة حكيم بن حزام مع ابي جهل
    ذكر المؤرخون ان أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد ، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محاصرة معه في شعب أبي طالب تعاني مع المسلمين الجوع ... والحرمان ... والحبس ... والاضطهاد فتعلق به أبو جهل وقال : اتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟
    والله لا تبرح أنت وطعامك حتى افضحك بمكة ...
    فجاءه أبو البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد فقال : مالك ... وله ؟ فقال : يحمل الطعام إلى بني هاشم !
    فقال له أبو البختري : طعام كان لعمته عنده ، بعثت إليه فيه افتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خل سبيل الرجل . فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه ... فأخذ له أبو بختري لحي بعير فضربه به فشجه ، ووطئه وطئاً شديداً . وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك ، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وأصحابه ، فيشمتون بهم ...
    ورسول الله على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ... مبادياً بأمر الله لا يتقي فيه أحداً من الناس .