(141)
ثم قام النبي يدعو إلى الله امما شربت في قلوبهم الكفر وفي الكفر شدة واباء فداء الضلال فيهم عياء
شخصية أم المؤمنين خديجة :
    ستظل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها رمزاً حياً في سجل المرأة المسلمة الصالحة . وستبقى على مر العصور القدوة الحسنة التي يجب على كل امرأة أن تتبع خطاها .
    لقد وقفت السيدة خديجة (رض) حياتها للعطاء الكامل . الذي وهبته للرسول الكريم ، بكل ايمان . وخطت بعقيدتها الثابتة طريق الصواب ، لبنات جنسها ، في وقت كانت البشرية لا تعي حقيقة وجود المرأة ، وقبل أن يتفتح العقل الإنساني ، ويتفهم معنى السعادة الحقيقة .
    صحيح ان هناك أناساً يقيسون السعادة واللذة بمقدار ما يغرقون بها من متع جنسية ... أو بقدر ما يلتهمون من أطعمة شهية ... أو بضخامة ما يمتلكون من ثروة مالية .. الخ .. غير ان الواقع لا يؤيد ذلك أبداً ...
    ان اللذة والسعادة لا تعني المتعة الحسية المادية فقط . بل هي الشعور الذاتي بالرضا ... والإسترضاء وهي كل ما يدخل الاطمئنان إلى قلب الإنسان .
    ومما لا ريب فيه أن السعادة الحقيقة يفوز بلذتها كل من يتمسك بايمانه وعقيدته ومبادئ الأخلاق الفاضلة .
    ان السعادة لمن يفضل الإخلاص على الخيانة ... وهي لمن يؤثر الضنك


(142)
والدخل المحدود ، على الكسب الحرام والربا والاحتكار . وهي لمن يجد اللذة في تحمل المشاق والمتاعب للمحافظة على دينه وعرضه وشرفه .
    وهذه سيدتنا خديجة أم المؤمنين (رض) لقد اكتنفت السعادة حياتها على رغم المصاعب والعقبات التي لاقتها . فكانت تذللها بقلب مطمئن بالايمان ، حتى سجلها التاريخ باحرف من نور ، بعد أن لامس الإسلام قلبها وهداها الباري إلى طريق السعادة الأبدية .

وفاة خديجة أم المؤمنين (رض) :
    دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة ، وهي تجود بنفسها ، فوقف ينظر اليها ، والألم يعصر قلبه الشريف ثم قال لها : ـ بالكره مني ما أرى ـ .
    ولما توفيت خديجة (رض) جعلت فاطمة ابنتها تتعلق بابيها الرسول (ص) وهي تبكي وتقول : أين امي ... ؟ أين امي ... ؟ فنزل جبريل فقال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم : قل لفاطمة ان الله بنى لامك بيتاً في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب .
    وبعد خروج بني هاشم من الشعب بثمانية أعوام ، ماتت خديجة (رض) وكانت وفاتها ووفاة أبو طالب في عام واحد فحزن النبي (ص) عليهما حزناً عظيماً .
    وقد سمى النبي ذلك العام ـ عام الأحزان ـ وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين .


(143)
    عظمت المصيبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفقد عمه الكفيل أبي طالب (رض) وزوجته الوفية المخلصة المساعدة . وقال عليه الصلاة السلام ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب .
    ودفنت خديجة رضوان الله عليها بالحجون ، ونزل صلى الله عليه وآله وسلم في حفرتها . وكان لها من العمر خمس وستون سنة .
    لزم الرسول صلوات الله عليه بيته حزناً عليها ، وكانت مدة إقامتها معه خمساً وعشرين سنة قضتها في كفاح وجهاد مستمر .
    وفي ختام المطاف لا باس من ذكر قول الرسول الأعظم في حقها ، دلالة على عظمتها : قال عليه الصلاة والسلام :
    « كمل من الرجال كثير ـ وكمل من النساء أربع ـ آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم » .


(144)
عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم
    هبت قريش عندما صرح النبي محمد (ص) بالرسالة ، وراح فراعنتها يتفننون في تعذيب الذين اسلموا وآمنوا ، باشد أنواع العذاب .
    لقد تجاوز طغاة قريش الحدود في الظلم والاستبداد خصوصاً على المستضعفين الذين سبقوا إلى الإسلام ، ولا عشائر لهم تمنعهم ، ولا قوة ترد عنهم ظلم المعتدين من رؤساء قريش المشركين .
    وثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين الضعفاء ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر .
    كانوا يخرجونهم إذا حميت الظهيرة ، ويطرحونهم على الرمال ، ويأتون بالصخر يضعونه على صدورهم ، ويعذبونهم باشد العذاب . فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يزداد تصلباً وإيماناً بالإسلام ونبيه .
    كانت المرأة في طليعة المؤمنين الصادقين ، ومن السابقين للإسلام الذين قال الله سبحانه وتعالى في حقهم : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري


(145)
تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ) (1) .
    و قد كانت المرأة في طليعة المؤمنين ومن الذين استعذبوا العذاب في سبيل العقيدة الإسلامية ولنا في قصة سمية أم عمار بن ياسر أكبر دليل على ما نقول .

سمية أم عمار بن ياسر :
    هي بنت خباط ، كانت امة لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي وكان ياسر حليفاً لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي ، فزوجه سمية . فولدت له عماراً فاعتقه .
    هذه المرأة التي سجلها التاريخ ، وسجل لها جهادها وشجاعتها وثباتها على عقيدتها ، لقد صبرت سمية على العذاب والهوان ، وظلت متمسكة بعقيدتها وإيمانها حتى أصبحت في مصاف المجاهدين الذين قال الله تعالى فيهم : ( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم ) (2) .
    وذكر ابن هشام في سيرته : كانت سمية سابع سبعة في الإسلام ، وكانت ممن يعذب في الله عز وجل أشد العذاب ، وهي أول شهيدة في الإسلام ، قال مجاهد :
(1) سورة التوبة ـ آية ـ 100 ـ
    وقد ذكر صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن ما نصه : وفي هذه الآية ، دلالة على فضل السابقين ومزيتهم على غيرهم لما لحقهم من أنواع المشقة في نصرة الدين . فمنهما مفارقة العشائر والأقربين ـ ومنها مباينة المالوف من الدين ـ ومنها نصرة الإسلام مع قلة العدد وكثرة العدو ـ ومنها السبق الى الإيمان والدعاء اليه .
(2) سورة الحج ـ آية : 35

المرأة في ظل الإسلام (10)


(146)
أول من أظهر الإسلام بمكة ـ ما عدا بني هاشم ـ سبعة أشخاص ، أبو بكر ـ وبلال ـ وخباب ـ وصهيب ـ وياسر ـ وعمار وسمية .
    فأما أبو بكر منعه قومه وعشيرته ، وأما الآخرون فألبسوا أدراع الحديد ، ثم صهروا في الشمس .
    وفي رواية ابن عبد البر : أن عماراً جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله بلغ منّا ـ أو بلغ منها العذاب ( أي سمية ) كل مبلغ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
    صبراً أبا اليقظان ، الَّلهم لا تعذب أحداً من آل ياسر بالنار ...
    ثم مرَّ أبو جهل يوماً بسمية وهي في العذاب ، فأغلظت له القول ، فطعنها بحربة في قلبها فماتت . وذلك قبل الهجرة .
    وروي أنه لما قتل أبو جهل يوم بدر قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لعمار : ( قتل الله قاتل أمك ) .
    كانت سمية أم عمار رضي الله عنها ذات إيمان قوي بالله ، أسلمت وحسن إسلامها . فكانت من السابقين الذين موعدهم الجنة .
    تحملت العذاب وصبرت على الأذى صبر الكريم ، فلم تصبأ ، او تهن عزيمتها ، او يضعف إيمانها الذي رفعها الى مستوى الأبطال الخالدين .
    وهناك سيدة أخرى هي « زنيرة » التي أصيب بصرها وهي في العذاب ، فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات ... والعزى . فقالت : كذبوا وبيت الله ، ما تضر اللات ... والعزى وما تنفعان . ولكن هذا أمر من السماء ، وربي قادر على رد بصري ... فأصبحت من الغد وقد ردَّ الله تعالى بصرها .


(147)
   ونحن عندما نذكر بعض اللواتي تحملن الأذى من سادات قريش وجبابرتها ، وصبرن على العذاب لا ننسى النهدية ... وابنتها ، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار . فكانت تعذبهما وتقول : والله لا أدعكما إلا أن تكفرا بمحمد .
    وام عبيس : وهي أمة لبني زهرة . فكان الأسود ابن عبد يغوث يعذبها (1) وغيرهن كثيرات . مما يضيق المجال عن الإحاطة بهن .

موقف المرأة المسلمة في بدء الدعوة :
    الواقع أن الانقلاب الذي أحدثه محمد صلى عليه وآله وسلم بإبلاغ التعاليم السماوية والنظم الإسلامية لبني البشر ، والانتقال فجأة من طور ... إلى طور ... كان شبه المستحيل .
    ورغم أن التقاليد التي صاغتها العصور والعادات التي فرضتها الأجيال ، والتي يتوارثها الأبناء عن الآباء ، لا يمكن أن تزول دفعة واحدة ، ولا تندثر أو تتبدل إلا بمدة طويلة من الزمن .
    لكن التعاليم الإسلامية الجديدة ، قلبت نظام المجتمع العربي ، وأسرعت إلى قلوب المسلمين ، واحتلت الصدارة في نفوس المؤمنين . فإذا بأولئك الرجال الذين كانوا بالأمس القريب ، يعتبرون المرأة مخلوقاً وضيعاً لا تصلح إلا للخدمة أو للمتعة . نجدهم ينقلبون فجأة وبسرعة مدهشة ، إلى اعتبار النساء وإكرامهن حسب التعاليم النبوية وتوجيه الرسول الكريم .
(1) سيرة ابن هشام ج ـ 1 ـ ص 340 ـ والكامل في التاريخ لابن الاثير ج ـ 2 ص 46 .


(148)
    وكذلك نجدهم يعاملوهن بالمودة والرحمة أسوة بالنبي العظيم الذي كان يعامل المملوكة الرقيقة المؤمنة ، معاملة الحرة الرفيقة الكريمة .
    ونتج عن هذا التبدل ـ التطور ـ ان المرأة شعرت بمنزلتها ، وحفظ كرامتها فقمن النسوة بواجباتهن منتعشات الأرواح نشيطات الأجسام .
    والفين في امتثال الرجال لأوامر الدين ونواهيه طريقاً واسعاً للانطلاق من مجال القول الى مجال العمل .
    نرى بذور الخير ، وقفزات واسعة ، ونشاطاً ظاهراً للمرأة المسلمة ، التي وقفت جنباً إلى جنب تشارك الرجل في جميع المراحل ... والميادين .
    فقد ابتليت بما ابتلى به المسلمون من التعذيب والاضطهاد والأذى من قريش وطواغيتها .
    أجل لقد جاهدت وضحت بكل غالٍ ورخيص في سبيل عقيدتها ثابتة على إيمانها .
    هاجرت إلى الحبشة فراراً بدينها مع من هاجر من المسلمين .
    نعم هاجرت المرأة الهجرتين . وصلت إلى القبلتين ، وثبتت على إيمانها حين دعا داعي الحق .


(149)
إشارة الرسول الأعظم (ص) على اصحابه بالهجرة :
    لما كثر المسلمون وظهر الإيمان ، ثار ناس كثيرون من كفار قريش على من آمن من قبائلهم ، فعذبوهم وسجنوهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم ، فقال لهم رسول الله (ص) تفرقوا في الأرض .
    قالوا : أين نذهب يا رسول الله ؟
    قال : ها هنا وأشار إلى أرض الحبشة ، وكانت أحب الارض إليه . فهاجر ناس ذوو عدد من المسلمين ، منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه . فخرجوا متسللين سراً وكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، حتى انتهوا الى الشعيبة ، منهم الراكب والماشي .
    ووفق الله للمسلمين ساعة جاؤوا سفينتين للتجار ، حملوهم الى ارض الحبشة بنصف دينار . وكان مخرجهم في رجب من السنة الخامسة للنبوة .
    وخرجت قريش في آثارهم ، حتى جاؤوا البحر حيث ركب المسلمون فلم يدركوا منهم أحداً (1) .
    ويقول ابن الأثير في تاريخه : « وكان عليهم عثمان بن مظعون فهو رئيس المهاجرين في الهجرة الاولى ، ليشرف على شؤونهم ويراقب أعمالهم ، كي لا تتفرق كلمتهم ، ومن هنا نعلم أن المسلمين يجب أن لا يخرجوا عن النظام الإسلامي الذي
(1) طبقات ابن سعد الكبرى ـ مجلد ـ 1 ـ 2 ـ صفحة 136 .


(150)
وضعه لهم النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون لهم قائد يدير أمورهم ، وإن كانوا قليلين ، وإنَّ ترك المسلمين القيادة وانصراف كل حسب رأيه ، وميله ، وهواه ، لجعلهم كالغنم الشاردة فصاروا طعمة للمستعمرين » .
    ولو أنهم اتبعوا دينهم العظيم ، وجعلوا لهم من وسطهم غيوراً على مصالحهم يكافح عنهم ، حسب التعاليم الإسلامية ( لا تأخذه في الله لومة لائم ) فيناضل الأعداء ، لتلافي النقصان ، وإصلاح الخلل ...
    عندها تنهض الأمة الى السعادة والشرف .

    الهجرة الثانية :
    وبعد نقض الصحيفة ، وتضييق المشركين على المسلمين ... في حديث يطول شرحه لا مجال لذكره ... خرج المسلمون فراراً بدينهم الى أرض الحبشة ، فكانت الهجرة الثانية .
    كان أمير القوم هذه المرة جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه ومعه امرأته أسماء بنت عميس .
    تتابع المسلمون الى أرض الحبشة منهم من هاجر بأهله ، ومنهم من هاجر بنفسه كما ذكرنا في الهجرة الاولى .
    فكان جميع من هاجر من المسلمين ، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغاراً ـ أو ولدوا في ارض الحبشة ـ كانوا ثمانين رجلاً وسبع عشرة امرأة أو ما يزيد والله أعلم .